263 حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَرْحٍ ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ ، قَالَ : أَخْبَرَنِي يُونُسُ ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ ، قَالَ : حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ ، أَنَّ عَائِشَةَ ، زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا قَالَتْ : كَانَ أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةَ فِي النَّوْمِ ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ ، فَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ يَتَحَنَّثُ فِيهِ - وَهُوَ التَّعَبُّدُ - اللَّيَالِيَ أُوْلَاتِ الْعَدَدِ ، قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهِ وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا ، حَتَّى فَجِئَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ ، فَقَالَ : اقْرَأْ ، قَالَ : مَا أَنَا بِقَارِئٍ ، قَالَ : فَأَخَذَنِي ، فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي ، فَقَالَ : اقْرَأْ ، قَالَ : قُلْتُ : مَا أَنَا بِقَارِئٍ ، قَالَ : فَأَخَذَنِي ، فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي ، فَقَالَ : أَقْرَأْ ، فَقُلْتُ : مَا أَنَا بِقَارِئٍ ، فَأَخَذَنِي ، فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي ، فَقَالَ : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } ، فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ ، حَتَّى دَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ ، فَقَالَ : زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي ، فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ ، ثُمَّ قَالَ لِخَدِيجَةَ : أَيْ خَدِيجَةُ ، مَا لِي وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ ، قَالَ : لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي ، قَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ : كَلَّا أَبْشِرْ ، فَوَاللَّهِ ، لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا ، وَاللَّهِ ، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ ، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ ، وَتُكْسِبُ الْمَعْدُومَ ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ ، فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ خَدِيجَةَ أَخِي أَبِيهَا ، وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ ، وَيَكْتُبُ مِنَ الْإِنْجِيلِ بِالْعَرَبِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ ، فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ : أَيْ عَمِّ ، اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ ، قَالَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ : يَا ابْنَ أَخِي ، مَاذَا تَرَى ؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرَ مَا رَآهُ ، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ : هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا ، يَا لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا حِينَ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ ؟ قَالَ وَرَقَةُ : نَعَمْ لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا ، وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ ، قَالَ : قَالَ الزُّهْرِيُّ : وَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ ، عَنْ عَائِشَةَ ، أَنَّهَا قَالَتْ : أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْوَحْيِ وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِمِثْلِ حَدِيثِ يُونُسَ ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ : فَوَاللَّهِ ، لَا يُحْزِنُكَ اللَّهُ أَبَدًا ، وَقَالَ : قَالَتْ خَدِيجَةُ : أَيْ ابْنَ عَمِّ ، اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ ، وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ ، قَالَ : حَدَّثَنِي أَبِي ، عَنْ جَدِّي ، قَالَ : حَدَّثَنِي عُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ : سَمِعْتُ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ ، يَقُولُ : قَالَتْ عَائِشَةُ : زَوْجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَرَجَعَ إِلَى خَدِيجَةَ ، يَرْجُفُ فُؤَادُهُ ، وَاقْتَصَّ الْحَدِيثَ بِمِثْلِ حَدِيثِ يُونُسَ ، وَمَعْمَرٍ ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَوَّلَ حَدِيثِهِمَا مِنْ قَوْلِهِ : أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ ، وَتَابَعَ يُونُسَ عَلَى قَوْلِهِ ، فَوَاللَّهِ ِ لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا ، وَذَكَرَ قَوْلَ خَدِيجَةَ : أَيْ ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ |
A'isha, the wife of the Messenger of Allah (ﷺ), reported:
The first (form) with which was started the revelation to the Messenger of Allah was the true vision in sleep. And he did not see any vision but it came like the bright gleam of dawn. Thenceforth solitude became dear to him and he used to seclude himself in the cave of Hira', where he would engage in tahannuth (and that is a worship for a number of nights) before returning to his family and getting provisions again for this purpose. He would then return to Khadija and take provisions for a like period, till Truth came upon him while he was in the cave of Hira'. There came to him the angel and said: Recite, to which he replied: I am not lettered. He took hold of me [the Apostle said] and pressed me, till I was hard pressed; thereafter he let me off and said: Recite. I said: