فهرس الكتاب

دليل الفالحـــين - باب الاستغفار

رقم الحديث 1870 ( وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول) تحريضاً على التوبة والاستغفار ( والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه) فيه إيماء إلى ما تقدم أن الآية تشير إليه من اعتبار التوبة والاستغفار، وأنه مع التمادي في الذنب كالتلاعب ( في اليوم أكثر من سبعين مرة) كناية عن الكثرة، وتقدم في الحديث قبله مائة مرة ( رواه البخاري) وتقدم في باب التوبة أنه ذكره صاحب الأطراف بلفظ: "إني لأستغفر الله وأتوب إليه كل يوم مائة مرة".
وقال: أخرجه البخاري والنسائي والترمذي، ولعل اللفظ الذي ذكره لأحد الروايتين الأخيرتين.
وإلا فاللفظ الذي ذكره المصنف هنا وفي باب التوبة وعزاه للبخاري هو الموجود في باب استغفار النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي تقدم في كتاب بيان حكمة استغفاره مع عصمته - صلى الله عليه وسلم -.
به فينجو من ذلك الكرب ( ومن كل هم) أي: حزن ( فرجاً) أي: يفرج له ما يهتم به بأن يزيل عنه سببه وينجيه من تعبه ( ورزقه من حيث لا يحتسب) ففيه أن نفع الاستغفار يعود بحوز مطلوب الدارين ( رواه أبو داود) .


رقم الحديث 1878 ( وعن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: قال الله تعالى) فهو من الأحاديث القدسية ( يابن آدم إنك ما دعوتني) أي: بمغفرة ذنوبك كما يدل عليه السياق أي: مدة دعائك، فهي مصدرية ظرفية، لا شرطية ( و) الحال أنك قد ( رجوتني) بأن ظننت تفضلي عليك بإجابة دعائك وقبوله، إذ الرجاء تأميل الخير وقرب وقوعه ( غفرت لك) ذنوبك أي: سترتها عليك بعدم العقاب عليها في الآخرة لأن الدعاء مخ العبادة، كما ورد وروى أصحاب السنن الأربعة "الدعاء هو العبادة" ثم تلا ( وقال ربكم ادعوني أستجب لكم) والرجاء يتضمن حسن الظن بالله وهو يقول: "أنا عند ظن عبدي بي" وعند ذلك تتوجه رحمة الله للعبد، وإذا توجهت لا يتعاظمها شيء لأنها وسعت كل شيء ( على ما كان منك) من المعاصي وإن تكررت ( ولا أبالي) أي: لا أكثرت بذنوبك، ولا أستكثرها وإن كثرت إذ لا يتعاظمني شيء كما تقدم في الحديث الصحيح إذا دعا أحدكم فليعظم الرغبة فإن الله لا يتعاظمه شيء، وإنه لا معقب لحكمه ولا مانع لفضله وعطائه سبحانه، ومعنى قوله "لا أبالي بكذا" أي لا يشتغل بالي به.
وزاد سبحانه وتعالى هذا المقام تأكيداً مبالغة في سعة رجاء خلقه فيما عنده من مزيد التفضل والإنعام فقال: ( يابن آدم لو بلغت ذنوبك) أي: عند فرضها أجراماً ( عنان السماء) بأن ملأت ما بينها وبين الأرض كما في الرواية الأخرى لو أخطأتم حتى بلغت خطاياكم ما بين السماء والأرض ثم استغفرتم الله لغفر لكم ( ثم استغفرتني) أي: تبت توبة صحيحة ( غفرت لك ولا أبالي) وإن تكرر الذنب والتوبة في اليوم الواحد والذنوب، وإن تكاثرت وبلغت ما عسى تبلغ، فتلاشت عند حلمه وعفوه، فإذا استقال منها العبد بالاستغفار غفرت لأنه طلب الإِقالة من كريم والكريم محل إقالة العثرات وغفر الزلات.
