هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير، 
211 حَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ قَالَا : حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، ح ، وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ ، وَعَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ ، ح ، وَحَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى ، وَابْنُ بَشَّارٍ ، قَالَا : حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ كُلُّهُمْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ ، عَنْ قَتَادَةَ ، عَنْ زُرَارَةَ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا ، مَا لَمْ تَعْمَلْ ، أَوْ تَكَلَّمْ بِهِ ، وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ ، حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ ، وَهِشَامٌ ، ح ، وَحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ ، أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ ، عَنْ زَائِدَةَ ، عَنْ شَيْبَانَ جَمِيعًا عَنْ قَتَادَةَ ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ
هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير، 
211 حدثنا عمرو الناقد ، وزهير بن حرب قالا : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، ح ، وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا علي بن مسهر ، وعبدة بن سليمان ، ح ، وحدثنا ابن المثنى ، وابن بشار ، قالا : حدثنا ابن أبي عدي كلهم عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن زرارة ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله عز وجل تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ، ما لم تعمل ، أو تكلم به ، وحدثني زهير بن حرب ، حدثنا وكيع ، حدثنا مسعر ، وهشام ، ح ، وحدثني إسحاق بن منصور ، أخبرنا الحسين بن علي ، عن زائدة ، عن شيبان جميعا عن قتادة ، بهذا الإسناد مثله
هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير، 

: هذه القراءةُ حاسوبية، وما زالت قيدُ الضبطِ والتطوير، 

It is narrated on the authority of Abu Huraira that the Messenger of Allah (ﷺ) observed:

Verily Allah forgave my people the evil promptings which arise within their hearts as long as they did not speak about them or did not act upon them.

شرح الحديث من فـــتح المــــنعم

: : هذه القراءةُ حاسوبية، وما زالت قيدُ الضبطِ والتطوير،   

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله عز وجل تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تكلم به.



المعنى العام

حمدا لله على فضله وكرمه، وشكرا له على رحمته وإحسانه، أعطى هذه الأمة فأجزل عطاءها، وشملها بعفوه ومغفرته، فأحسن لها.

تجاوز لها عما حدثت به نفسها من السوء، وأثابها على تفكيرها في الخير وإن لم تخرجه إلى حيز الوجود، عفو في جانب السيئات، وإحسان وإكرام في جانب الحسنات.

أوحى الله تعالى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبشر أمته بهذا، على أسلوب الحديث النبوي.

ثم أمر ملائكته الكاتبين أن يلتزموا به، قال لهم: إذا هم عبدي بسيئة، وإذا فكر في معصية، وإذا حدثته نفسه بالإثم، فلا تكتبوا عليه ذنبا، ما لم يعمل بجوارحه ما عزم عليه، وارقبوه، فإن عمل السيئة التي صمم عليها فاكتبوها عليه سيئة واحدة، وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة.

أما إذا فكر في معروف، ونوى الخير، وقصد الإحسان، فاكتبوا له هذا القصد وهذا العزم حسنة كاملة، فإن عمل ما نواه فاكتبوها عشرة حسنات.

ثم ألزم نفسه، وأوحى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، أن يبلغ أمته على لسان ربه، وبأسلوب الحديث القدسي، أن الله جل شأنه يقول: إن الله قدر الحسنات والسيئات، وقرر في شأنهما قرارا كريما: إذا أراد عبدي أن يعمل حسنة فأنا أكتبها له حسنة كاملة ما لم يعملها، فإذا عملها فأنا أكتبها له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة والله يضاعف لمن يشاء، وإذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فأنا أغفر له ولا أكتبها عليه ما لم يعملها، فإذا عملها أكتبها عليه بمثلها، وقد أمحوها وأغفر لمن أشاء.

فلله الحمد، وله الشكر، ونسأله جل شأنه أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، فإن من حرم هذا الفضل، وسدت عليه أبواب الهداية وفاتته هذه السعة، فهو المحروم الهالك، فاللهم إنا نسألك العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، رب العالمين.