I am not lettered. He then again took hold of me and pressed me for the second time till I was hard pressed and then let me off and said: Recite, to which I replied: I am not lettered. He took hold of me and pressed me for the third time, till I was hard pressed and then let me go and said: Recite in the name of your Lord Who created, created man from a clot of blood. Recite. And your most bountiful Lord is He Who taught the use of pen, taught man what he knew not (al-Qur'an, xcvi. 1-4). Then the Prophet returned therewith, his heart was trembling, and he went to Khadija and said: Wrap me up, wrap me up! So they wrapped him till the fear had left him. He then said to Khadija: O Khadija! what has happened to me? and he informed her of the happening, saying: I fear for myself. She replied: It can't be. Be happy. I swear by Allah that He shall never humiliate you. By Allah, you join ties of relationship, you speak the truth, you bear people's burden, you help the destitute, you entertain guests, and you help against the vicissitudes which affect people. Khadija then took him to Waraqa b. Naufal b. Asad b. 'Abd al-'Uzza, and he was the son of Khadija's uncle, i. e., the brother of her father. And he was the man who had embraced Christianity in the Days of Ignorance (i. e. before Islam) and he used to write books in Arabic and, therefore, wrote Injil in Arabic as God willed that he should write. He was very old and had become blind Khadija said to him: O uncle! listen to the son of your brother. Waraqa b. Naufal said: O my nephew! what did you see? The Messenger of Allah (ﷺ), then, informed him what he had seen, and Waraqa said to him: It is namus that God sent down to Musa. Would that I were then (during your prophetic career) a young man. Would that I might be alive when your people would expel you! The Messenger of Allah (ﷺ) said: Will they drive me out? Waraqa said: Yes. Never came a man with a like of what you have brought but met hostilities. If I see your day I shall help you wholeheartedly.
شاهد كل الشروح المتوفرة للحديث
[160] فِيهِ الْأَحَادِيثُ الْمَشْهُورَةُ فَنَذْكُرُهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى تَرْتِيبِ أَلْفَاظِهَا وَمَعَانِيهَا فَ.
قَوْلُهُ فِي الْإِسْنَادِ (أَبُو الطَّاهِرِ بْنُ السَّرْحِ) هُوَ بِالسِّينِ وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَتَيْنِ وَالسِّينُ مَفْتُوحَةٌ وَقَولُهُ (أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ كَانَ أَوَّلُ مَا بدىء بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةَ) هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ مَرَاسِيلِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَإِنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَمْ تُدْرِكْ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ فَتَكُونُ قَدْ سَمِعَتْهَا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ مِنَ الصَّحَابِيِّ وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي الْفُصُولِ أَنَّ مُرْسَلَ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ إِلَّا مَا انْفَرَدَ بِهِ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفِرَايِنِيُّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَقَوْلُهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا (الرُّؤْيَا الصَّادِقَةَ) وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةَ وَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ وفى من هنا قولان أحدهما أنها لبيان الجنس والثانى للتبعيض ذكرهما الْقَاضِي وَقَوْلُهَا (فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ) قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ فَلَقُ الصُّبْحِ وَفَرَقُ الصُّبْحِ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَاللَّامِ وَالرَّاءِ هُوَ ضِيَاؤُهُ وَإِنَّمَا يُقَالُ هَذَا فِي الشَّيْءِ الْوَاضِحِ الْبَيِّنِ قَالَ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ وغيره من)العلماء انما ابتدىء صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرُّؤْيَا لِئَلَّا يَفْجَأَهُ الملك ويأتيه صريح النبوة بغتة فلا يحتملها قوى البشرية فبدىء بِأَوَّلِ خِصَالِ النُّبُوَّةِ وَتَبَاشِيرِ الْكَرَامَةِ مِنْ صِدْقِ الرُّؤْيَا وَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ مِنْ رُؤْيَةِ الضَّوْءِ وَسَمَاعِ الصَّوْتِ وَسَلَامِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ عَلَيْهِ بِالنُّبُوَّةِ قَوْلُهَا (ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ فَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ يَتَحَنَّثُ فِيهِ وَهُوَ التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ أُولَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهِ وَيَتَزَوَّدَ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ رضى الله عنها فيتزود لمثلها حتى فجئه الْحَقُّ) أَمَّا الْخَلَاءُ فَمَمْدُودٌ وَهُوَ الْخَلْوَةُ وَهِيَ شَأْنُ الصَّالِحِينَ وَعِبَادِ اللَّهِ الْعَارِفِينَ قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ حُبِّبَتِ الْعُزْلَةُ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ مَعَهَا فَرَاغَ الْقَلْبِ وَهِيَ مُعِينةٌ عَلَى التَّفَكُّرِ وَبِهَا يَنْقَطِعُ عَنْ مَأْلُوفَاتِ الْبَشَرِ وَيَتَخَشَّعُ قَلْبُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
.
