فهرس الكتاب

دليل الفالحـــين - باب وجوب صوم رمضان وبَيان فضل الصيام وَمَا يتعلق بِهِ

رقم الحديث 1215 ( عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قال الله عز وجل:) هو من الأحاديث القدسية ( كل عمل ابن آدم له) قال الخطابي: أي: له فيه حظ ومدخل، وذلك لاطلاع الناس عليه، فهو يتعجل به ثواباً من الناس، ويحوز به حظاً من الدنيا جاهاً وتعظيماً ونحوهما ( إلا الصيام فإنه لي) أي: خالص لي لا يطلع عليه أحد غيري، ولا حظ فيه للنفس، وفيه كسرها، وتعريض البدن للنقص والصبر على حراقة العطش ومضض الجوع، وقال الخطابي: معناه الصوم عبادة خالصة لا يستولي عليها الرياء والسمعة؛ لأنه عمل بر لا يطلع عليه إلا الله، وهذا كما روي: نية المؤمن خير من عمله، وذلك لأن محلها القلب، فلا يطلع عليها غير الله تعالى أي: أن النية المنفردة عن العمل خير من عمل خال عن النية، كما في ( ليلة القدر خير من ألف شهر) أي ألف شهر ليس فيها ليلة قدر، وقيل معناه: أن الاستغناء عن الطعام والشراب من صفات الله تعالى، فإنه يطعم ولا يُطعم، فكأنه قال: الصائم يتقرب إلي بأمر هو متعلق بصفة من صفاتي، وإن كانت صفات الله تعالى لا يشبهها شيء، وقيل: هو إضافة تشريف كبيت الله، وقيل: غير ذلك مما يأتي بعضه ( وأنا أجزي به) معناه مضاعفة الجزاء من غير عدد ولا حساب لأن تولي الكريم للعطاء يدل على سعته ( والصيام جنة) بضم الجيم أي: ترس أي: فيكون مانعاً من النار أو من المعاصي كما يمنع الترس من إصابة السهم، لأنه يكسر الشهوة ويضعف القوة، زاد أحمد: وحصن حصين من النار، والنسائي: كجنة أحدكم من القتال، زاد أحمد من وجه آخر: ما لم يخرقها.
قال ابن العربي: إنما كان جنة من النار لأنه إمساك عن الشهوات والنار محفوفة بها ( فإذا كان) أي: وجد ( يوم صوم أحدكم فلا يرفث) بضمِ الفاء وكسرها على أن ماضيه رفث بالفتح، وأما على أنه بكسرها فالمضارع يرفث بالفتح رفثاً بالسكون في المصدر، وبالفتح في اسمه أي لا يتكلم بالكلام الفاحش ( ولا يصخب) بفتح الخاء أي: لا يكثر لغطه ( فإن سابه أحد) أي: سبه والمفاعلة للمبالغة لا للمغالبة، أو على بابها لأن من شأن من سب أن يسب ( أو قاتله) أي: نازعه أو خاصمه ( فليقل) بقلبه لينزجر ( إني صائم) وقيل: بلسانه لينزجر خصمه عنه أي: إن أمن نحو رياء، وعليه فقيل: يجمع بينهما ليزجر بلسانه خصمه وبقلبه نفسه، ويكون من حمل اللفظ على حقيقته ومجازه وذلك جائز عند الشافعي، وهذا وإن لم يخص الصائم إلا أنه فيه آكد ( والذي نفس محمد بيده) أي: بقدرته أتى به للتأكيد ففيه ندب القسم لتأكيد الأمر عند السامع ( لخلوف) بضم الخاء واللام وسكون الواو وبالفاء، قال عياض: هكذا الرواية الصحيحة، وبعض الشيوخ يقوله: بفتح الخاء، قال الخطابي: وهو خطأ.