المباحث العربية

( إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها) في القاموس: تجاوز عن ذنبه لم يؤاخذه به.
اهـ فالفعل يتعدى بحرف الجر، كما جاء في الرواية الثانية عما حدثت به أنفسها فيكون في الرواية الأولى مضمنا معنى غفر مثلا.

ولفظ أنفسها ضبطه العلماء بالنصب والرفع، ففاعل حدثت في حالة النصب ضمير يعود إلى الأمة.
وما مصدرية، أو موصولة وإعرابها موصولة أوضح، والتقدير: تجاوز لأمتي عن الذي حدثت الأمة به أنفسها، ويؤيد النصب رواية إن أحدنا يحدث نفسه وفي حالة الرفع على الفاعلية يكون المفعول محذوفا، والتقدير: عما حدثتهم به أنفسهم فهو كقوله تعالى: { { ونعلم ما توسوس به نفسه } } [ق: 16] ففيه إشارة إلى أن التحديث من النفس بغير اختيار.

( ما لم يتكلموا أو يعملوا به) الفعلان تنازعا الجار والمجرور، والأصل ما لم يتكلموا به أو يعملوا به، والمقصود ما لم يتحقق في الخارج، لأن ما حدثت به النفس إما أن يتحقق في الخارج باللسان كالغيبة والنميمة والكذب والقذف، وإما أن يتحقق في الخارج بالجوارح الأخرى كالزنا والسرقة وشرب الخمر والقتل.

وليس المقصود من قوله ما لم يتكلموا ما لم يحكوه، فإن الشخص إذا قال: حدثتني نفسي بكذا فحاربتها لا يكون متكلما بما حدثته نفسه، ولكنه متكلم عنه، فلا يدخل في المؤاخذة.

وما مصدرية زمانية، أي مدة عدم كلامهم به، أو مدة عدم عملهم به.

( ما لم تعمل أو تكلم به) هذه عبارة الرواية الثانية، ولفظ تكلم أصله تتكلم حذفت منه إحدى التاءين.

( إذا هم عبدي) الهم ترجيح قصد الفعل، تقول: هممت بكذا أي قصدته بهمتي، وهو فوق مجرد خطور الشيء بالقلب، وسيأتي زيادة إيضاح له في فقه الحديث.

( كتبتها له) أي أمرت الكتبة بكتابتها له.

( فلا تكتبوها) الخطاب للملائكة الكاتبين.

( إلى سبعمائة ضعف) الضعف في اللغة المثل، والتحقيق أنه اسم يقع على العدد بشرط أن يكون معه عدد آخر، فإذا قيل: ضعف العشرة فهم أن المراد عشرون، ومن ذلك لو أقر بأن عليه ضعف درهم لزمه درهمان.

( سيئة واحدة) واحدة صفة مؤكدة، إذ الوحدة مفهومة من سيئة وهذا التأكيد لرفع توهم التضعيف الذي ذكر مع الحسنة.

( حدثنا أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله) أي قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

( إذا تحدث عبدي) أي إذا تحدثت نفس عبدي، ففي الكلام مضاف محذوف.

( قالت الملائكة: رب) أي قال واحد منهم رب فالإخبار عن المجموع، لا أن كلا منهم نادى بقوله: رب.

( يريد أن يعمل سيئة) أي يهم وتحدثه نفسه بعملها، وليس المقصود العزم المباشر للعمل.

( وهو أبصر به) وهو -أي الله- أبصر بهذا العبد وبإرادته من الملائكة، وهذه الجملة اعتراضية، لا محل لها من الإعراب، جيء بها لرفع إيهام أن إخبارهم له لإفادة العلم.

( إنما تركها من جراي) بفتح الجيم وتشديد الراء، وبالمد جرائي وبالقصر جراي ، ومعناه من أجلي.

( إذا أحسن أحدكم إسلامه) أي إذا أسلم إسلاما حقيقيًا وليس كإسلام المنافقين.

( فيما يروي عن ربه) يحتمل أن يكون مما تلقاه صلى الله عليه وسلم عن ربه بلا واسطة، ويحتمل أن يكون مما تلقاه بواسطة الملك وهو الراجح.