قال صاحب الفتح المبين: وما ذكرناه من أن المراد بالاستغفار التوبة لا مجرد لفظه هو ما ذكره بعضهم وهو الموافق للقواعد بالنسبة للكبائر إذ لا يكفرها إلا التوبة بخلاف الصغائر فإن لها مكفرات أخر كاجتناب الكبائر والوضوء والصلاة وغيرها، فلا يبعد أن يكون الاستغفار مكفراً لها أيضاً، وينبغي أن يحمل على هذا أيضاً تقييد بعضهم جميع ما جاء في نصوص الاستغفار المطلقة بما في آية آل عمران من عدم الإِصرار، فإنه تعالى وعد فيها بالمغفرة من استغفره من ذنوبه ولم يصر على ما فعله، قال: فيحمل نصوص الاستغفار المطلقة كلها على هذا القيد اهـ.
نعم ضم نحو أستغفر الله اللهم اغفر لي من غير توبة دعاء فله حكمة، من أنه يجاب تارة وقد لا يجاب أخرى، لأن الإِصرار قد يمنع الإِجابة كما أفاده مفهوم آية آل عمران السابقة.
فالاستغفار الكامل المسبب عنه المغفرة هو ما قارن عدم الإِصرار لأنه حينئذ توبة نصوح أما مع الإِصرار فمجرد دعاء ومن قال إنه توبة الكذابين مراده أنه ليس بتوبة حقيقية، خلافاً لما تعتقده العامة لاستحالة التوبة مع الإِصرار، على أن من قال أستغفر الله وأتوب إليه وهو مصر بقلبه على المعصية كاذب آثم لأنه أخبر أنه تائب وليس حاله كذلك، فإن قال ذلك وهو غير مصر، بأن أقلع بقلبه عن المعصية.
فقالت طائفة من السلف، يكره له ذلك لأنه قد يعود إلى الذنب فيكون كاذباً في قوله وأتوب إليه.
والجمهور على أن لا كراهة، وذلك لأن العزم على ألا يعود إلى المعصية واجب عليه، فهو إخبار عما عزم عليه في الحال فلا ينافي وقوعه منه في المستقبل، فلا كذب بتقدير الوقوع اهـ.
ملخصاً.
وفي كلامه آخراً ما سبق عن المصنف في حديث ابن مسعود من اعتراض كلام الربيع بن خيثم، وأن لا كذب أصلاً، وإن أيد الحافظ كلام الربيع، بل صرح به صاحب الفتح المبين.
فقال: بعد ذكر حديث ابن مسعود وهذا أبلغ ردٍ على من كره وأتوب إليه ( يابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض) سيأتي أنه أبلغ مما قبله ( خطايا ثم لقيتني) في حال كونك ( لا تشرك بي شيئاً) لاعتقادك توحيدي والتصديق برسلي وبما جاءوا به ( لأتيتك بقرابها) عبر بها للمشاكلة، وإلا ( قال الله تعالى: إن المتقين في جنات) أي: بساتين ( وعيون) أي: أنهار ( أدخلوها) أي: يقال لهم أدخلوها ( بسلام) أي: من الآفات وقيل: مسلماً عليكم ( آمنين) من المكاره ( ونزعنا ما في صدورهم من غل) حسد وحقد ( إخواناً) في المودة وهو حال ( على سرر متقابلين) أي: متواجهين وهما صفتان أو حالان ( لا يمسهم فيها نصب) أي: تعب ( وما هم منها بمخرجين) الباء مزيدة لتأكيد نفي إخراجهم منها المدلول عليه بالجملة.
