فهرس الكتاب

دليل الفالحـــين - باب جواز البكاء عَلَى الميت بغير ندب وَلاَ نياحة أمَّا النِّيَاحَةُ فَحَرَامٌ

رقم الحديث -153 بفتح النون فسكون المهملة: تعداد محاسن الميت ( ولا نياحة) بكسر النون وتخفيف التحتية والمهملة ومن ذلك قلبت الواو فيه ياء كما في صيام: وهي رفع الصوت بالندب الذي هو ذكر محاسن الميت وإن لم يكن بكلام مسجع، وكذا يحرم أيضاً إفراط رفع الصوت بالبكاء ولو بلا ندب ولا نوح، قاله في «فتح الإله» .
( أما النياحة فحرام) أي سواء كان معها بكاء أم لا ( وسيأتي فيها باب في كتاب النهي إن شاء الله تعالى.
وأماالبكاء فجاءت أحاديث بالنهي عنه وأن الميت يعذب ببكاء أهله عليه)
وعقد المصنف في «الخلاصة» باباً لما جاء في ذلك فقال عن عمر رضي الله عنه عن النبي قال «الميت يعذب في قبره بما نيح عليه» متفق عليه، وعن المغيرة مثله، وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال «أغمي على عبد الله بن رواحة فجعلت أخته تبكي واجبلاه واكذا، تعدِّد عليه، فقال حين أفاق، ما قلت شيئاً إلا قيل لي أنت كذا، فلما مات لم تبك عليه» .
رواه البخاري.
وعن ابن أبي مليكة قال: «توفيت بنت لعثمان بمكة فجئنا لنشهدها وحضرها ابن عمر وابن عباس، فقال ابن عمر لعمرو بن عثمان: ألا تنهى عن البكاء؟ فإن النبي قال: إن الميت ليعذب في قبره ببكاء أهله عليه، فقال ابن عباس: لما أصيب عمر دخل عليه صهيب يبكي يقول واأخاه، فقال عمر: أتبكي عليّ وقد قال رسول الله: إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه؟ قال ابن عباس: فلما مات عمر ذكرت ذلك لعائشة فقالت رحم الله عمر والّله ما حدث رسول الله «إنّ الله ليعذب المؤمن ببكاء أهله عليه» ولكن رسول الله قال: «إن الله ليزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه» وقالت: حسبكم القرآن { ولا تزر وازرة وزر أخرى} ( الأنعام: 164) قال ابن أبي مليكة والله ما قال ابن عمر شيئاً.
متفق عليه.
وعن عائشة «أنها ذكر لها قول ابن عمر إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه برفعه إلى النبي، فقالت: يغفر الله لأبي عبد الرحمن إنه لم يكذب، ولكنه نسي أو أخطأ إنما مرّ رسول الله على يهودية يبكى عليها فقال: إنهم ليبكون عليها وإنها لتعذب في قبرها» متفق عليه.
وفي رواية «إنه ليعذب بخطيئته أو بذنبه وإن أهله ليبكون عليه الآن» .
وعن أبي موسى أن رسول الله قال: «ما من ميت يموت فيقول باكيهم فيقول واجبلاه واسيداه ونحو ذلك إلا وكل الله به ملكين يلهزانه أهكذا أنت؟» رواه الترمذي وقال حسن،.
اللهز: الضرب بجمع اليد في الصدر ( وهي متأولة) أي مصروفة عن ظاهرها بأن المراد من تعذيبه ما يلحقه من الرقة عليهم حال سماعه بكاءهم، قاله ابن جرير الطبري وغيره.
وقال عياض: هو أولى الأقوال، واحتجوا بحديث فيه «أن النبي زجر امرأة عن البكاء على ابنها وقال: إن أحدكم إذا بكى استعبر له صويحبه فيا عباد الله لا تعذبوا إخوانكم» أو كما قالت عائشة رضي الله عنها: إن الكافر أو غير من أصحاب الذنوب يعذب في حال بكاء أهله عليه بذنبه لا ببكائهم، أو بأنهم كانوا ينوحون على الميت ويندبونه بتعديد شمائله ومدحه في زعمهم، وتلك قبائح في الشرع يعذب بها كما كانوا يقولون يا مرمل النسوان ومخرب العمران وميتم الولدان وغير ذلك مما يرونه شجاعة وفخراً وهو حرام ( أو محمولة على من أوصى به) جعل المصنف في الخلاصة هذا تأويل الأحاديث المذكورة/ ونقله في «شرح مسلم» عن الجمهور أو أهمل الوصية بتركه فيعذب لتفريطه بالوصية بذلك أو بإهمال الوصية بتركه، أما من أوصى بتركه فلا يعذب به إذ لا صنع له ولا تفريط منه، وحاصل هذا القول إيجاب الوصية بترك ذلك وتعذيب من أهملها أو وصى بفعله ( والنهي إنما هو عن البكاء الذي فيه ندب أو نياحة) قال في الخلاصة: أجمعوا على أن البكاء الذي يعذب به أي على التفصيل السابق فيه هومجرد النياحة لا مجرد دمع العين ونحوه ( والدليل على جواز) أي إباحة ( البكاء بغير ندب ولا نياحة أحاديث كثيرة منها) .