قال الكرماني: يحتمل أن يكون من الأحاديث القدسية، ويحتمل أن يكون للبيان، لما فيه من الإسناد الصريح إلى الله، حيث قال: ( إن الله كتب) ويحتمل أن يكون لبيان الواقع وليس فيه أن غيره ليس كذلك، لأنه صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، بل فيه أن غيره كذلك إذ قال: فيما يروي أي في جملة ما يرويه.
اهـ.

( إن الله كتب الحسنات والسيئات) يحتمل أن يكون هذا من قول الله تعالى، فيكون التقدير: قال الله: إن الله كتب، ويحتمل أن يكون من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، يحكيه عن فعل الله تعالى، ومعنى كتب أمر الحفظة أن تكتب، أو المراد قدر ذلك في علمه.

( ثم بين ذلك، فمن هم) أي ثم بين الله ذلك أي فصله، وقوله: فمن هم شرح اسم الإشارة ذلك والمشار إليه كتابة الحسنات والسيئات، والمعنى: كتب الحسنات والسيئات ثم فصل هذه الكتابة بقوله: فمن هم إلخ.

( كتبها الله عنده حسنة كاملة) عنده أي عند الله، والقصد منها الإشارة إلى الشرف، ومزيد الاعتناء به، ووصف الحسنة بالكمال لرفع توهم نقصها، لكونها نشأت عن الهم المجرد، فكأنه قيل: بل هي كاملة لا نقص فيها، وفيها تعظيم الحسنة وتأكيد أمرها.

( كتبها الله سيئة واحدة) لم يصف السيئة بكاملة، كما وصف الحسنة، بل أكدها بقوله واحدة إشارة إلى تخفيفها، مبالغة في الفضل والإحسان.

( ومحاها الله) وفي رواية أو يمحوها فالواو في ومحاها بمعنى أو أي كتبها الله سيئة، فأبقاها أو محاها.

( ولا يهلك على الله إلا هالك) على بمعنى عند، أي من كثرت سيئاته مع هذا الفضل، وهذا الكرم فهو مستحق للهلاك، كأنه قال: ولا يهلك مع هذه السعة إلا مجرم متأصل الإجرام مسرف في المعاصي مستحق الهلاك.

فقه الحديث

ما يقع في النفس يتدرج في أربع مراتب:

الأولى: الخاطر والهاجس: وهو أن يخطر الشيء في النفس، ثم يذهب سريعا لا يثبت، بل يندفع ولا يستقر، وهو من الوسوسة، وهو في السيئات معفو عنه بلا خلاف.

الثانية: التردد: وهو فوق الخاطر، يخطر الشيء، فيهم به ثم ينفر عنه، ثم يهم به، ثم ينفر عنه، ولا يستمر على قصده، ولا على تركه، بالتساوي بين القصد والترك، وهو في السيئات معفو عنه أيضا بلا خلاف.

الثالثة: الهم: وهو ترجيح القصد، والميل إلى الشيء، وعدم النفور عنه والرغبة في الفعل، وإرادته التي لم تصل إلى العزم والتصميم، وهو في السيئات معفو عنه أيضا بنص وفقه هذه الأحاديث.

وهذه المراتب الثلاث إذا شغل أي منها بالخير والحسنات، رجونا أن تكتب حسنات بفضل الله وكرمه، وإن كانت حسنة الخاطر أقل من حسنة التردد، التي تكون أقل من حسنة الهم، وهكذا.

الرابعة: العزم والتصميم، وهو الميل إلى الشيء وعدم النفور عنه والتصميم على فعله، وقوة قصده، ورفع التردد فيه.

فإذا افترضنا درجة حسابية مئوية أعطينا الخاطر ما دون الـ 50/ وتختلف مراتبه، وأعطينا التردد والتأرجح 50/ وأعطينا الهم من 51/ إلى 90/ مثلا، وتتفاوت مراتبه، وأعطينا العزم ما فوق ذلك، وتتفاوت مراتبه أيضا.

ولما كانت هذه المراتب الأربع يطلق عليها حديث النفس، خشي الصحابة أن يؤاخذوا بها كلها، حين نزل قوله تعالى: { { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله } } فبين لهم أن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها - كما تقدم في الحديث السابق- ووضح لهم في هذه الأحاديث أن الله تجاوز لأمة محمد صلى الله عليه وسلم عما حدثت به نفسها، وأن من هم بحسنة فله كذا، ومن هم بسيئة فحكمه كذا.

