بطاقة كتاب : صحيح البخاري

البيان

الاسم بالكامل :

الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه

اسم الشهرة :

صحيح البخاري

البيان

اسمه بالكامل :

أبو عبدالله بن أبي الحسن ، محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بَرْدِزْبَه ، الجعفي مولاهم ، البخاري .

عمره أو تاريخ وفاته :

(194 - 256هـ ، 810 - 870م) .

ترجمته :

اسمه ونسبه:
أبو عبدالله بن أبي الحسن، محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بَرْدِزْبَه ، الجعفي مولاهم، البخاري.
فأمَّا الجعفي:
فنسبة إلى يمان الجعفي الذي أسلم على يديه المغيرة جَدّ البخاري، وكان قبلُ مجوسيًّا، فنُسِب إليه نسبة ولاء إسلام.
وأمَّا البُخاري:
فنسبة إلى مدينة "بُخارى" الواقعة في بلاد ما وراء النَّهر، وهي الآن تقع في الجزء الغربي من جمهورية "أُوزبكستان".

مولده ومكان ولادته:
ولد يوم الجمعة بعد صلاتها، لثلاث عشرة ليلةً خلت من شهر شوَّال، سنة أربع وتسعين ومائة، "بِبُخارى"، وقد ذكر البخاري أنَّه وجد تاريخ مولده بخطِّ أبيه.

نشأته:
مات أبوه وهو صغير، فنشأ في حِجْر أمِّه، وكان أبوه قد ترك مالاً أعان أمَّه على تنشِئته وتربيته التربية الكريمة، قال أبوه "إسماعيل" عند وفاته:
"لا أعلم في مالي درهمًا من حرامٍ ولا شبهةٍ".
ذهبت عيناه في صِغَره، فرأت أمُّه خليلَ الرحمن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - في المنام، فقال لها:
"يا هذه، قد ردَّ الله على ابنك بصره بكثرة دعائك أو بكائك"، فأصبح وقد ردَّ الله له بصره.

طلبه للعلم والحديث ورحلاته:
ظهر نبوغه العلميُّ في سنٍّ مبكرة وهو ابن عشر سنين، فبدأ بطلب العلم ببلدِه "بُخَارَى" قبل أنْ يرتحلَ منها، وفي ست عشرة سنة حفظ كُتب ابن المبارك ووكيع.
وقد سُئل البخاري:
كيف كان بَدْءُ أمرِكَ؟ قال:
"أُلْهِمْتُ حِفظَ الحديث وأنا في الكُتَّاب، فقيل:
كم كان سِنُّك؟ فقال:
عشر سنين أو أقل، فلمَّا طعنتُ في ست عشرةَ سنة، كنتُ قد حفظتُ كُتب ابن المبارك ووكيع، وعرفتُ كلام هؤلاء[، ثمَّ خرجتُ مع أمِّي وأخي إلى "مكةَ"، فلمَّا حَججتُ رجع أخي بها، وتخلَّفتُ في طلب الحديث".
فكان هذا أول ارتحاله في طلب العلم، وكان ذلك حوالي سنة عشر ومائتين، ثمَّ رحل إلى المدينة، والشام، ومصر، ونَيسابور، والجزيرة، والبصرة، والكوفة، وبغداد، وواسط، ومرو، والرّيّ، وبَلْخ، وغيرها، قال الخَطيب:
"رحل في طلب العلم إلى سائر محدِّثي الأمصار".

شيوخه:
بعد هذه الرحلات الواسعة لا يُسْتَغْرب قول البخاري - رحمه الله - قبل موته بشهر:
"كتبتُ عن ألفٍ وثمانين نفسًا"، ابتدأ السَّماع من شيوخ بلده "بُخارى"، فسمع أولاً من عبدالله بن محمد بن عبدالله بن جعفر بن اليمان الجعفي المسندي، ومحمد بن سلام البيكندي، وجماعة.
وقد قسَّم الحافظ ابنُ حجر شيوخ البخاري إلى خمس طبقات:
الأولى:
مَن حدَّثه عن التابعين، وهم أتباع التابعين، مثل محمد بن عبدالله الأنصاري، ومكي بن إبراهيم، وعُبيدالله بن موسى، وغيرهم.
الثانية:
مَن كان في عصر هؤلاء لكنَّه لم يسمع من ثِقات التابعين، كآدم بن أبي إياس، وسعيد بن أبي مريم، وأيوب بن سليمان، وأمثالهم.
الثالثة:
وهي الوسطى من مشايخه، وهم مَنْ لم يَلْقَ التابعين، بل أخذ عن كبار تَبَعِ الأتباع، كسليمان بن حرب، وقتيبة بن سعيد، وابن المديني، وابن معين، وابن حنبل، وإسحاق، وأبي بكر بن أبي شيبة، وأمثالهم، وهذه الطبقة قد شاركه "مسلم" في الأخذ عنهم.
الرابعة:
رفقاؤه في الطلب، ومَن سمع قبله، كمحمد بن يحيى الذُّهْلي، وعبد بن حُمَيد، وأبي حاتم الرازي، وجماعة من نظرائهم، وإنَّما يخرج عن هؤلاء ما فاته عن مشايخه، أو ما لم يجده عند غيرهم.
الخامسة:
وهم في عِداد طلبته في السنِّ والإسناد، وقد سمع منهم للفائدة، كعبدالله بن حمّاد الآملي، وعبدالله بن أبي العاص الخوارزمي، وحسين بن محمد القباني، وغيرهم.
وقد روى عنهم أشياء يسيرة، وعمل في الرواية عنهم لما قاله "وكيع":
"لا يكون الرجل عالِمًا حتى يُحدِّث عمَّن هو فوقه، وعمَّن هو مثله، وعمَّن هو دونه".