وَأَمَّا الْغَارُ فَهُوَ الْكَهْفُ وَالنَّقْبُ فِي الْجَبَلِ وَجَمْعُهُ غِيرَانٌ وَالْمَغَارُ وَالْمَغَارَةُ بِمَعْنَى الْغَارِ وَتَصْغِيرُ الْغَارِ غُوَيْرٌ.
.
وَأَمَّا حِرَاءٌ فَبِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ وَبِالْمَدِّ وَهُوَ مَصْرُوفٌ وَمُذَكَّرٌ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ.
وَقَالَ الْقَاضِي فِيهِ لُغَتَانِ التَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ وَالتَّذْكِيرُ أَكْثَرُ فَمَنْ ذَكَّرَهُ صَرَفَهُ وَمَنْ أَنَّثَهُ لَمْ يَصْرِفْهُ أَرَادَ الْبُقْعَةَ أَوِ الْجِهَةَ الَّتِي فِيهَا الْجَبَلُ قَالَ الْقَاضِي.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِيهِ حَرَى بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالْقَصْرِ وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ قَالَ أَبُو عُمَرَ الزَّاهِدُ صَاحِبُ ثَعْلَبٍ وَأَبُو سُلَيْمَانُ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُمَا أَصْحَابُ الْحَدِيثِ وَالْعَوَامُّ يُخْطِئُونَ فِي حِرَاءٍ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ يَفْتَحُونَ الْحَاءَ وَهِيَ مَكْسُورَةٌ وَيَكْسِرُونَ الرَّاءَ وَهِيَ مَفْتُوحَةٌ وَيَقْصُرُونَ الْأَلِفَ وَهِيَ مَمْدُودَةٌ وَحِرَاءٌ جَبَلٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ نَحْوَ ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ عَنْ يَسَارِ الذَّاهِبِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى مِنًى وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
.
وَأَمَّا التَّحَنُّثُ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ وَالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ فَقَدْ فَسَّرَهُ بِالتَّعَبُّدِ وَهُوَ تَفْسِيرٌ صَحِيحٌ وَأَصْلُ الْحِنْثِ الْإِثْمُ فَمَعْنَى يَتَحَنَّثُ يَتَجَنَّبُ الْحِنْثَ فَكَأَنَّهُ بِعِبَادَتِهِ يَمْنَعُ نَفْسَهُ مِنَ الْحِنْثِ وَمِثْلُ يَتَحَنَّثُ يتحرح وَيَتَأَثَّمُ أَيْ يَتَجَنَّبُ الْحَرَجَ وَالْإِثْمَ.
.
وَأَمَّا قَوْلُهَا الليالى أولات العدد فمتعلق يتحنث لَا بِالتَّعَبُّدِ وَمَعْنَاهُ يَتَحَنَّثُ اللَّيَالِيَ وَلَوْ جُعِلَ مُتَعَلِّقًا بِالتَّعَبُّدِ فَسَدَ الْمَعْنَى فَإِنَّ التَّحَنُّثَ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ اللَّيَالِي بَلْ يُطْلَقُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَهَذَا التَّفْسِيرُ اعْتَرَضَ بَيْنَ كَلَامِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
.