( وقال تعالى يا عباد) حكاية لما ينادي به الصتحابون المتقون ( لا خوف عليكم اليوم) أي: مما تقدمون عليه من أمر الآخرة ( ولا أنتم تحزنون) على ما خلفتموه من أمر الدنيا ( الذين) منصوب على المدح ( آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين أدخلوا الجنة أنتم وأزواجكم) أي: المؤمنات ( تحبرون) أي: تسرون ( يطاف عليهم بصحاف) جمع صحفة ( من ذهب وأكواب) جمع كوب وهو كوز لا عروة له ( وفيها) أي: الجنة ( ما تشتهيه الأنفس) قال البيضاوي في تفسير سورة الفرقان: لعله تقصر همم كل طائفة على ما يليق برتبته، إذ الظاهر أن الناقص لا يدرك شأو الكامل بالتشهي ( وتلذ الأعين) بمشاهدته وكأنه لم يعتد بمستلذات السمع والشم والذوق في جنب مستلذات العين فلم يذكرها ( وأنتم فيها خالدون) فهو من أتم النعيم ( وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون) الجنة إما خبر، والتي أورثتموها صفة لها أو صفة والتي خبرها أو هما صفتان والظرف خبر ولا تنافي كما سبق بين هذه الآية وما سبق من حديث "لن يدخل أحدكم الجنة بعمله" الحديث لما تقدم من أن دخولها بمجرد الرحمة وتفاوت المنازل بتفاوت الأعمال، أو أن التوفيق للعمل المسبب عنه دخولها من رحمة الله ومنته ( لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون) يبقى بعضها أبداً لا يجد شجرة عريانة من الثمر ( وقال تعالى: إن المتقين في مقام) موضع إقامة ( أمين) يأمن صاحبه فيه عن كل مكروه وبين مآكلهم ومشاربهم بقوله ( في جنات وعيون) ولباسهم بقوله ( يلبسون) خبر ثان أو حال أو استئناف ( من سندس) مارق من الحرير ( وإستبرق) ما غلظ منه ( متقابلين) لا يجلس بعض منهم وظهره إلى غيره لأنس بينهم ( كذلك) أي: الأمر كذلك أو إتيانهم مثل ذلك ( وزوجناهم) قرناهم ( بحور عين) الحور النساء النقيات والعين عظيمة العين ( يدعون فيها بكل فاكهة) يأمرون بإحضار أنواع الفواكه ( آمنين) من كل مكروه ( لا يذوقون فيها الموت) بل حياتهم أبدية ( إلا الموتة الأولى) أي: لكن ذاقوها في الدنيا.
قيل: الاستثناء للمبالغة فإن الغرض الإِعلام بأنهم لا يذوقون الموت كأنه قال: ولو فرضنا ذوق الموت في الجنة لما ذاق إلا الموتة الأولى، وذوق تلك الموتة محال لأنها ماضية فالذوق محال ( ووقاهم عذاب الجحيم فضلاً) أي: إعطاء كل ذلك ( من ربك ذلك هو الفوز) الظفر ( العظيم -وقال تعالى- فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز.
وقال تعالى: إن الأبرار)
جمع بر بفتح الموحدة ( لفي نعيم على الأرائك) على السرر في الحجاب ( ينظرون) إلى ملكهم ونعيمهم أو إلى الله وإلى عدوهم كيف يعذبون ( تعرف في وجوههم نضرة) أي: بهجة ( النعيم) ورونقه ( يسقون من رحيق) خمر خالص ( مختوم) بختم أوانيه إكراماً لهم كعادة الملوك ( ختامه مسك) أي: تختم الأواني مكان المسك مكان الطين أو مقطعة عن الفم وآخره مسك ( وفي ذلك فليتنافس) فليرتقب ( المتنافسون) المرتقبون، وفي الحديث المرفوع "أيما مؤمن سقى مؤمناً شربة على ظمأ سقاه الله يوم القيامة من الرحيق المختوم ( ومزاجه) أي: ما تمزج بكر بن أبي شيبة وأبي كريب عن أبي معاوية عن الأعمش.
وأخرجه أبو داود في السنن عن عثمان عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قاله في الأطراف.