تلامذته:
أخذ عنه خلقٌ كثيرٌ لا يُحصَون، قال الحافظ صالح بن محمد الملقَّب (جزرة):
" كان يجتمع له في "بغداد" وحدَها أكثر من عشرين ألفًا يكتبون عنه".
وكان بين يديه ثلاثة مستملين، وسَمِع منه الصحيح ما يَقْرب من تسعين ألفًا.
وممَّن أخذ عنه من العلماء المشهورين:
الإمام مسلم بن الحجَّاج صاحب "الصحيح"، والإمام محمد بن سورة الترمذي صاحب "الجامع"، وأبو حاتم وأبو زرعة الرازيَّان، وابن خزيمة، وصالح بن محمد (جزرة)، وغيرهم كثير.

عبادته:
كان - رحمه الله - إذا دخلت أول ليلةٍ من شهر رمضان يجتمع إليه أصحابه فيصلِّي بهم، ويقرأ في كلِّ ركعة عشرين آية، وكذلك إلى أنْ يختمَ القرآن.
وكان يقرأ في السَّحَر ما بين النِّصف إلى الثُّلث من القرآن، فيختم عند السَّحَر في كلِّّ ثلاث ليالٍ، وكان يختم بالنهار في كلِّ يومٍ ختمة، ويكون ختمه عند الإفطار كلَّ ليلة، وكان يصلِّي في وقت السحر ثلاث عشرة ركعة، ويوتِر منها بواحدة.
كان معه شيء من شَعْرِ النبي - صلى الله عليه وسلم - جَعَلَه في ملبوسه.
صلَّى ذات ليلة، فلسعه الزنبور سبع عشرة مرَّة، فلمَّا قضى الصلاة، قال:
"انظروا أيش آذاني"، ولمَّا ألَّفَ "الصحيح"، كان يصلِّي ركعتين عند كلِّ ترجمة.

ورعه واحتياطه في جَرْحِ الرواة:
قال - رحمه الله -:
"أرجو أنْ ألقى الله ولا يحاسبني أني اغتبتُ أحدًا".
قال الذهبي - رحمه الله - معلِّقًا على كلام البخاري هذا:
"قلتُ:
صدَقَ - رحمه الله - ومَنْ نَظَرَ في كلامه في الجَرح والتعديل، عَلِمَ ورعه في الكلام في الناس، وإنصافه فيمن يضعِّفه، فإنه أكثر ما يقول:
"منكر الحديث، سكتوا عنه، فيه نظر"، ونحو هذا، وقلَّ أنْ يقول:
"فلانٌ كذَّاب، أو كان يضعُ الحديث"، حتى إنَّه قال:
"إذا قلتُ:
فلانٌ في حديثه نظرٌ، فهو متَّهمٌ واهٍ"، وهذا معنى قولِه:
"لا يحاسبني الله أني اغتبتُ أحدًا"، وهذا هو - والله - غاية الْوَرَع".
ولم يمنعه ما جرى بينه وبين الذهلي في مسألة اللفظ - وستأتي - أن يروِيَ عنه، قال الذّهبي معدِّدًا تلاميذ الذهلي:
"ومنهم:
محمد بن إسماعيل البخاري، ويدلِّسه كثيرًا، لا يقول:
محمد بن يحيى، بل يقول:
محمد فقط، أو محمد بن خالد، أو محمد بن عبدالله ينسبه إلى الجدِّ، ويُعمي اسمه لمكان الواقع بينهما، غَفَرَ اللهُ لهما".

حفظه وذكاؤه:
قال البخاري - رحمه الله -:
"أحفظ مائة ألف حديث صحيح، وأحفظ مائتي ألف حديث غير صحيح".
وقال:
"كتبتُ عن ألف شيخ وأكثر، عن كلِّ واحدٍ منهم عشرة آلاف وأكثر، ما عندي حديث إلا أذكر إسناده".
وقال محمد بن أبي حاتم الورَّاق:
سمعت حاشد بن إسماعيل وآخر يقولان:
كان أبو عبدالله البخاري يختلف معنا إلى مشايخ البصرة وهو غلام، فلا يكتب حتى أتى على ذلك أيام، فكنَّا نقول له:
إنَّك تختلف معنا ولا تكتب، فما تصنع؟ فقال لنا يومًا بعد ستة عشر يومًا:
"إنَّكما قد أكثرتما عليَّ وألححتما، فاعرضا عليَّ ما كتبتما"، فأخرجنا إليه ما كان عندنا، فزاد على خمسة عشر ألف حديث، فقرأها كلَّها عن ظهر قلب، حتى جعلنا نُحْكِمُ كُتُبَنَا من حفظه، ثمَّ قال:
أترون أني أختلف هَدَرًا، وأضيِّع أيَّامي؟! فعرفنا أنَّه لا يتقدَّمه أحدٌ.
قَدِمَ "بغداد"، فسمع منه أصحاب الحديث، فاجتمعوا وعمدوا إلى مائة حديث، فقلبوا متونها وأسانيدها، وجعلوا متن هذا الإسناد هذا، وإسناد هذا المتن هذا، ودفعوا إلى كلِّ واحدٍ عشرة أحاديث ليُلْقُوهَا على البخاري في المجلس، فاجتمع الناس، وانتدب أحدهم، فسأل البخاري عن حديث من عشرته، فقال:
"لا أعرفه"، وسأله عن آخر، فقال:
"لا أعرفه"، وكذلك حتى فرغ من عشرته، فكان الفقهاء يلتفت بعضهم إلى بعض، ويقولون:
"الرَّجل فهم"، ومَن كان لا يدري قضى على البخاري بالعجز، ثم انتدب آخر، ففعل كما فعل الأوَّل، والبخاري يقول:
"لا أعرفه"، ثمَّ الثالث، وإلى تمام عشرة الأنفس، وهو لا يزيدهم على:
"لا أعرفه"، فلمَّا عَلِم أنَّهم قد فرغوا، التفتَ إلى الأول منهم، فقال:
أمَّا حديثك الأوَّل فكذا، والثَّاني كذا، والثالث كذا إلى العشرة، فردَّ كلَّ متنٍ إلى إسناده، وفعل بالآخرين مثل ذلك، فأقرَّ له الناس بالحفظ.
وكان "بسمرقند" أربعمائة ممَّن يطلبون الحديث، فاجتمعوا سبعة أيام، وأحبُّوا مغالطة محمد ابن إسماعيل، فأدخلوا إسناد الشَّام في إسناد العراق، وإسناد اليمن في إسناد الحَرَمين، فما تعلَّقوا منه بسقطةٍ لا في الإسناد، ولا في المتن.
قال الإمام ابن كثير:
"وقد ذكروا أنَّه كان ينظُر في الكتاب مرَّة واحدةً فيحفظه من نظرةٍ واحدةٍ، والأخبار عنه في ذلك كثيرة".