وَأَمَّا كَلَامُهَا فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ اللَّيَالِيَ أُولَاتِ الْعَدَدِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَقَوْلُهَا فَجِئَهُ الْحَقُّ أَيْ جَاءَهُ الْوَحْيُ بَغْتَةً فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ مُتَوَقِّعًا لِلْوَحْيِ وَيُقَالُ فَجِئَهُ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَبَعْدَهَا هَمْزَةٌ مَفْتُوحَةٌ وَيُقَالُ فَجَأَهُ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالْهَمْزَةِ لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ حَكَاهُمَا الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ .
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَا أَنَا بقارىء) مَعْنَاهُ لَا أُحْسِنَ الْقِرَاءَةَ فَمَا نَافِيَةٌ هَذَا هُوَ الصَّوَابُ وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيهَا خِلَافًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا نَافِيَةً وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا اسْتِفْهَامِيَّةً وَضَعَّفُوهُ بِإِدْخَالِ الْبَاءِ فِي الْخَبَرِ قَالَ الْقَاضِي وَيُصَحِّحُ قَوْلَ مَنْ قَالَ اسْتِفْهَامِيَّةً رِوَايَةُ مَنْ رَوَى مَا أَقْرَأُ وَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ مَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَيْضًا نَافِيَةً وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي) أَمَّا غَطَّنِي فَبِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَالطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَمَعْنَاهُ عَصَرَنِي وَضَمَّنِي يُقَالُ غَطَّهُ وَغَتَّهُ وَضَغَطَهُ وَعَصَرَهُ وَخَنَقَهُ وَغَمَزَهُ كُلُّهُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ.
.
وَأَمَّا الْجَهْدُ فَيَجُوزُ فَتْحُ الْجِيمِ وَضَمُّهَا لُغَتَانِ وَهُوَ الْغَايَةُ وَالْمَشَقَّةُ وَيَجُوزُ نَصْبُ الدَّالِ وَرَفْعُهَا فَعَلَى النَّصْبِ بَلَغَ جِبْرِيلُ مِنِّي الْجَهْدَ وَعَلَى الرَّفْعِ بَلَغَ الْجَهْدُ مِنِّي مَبْلَغَهُ وَغَايَتَهُ وَمِمَّنْ ذَكَرَ الْوَجْهَيْنِ فِي نَصْبِ الدَّالِ وَرَفْعِهَا صَاحِبُ التَّحْرِيرِ وَغَيْرُهُ.
.
وَأَمَّا أَرْسَلَنِي فَمَعْنَاهُ أَطْلَقَنِي قَالَ الْعُلَمَاءُ وَالْحِكْمَةُ فِي الْغَطِّ شَغْلُهُ مِنَ الِالْتِفَاتِ وَالْمُبَالَغَةُ فِي أَمْرِهِ بِإِحْضَارِ قَلْبِهِ لِمَا يقوله له وكرره ثلاثا مبالغة فى التنبيه فَفِيهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمُعَلِّمِ أَنْ يَحْتَاطَ فِي تَنْبِيهِ الْمُتَعَلِّمِ وَأَمْرِهِ بِإِحْضَارِ قَلْبِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (ثُمَّ أَرْسَلَنِي فقال اقرأ باسم ربك الذى خلق) هَذَا دَلِيلٌ صَرِيحٌ فِي أَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ اقْرَأْ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجَمَاهِيرُ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَقِيلَ أوله يا أيها المدثر وَلَيْسَ بِشَيْءٍ وَسَنَذْكُرُهُ بَعْدَ هَذَا فِيمَوْضِعِهِ مِنْ هَذَا الْبَابِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَاسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ بَعْضُ مَنْ يَقُولُ إِنَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لَيْسَتْ مِنَ الْقُرْآنِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ لِكَوْنِهَا لَمْ تُذْكَرْ هُنَا وَجَوَابُ الْمُثْبِتِينَ لَهَا أَنَّهَا لَمْ تَنْزِلْ أَوَّلًا بَلْ نَزَلَتِ الْبَسْمَلَةُ فِي وَقْتٍ آخَرَ كَمَا نَزَلَ بَاقِي السُّورَةِ فِي وَقْتٍ آخَرَ قَوْلُهَا (تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ) بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَمَعْنَى تَرْجُفُ تَرْعَدُ وَتَضْطَرِبُ وَأَصْلُهُ شِدَّةُ الْحَرَكَةِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَسَائِرُ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالْغَرِيبِ وَهِيَ اللَّحْمَةُ الَّتِي بَيْنَ الْمَنْكِبِ وَالْعُنُقِ تَضْطَرِبُ عِنْدَ فَزَعِ الْإِنْسَانِ .