وقد قدمت أن المراتب الثلاث الأولى لا خلاف في تجاوز الله عنها، أما المرتبة الرابعة وهي العزم والتصميم، واستقرار الفعل في النفس، وعدم التردد فيه، فهي من حيث ما يتعلق بها به قسمان: قسم خاص بالعقيدة وهو من أعمال القلوب وحدها، كالإيمان بالله تعالى وبالرسول صلى الله عليه وسلم وباليوم الآخر وبما علم من الدين بالضرورة، فالشك فيه وإنكاره قلبا كفر، ويعاقب عليه بلا خلاف.

وقسم دون ذلك من المعاصي، وفي تجاوز الله عنه خلاف بين العلماء.

إذ ذهب فريق الورع وتغليب الخوف على الرجاء إلى المؤاخذة عليه، مستدلين بقوله تعالى: { { إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة } } [النور: 19] وبقوله: { { ولم يصروا على ما فعلوا } } [آل عمران: 135] وقوله: { { يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم } } [الحجرات: 12] وقوله: { { ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم } } [البقرة: 225] وقوله صلى الله عليه وسلم: إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قيل: هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه.

وحملوا أحاديث العفو التي معنا على ما دون العزم والتصميم من الخاطر والتردد والهم، نعم قالوا: إن العزم على السيئة يكتب سيئة مجردة، وليست السيئة التي هم أن يعملها، فسيئة العزم غير سيئة الفعل.
ثم افترق هؤلاء فقالت طائفة: بل يعاقب عليه يوم القيامة، ولكن بالعتاب لا بالعذاب، وحملوا عليه النجوى.

وذهب الذين يغلبون الرجاء إلى أن الله قد تجاوز عن حديث النفس، ولا يؤاخذ -في غير الكفر- إلا على أفعال الجوارح، واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا به فما قبل الكلام والفعل متجاوز عنه بنص الحديث.

ثم الحديث القدسي يقول: إذا هم عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه، فإن عملها فاكتبوها سيئة ويقول في الرواية الأخرى: وإذا هم بسيئة ولم يعملها لم أكتبها عليه، فإن عملها كتبتها سيئة واحدة ويقول في الرواية التي بعدها: وإذا تحدث بأن يعمل سيئة فأنا أغفرها ما لم يعملها، فإذا عملها فأنا أكتبها عليه بمثلها ويقول للملائكة في الرواية التي بعدها ارقبوه، فإن عملها فاكتبوها له بمثلها، وإن تركها فاكتبوها له حسنة، إنما تركها من جراي.

كل هذه الأحاديث واضحة وصريحة في أن الكتابة والمؤاخذة موقوفة على العمل، أي العمل بالجوارح، لأن العمل إذا أطلق في مقابلة الهم كان ظاهرا في عمل الجوارح، بعيدا عن العزم والتصميم، ثم إن المقام مقام الفضل والتسامح، فلا يليق التضييق فيه.

وأجابوا عن الآية التي في سورة النور بأن المعنى: إن الذين يشيعون الفاحشة ويحبون ذلك، فالعذاب متوعد به على إشاعة الفاحشة مع حبها، لا على الحب وحده، لأنه أمر لا يملك، فلا عقاب عليه ولا مؤاخذة، وإنما العقاب على أسبابه المكتسبة، وعلى الآثار المترتبة عليه.

وعن قوله تعالى: { { ولم يصروا على ما فعلوا } } بأن عدم الإصرار ذكر كشرط لقبول التوبة، لا على أنه أساس عقوبة جديدة، إذ الآية تقول: { { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ } } [آل عمران: 135 - 136] ومن المعلوم أن الإصرار على الذنب الذي ارتكب إنما هو امتداد لهذا الذنب.

وعن قوله تعالى: { { اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم } } [الحجرات: 12] بأن الظن المطلوب اجتنابه هو ذو الأسباب المكتسبة، أو ذو الآثار المترتبة عليه المقدورة، وسيأتي تمام إيضاحه.