ثناء الأئمَّة عليه:
جعل الله له لسان صدْقٍ عند العلماء وأصحاب التَّراجِم، فما زال العلماء منذ عصره يُثنون عليه وعلى كتابه "الصحيح"، حتى إنَّ بعضهم ألَّف مؤلَّفًا مستقلاًّ في ترجمته ومناقبه كالذهبي، وابن كثير، وابن حجر، وغيرهم كثير، وهذه بعض أقوال وثناء أهل العِلم عليه:
ذُكِرَ قَوْلُ البخاري لعليّ بن المديني - يعني قولَه:
"ما استصغرتُ نفسي إلا بين يدي عليّ بن المديني" - فقال عليّ:
"دَعُوا هذا، فإنَّ محمد بن إسماعيل لم يرَ مِثْل نفسه".
وقال عمرو بن عليّ الفلاس:
"حديثٌ لا يعرفه محمد بن إسماعيل ليس بحديث".
قال إسحاق بن راهويه:
"اكتبوا عن هذا الشاب - يعني البخاري - فلو كان في زمن الحَسَنِ لاحتاج إليه الناس؛ لمعرفته بالحديث وفقهه".
وقال أبو عيسى الترمذي:
"لم أرَ بالعراق، ولا بخراسان في معنى العِلل، والتاريخ، ومعرفة الأسانيد أَعْلَم من محمد بن إسماعيل".
وقال نعيم بن حمَّاد، ويعقوب بن إبراهيم الدروقي:
"محمد بن إسماعيل فقيه هذه الأُمة".
وجاء "مسلم" إلى البخاري، فقال:
"دَعْني أُقبِّلْ رجلَيك يا أستاذ الأستاذين، وسيِّد المحدِّثين، وطبيب الحديث في عِلَلِهِ".
وقال "مسلم" أيضًا:
"لا يبغضك إلا حاسدٌ، وأشهد أنَّه ليس في الدنيا مثلك".
وقال أحمد بن حنبل:
"ما أخرجتْ خراسان مثل محمد بن إسماعيل".
وقال عبدالله بن سعيد بن جعفر:
"سمعتُ العلماء بالبصرة يقولون:
ما في الدنيا مثل محمد بن إسماعيل في المعرفة والصلاح".
وقال ابن خزيمة:
"ما رأيتُ تحت أديم السماء أعلم بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأحفظ له من محمد بن إسماعيل".
وكان ابنُ صَاعد إذا ذَكَرَهُ يقول:
"الكبش النَّطَّاح".
وقال أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن عبدالله بن نُمير:
"ما رأينا مثل محمد بن إسماعيل".
وقال الحافظ ابن كثير:
"هو إمام أهل الحديث في زمانه، والمقْتَدَى به في أوانه، والمقدَّم على سائر أضرابه وأقرانه"، وقال:
"وقد كان البخاري - رحمه الله - في غاية الحياء، والشجاعة، والسَّخاء، والوَرَع، والزُّهد في الدنيا دار الفناء، والرَّغبة في الآخرة دار البقاء".