رقم الحديث 1869 ( وعن الأغر) بفتح الهمزة والمعجمة وتشديد الراء ( المزني) بضم الميم وفتح الزاي بعدها نون تقدمت ترجمته ( رضي الله عنه) أوائل باب التوبة ( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال إنه) أي: الشأن ( ليغان) بضم التحتية وبالمعجمة آخره نون ( على قلبي) هي غيون أنوار لا غيون أغيار، وتجليات ربانية وترقيات أحمدية، فإذا ارتقى للمقام الأعلى رأى ما كان فيه قبل من المقام العالي أيضاً كالنقص فاستغفر منه كما قال: مشرعاً للأمة ( وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة) قال في فتح الباري قال عياض: المراد بالغين فترات عن الذكر الذي شأنه أن يداوم عليه فإذا فتر عنه لأمر ما، عد ذلك ذنباً فاستغفر منه.
وقيل هو شيء يعتري القلب مما يقع من حديث النفس، وقيل هو السكينة التي تغشى عليه والاستغفار لإِظهار العبودية لله تعالى والشكر لما أولاه.
وقيل هي حالة خشية وإعظام، والاستغفار شكرها ومن ثم قال المحاسبي: خوف المقربين خوف إجلال وإعظام.
وقال السهروردي: لا يعتقد أن الغين حالة نقص، بل هو كمال أو تتمة كمال ثم مثل ذلك بجفن العين يسيل ليدفع القذى عن العين، فإنه يمنع العين من الرؤية فهو من هذه الحيثية نقص وفي الحقيقة كمال.
هذا محصل كلامه بعبارة طويلة قال: فهكذا بصيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - متعرضة للأعين السائرة.
من أنفس الأغيار فدعت الحالة إلى الستر على حدقة بصيرته صيانة لها ووقاية عن ذلك اهـ.
( رواه مسلم) ورواه أحمد وأبو داود والنسائي.


رقم الحديث 1874 ( وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قال) أي: بلسانه مع الإِذعان لمضمون ذلك، والتوبة من الذنب المستغفر منه ( استغفر الله الذي لا إله) أي: مستغن عن كل ما سواه مفتقر إليه ما عداه ( إلا هو) بدل من محل اسم لا قبل دخولها عليه ( الحي القيوم) وفي كتاب الأجوبة المرضية عن الأسئلة النحوية للراعي أنه نفسه سئل عن إعراب الموصول والوصفين بعد أهو النصب أم الرفع، فأجاب بأنها نعوت مدح للجلالة ْمنصوبة على التعظيم، ويجوز في الموصول البدل.
قلت: وعليه فلا يعرب شيء من الاثنين بعده نعتاً، لأن البدل لا يتقدم عليه والله أعلم.
فإن اتبعت الموصول جاز في الاسمين بعده الرفع والنصب، فالنصب على الاتباع أو على القطع بنحو أخص أو أعني أو أمدح مما يليق بالمقام، وإن قطعت الموصول امتنع اتباع ما بعده وتعين القطع، إما بالرفع بإضمار مبتدأ، أو بالنصب بإضمار فعل وكل هذه الوجوه صحيحة فصيحة، غير أن في قطع النعت الواحد والأول من النعوت المتعددة خلافاً، الصحيح الجواز، لأن قطعه لا يخرج به عن كونه مبيناً له من جهة المعنى مع أن القطع في الجميع أبلغ من المعنى المراد بإضمار فعل لأن الجملة الإِسمية أثبت من الفعلية وأقعد وأصل منها.
وإنما امتنع اتباع الحي مع قطع ما بعده، لئلا يلزم عليه الاتباع بعد القطع وهو ممتنع عند النحاة.
ونقل عن بعض المتأخرين الجواز وهو خلاف لا يعتد به إن صح النقل، وإنما امتنع الاتباع بعد القطع وجاز عكسه لأن في الأول رجوعاً للشيء بعد تركه، ومن طباع العرب وعلو همتها، أنها إذا انصرفت عن الشيء لم تعد إليه، فجعلوا كذلك ألفاظهم جارية على حد معانيهم.