رقم الحديث 925 ( وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله عاد سعد بن عبادة) وكان ذلك في أوائل أعوام الهجرة كما يومىء إليه ما وقع من ابن أبيّ المنافق من الكلام القبيح المذكور في الحديث في الصحيح ( ومعه عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم) يحتمل أن يكون معه أبو بكر وعمر أيضاً ولم يذكرهما الراوي لعدم مفارقتهما له إلا نادراً، ويحتمل أنهما لم يكونا حينئذ معه بأن خطرت العبادة له غيبتهما عنه.
والّله أعلم والجملة حالية ربطها كل من الواو والضمير ( فبكى رسول الله) أي لما رأى من الغلبة التي على سعد فغلبت عليه العبرة التي هي أثر الرحمة التي هو عينها ( فلما رأى القوم) أي الحاضرون معه ( بكاء رسول الله) بالعيان ( بكوا) اقتداء أو تأسياً ( فقال: ألا تسمعون) ثم استأنف بقوله ( إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب) سواء اجتمعا أو كان كل بانفراد ( ولكن يعذب بهذا) أي بما يصدر منه مما حرّم الشارع من ندب أو نياحة أو مبالغة رفع صوت بالبكاء، وكذا يعذب بالتبرم بالقلب والتضجر، ودليل ذلك ما يصدر من لسانه لأنه يعرب عن شأنه ( أو يرحم) أو فيه للتنويع: أي أو يرحمه به إن أتى بما فيه صبر واسترجاع وحمد لله سبحانه ( وأشار) أي النبي ( بيده) مبيناً للمشار إليه بقوله بهذا ( إلى لسانه متفق عليه) .


رقم الحديث 926 ( وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما: أن رسول الله رفع) بالبناء للمفعول، ويجوز أن يقرأ بالبناء الفاعل ( إليه ابن ابنته) زينب، وقد تقدم تعيينه وما فيه من الخلاف فيحديثه قبل هذا ( وهو في الموت) أي في مقدماته فلا ينافيه حياته إلى زمن طويل بعد ( ففاضت عينا رسول الله) أي كثر دمعها حتى سال، ففيه إسناد مجازي وحذف التمييز: أي دمعاً لدلالة الحال على تعيينه.
وفي «القاموس» : فاض الماء يفيض هو ابن عبادة كما تقدم في الحديث بجملته في باب الصبر «ومعه سعد بن عبادة» وليس فيه ابن معاذ ولا ابن أبي وقاص ( ما هذا يا رسول الله) سؤال عن سببه وحكمته ووصفه لا عن حقيقته فلذا ( قال) في جوابه ( هذه) أي الرحمة المداول عليها بتلك العبرة وقد تقدم في باب الصبر فقال هذه ( رحمة جعلها الله في قلوب عباده) مفعول ثان لجعل لأنه بمعنى صير: أي من يشاء منهم كما جاء كذلك في رواية وسبقت في باب الصبر ( وإنما يرحم الله) أي الرحمة الكاملة كما يومىء إليه إسناد الفعل إلى لفظ الجلالة الذي هو جامع لمعاني الأسماء موضوع لمجرد تعيين الذات المسمى ( من عباده الرحماء) جمع رحيم ككريم وكرماء ( متفق عليه) .