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي) هَكَذَا هُوَ فِي الرِّوَايَاتِ مُكَرَّرٌ مَرَّتَيْنِ وَمَعْنَى زَمِّلُونِي غَطُّونِي بِالثِّيَابِ وَلُفُّونِي بِهَا وقولها فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ هُوَ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَهُوَ الْفَزَعُ .
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي) قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لَيْسَ هُوَ بِمَعْنَى الشَّكِّ فِيمَا أَتَاهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَكِنَّهُ رُبَّمَا خَشِيَ أَنْ لَا يَقْوَى عَلَى مُقَاوَمَةِ هَذَا الْأَمْرِ وَلَا يَقْدِرَ عَلَى حَمْلِ أَعْبَاءِ الْوَحْيِ فَتَزْهَقَ نَفْسُهُ أَوْ يَكُونَ هَذَا لِأَوَّلِ مَا رَأَى التَّبَاشِيرَ فِي النَّوْمِ وَالْيَقَظَةِ وَسَمِعَ الصَّوْتَ قَبْلَ لِقَاءِ الْمَلَكِ وَتَحَقُّقِهِ رِسَالَةَ رَبِّهِ فَيَكُونُ خَافَ أَنْ يَكُونَ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ فَأَمَّا مُنْذُ جَاءَهُ الْمَلَكُ بِرِسَالَةِ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الشَّكُّ فِيهِ وَلَا يَخْشَى مِنْ تَسَلُّطِ الشَّيْطَانِ عَلَيْهِ وَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ يُحْمَلُ جَمِيعُ مَا وَرَدَ مِنْ مِثْلِ هَذَا فِي حَدِيثِ الْبَعْثِ هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَذَكَرَ أَيْضًا فِي كِتَابِهِ الشِّفَاءُ هَذَيْنِ الِاحْتِمَالَيْنِ فِي كَلَامٍ مَبْسُوطٍ وَهَذَا الِاحْتِمَالُ الثَّانِي ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ خِلَافُ تَصْرِيحِ الْحَدِيثِ لِأَنَّ هَذَا كَانَ بَعْدَ غَطِّ الْمَلَكِ وَإِتْيَانِهِ بِاقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهَا (قَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ كَلَّا أَبْشِرْ فَوَاللَّهِ لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا وَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وتكسب المعدوموَتُقْرِي الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ) أَمَّا قَوْلُهَا كَلَّا فَهِيَ هُنَا كَلِمَةُ نَفْيٍ وَإِبْعَادٍ وهذا أحد معانيها وقد تَأْتِي كَلَّا بِمَعْنَى حَقًّا وَبِمَعْنَى أَلَا الَّتِي لِلتَّنْبِيهِ يُسْتَفْتَحُ بِهَا الْكَلَامُ وَقَدْ جَاءَتْ فِي الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ عَلَى أَقْسَامٍ وَقَدْ جَمَعَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْأَنْبَارِيِّ أَقْسَامَهَا وَمَوَاضِعَهَا فِي بَابٍ مِنْ كِتَابِهِ الْوَقْفُ وَالِابْتِدَاءُ.
.
وَأَمَّا قَوْلُهَا لَا يُخْزِيكَ فَهُوَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَبِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ كَذَا هُوَ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ وَعُقَيْلٍ.