وحكي عن القابسي الوجهين، وبالغ المصنف فقال في مجموعه: لا يجوز فتح الخاء، واحتج غيره لذلك بأن المصادر التي جاءت على فعول بفتح أوله قليلة، ذكرها سيبويه وغيره، وليس هذا منها ( فم الصائم) فيه دليل على إثبات الميم في فم حال إضافته لظاهر؛ خلافاً لمن منع منه، والمراد تغير فيه الناشىء عن الصوم، وهو مطلق مقيد بحديث: أعطيت أمتي في رمضان خمساً إلى أن قال والثانية أنهم يمسون، وخلوف أفواههم أطيب عند الله من ريح المسك، وبه أيضاً استدل على أن ذلك في الدنيا، كما قاله ابن الصلاح والجمهور، خلافاً لابن عبد السلام في قوله: إن ذلك في الآخرة، كدم الشهيد ( أطيب عند الله من ريح المسك) قال المازري: هو مجاز عن تقريب الصوم منه تعالى؛ لأنه جرت عادتنا بتقريب الروائح الطيبة منا فاستعير ذلك للصوم؛ لتقريبه من الله تعالى أي: إنه أطيب عند الله من ريح المسك عندكم أي: يقرب إليه تعالى أكثر من تقرب المسك إليكم، وإليه أشار ابن عبد البر، وقيل: المعنى أن حكم الخلوف والمسك عند الله على ضد ما هو عندكم، وهذا قريب من الأول، وقيل: إن المراد أن الله يجزيه في الآخرة، فتكون نكهته فيها أطيب من ريح المسك، كما يأتي الكلوم وريح جرحه يفوح مسكاً، وقيل: المراد أن صاحبه ينال من الثواب ما هو أفضل من ريح المسك، لا سيما بالإِضافة إلى الخلوف، حكاهما عياض، وقال الداودي وجماعة: المراد أن الخلوف أكثر ثواباً من المسك المندوب إليه في الجمع ومجالس الذكر، ورجح المصنف هذا، وحاصله حمل معنى الطيب؛ لاستحالة قيام حقيقته بذاته تعالى على القبول والرضى، وقد نقل القاضي حسين في تعليقه أن للطاعات يوم القيامة ريحاً يفوح، فرائحة الصوم بين العبادات المسك، وقال البيضاوي: هو تفضيل لما يستكره من الصائم على أطيب ما يستلذ من جنسه، وهو المسك ليقاس به ما فوقه من آثار الصوم، وقيل: إنه من مجاز الحذف أي: عند ملائكة الله أي: إنهم يستطيبون ريح الخلوف أكثر مما يستطيبون ريح المسك ( للصائم فرحتان يفرحهما) فيه توسع بحذف الجار والأصل يفرح بهما، كما في قوله تعالى: ( فليصمه) أي: فليصم فيه، أو هو مفعول مطلق أي: يفرح الفرحتين، فجعل الضمير بدله، نحو عبد الله أظنه منطلقاً ( إذا أفطر فرح بفطره) أي: لإتمام الصوم، وخلوه من المفسدات، أو لتناوله الطعام ( وإذا لقي ربه فرح بصومه) أي: بلقاء ربه، أو برؤية ثوابه، وعلى الاحتمالين فهو مسرور بقبول صومه ( متفق عليه) أخرجاه في الصوم، وكذا رواه فيه النسائي في سننه.
( وهذا) أي: اللفظ المذكور ( لفظ رواية البخاري) في باب هل يقول: إني صائم إذا شتم؟ ( وفي رواية له) أي: للبخاري في باب فضل الصوم، من حديث أبي هريرة مرفوعاً لفظاً قدسياً معنى لقوله ( يترك طعامه وشرابه وشهوته) من الجماع، ومقدماته ( من أجلي) من فيه تعليلية ( الصيام لي) أي: لم يتعبد به لأحد غيري، وإن كانت العبادات كلها لله تعالى، وكان الكفار يعظمون معبوداتهم بسجود وصدقة، أما بالصيام فلا.