وقال بعض نحاة قرطبة: المانع منه ما يلزم عليه من تسفل بعد تصعد، وقصور بعد كمال.
بيانه أن القطع أبلغ في المعنى المراد من الاتباع كما تقدم، ولولا ذلك ما ذهب به ذلك المذهب البعيد، يعني الخروج من الرفع إلى النصب ونحوه اهـ.
ملخصاً.
والحي، صفة مشبهة من الحياة وهي صفة أزلية ذاتية، تقتضي صحة اتصاف موصوفها بالصفات.
والقيوم: ويقال القيام والقيم بتشديد التحتية فيهن وبهما قرىء شاذاً: الدائم القائم بتدبير خلقه وحفظه ( وأتوب إليه غفرت ذنوبه وإن كان قد فر من الزحف) أي: من موطن الحرب أي: غفرت صغائر ذنوبه المتعلقة بحق ربه، وإن كان قد اقترف ما هو من الكبائر فلا يمنع ذلك من غفر الصغائر بالذكر المذكور أو غفرت الذنوب حتى الكبائر عنده لا به، فلا يخالف ما عليه المحققون من أن أعمال البر لا تكفر إلا الصغائر المتعلقة بحق الله تعالى ( رواه أبو داود والترمذي والحاكم وقال: حديث صحيح على شرط البخاري ومسلم) عدل إليه المصنف عن قول الحاكم على شرطهما الأخصر مع نقله عنه، دفعاً لتوهم أن المراد على شرط أبي داود والترمذي المذكورين.
وأخذ المصنف من هذا الحديث رد قول الربيع بن خيثم: لا تقل استغفر الله وأتوب إليه، فيكون كذباً، إن لم تفعل.
بل قل: اللهم اغفر لي وتب علي.
قال المصنف: وهذا أحسن.
وأما كراهته استغفر الله وتسميته كذباً فلا يوافق عليه، لأن معنى استغفر الله أطلب مغفرته وليس هذا كذباً.
ويكفي في رده حديث ابن مسعود بلفظ "من قال أستغفر الله" الحديث قال الحافظ في الفتح: هو في لفظ أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم، أما أتوب إليه فهو الذي عنى الربيع أنه كذب وهو كذلك إذا قاله ولم يفعل التوبة كما قال.
وفي الاستدلال للرد عليه بحديث ابن مسعود نظر، لجواز أن يكون المراد منه ما إذا قالها وفعل شروط التوبة.
ويحتمل أن يكون الربيع قصد مجموع اللفظين لا خصوص "أستغفر" فيصح كلامه والله أعلم.
ورأيت في الحلبيات للسبكي الكبير: الاستغفار طلب المغفرة إما باللسان أو بالقلب، أو بهما.
فالأول فيه نفع لأنه خير من السكوت أو لأنه يعتاد قول الخير، والثاني نافع جداً والثالث أبلغ منه لكنهما لا يمحصان الذنوب حتى توجد التوبة.
قال القاضي: فإن المصر يطلب المغفرة، ولا يستلزم ذلك وجود التوبة منه إلى أن قال: والذي ذكرته من أن معنى الاستغفار غير معنى التوبة هو بحسب وضع اللفظ لكنه غلب عند كثير من الناس أن لفظ أستغفر الله معناه التوبة فمن كان ذلك معتقده فهو يريد التوبة لا محالة، ثم قال: وحكى بعض العلماء أن التوبة لا تتم إلا بالاستغفار لقوله تعالى: ( وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه) والمشهور أنه لا يشترط اهـ.
كلام الفتح في أثناء كتاب التوحيد.