محنته مع محمد بن يحيى الذُّهْلي في مسألة اللفظ:
لمّا قَدِمَ البخاري نيسابور سنة (250) هـ، استقبله الناس استقبالاً عظيمًا، فاجتمع الناس عليه مدَّةً يحدِّثهم، فحسده مَن حسده، وكان فيها محدِّثها محمد بن يحيى الذُّهْلي، وكان يقول لدى مَقْدم البخاري:
"اذهبوا إلى هذا الرجل الصالح، فاسمعوا منه"، فذهب الناس إليه، وأقبلوا على السماع منه، حتى ظهر الخَلل في مجلس محمد بن يحيى، فحسده بعد ذلك، وتكلَّم فيه.
ومن ثَمَّ سأل رجلٌ البخاري:
ما تقول في اللفظ بالقرآن:
مخلوقٌ هو، أم غير مخلوق؟ فأجاب بقوله:
"القرآن كلام الله غير مخلوق، وأفعال العِباد مخلوقة، والامتحان بدعة".
وقال:
"أفعالنا مخلوقة، وألفاظنا من أفعالنا".
فلمَّا قال البخاري ذلك، اختلف الناس في تفسير عبارته:
فقال البعض:
"قال بخَلْق القرآن"، وقال البعض الآخر:
"بل قال لفظي بالقرآن مخلوق"، فعندها قال محمد بن يحيى الذُّهْلي:
"القرآن كلام الله غير مخلوق من جميع جهاته، وحيث تصرف، فمَن لزم هذا استغنى عن اللفظ وعمَّا سواه من الكلام في القرآن، ومَن زعم أنَّ القرآن مخلوق فقد كفر، وخرج عن الإيمان، وبانت منه امرأته، يُستتاب، فإنْ تاب، وإلا ضُربت عنقه، وجُعِلَ ماله فيئًا بين المسلمين، ولم يُدْفَن في مقابرهم، ومَن وقف فقال:
لا أقول:
مخلوق ولا غير مخلوق، فقد ضاهى الكفر، ومَنْ زعم أنَّ لفظي بالقرآن مخلوق، فهذا مبتدع، لا يجالَس ولا يكلَّم، ومَن ذهب بعد هذا إلى محمد بن إسماعيل البخاري فاتَّهموه؛ فإنَّه لا يحضر مجلسه إلا مَن كان على مثل مذهبه".
فانفضَّ الناس عن البخاري، فلم يحضر مجلِسَه إلا "مسلم" صاحب "الصحيح"، وأحمد بن سلمة، فبعث مسلم إلى الذُّهْلي ما سمعه منه؛ لأنَّه كان يُظْهِرُ القول باللفظ ولا يكتمه.
ومن الغَرابة أنْ يُعلِّق الحافظ ابن حجر على صنيع الإمام مسلم، فيقول:
"قد أنصَف مسلم، فلم يُحدِّث في كتابه عن هذا ولا عن هذا"، فأين الإنصاف والمسألة فيها شُبهة؟ عداك أنَّ البخاري لم يصح عنه أنَّه قال باللفظ؛ روى الخطيب عن محمد بن نصر المروزي، قال:
سمعتُ البخاري يقول:
"مَنْ زعم أنَّي قلتُ:
لفظي بالقرآن مخلوق، فهو كذَّاب؛ فإنِّي لم أقلْه"، فقلتُ له:
يا أبا عبدالله، قد خاض الناس في هذا، وأكثروا فيه، فقال:
"ليس إلا ما أقول".
وقال أبو عمرو الخفاف:
أتيتُ محمد بن إسماعيل، فناظرته في شيءٍ من الأحاديث حتى طابت نفسه، فقلتُ:
يا أبا عبدالله، ها هنا أحدٌ يحكي عنك أنك قلتَ هذه المقالة، فقال:
"يا أبا عمرو، احفظْ ما أقول لك، مَن زعم من أهل نيسابور - وسمَّى بلدانًا أخرى - أنِّي قلتُ:
لفظي بالقرآن مخلوق، فهو كذَّاب؛ فإنِّي لم أقلْ هذه المقالة، إلا أنِّي قلتُ:
أفعال العباد مخلوقةٌ".
بعدها خرج من نيسابور، فعاد إلى بلده بُخارى، فاستقبله الناس، ونُثِرت عليه الدَّراهم، وحدَّث بها أيَّامًا إلى أنْ حَدَثتِ الوحشة بينه وبين واليها الأمير خالد بن أحمد الذُّهْلي؛ حيث سأله أنْ يحضرَ منزله، فيقرأ "الجامع"، و"التاريخ" على أولاده، فامتنع عن الحضور عنده، فراسله بأنْ يعقد مجلسًا لأولاده لا يحضره غيرهم، فامتنع، وقال:
لا أخصُّ أحدًا، ثم قال للرسول:
"أنا لا أذل العلم، ولا أحمله إلى أبواب النّاس، فإنْ كانت لكَ إلى شيءٍ منه حاجة، فاحضرْ في مسجدي، أو في داري، وإنْ لم يعجبك هذا، فإنَّك سلطان فامنعني من المجلس؛ ليكون لي عذرٌ عند الله يوم القيامة؛ لأنِّي لا أكتمُ العلمَ ...
"، فوجد عليه الوالي، واستعان بخصومه حتى تكلَّموا في مذهبه، فنُفِيَ عن البلد، فمضى إلى "سمرقند".

وفاته:
بعد نفيه استقرَّ بإحدى قُرى سمرقند تُدعَى:
"خَرْتَنْك"، فكان له بها أقرباء أقام عندهم أيَّامًا، مرض مرضًا شديدًا، فسُمِع ليلةً وقد فرغ من صلاة الليل يقول:
"اللهم إنَّه قد ضاقت عليَّ الأرض بما رَحُبَت، فاقبضني إليك"، فما تمَّ الشهر حتى مات.
توفي البخاري ليلة السبت، وهي ليلة عيد الفطر آنذاك، عند صلاة العشاء، ودُفِنَ يوم الفطر بعد صلاة الظهر بخَرْتَنْك، سنة ست وخمسين ومائتين، عاش اثنتين وستين سنة إلا ثلاثة عشر يومًا، جزاه الله عن المسلمين خيرًا، وأجزل مثوبته.
أهم مصنفاته:
أجلُّها:
"الجامع الصحيح"، "الجامع الصغير"، "الجامع الكبير"، "الأدب المفرد"، "أسامي الصحابة"، "الأشربة"، كتب التاريخ:
الكبير والأوسط والصغير، "التفسير الكبير"، "خلق أفعال العباد"، "رفع اليدين في الصلاة"، "الضعفاء الصغير"، "العلل"، "الفوائد"، "القراءة خلف الإمام"، "قضايا الصحابة والتابعين وأقاويلهم"، "الكُنَى"، "المبسوط"، "المسند الكبير".

من أقواله - رحمَه الله -:
"لا أعلم شيئًا أنفَع للحفظ من نَهمة الرجل، ومداومة النظر".
"لا ينبغي للمسلم أنْ يكون بحالةٍ إذا دعا لم يُسْتَجَبْ له".
"لا أعلم شيئًا يُحتاج إليه إلا وهو في كتاب الله والسُّنة".

[صحيح البخاري]

اسم الكتاب:
الاسم الذي اشتهر به كتاب الإمام البخاري بين الناس - عالِمُهُم وعَاميُّهُم - منذ القديم هو (صحيح البخاري) أو (الجامع الصحيح)، إلا أن للكتاب اسما سمَّاه به مؤلفه، وقد اختلف العلماء في تحديد ذلك الاسم إلى قولين متقاربين جدا وهما:
(الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته وأيامه).
(الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه)، وهو الأصحُّ كما ذهب إليه الشيخ المحقق عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله في رسالته النافعة (تحقيق اسمي الصحيحين واسم جامع الترمذي).