( وأنا أجزي به) بفتح الهمزة أي: أتولى جزاءه، وذلك دال على شرفه، وعظم جزائه ( والحسنة بعشر أمثالها) هو أقل مراتب التضعيف ( وفي رواية لمسلم) لهذا الحديث، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو باعتبار أوله حديث مرفوع لا قدسي ( كل عمل ابن آدم يضاعف) ظاهره أن نفس العمل يضاعف، ويؤيده قوله ( وإن تك حسنة يضاعفها) وقيل: المراد ثوابه لقوله تعالى: ( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) وقوله هنا يضاعف بالتحتية خبر كل، وفي نسخة بالفوقية مسند إلى قوله ( الحسنة عشر أمثالها) وعشر بالنصب ثاني مفعولي يضاعف؛ لتضمنه معنى يجعل، والجملة الخبرية رابطها ضمير محذوف، والأصل تضاعف الحسنة فيه، وعلى أنه بالتحتية فجملة الحسنة عشر أمثالها مركبة من مبتدأ وخبر مستأنفة استئنافاً بيانياً، كأنه قيل كيف تلك المضاعفة؟ فقال: الحسنة إلخ وقد تضاعف ( إلى سبعمائة ضعف) قال تعالى: ( مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة) ( قال الله تعالى: إلا الصوم) بالنصب مستثنى من حصر المضاعفة في عدد مخصوص، وقوله: ( فإنه لي وأنا أجزي به) جملة مستأنفة، أتى بها كالتعليل؛ للاستثناء المذكور وذلك أن تولي الله سبحانه لجزائه، يدل على عظمه وأنه لا يحصره عد، فهو كالصبر الذي قال الله لعالى فيه: ( إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) ( يدع شهوته) أي: ما تشتاق النفس إليه ( وطعامه) أراد به ما يطعم، فشمل الشراب ( من أجلي) أي: بسببي ( للصائم فرحتان فرحة عند فطره) لتمام عبادته، وسوغ الابتداء بالنكرة؛ كونه مسوقاً للتفصيل، فهو كقوله "فيوم لنا ويوم علينا" ( وفرحة عند لقاء ربه) بلقائه ورؤية جزيل ثوابه ( ولخلوف) بفتح اللام، أي: لام جواب القسم أكد به دفعاً لما يستبعد من الحكم بأطيبيته، مع كونه مستقذراً عند الناس أي: لتغير ( فيه) الناشىء عن الصوم الكائن من بعد الزوال؛ لأن التغير قبله قد يحال على ما أكله وقت السحر، بخلافه بعده، فيتمحض كونه أثره ( أطيب عند الله من ريح المسك) وهذه الجملة مسوقة لبيان شرف الصوم عند الله تعالى، وزيادة مكانته، كما تقدم.


رقم الحديث 1216 ( وعنه) أي: أبي هريرة ( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من أنفق زوجين) في بعض طرق الحديث، قيل: وما زوجان؟ قال: فرسان أو عجلان أو بعيران، وقال ابن عرفة: كل شيء قرن بصاحبه فهو زوج، وقيل: يحتمل أن يكون هذا الحديث في جميع أعمال البر، من صلاتين، أو صيام يومين، أو شفع صدقة بأخرى، ويدل عليه قوله في بقية الحديث "فمن كان من أهل الصلاة" "ومن كان من أهل الصيام" والزوج الصنف أيضاً، ومنه ( وكنتم أزواجاً ثلاثة) ، ( في سبيل الله) هو عام في جميع وجوه الخير، وقيل: خاص بالجهاد، والأول أصح وأظهر، قاله المصنف ( نودي من أبواب الجنة يا عبد الله هذا خير) قيل: هو اسم أي: ثواب وغبطة، وقيل: أفعل تفضيل أي: هذا فيما نعتقد خير لك من غيره من الأبواب؛ لكثرة ثوابه، ونعيمه فتعال فادخل منه.