رقم الحديث 927 ( وعن أنس رضي الله عنه: أن رسول الله دخل على ابنه إبراهيم) في بيت ضيرة أبي سيف وكان من العوالي ( وهو يجود بنفسه) في «المصباح» جاد بالمال بذله، وجاد بنفسه: سمح بها عند الموت والجود مستعار من ذلك اهـ.
ففي الكلام استعارة تبعية.
وفي «فتح الباري» يجود بنفسه: أي يخرجها ويدفعها كما يدفع الإنسان ما يجود به، وكان موت إبراهيم سنة عشر من الهجرة عن ثمانية عشر شهراً، وكان مولده في ذي الحجة من سنة ثمان منها، ووفاته يوم الثلاثاء لعشر خلون من شهر ربيع الأول سنة عشر قاله المصنف في «التهذيب» وغيره، وفي «فتح الباري» وجزم به الواقدي وقال ابن حزم: مات قبل النبي بثلاثة أشهر.
واتفقوا على أنه ولد في ذي الحجة سنة ثمان اهـ ( فجعلت) من أفعالالشروع واسمها ( عينا رسول الله تذرفان) بسكون الذال المعجمة وكسر الراء من باب ضرب: أي تدمعان ( فقال له عبد الرحمن بن عوف: وأنت يا رسول الله) قال الطيبي: فيه معنى التعجب والواو عاطفة على مقدر: أي الناس لا يصبرون وأنت تفعل كفعلهم كأنه تعجب لذلك منه مع عهده فيه أنه يحث على الصبر وينهى عن الجزع ( فقال: يا ابن عوف إنها) أي الحال التي شاهدتها منى ( رحمة) على الولد، لا ما توهمت من الجزع اهـ.
وفي رواية عن ابن عوف «فقلت: يا رسول الله تبكي أو لم تنه عن البكاء» وزاد فيه «إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت نغمة لهو ولعب ومزامير الشيطان، وصوت عند مصيبة: خمش وجوه وشق جيوب ورنة شيطان، إنما هذه رحمة ومن لا يرحم لا يرحم» ( ثم أتبعها بأخرى) قيل معناه: أتبع الدمعة الأولى بدمعة أخرى، وقيل أتبع الكلمة الأولى المجملة وهي قوله إنها رحمة بكلمة أخرى مفصلة هي قوله على سبيل البيان ( فقال: إن العين تدمع والقلب يحزن) قال الدماميني في «المصابيح» : يجوز في القلب الرفع والنصب.
قال ابن المنير: فيه أنه بين أن مثل هذا لا يدخل تحت القدرة ولا يكلف العبد الانكفاف عنه، وذلك لأنه أضاف الفعل إلى الجوارح، كأنها امتنعت على صاحبها فصارت هي الفاعل ولذا قال ( ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون) فعبر بصيغة اسم المفعول لا بصيغة الفاعل: أي ليس الحزن من فعلنا ولكنه واقع بنا من غيرنا ولا يكلف الإنسان بفعل غيره ( رواه البخاري) وعقد له ترجمة فقال باب قول النبي إنا بك لمحزونون ( وروى مسلم) في كتاب الفضائل ( بعضه) ولفظه من حديث أنس «فقال أنس: لقد رأيته: يعني إبراهيم يكيد بنفسه بين يدي رسول الله، فدمعت عينا رسول الله وقال: تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، والله يا إبراهيم إنا بك لمحزونون» قال في «فتح الباري» : قوله يكيد قال صاحب العين: إي يسوق بنفسه، وقيل معناه: يقارب بها الموت، وقال أبو مروان: قد يكون من الكيد وهو القيء، يقال منه كاد يكيد شبه تقلع نفسه عند الموت بذلك ( والأحاديث في الباب) أي باب إباحةالبكاء المجرد عن نياحة وندب ومبالغة رفع صوت به ( كثيرة في الصحيح مشهورة) وشهرتها تغني عن ذكرها، وبالله التوفيق ( والّه أعلم) .
154