دوافع تأليفه:
عقد الحافظ ابن حجر في بداية مقدمته لكتابه (فتح الباري) فصلا في بيان الدافع الباعث للبخاري على تصنيف كتابه (الصحيح)، وقد لخصها الحافظ في ثلاثة أسباب هي:
أولا:
أن البخاري رحمه الله وجد المصنفات الحديثية التي جُمعت قبله قد مَزجَت بين الصحيح الثابت وما ليس كذلك - مما لم تصح نسبته للنبي صلى الله عليه وسلم؛ فحرك ذلك عزمَه على تجريد صحيح السنة في مصنف خاص.
ثانيا:
ما سمعه من شيخه إسحاق بن راهويه رحمه الله من نَدْبِه تلاميذَه في أحد المجالس إلى جمع كتاب مختصر في الصحيح من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا لهم:
« لو جمعتم كتابا مختصرا لصحيح سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ».
قال البخاري:
« فوقع ذلك في قلبي فأخذت في جمع هذا الكتاب».
ثالثا:
رؤية منامية رآها الإمام، قال البخاري رحمه الله:
« رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وكأني واقف بين يديه، وبيدي مروحة أذبُّ بها عنه، فسألت بعض المعبرين فقال لي:
أنت تذُبُّ عنه الكذب، فهو الذي حملني على إخراج الجامع الصحيح ».

موضوع الكتاب:
موضوع كتاب صحيح البخاري هو الأحاديث الصحيحة المُسْنَدة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أبان عن ذلك رحمه الله بنفسه في قوله:
« ما أدخلتُ في كتابي إلا ما صَحَّ، وتركتُ من الصحيح حتى لا يطول ».
ويدل على موضوع كتابه أيضا تسميته إياه بـ (الجامع المسند الصحيح المختصر ....)؛ فهو واضح في أنه قصد إلى جمْعِ بعض الصحيح - لا كلِّه - من سنة النبي صلى الله عليه وسلم المسنَدَة، مما يشمل جُلَّ أبواب الدين، قال ابن حجر:
« تقرر أنه التزم فيه الصحة، وأنه لا يورد فيه إلا حديثا صحيحا، هذا أصل موضوعه وهو مستفاد من تسميته ».
ولا يَغِيبَنَّ على البال أن المراد بموضوع الكتاب:
هو المتُونُ المندرجةُ تحت الأبواب - لا الأبْوابَ ذاتَها -، أو ما يذكره عرضًا من المعلَّقَات غير المسندَةِ إلى النبي صلى الله عليه وسلم مما لا يتوافق ومعنى عنوان الكتاب، قال ابن الصلاح رحمه الله:
« فإنَّما المراد بكلِّذلك:
مقاصدَ الكتاب، وموضوعَهُ، ومتونَ الأبْواب، دون التَّراجمِ ونحوِها؛ لأنَّفي بعضِها ما ليسَ من ذلك قطعًا ».
وقال ابن حجر:
« ثم رأى [ أي البخاري ]

أن لا يُخْلِيَهُ من الفوائد الفقهية، والنُكَتِ الحُكمية، فاستخرج بفهمه من المتون معانيَ كثيرةً فرقها في أبواب الكتاب بحسب تناسبها، واعتنى فيه بآيات الأحكام، فانتزع منها الدلالات البديعة، وسلك في الإشارة إلى تفسيرها السبُلَ الوسيعةَ، قال الشيخ محيي الدين [ النووي ]

- نفع الله به -:
ليس مقصود البخاري الاقتصار على الأحاديث فقط، بل مراده الاستنباطُ منها، والاستدلالُ لأبوابِ إيرادها، ولهذا المعنى أخلى كثيرا من الأبواب عن إسناد الحديث، واقتصر فيه على قوله:
فيه فلان عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو نحو ذلك، وقد يذكر المتن بغير إسناد، وقد يورده معلقًا، وإنما يفعل هذا لأنه أراد الاحتجاجَ للمسألة التي تَرجَمَ لها، وأشار إلى الحديث لكونه معلوما، وقد يكون مما تقدم، وربما تقدم قريبا، ويقع في كثير من أبوابه الأحاديث الكثيرة، وفي بعضها ما فيه حديثٌ واحدٌ، وفي بعضها ما فيه آيةٌ من كتاب الله، وبعضها لا شيء فيه ألبتة».

مدى العناية في إخراج كتابه:
تظهر عنايةُ الإمام البخاري بإخراج كتابه (الصحيح) من خلال قوله:
« مَا وضعتُ في كتابي (الصحيح) حديثا إلا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين »، وقولِهِ أيضا:
« صَنَّفْتُ كتابيَ(الصحيح) لِسِتَّ عشرةَ سنةً، خَرَّجتُهُ من ستمائة ألف حديث وجعلتُه حجةً فيما بيني وبين الله تعالى ».