وَقَالَ معمر فى روايته يحزنك بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ وَيَجُوزُ فَتْحُ الْيَاءِ فِي أَوَّلِهِ وَضَمُّهَا وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ وَالْخِزْيُ الْفَضِيحَةُ وَالْهَوَانُ.
.
وَأَمَّا صِلَةُ الرَّحِمِ فَهِيَ الْإِحْسَانُ إِلَى الْأَقَارِبِ عَلَى حَسَبِ حَالِ الْوَاصِلِ وَالْمَوْصُولِ فَتَارَةً تَكُونُ بِالْمَالِ وَتَارَةً بِالْخِدْمَةِ وَتَارَةً بِالزِّيَارَةِ وَالسَّلَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
.
وَأَمَّا الْكَلُّ فَهُوَ بِفَتْحِ الْكَافِ وَأَصْلُهُ الثِّقْلُ وَمِنْهُ .
قَوْلُهُ تَعَالَى وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مولاه وَيَدْخُلُ فِي حَمْلِ الْكَلِّ الْإِنْفَاقُ عَلَى الضَّعِيفِ وَالْيَتِيمِ وَالْعِيَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَهُوَ مِنَ الْكَلَالِ وَهُوَ الْإِعْيَاءُ.
.
وَأَمَّا قَوْلُهَا وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ فَهُوَ بِفَتْحِ التَّاءِ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ وَنَقَلَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ رِوَايَةِ الْأَكْثَرِينَ قَالَ وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ بِضَمِّهَا قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ ثَعْلَبٌ وَأَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ وَجَمَاعَاتٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ يُقَالُ كَسَبْتُ الرَّجُلَ مَالًا وَأَكْسَبْتُهُ مَالًا لُغَتَانِ أَفْصَحُهُمَا بِاتِّفَاقِهِمْ كَسَبْتُهُ بِحَذْفِ الْأَلْفِ.
.
وَأَمَّا مَعْنَى تَكْسِبُ الْمَعْدُومَ فَمَنْ رَوَاهُ بِالضَّمِّ فَمَعْنَاهُ تُكْسِبُ غَيْرَكَ الْمَالَ الْمَعْدُومَ أَيْ تُعْطِيهِ إِيَّاهُ تَبَرُّعًا فَحَذَفَ أحد المفعولين وقيل معناه تعطى الناس مالايجدونه عِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ نَفَائِسِ الْفَوَائِدِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ.
.
وَأَمَّا رِوَايَةُ الْفَتْحِ فَقِيلَ مَعْنَاهَا كَمَعْنَى الضَّمِّ وَقِيلَ مَعْنَاهَا تَكْسِبُ الْمَالَ الْمَعْدُومَ وَتُصِيبُ مِنْهُ مَا يَعْجِزُ غَيْرُكَ عَنْ تَحْصِيلِهِ وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَتَمَادَحُ بِكَسْبِ الْمَالِ الْمَعْدُومِ لَا سِيَّمَا قُرَيْشٌ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَحْظُوظًا فِي تِجَارَتِهِ وَهَذَا الْقَوْلُ حَكَاهُ الْقَاضِي عَنْ ثَابِتٍ صَاحِبِ الدَّلَائِلِ وَهُوَ ضَعِيفٌ أَوْ غَلَطٌ وَأَيُّ مَعْنًى لِهَذَا الْقَوْلِ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ إِلَّا أَنَّهُ يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ بِأَنْ يُضَمَّ إِلَيْهِ زِيَادَةٌ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ تَكْسِبُ الْمَالَ الْعَظِيمَ الَّذِي يَعْجِزُ عَنْهُ غَيْرُكَ ثُمَّ تَجُودُ بِهِ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ وَأَبْوَابِ الْمَكَارِمِ كَمَا ذَكَرَتْ مِنْ حَمْلِ الْكَلِّ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَقِرَى الضَّيْفِ وَالْإِعَانَةِ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ فَهَذَا هُوَالصَّوَابُ فِي هَذَا الْحَرْفِ.
.