وعن قوله تعالى: { { ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم } } بأنه ليس وعيدا لما كسبت القلوب وحدها، وإنما هو في مصاحبة القلوب للأعمال، والعفو عن الأعمال التي لم تصاحبها النية، إذ الآية كاملة تقول: { { لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ } } [البقرة: 225] ومن الواضح أنه لو عزم على الحلف ولم يحلف لا يعد حالفا.

وعن قوله صلى الله عليه وسلم: إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار أجابوا بأن مؤاخذة المقتول ليست على العزم وحده، وإنما هي على الالتقاء، وشهر السلاح، وهو المراد بالحرص على قتل صاحبه، وهذا الفعل يؤاخذ به، حصل القتل أو لم يحصل.

وهؤلاء القائلون بعدم المؤاخذة على العزم إذا لم يصاحبه عمل افترقوا ثلاث فرق:

فرقة تقول بذلك على الإطلاق بدون استثناء.

وفرقة تستثني منه العزم على المعصية في الحرم استدلالا بقوله تعالى: { { ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم } } [الحج: 25] وتعقب هذا بأن تعظيم الله آكد من تعظيم الحرم، ومع ذلك لا يؤاخذ من عزم على معصيته، فكيف يؤاخذ بما دونه؟ ويجاب عن هذا التعقب بأن المعصية في الحرم فيها ترك تعظيم الله، وترك تعظيم الحرم، فصارت المعصية فيه أشد من المعصية في غيره، فيحتمل المؤاخذة على العزم فيه، ويمكن أن يلحق به من عزم على المعصية قاصدا الاستخفاف بالمعاصي، وهو ملحظ حسن.

وفرقة تستثني منه العزم على المعاصي التي محلها القلب، ولا تتعلق بفعل خارجي، كالكبر والعجب والمكر والحسد والظن، والتحقيق أن المؤاخذ عليه في مثل هذه الأمور إنما هو تناول الأسباب المكتسبة المؤدية إليها، والآثار الخارجية المترتبة عليها، يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ثلاث لا يسلم منها أحد: الطيرة، والظن، والحسد، قيل: فما المخرج منهن يا رسول الله؟ قال: إذا تطيرت فلا ترجع، وإذا ظننت فلا تحقق، وإذا حسدت فلا تبغ .

أما بعد ففي هذه الأحاديث موضوع البحث أحاديث قدسية، وأحاديث نبوية، وقد قيل في الفرق بينهما: إن الحديث القدسي لفظه ومعناه من عند الله، والحديث النبوي لفظه من عند الرسول صلى الله عليه وسلم ومعناه من عند الله، وأن الحديث القدسي يسند إلى الله تعالى فيقال عنه: قال الله تعالى، والحديث النبوي يسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

والفرق بين القرآن الكريم والحديث القدسي -بناء على هذا- أن القرآن متواتر يكفر من جحد شيئا منه، بخلاف الحديث القدسي، وأن القرآن قصد بلفظه التحدي والإعجاز بخلاف الحديث القدسي، وإن كان في أعلى درجات البلاغة، وأن القرآن يتعبد بقراءته في الصلاة وغيرها بخلاف الحديث القدسي.

ويؤخذ من مجموعة أحاديث الباب

1- أن المؤاخذة إنما تقع لمن هم على المعصية، فشرع فيها، لا من هم بها ولم يتصل بها العمل، ولو كان لمانع خارج عن إرادته، كمن قصد امرأة يزني بها، فلم تحضر، أو جاءه من يخلف موعده.

2- أن من تركها خوف الله كتبت له حسنة، أخذا من قوله في الرواية الخامسة، وإن تركها فاكتبوها له حسنة، إنما تركها من جراي وفي رواية البخاري: وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة.

3- فيها دليل على أن الملك يطلع على ما في قلب الآدمي، ليكتب الحسنة إذا هم بها، وذلك إما بإطلاع الله إياه، أو بأن يخلق له علما يدرك به ذلك.