شرط الإمام البخاري في صحيحه:
لم يُعْرف عن البخاري رحمه الله أنه نصَّ على شرط كتابه، لكن الأئمة حاولوا استخراج شرطِهِ من خلال الاستقراءِ والتَّتبعِ، قال الإمام أبو الفضل بن طاهر المقدسي:
« اعلم أن البخاري ومسلمًا ومن ذكرنا من بعدهِم؛ لم يُنقل عن واحد منهم أنه قال:
شَرطتُّ أن أخرج في كتابي مما يكون على الشرط الفلاني، وإنما يَعْرِف ذلك من سَبَر كتبَهم، فَيَعْلَم بذلك شرط كل رجلٍ منهم».
والمقصود بشرط البخاري أو مسلم هنَا غير ما هو معروفٌ من الخلاف بينهما في الاكتفاءِ بثبوت المعاصرة بين الراوي وشيخه - بعد كونهما ثِقَتَينِ - كما هو عند الإمام مسلم، أو اشتراطِ ثُبُوتِ اللُّقِيِّ بينهما كما هو عند الإمام البخاري.
وقد ذهب الإمام الحاكم إلى أن شرط الشيخين في صحيحيهما أن يكون الحديث مرويًا عن صحابِيِّ مشهورِ بالرواية عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، وله راويان ثِقَتان، ثم يروِيهِ عنْهُ التابعيُّ المشهورُ بالرواية عن الصحابة، وله راويان ثقَتَان، ثم يروِيهِ عنه من أتباع التابعين الحافظ المتُقِنُ المشهورُ، وله رواةٌ ثقاتٌ من الطبقة الرابعة، ثم يكونُ شيخ البخاري ومسلم حافظًا متقنًا مشهورًا بالعدالة في روايته.
قال ابن طاهر المقدسي - تعقيبا على كلام الحاكم -:
« إنَّ الشَّيْخَين لم يشترطا هذا الشرط، ولا نُقِل عن واحدٍ منهُما أنه قال ذلك، والحاكم قدَّرَ هذا التقديرَ، وشرط لهما هذا الشرط على ما أظن، وَلَعمْري إنه لشرطٌ حسنٌ لو كان موجودًا في كتابيهما، إلا أنَّا وجدنا هذه القاعدة التي أسَّسَهَا الحاكم منتقضة في الكتابين جميعا ».
وقال الإمام الحازمي - مُعَقِّبًا على كلام الحاكم أيضًا -:
« هذا حـكم من لم يمعِنِ الغوص في خبايا (الصحيح)، ولو استقـرَأَ الكتابَ حَقَّ استقرائهِ؛ لَوجد جملة من الكتاب ناقـضةً عليه دعواه».
وقال الحافظ ابن حجر:
« أما القسم الأول الذي ادعى [ أي الحاكم ]

أنه شرط الشيخين فمنقوضٌ بأنهما لم يشترطا ذلك، ولا يقتضيه تصرفهما، وهو ظاهر بيِّنٌ لمن نظر في كتابيهما ».
ثم ساق الحافظ شواهد وأدلة تنقض ما قرره الحاكم.
وقد ذكر أبو الفضل بن طاهر المقدسي أربعة شروط اشترطها البخاري ومسلم في صحيحيهما فقال رحمه الله:
« اعلم أن شرط البخاري ومسلمٍ أن يخرِجَا الحديثَ المُتفق على ثقة نقَلَته إلى الصحابي المشهور، من غير اختلاف بين الثقات الأثبات، وأن يكون إسناده متصلا غير مقطوع، فإن كان للصحابي راويان فصاعدا فحسنٌ، وإن لم يكن له إلا راوٍ واحد؛ إذا صح الطريق إلى ذلك الراوي أخرجاه ».
وقد ذكر الحازمي في رسالته (شروط الأئمة) شروط الصحيح بالتفصيل ، لخصها الحافظ ابن حجر بقوله:
« وقال الحافظ أبو بكر الحازمي رحمه الله ...
ما حاصله:
أن شرط الصحيح أن يكون إسناده متصلا، وأن يكون راويه مسلمًا، صادقًا، غير مدلس، ولا مختلط، متصفًا بصفات العدالة، ضابطًا، متحفظًا، سليم الذهن، قليل الوَهَم، سليم الاعتقاد ».
وقال ابن حجر أيضا:
« أما غير المكثرين [ من الرواة ]

؛ فإنما اعتمد الشيخان في تخريج أحاديثهم على الثقة والعدالة وقلة الخطإ، لكن منهم من قوي الاعتماد عليه فأخرجا ما تفرد به، كيحيى بن سعيد الأنصاري، ومنهم من لم يقو الاعتماد عليه فأخرجا له ما شاركه فيه غيره، وهو الأكثر ».
فهذا بإيجاز خلاصة شرط البخاري في صحيحه، وإلا فإن المسألة فيها كلام وتفصيل طويل ليس هذا مَحَلَّه، وفيها مناقشـاتٌ بين العلماء والأئمة، وقد فصَّل ذلك كلَّه وتـكلَّمَ عنه وحقَقَ ورجَّح؛ الشيخ عبد الفتـاح أبو غدة رحمه الله في تعليقـاتِه على رسالتيْ:
(شروط الأئمة الخمسة) لأبي الفضل المقدسي، و( شروط الأئمة الستة ) للحازمي، فلتراجع فإنها فريدة في بابها.