رقم الحديث 1875 ( وعن شداد) بفتح المعجمة وتشديد أولى الدالين المهملتين ( ابن أوس) تقدمت ترجمته ( رضي الله عنه) في باب المراقبة قال في الفتح: وليس لشداد في البخاري إلا هذا الحديث ( عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: سيد الاستغفار) قال الطيبي: لما كان هذا الدعاء جامعاً لمعاني التوبة كلها استعير له اسم السيد وهو في الأصل الرئيس الذي يقصد في الحوائج ويرجع إليه في الأمور ( أن يقول العبد) أي: المكلف ( اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني) كذا في نسخ الرياض أنت واحدة، ووقع في البخاري بتكرارها.
قال في فتح الباري: كذا بتكرارها في نسخة معتمدة وسقطت الثانية من معظم الروايات، قال الطيبي: يجوز أن تكون مؤكدة وأن تكون مقدرة ويؤيده عطف قوله ( وأنا عبدك) أي: أنا عابد لك ( وأنا على عهدك ووعدك) سقطت الواو في رواية النسائي قال: الخطابي يريد أنا على ما عاهدتك عليه وواعدتك من الإِيمان وإخلاص الطاعة لك ( ما استطعت) أي: ومنجز وعدك في التوبة والأجر.
واشتراط الاستطاعة في ذلك، معناه الاعتراف والعجز والقصور عن كنه الواجب من حقه تعالى.
وقال ابن بطال: قوله "وأنا على عهدك ووعدك" يريد العهد الذي أخذه على عباده في عالم ( ألست بربكم قالوا بلى) وبالوعد ما قال على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - "إن من مات لا يشرك بالله شيئاً وأدى ما افترض عليه أدخله الجنة".
قال في الفتح قوله: وأدى ما افترض عليه" زيادة ليست بشرط في هذا المقام، لأنه جعل العهد الميثاق المأخوذ في عالم الذر وهو التوحيد خاصة، فالوعد هو إدخال من مات على ذلك الجنة قال أيضاً: وفي قوله "ما استطعت" إعلام لأمته أن أحداً لا يقدر على الإِتيان بجميع ما يجب عليه لله ولا الوفاء بكمال طاعة الله والشكر على النعم فرفق الله بعباده ولم يكلفهم من ذلك إلا وسعهم ْقال الطيبي: يحتمل أن يراد بالعهد والوعد ما في الآية المذكورة كذا.
قال: والتفريق بين العهد والوعد واضح ( أعوذ بك من شر ما صنعت) أي: صنعاً أو ما صنعته أي: من الإِثم والعذاب والبلاء المرتب على ذلك ( أبوء لك) سقط لك عند النسائي ( بنعمتك علي) المفرد المضاف من صيغ العموم أي: بنعمتك التي لا تحصر ولا تحصى ( وأبوء بذنبي) حذف لك في نسخ الرياض وكذا هو في البخاري في الدعوات، ولعل حكمة تركها: التأدب وترك ِالخطاب في جانب الاعتراف بالذنب.
قال الطيبي: اعترف أولاً بأنه أنعم عليه ولم يقيده، ليشمل جميع أنواع الإِنعام، ثم اعترف بالتقصير وهضم النفس.
قال في الفتح: ويحتمل أن يكون قوله أبوء بذنبي اعترافاً بوقوع الذنب مطلقاً، ليصح الاستغفار منه لا أنه عد ما قصر فيه من أداء النعم ذنباً ( فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت) يؤخذ منه أن من اعترف لذنبه غفر له وقد وقع ذلك صريحاً في حديث الإِفك الطويل، ففيه أن العبد إذا اعترف بذنبه وتاب تاب الله عليه ( من قالها في النهار موقناً) بضم الميم وسكون الواو وكسر القاف أي: مخلصاً من قلبه مصدقاً ( بها) أي: بثوابها ( فمات من يومه) أي: فيه ( قبل أن يمسي) أي: يدخل في المساء ( فهو من أهل الجنة) وفي رواية النسائي دخل الجنة.
قال الداودي: يحتمل أن يكون هذا من قوله ( إن الحسنات يذهبن السيئات) ومثله قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الوضوء وغيره بشر بالثواب، ثم بشر بأفضل منه مع ارتفاع الأول.