قال المصنف: ولا بد من تقدير ما ذكرناه، أن كل منا يعتقد أن ذلك الباب أفضل من غيره، وقال الحافظ في فتح الباري: هو بمعنى فاضل لا أفضل، وإن كان اللفظ قد يوهمه، وفائدته زيادة ترغيب السامع في طلب الدخول من ذلك الباب ( فمن كان من أهل الصلاة) أي: بأن أكثر من التطوع منها، بحيث كان الغالب عليه في عمله ذلك، وليس المراد الواجبات؛ لاستواء الناس فيها قاله القرطبي، وظاهر جريانه في الصوم والصدقة ( دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد، دعي من باب الجهاد ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان) سُمي به على جهة مقابلة العطشان، الذي هو الصائم، وإشارة إلى أنه يجازى على عطشه بالري الدائم في الجنة التي يدخل إليها من ذلك الباب ( ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة) بقي من أركان الإِسلام الحج، ولا شك أن له باباً، وأما الثلاثة الباقية من الثمانية فمنها: باب الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس.
روى أحمد بن حنبل عن الحسن مرسلاً: إن لله باباً في الجنة لا يدخله إلا من عفا عن مظلمة، ومنها: الباب الأيمن، وهو باب المتوكلين الذي يدخل منه من لا حساب عليه، ولا عذاب، وأما الثالث فلعله باب الذكر، فإن عند الترمذي ما يوميء إليه، ويحتمل أن يكون باب العلم، ويحتمل أن يراد بالأبواب التي يدعى منها أبواب من داخل أبواب الجنة الأصلية؛ لأن الأعمال الصالحة أكثر عدداً من ثمانية.
اهـ من فتح الباري.
وقال السيوطي في الديباج: قال القاضي عياض: وقد جاء ذكر بقية الأبواب في أحاديث أخر: باب التوبة، وباب الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس، وباب الراضين، والباب الأيمن الذي يدخل منه من لا حساب عليه.
قال الحافظ في الفتح: الإنفاق في الصدقة والجهاد والعلم والحج ظاهر، وأما في غيرها فمشكل، ويمكن أن يراد بالإِنفاق في الصلاة الإِنفاق في تحصيل آلاتها، من ماء وطهارة وثوب ونحو ذلك، وفي الصيام الإِنفاق فيما يقويه عليه من سحور وفطور، والإنفاق في العفو عن الناس، أن يترك ماله عليهم من حق، والإِنفاق في التوكل، ما ينفقه على نفسه في مرضه المانع له من التصرف في طلب المعاش مع الصبر على المصيبة، أو ينفقه على من أصابه مثل ذلك طلباً للثواب، والإِنفاق في الذكر على نحو من ذلك، ويحتمل أن المراد من الإِنفاق في الصلاة والصيام بذل النفس فيهما، فإن العرب تسمي ما يبذله الإِنسان من نفسه في ذلك نفقة، يقول أحدهم فيما تعلم من الصنعة: أنفقت فيها عمري، فإتعاب الجسم في الصوم والصلاة إنفاق اهـ ملخصاً ( قال أبو بكر رضي الله عنه: بأبي أنت وأمي) أي: مفدى بهما ( يا رسول الله ما على من دعي من تلك الأبواب) أي: من أحدها ( من ضرورة) ، أي نقص ولا خسارة ( فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها) فيه إشعار بقلة من يدعي من كلها، ودعاء من تجتمع له تلك الأعمال من كلها تشريف له، وإلا فإنما يدخل من باب واحد، ولعله باب العمل الذي يكون أغلب عليه، ولا يشكل على ذلك خبر مسلم: "من توضأ فأحسن الوضوء ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله الحديث، وفيه "فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء" لأنه يحمل على أنها تفتح له إكراماً له ولا يدخل إلا من باب العمل الذي يكون أغلب عليه.
قال الزركشي: ويحتمل أن الجنة كقلعة لها أسوار يحيط بعضها ببعض، وعلى كل سور باب، فمنهم من يدعى من الباب الأول فقط، ومنهم من يتجاوز عنه إلى الباب الداخل، وهلم جراً ( قال: نعم وأرجو أن تكون منهم) قال العلماء: الرجاء من الله تعالى، ومن نبيه - صلى الله عليه وسلم - واقع ( متفق عليه) قال المصنف: في الحديث منقبة لأبي بكر رضي الله عنه، وفيه جواز الثناء على الإِنسان في وجهه إذا لم يخف عليه فتنة منه بإعجاب أو غيره.