شرطه في السند المعنعن:
اشترط البخاري ليكون سند الحديث صالحا للاحتجاج إضافة إلى ما سبق ذكره - آنفا - من شروط الصحة لديه؛ أن يثبُتَ سماعُ الراوي من شيخِهِ، فلم يكتف بمجرد المعاصرة وإمكانية اللقاء، بل لا بد عنده من ثبوت الاجتماع والسماع مع السلامة من التدليس.
قال الحافظ ابن كثير في سياق بيانه سبب ترجيح (صحيح البخاري) على غيره من جهة الصحة:
« والبخاري أرجح؛ لأنه اشترط في إخراجه الحديث في كتابه هذا:
أن يكون الراوي قد عاصر شيخه، وثَبُتَ عنده سماعه منه، ولم يشترط مسلم الثاني، بل اكتفى بمجرد المعاصرة، ومن ههنا ينفصل لك النزاع في ترجيح تصحيح البخاري على مسلم، كما هو قول الجمهور ».
وقال الحافظ ابن حجر في أثناء كلامه على أوجه ترجيح (صحيح البخاري) على (صحيح مسلم):
« الوجه الخامس:
وذلك أن مسلماً كان مذهبُهُ على ما يُصَرِّحُ به في مقدمة صحيحه، وبَالَغَ في الردِّ على من خالفه أن الإسناد المعنعن له حُكْمُ الاتصال إذا تعاصر المُعَنعِن ومن عَنعَن عنه، وإن لم يثبت اجتماعهما إلا إن كان المُعَنْعِنُ مدلساً، والبخاري لا يحمِلُ ذلك على الاتصال حتى يثبت اجتماعهما ولو مرة، وقد أظهر البخاري هذا المذهب في تاريخه، وجرى عليه في صحيحه، وأكثر منه حتى إنه ربما خرَّج الحديث الذي لا تعلُّق له بالباب جملةً إلا ليبيِّن سماعَ راوٍِ من شيخِه لكونه قد أخرج له قبل ذلك شيئاً معنعَناً، وسترى ذلك واضحاً في أماكنه - إن شاء الله تعالى - وهذا مما ترجح به كتابُه لأنَّا وإن سلَّمْنا بما ذكرَه مسلمٌ من الحكم بالاتصال؛ فلا يخفى أن شرط البخاريِّ أوضحُ في الاتصال ».
ومذهب البخاري في السند المعنعَن هو مذهب كثير من الحفاظ، سواء ممن سـبق البخاري كشعبة بن الحجاج، ويحي بن سعيد القطان، وعلي بن المديني، أو ممن جاء بعده، حتى نقل بعضهم الإجماع عليه.
قال ابن عبد البر:
« اعلم - وفقك الله - أتى تأملت أقاويل أئمة أهل الحديث، ونظرت في كتب من اشترط الصحيح في النقل منهم ومن لم يشترطه، فوجدتهم أجمعوا على قبول الإسناد المعنعَن، لا خلاف بينهم في ذلك إذا جمع شروطًا ثلاثةً هي:
1- عدالة المحدثين في أحوالهم.
2- ولقاء بعضهم بعضًا مجالسة ومشاهدة.
3- وأن يكونوا براء من التدليس ».
وقال الخطيب البغدادي:
« وأهل العلم بالحديث مجمعون على أن قول المحدث:
حدثنا فلان، عن فلان، صحيح معمول به إذا كان شيخه الذي ذكره يُعرَفُ أن قد أَدرك الذي حدَّثَ عنه، ولقيه، وسمع عنه، ولم يكن هذا المحدث ممن يدلس، ولا يعلم أنه يستجيز إذا حدثه به أن يسقط ذلك ويروي الحديث عاليًا؛ فيقول:
حدثنا فلان عن فلان - أعني الذي لم يسمعه منه - لأن الظاهر من الحديث السالم رواية مما وصفنا الاتصال، وإن كانت العنعنة هي الغالبة على إسناده».
ونسب الحافظ ابن رجب قول البخاري إلى جمهور المتقدمين فقال:
« وأما جمهور المتقدمين فعلى ما قاله ابن المديني والبخاري ».

المعلقات في (صحيح البخاري):
المعلقات في صحيح البخاري على ضربين:
الأول:
ما كان منها بصيغة الجزم مثل:
قال، رَوى، جاءَ، وعن ...
فحُكمُ هذه الصحة إلى من علَّقَهُ عنه ، « ويبقى النظر فيمن أبرز من رجال ذلك الحديث، فمنه ما يلتحق بشرطه، ومنه ما لا يلتحق، أما ما يلتحق فالسبب في كونه لم يوصِلْ إسنادَه:
إما لكونه أخرج ما يقوم مقامه فاستغنى عن إيراد هذا مُستوفى السياق، ولم يهمِله، بل أورده بصيغة التعليقِ طلبًا للاختصار، وإما لكونه لم يحصل عنده مسموعًا، أو سمِعَه وشَكَّ في سماعه له من شيخه، أو سمعه من شيخه مذاكرةً، فما رأى أن يسوقه مساق الأصل، وغالب هذا فيما أورده عن مشايخه ».
الثاني:
ما كان من المعلقات بصيغة التمريض مثل:
رُوِيَ، يُروى، ذُكِر ...
ونحوِ ذلك مما بُني الفعل فيه للمجهول؛ فلا يستفاد منها صحة ولا ينافيها، لأنه قد وقع من ذلك كذلك وهوصحيح، وربما رواه مسلم.
وذهب ابن الصلاح إلى أن إيراد البخاري لها في صحيحه «مشعرٌ بصحةِ أصلِه إشعَارًا يؤنَسُ به، ويُرْكنُ إليه ».
قال الإمام النووي :
« وقد اعتنى البخاري رحمه الله باعتبار هاتين الصيغتين وإعطائهما حكمَهُمَا في صحيحه، فيقول في الترجمة الواحدة بعض كلامه بتمريض، وبعضه بجزم، مراعيا ما ذَكَرنا، وهذا مشعِرٌ بتحرِّيه وورعِه، وعلى هذا فيُحمَل قوله:
ما أدخلت في الجامع إلا ما صـح، أي:
مما سقت إسناده ».
ولهذا لا يقال:
إن البخاري خالف شرطه فأخرج في كتابه ما لم يصح، لأن شرط الصحة عنده في الأحاديث المسندة إلى النبي صلى الله عليه وسلم دون المعلقات، فإن بعض ما عُلِّقَ منها بصيغة التمريض ليس بصحيح كما ذكر الحافظ ابن حجر في مقدمة (الفتح).
ولهذا فقد جاء البخاري بالموقوفات وآثار التابعين كلها معلَّقَةً؛ حتى لا يخالف شرط كتابه في إسناد ما رفع للنبي صلى الله عليه وسلم فقط.
فإن قيل:
لمَ جاء البخاري بالموقوفات في صحيحه وهو الذي خصصه للأحاديث المسندة، وما الحكمة من ذلك ؟ فجواب ذلك ما ذكره الحافظ ابن حجر حين قال:
« وإنما يورد ما يورد من الموقوفات من فتاوى الصحابة والتابعين، ومن تفاسيرهم لكثير من الآيات على طريق الاستئناس والتقوية لما يختاره من المذاهب في المسائل التي فيها الخلاف بين الأئمة، فحينئذ ينبغي أن يقال:
جميع ما يورد فيه إما أن يكون مما ترجَمَ به، أو مما تَرجِمَ له، فالمقصودُ من هذا التصنيف بالذات هو الأحاديث الصحيحة المسندة، وهي التي تَرجَم لها، والمذكورُ بالعرض والتَبَعِ الآثار الموقوفة، والأحاديث المعلقة، نعم والآيات المكرمة، فجميع ذلك مترجم به، إلا أنها إذا اعتُبِرت بعضُهَا مع بعضٍ، واعتُبِرت أيضا بالنسبة إلى الحديث، يكون بعضها مع بعض منها مفَسِّر، ومنها مفسَّر، فيكون بعضها كالمترجَم له باعتبار، ولكن المقصود بالذات هو الأصل، فافهم هذا فإنه مخلص حسن يندفع به اعتراض كثير مما أورده المؤلف من هذا القبيل والله الموفق ».