يؤيد الأول ما أخرجه ابن أبي الدنيا، عن أبي عمران الجوني قال: ينادي الملك: اكتب لفلان كذا كذا، فيقول: يا رب إنه لم يعمله.
فيقول: إنه نواه.

4- إن الهم بالحسنة يكتب حسنة كاملة، لأن إرادة الخير خير، ولا يقال: إذا كانت إرادة الحسنة حسنة فلم لم تضاعف والله يقول: { { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها } } [الأنعام: 160] ؟ لأنا نقول إن ذلك التضعيف خاص بأعمال الجوارح، لأن الله تعالى يقول: { { من جاء بالحسنة } } والمجيء بها هو العمل، وإلا لزم مساواة من نوى الخير بمن فعله.

5- أنه إن فعل الحسنة التي هم بها كتبت له عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، وليس معنى ذلك أن حسنة الإرادة تضاف إلى عشرة التضعيف فتكون الجملة إحدى عشرة كما هو ظاهر قوله: فإذا عملها فأنا أكتبها له بعشر أمثالها بل إن القصد أن حسنة الإرادة تندرج في عشر العمل، ولا يقال: إنه يلزم من ذلك مساواة من عمل الحسنة بغتة دون عزم، ومن عملها بعد الهم والعزم، لأنا نقول: لعل حسنة من هم وعزم تكون أعظم قدرا ممن لم يهم بها ولم يعزم.

6- وأنه إن ترك عمل الحسنة التي هم بها كتبت له حسنة كاملة بقطع النظر عن سبب الترك، سواء أكان لمانع أم لا، نعم يمكن أن يتفاوت عظم الحسنة بحسب المانع، فإن كان خارجيا، مع بقاء قصد المحسن فهي عظيمة القدر، خصوصا إذا صاحبه ندم على التفويت، وإن كان الترك من جهة الشخص نفسه فالحسنة أقل قدرا، فإن قارنها وصاحبها في هذه الحالة قصد الإعراض عنها، والرغبة عن فعلها جملة كانت أقل قدرا من سابقتها، فإن تركها وأوقع العمل في عكسها، كأن يريد أن يتصدق بدرهم مثلا، فصرفه بعينه في معصية، فحسنة عزمه الأول أقل وأقل، بل رجح الحافظ ابن حجر ألا يكتب له حسنة أصلا.

7- يؤخذ من قوله في الرواية السابعة: إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة أن الزيادة على السبعمائة ضعف ليس خاصا بالنفقة في سبيل الله -كما قيل- وإنما هو عام في وجوه الخير من حيث الزيادة في الإخلاص، وصدق العزم، وحضور القلب، وتعدي النفع.

8- قال ابن بطال: في هذا الحديث بيان فضل الله العظيم على هذه الأمة، لأنه لولا ذلك لكاد أن لا يدخل أحد الجنة، لأن عمل العباد للسيئات أكثر من عملهم الحسنات، ويؤيد ما دل عليه حديث الباب من الإثابة على الهم بالحسنة، وعدم المؤاخذة على الهم بالسيئة قوله تعالى: { { لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت } } [البقرة: 286] إذ ذكر في السوء الافتعال الذي يدل على المعالجة والتكلف فيه، بخلاف الحسنة.

9- وفيه أن الله سبحانه وتعالى بفضله وكرمه جعل العدل في السيئة والفضل في الحسنة، فضاعف الحسنة، ولم يضاعف السيئة، بل أضاف فيها إلى العدل الفضل، فأدارها بين العقوبة والعفو، بقوله في الرواية السابعة ومحاها وفي رواية البخاري فجزاؤه مثلها أو أغفر.

10- استدل به على أن الحفظة لا تكتب المباح، للتقييد بالحسنات والسيئات.

11- وفيه رد على الكعبي في زعمه أنه ليس في الشرع مباح، بل الفاعل إما عاص وإما مثاب، فمن اشتغل عن المعصية بشيء فهو مثاب، ووجه الرد أن تارك المعصية لا يثاب على الترك إلا إذا قصد به رضا الله تعالى كما قدمنا.

12- أخذ بعضهم من قوله: إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها أن هذا خصوصية لأمة محمد صلى الله عليه وسلم.

والله أعلم.