رقم الحديث 1217 ( وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن في الجنة) في بمعنى اللام، كما عبر بها في رواية أخرى، كذا في التوشيح، وقال ابن المنير: أتى بفي دون اللام إشارة إلى أن في الباب من النعيم والراحة ما في الجنة فيكون أبلغ في التشويق ( باباً يقال له الريان) بفتح الراء وتشديد الياء التحتية، فعلان من الري، وهو مناسب لجزاء الصائمين، كما تقدم.
واكتفى بذكر الري عن الشبع؛ لأنه يدل عليه من حيث إنه يستلزمه ( يدخل منه الصائمون يوم القيامة) لبيان الواقع إذ دخولها إنما يكون يومئذ، ويحتمل أن يكون احترازاً عن دخول أرواح الشهداء والمؤمنين لها مدة هذا العالم، فلا يتقيد بالصائمين ( لا يدخل منه أحد غيرهم) أي: في ذلك اليوم ( يقال: أين الصائمون فيقومون لا يدخل منه أحد غيرهم فإذا دخلوا) لمسلم: فإذا دخل آخرهم، وفي بعض نسخه فإذا دخل أولهم إلى آخره.
قال عياض وغيره: وهو وهم، والصواب آخرهم ( أغلق فلم يدخل منه أحد) كرر نفي دخول غيرهم منه تأكيداً، وأما قوله: فلم يدخل، فهو معطوف على أغلق، أي: لم يدخل منه غير من دخل، وجاء الحديث بلفظ مسلم الأول عند ابن أبي شيبة في مسنده، وأبي نعيم في مستخرجه، وابن خزيمة، والنسائي وزاد: من دخله لم يظمأ أبداً، ورواه النسائي من طريق آخر موقوفاً على أبي حازم الراوي عن سهل.
قال الحافظ في الفتح: وهو مرفوع قطعاً ؛ لأن مثله لا مجال للرأي فيه ( متفق عليه) أخرجاه في الصوم.


رقم الحديث 1218 ( وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما من) مزيدة؛ لاستغراق النفي ( عبد) أي: مكلف، والجارية كالعبد فيما يأتي، والاقتصار عليه جري على الغالب، أو لشرفه، ويوضحه أنه جاء في رواية لمسلم: "من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً" ( يصوم يوماً في سبيل الله) قيل: المراد به الجهاد للكفار، وقيل: المراد منه طاعة الله ( إلا باعد الله تعالى وجهه) أي: أبعده، وصيغة المفاعلة للمبالغة ( عن النار سبعين خريفاً) أي: مدة سير سبعين سنة وكنى عنها بالخريف؛ لأنه ألطف فصولها؛ لما فيه من اعتدال البرودة والحرارة؛ ولأنه يجري فيه الماء في الأغصان ( متفق عليه) .


رقم الحديث 1219 ( وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من صام رمضان إيماناً) أي: حال كونه مصدقاً بما ورد فيه من الثواب، أو منصوب على العلة ( احتساباً) أي: محتسباً قاصداً به وجه الله تعالى ( غفر له ما تقدم من ذنبه) زاد النسائي وأحمد وغيرهما بسند حسن "وما تأخر".
والمغفور من الذنوب بالطاعات، الصغائر المتعلقة بحق الله سبحانه ( متفق عليه) هو آخر حديث أورده البخاري في باب من صام رمضان إيماناً واحتساباً ولفظه "من قام ليلة القدر إيماناً وإحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ومن صام رمضان" فذكره فكان على المصنف أن يأتي بالعاطف لينبه على أنه بعض حديث.