ويحتمل أن يكون ذلك ناسخاً وأن يكون هذا فيمن قالها ومات قبل أن يفعل ما يغفر له ذنوبه، أو يكون ما فعله من الوضوء وغيره لم يتقبل منه بوجه ما والله سبحانه وتعالى أعلم ويفعل الله ما يشاء.
كذا حكاه ابن التين عنه قال الحافظ في الفتح: وبعضه يحتاج إلى تأمل ( ومن قالها من الليل وهو موقن بها) خالف بين الحال فجاء بها مفردة أولاً وجملة ثانياً، تفنناً في التعبير ( فمات قبل أن يصبح) أي: يدخل في الصباح ( فهو من أهل الجنة، رواه البخاري) قال ابن أبي جمرة: جمع - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث من بديع المعاني وحسن الألفاظ ما يحق له أن يسمى به سيد الاستغفار.
ففيه الإِقرار لله وحده بالألوهية، والاعتراف بأنه الخالق، والإِقرار بالعهد الذي أخذه عليه والرجاء بما وعد به والاستعاذة من شر ما جنى العبد على نفسه وإضافة النعماء إلى موجدها وإضافة الذنب إلى نفسه ورغبته في المغفرة واعترافه بأنه لا يقدر أحد على ذلك إلا هو.
وفي كل ذلك إشارة إلى الجمع بين الحقيقة والشريعة، فإن تكاليف الشريعة لا تحصل إلا إذا كان في ذلك عون من الله تعالى، وهذا القدر الذي يكنى عنه بالحقيقة، فلو اتفق أن العبد خالف حتى يجري عليه ما قدر عليه وقامت الحجة ببيان المخالفة، لم يبق إلا أحد أمرين: إما العقوبة بمقتضى العدل وإما العفو بمقتضى الفضل اهـ.
ملخصاً.
وقال المصنف: من شرط الاستغفار صحة النية والتوجه والأدب، فلو أن أحداً حصل الشروط هل يتساويان؟ فالجواب: أن الذي يظهر أن اللفظ المذكور إنما يكون سيد الاستغفار إذا جمع الشروط المذكورة والله أعلم ( أبوء بباء) موحدة ( مضمومة ثم واو) ساكنة ( وهمزة ممدودة) لسكون الواو قبلها ( ومعناه أقر) بضم الهمزة وكسر القاف ( وأعترف) ولذا وقع في رواية بدله واعترف بذنوبي، وأصل البوء: معناه اللزوم، ومنه بوأه الله منزلاً أي: أسكنه فكأنه ألزمه به.


رقم الحديث 1876 ( وعن ثوبان) بالمثلثة والموحدة المفتوحتين بينهما واو ساكنة خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا انصرف من صلاته) بالتسليم منها ( استغفر الله ثلاثاً) خضوعاً لجلال ربه وتشريعاً لأمته ( وقال: اللهم أنت السلام) أي: السالم من سائر النقائص والمنزه عنها، أو المسلم لمن شئت من الآفات والمضار ( ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال) أي: العظمة ومنها التنزه عن النقائص ( والإِكرام) أي: أوصاف الجمال من الكرم والغفر والعفو ( قيل للأوزاعي وهو أحد رواته) أي: الحديث ( كيف الاستغفار؟ قال: تقول أستغفر الله أستغفر الله رواه مسلم) وتقدم في كتاب الذكر.


رقم الحديث 1877 ( وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكثر أن يقول قبل موته) أي: في ركوعه وسجوده من صلاته كما تقدم في باب الازدياد من الخير أواخر العمر، وذلك امتثالاً لقوله تعالى: ( فسبح بحمد ربك واستغفره) ( سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه) أتى به تأكيداً لمضمون أستغفره وإيماء إلى اعتبارها في حصول أثره ( متفق عليه) .