عدد أحاديثه:
قال الحافظ أبو عمرو بن الصلاح:
« وجملة ما في كتابه الصحيح سبعةُ آلافٍ ومئتانِ وخمسةٌ وسبعون حديثا بالأحاديث المكررة، وقد قيل:
إنها بإسقاط المكررة أربعة آلاف حديث، إلا أن هذه العبارة قد يندرج تحتها عندهم آثار الصحابة والتابعين، وربما عُدَّ الحديث الواحد المروي بإسنادين حديثين ».
أما الحافظ ابن حجر فقال:
« فجميع أحاديثه بالمكرر - سوى المعلقات والمتابعات - على ما حررته وأتقنته سبعة آلاف وثلاث مائة وسبعة وتسعون حديثا ».
وقال:
« فجميع ما في (صحيح البخاري) من المتون الموصولة بلا تكرير على التحرير ألفا حديث وستمائة حديث وحديثان ، ومن المتون المعلَّقة المرفوعة التي لم يوصلها في موضع آخر من الجامع المذكور مائة وتسعة وخمسون حديثا ، فجميع ذلك ألفا حديث وسبعمائة وأحد وستون حديثا».
ثم بين الحافظ السبب في الاختلاف الواقع في عدِّ أحاديث (الجامع) فقال:
« وبين هذا العدد الذي حرَّرتُه، والعددِ الذي ذكره ابن الصلاح وغيره تفاوت كثير، وما عرفت من أين أتى الوهم في ذلك، ثم تأولتُه على أنه يُحتَمَل أن يكون العَادُّ الأول الذي قلَّدُوهُ في ذلك، كان إذا رأى الحديث مُطَوَّلا في موضع ومختصرًا في موضع آخر؛ يظُنُّ أن المختصر غير المُطَوَّلِ إما لبعد العهد به، أو لِقِلَّة المعرفة بالصناعة، ففي الكتاب من هذا النمط شيء كثيرٌ، وحينئذِ يتبيَّنُ السبب في تفاوت ما بين العددين والله الموفق » .
أما بترقيم الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي رحمه الله فعدة ما في (صحيح البخاري) من الأحاديث 7563 حديثا.

منهجه في التراجم:
لقد ضمَّن الإمام البخاريُّ كتابَه تراجمَ حَيَّرت الأفكار، وأدهشتِ العقول والأبصار -كما قال ابن حجر ، ولقد أَعْيَت بعض تراجِمِهِ الناظرينَ في كتابِهِ، حتى خطَّأَ بعضُهُم البخاريَ في تحريرها، « وبعضهم نسب إليه التقصير في فهمِه وعلمِه، وهؤلاء ما أنصفوه لأنهم لم يعرفوه، وبعضهم قال:
لم يُبَيِض الكتاب.
وهو قول مردود ...
وبعض قال:
جاء من تحريف النسَّاخ.
وهو قول مردود».
وقد حاولَ بعضُ العلماءِ بيانَ مناسبات تراجم البخاري، فصَنَّفَ في إيضاح ذلك الإمام ناصر الدين المُنَيَّر (المتواري على تراجم البخاري)، ثم لخصه الإمام بدر الدين بن جماعة في (مناسبات تراجم البخاري).
قال ابن جماعة مبرزا منهج البخاري في تراجمه:
« - تارة يختصر الحديث لتضمن حكم ترجمة الباب، ويحيل فهم ذلك على من يعرف من أهل الحديث ...
- وتارة كون حكم الترجمة أولى من حكم نص الحديث ...
- وتارة يكون حكم الترجمة مفهوما من الحديث ولكن بطريق خفي وفهم دقيق ...
ونحو ذلك».
أما الحافظ ابن حجر رحمه الله فقد شرح منهج البخاري في تراجمه في مقدمة (الفتح)، فقسم التراجم إلى ظاهرة وخفية:
أما الظَّاهرة:
فهي أن تكون الترجمة دالة بالمطابقة لما يورد في ضمنها، وإنما فائدتها الإعلام بما ورد في ذلك الباب.
وأمَّا الخفيَّة:
فهي التي تحتاج إلى استنباط ونظر في فهم مناسبتها،فيكون فيها الإشارة إلى شرح مُشْكَلٍ، أو تفسيرِ غامضٍ، أو تأويل ظاهرٍ، أو تفصيل مجملٍ، ونحو ذلك؛ ولهذا اشتهر قول جمع من أهل العلم:
فقهُ البخاري في تراجِمِه.
وقد تكون الترجمة بلفظ المترْجم له، أو بعضه، أو معناه.
وكثيرًا ما يُتَرْجِمُ بلفظ الاستِفهام،وكثيرًاما يُتَرْجِمُ بلفظٍ يُومِئُ إلى معنى حديث لم يصح على شرطه، أو يأتيبالحديث الذي لم يصح على شرطه صريحًا في التَّرجمة، ويورد في الباب مايُؤَيِّدُ معناه تارة بأمر ظاهر، وتارة بأمر خفي، وربما اكتفىبلفظ التَّرجمة التي هي لفظ حديث لم يصح على شرطه، وأورد معها أثرًاأو آية، فكأنه يقول:
لم يصحَّ في الباب شيء على شرطي.
وغير ذلك منالفوائد والحكم التي لا تُحصى .
[التعريف بالكتاب ، نقلاً عن موقع :
أهل الحديث]