رقم الحديث 1220 ( وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا جاء رمضان فتحت) بتخفيف التاء الفوقية وتشديدها مبنياً للمفعول، وسكت عن ذكر الفاعل؛ للعلم به ( أبواب الجنة) الأظهر: أن المراد فتح بالحقيقة لمن مات فيه، أو عمل عملاً لا يفسد عليه، وقيل: مجاز أي: العمل فيه يؤدي إلى ذلك، أو عن كثرة الرحمة والمغفرة، بدليل رواية لمسلم "فتحت أبواب الرحمة" إلا أن يقال الرحمة من أسماء الجنة ( وغلقت أبواب النار) فيه ما مر فيما قبله، ويحتمل أنه كناية عن تنزه أنفس الصوام عن رجس الفواحش، والتخلص من البواعث على المعاصي، بقمع الشهوات، قال الطيبي: فائدة ذلك توقيف الملائكة على استحماد فعل الصائمين، وأنه من الله تعالى بمكان عظيم وأن المكلف إذا علم ذلك بإخبار الصادق زاد نشاطه ( وصفدت) بضم أوله وتشديد الفاء أي: غلت ( الشياطين) يحتمل ما مر قبله من الحقيقة، ومن أنه مجاز عن منعهم فيه من كثرة إيذاء المؤمنين، والتهويش عليهم، فيصيرون كالمسلسلين، أو عن كف المكلفين عما ينكفون عنه فيه من المخالفات ( متفق عليه) .


رقم الحديث 1221 ( وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: صوموا لرؤيته) أي: هلال رمضان كما يوميء إليه المقام، ولو كان الرائي واحداً وهو عدل شهادة لا رواية ( وأفطروا لرؤيته) أي: هلال شوال، واللام فيهما محتملة؛ لكونها بمعنى عند كقوله تعالى: ( أقم الصلاة لدلوك الشمس) ولكونها للتعليل ( فإن غبي) بفتح المعجمة، وكسر الموحدة مخففة وفي نسخة مشددة، مبنياً للمفعول، وفي أخرى من البخاري بلفظ " غم عليكم " أي: حال بينكم وبينه غيم، يقال: غم وأغمى وغمى وغمي بتشديد الميم وتخفيفها والغين مضمومة فيهما، ويقال: غبي بفتح المعجمة، وبالموحدة، وكلها صحيحة قاله المصنف.
( فأكملوا عدة شعبان ثلاثين) ومنه أخذ أصحابنا: عدم استحباب الخروج من خلاف من أوجب صوم ثلاثين شعبان، إذا منع الغيم من رؤية الهلال؛ لأن الخلاف إنما يخرج منه ما لم يعارض سنة صحيحة، ولم يشتد ضعفه، ولم يوقع الخروج منه في خلاف آخر ( متفق عليه وهذا لفظ البخاري وفي رواية مسلم) هي إحدى رواياته ( فإن غم عليكم) أي: هلال شوال ( فصوموا ثلاثين يوماً) ومنه يؤخذ أنه إذا أكملت عدة الثلاثين، ولم ير الهلال، وجب الفطر سواء كان رؤية رمضان من واحد، أو من أكثر منه، وهو كذلك لإِكمال العدة بحجة شرعية، وما يلزم عليه من ثبوت شوال بواحد، يجاب عنه بأن الشيء يثبت ضمناً بما لا يثبت به مستقلاً.


رقم الحديث -215 عبر به ثانياً بعد التعبير أولاً بالصوم تفنناً في التعبير، وأصله صوام قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها ( وما يتعلق به) أي: برمضان من الاعتكاف والإكثار من عمل البر، ثم الصوم والصيام مصدران لصام بمعنى أمسك ومنه قول مريم ( إني نذرت للرحمن صوماً) ( 3) أي: إمساكاً وسكوتاً عن الكلام، وشرعاً الإمساك عن المفطرات في زمن مخصوص على وجه مخصوص.
ووجوب صوم رمضان بالكتاب والسنة والإجماع، معلوم من الدين بالضرورة، فيكفر جاحده ما لم يكن معذوراً بأن يكون قريب عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة عن العلماء ( قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا) نداء لهم باشرف أَوصافهم وفيه تشريف بعد تشريفهم بالخطاب ( كتب عليكم الصيام) قيل: هو صوم رمضان وقيل: ثلاثة أيام من كل شهر وعاشوراء ثم نسخ ( كما كتب على الذين من قبلكم) فيه حمل لثقله على النفوس لأن الأمر الشاق إذا عم سهل تعاطيه، واختلف على الأول هل التشبيه في أصل الصوم أو في خصوص رمضان؟ الأصح الأول وأن رمضان من خصائص هذه الأمة تشريفاً لنبيها محمد - صلى الله عليه وسلم - ( لعلكم تتقون) المعاصي، فإن الصوم يضيق مسالك الشيطان ( أياماً معدودات) تقديره صوموا أياماً، وليس معمول الصيام لتحليته بأل وإعماله إذا كان كذلك شاذ والتعبير بجمع القلة للتنشيط على ملابسته والدخول فيه، ثم بعد التمرن يهون الأمر ( فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر) أي: فعليه، أو فواجبه، أو فيجب عليه صوم عدة أيام المرض أو السفر من أيام أخر إن أفطر، فحذف الشرط والمضاف للقرينة ( وعلى الذين يطيقونه) أي: الأصحاء المقيمين ( فدية) أي: إن أفطروا ( طعام مسكين) كان في بدء الإِسلام الخيار بين الصوم والإِطعام عن كل يوم مسكيناً فنسخ ، أو الآية غير منسوخة، والمراد الشيخ الكبير الهرم، والمرأة الكبيرة اللذان لا يستطيعان الصوم، ومعنى يطيقونه يصومونه طاقاتهم وجهدهم، ويؤيده قراءة ( يطوقونه) بتشديد الواو أي: يكلفونه ولا يطيقونه ( فمن تطوع خيراً) بأن أطعم أكثر من مسكين عن كل يوم ( فهو خير له وأن تصوموا) أي: صومكم ( خير لكم) أيها المطيقون ( إن كنتم تعلمون) فضائل الصوم ( شهر رمضان) مبتدأ خبره ما بعده أو ذلكم شهر رمضان ( الذي أنزل فيه القرآن) جملة ليلة القدر إلى السماء الدنيا، ثم نزل منجماً إلى الأرض، وهو خبر شهر، أو صفته ( هدى للناس) أي هادياً ( وبينات) أي: آيات واضحات ( من الهدى) مما يهدي إلى الحق، من الأحكام ( والفرقان) ومما يفرق بين الحق والباطل ( فمن شهد) حضر، ولم يكن مسافراً ( منكم الشهر) أي: فيه ( فليصمه) أي: فيه ( ومن كان مريضاً) أي: مرضاً يشق أو يضر معه الصوم ( أو على سفر فعدة من أيام أخر) الآية الأولى تخيير المريض والمسافر والمقيم هذه لهما دون المقيم فلا تكرار بل علم من هذه نسخ الأولى ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) فلذا أباح الفطر للسفر والمرض ( ولتكملوا العدة) عطف على اليسر، مثل ( يريدون ليطفئوا) ، أو تقديره شرع لكم ذلك، أي: جملة أحكام الصوم لتكملوا عدد أيام الشهر بقضاء ما أفطرتم في المرض والسفر ( ولتكبروا الله) لتعظموه ( على ما هداكم) أرشدكم إليه من وجوب الصوم، ورخصة الفطر بالعذر، والمراد تكبيرات ليلة الفطر ( ولعلكم تشكرون) الله على نعمته، أو رخصة الفطر.
انتهى من جامع البيان.
وهذا المفسر مراد المصنف بقوله ( من أيام أُخر) الآية، وهي بالرفع مبتدأ خبره محذوف أي: معروفة وبالنصب أي: أتمها، ويجوز الخفض على حذف الجار لكنه ضعيف؛ لأن حذف الجار وإبقاء عمله سماعي في غير أن وإن وكي المصدريات ( وأما الأحاديث) أي: الدالة على وجوبه ( فقد تقدمت في الباب الذي قبله) في جملة ما يدل على وجوب الزكاة ( و) مما فيها، بيان فضله ما ثبت.