وَأَمَّا صَاحِبُ التَّحْرِيرِ فَجَعَلَ الْمَعْدُومَ عِبَارَةً عَنِ الرَّجُلِ الْمُحْتَاجِ الْمُعْدِمِ الْعَاجِزِ عَنِ الْكَسْبِ وَسَمَّاهُ مَعْدُومًا لِكَوْنِهِ كَالْمَعْدُومِ الْمَيِّتِ حَيْثُ لَمْ يَتَصَرَّفْ فِي الْمَعِيشَةِ كَتَصَرُّفِ غَيْرِهِ قَالَ وَذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ أَنَّ صَوَابَهُ الْمُعْدِمَ بِحَذْفِ الْوَاوِ قَالَ وَلَيْسَ كَمَا قَالَ الْخَطَّابِيُّ بَلْ مَا رَوَاهُ الرُّوَاةُ صَوَابٌ قَالَ وَقِيلَ مَعْنَى تَكْسِبُ الْمَعْدُومَ أَيْ تَسْعَى فِي طَلَبِ عَاجِزٍ تُنْعِشُهُ وَالْكَسْبُ هُوَ الِاسْتِفَادَةُ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ وَإِنْ كَانَ لَهُ بَعْضُ الِاتِّجَاهِ كَمَا حَرَّرْتُ لَفْظَهُ فَالصَّحِيحُ الْمُخْتَارُ مَا قَدَّمْتُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
.
وَأَمَّا قَوْلُهَا وَتَقْرِي الضَّيْفَ فَهُوَ بِفَتْحِ التَّاءِ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ يُقَالُ قَرَيْتُ الضَّيْفَ أُقْرِيهِ قِرًى بِكَسْرِ الْقَافِ مَقْصُورٌ وَقَرَاءً بِفَتْحِ الْقَافِ وَالْمَدِّ وَيُقَالُ لِلطَّعَامِ الَّذِي يُضَيِّفُهُ بِهِ قِرًى بِكَسْرِ الْقَافِ مَقْصُورٌ وَيُقَالُ لِفَاعِلِهِ قَارٍ مِثْلُ قَضَى فَهُوَ قَاضٍ.
.
وَأَمَّا قَوْلُهَا وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ فَالنَّوَائِبُ جَمْعُ نائبة وهى الحادثة وانما قَالَتْ نَوَائِبَ الْحَقِّ لِأَنَّ النَّائِبَةَ قَدْ تَكُونُ فِي الْخَيْرِ وَقَدْ تَكُونُ فِي الشَّرِّ قَالَ لَبِيدٌ ... نَوَائِبُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ كِلَاهُمَا ... فَلَا الْخَيْرُ مَمْدُودٌ وَلَا الشَّرُّ لَازِبُ ...
(قَالَ الْعُلَمَاءُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَعْنَى كَلَامِ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إِنَّكَ لَا يُصِيبُكَ مَكْرُوهٌ لِمَا جَعَلَ اللَّهُ فِيكَ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَكَرَمِ الشَّمَائِلِ وَذَكَرَتْ ضُرُوبًا مِنْ ذَلِكَ وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ وَخِصَالَ الْخَيْرِ سَبَبُ السَّلَامَةِ مِنْ مَصَارِعِ السُّوءِ وَفِيهِ مَدْحُ الْإِنْسَانِ فِي وَجْهِهِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ لِمَصْلَحَةٍ نظر أو فيه تَأْنِيسُ مَنْ حَصَلَتْ لَهُ مَخَافَةً مِنْ أَمْرٍ وَتَبْشِيرُهُ وَذِكْرُ أَسْبَابِ السَّلَامَةِ لَهُ وَفِيهِ أَعْظَمُ دَلِيلٍ وَأَبْلَغُ حُجَّةٍ عَلَى كَمَالِ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَجَزَالَةِ رَأْيِهَا وَقُوَّةِ نَفْسِهَا وَثَبَاتِ قَلْبِهَا وَعِظَمِ فِقْهِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهَا (وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ) مَعْنَاهُ صَارَ نَصْرَانِيًّا وَالْجَاهِلِيَّةُ مَا قَبْلَ رِسَالَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُمُّوا بِذَلِكَ لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ فَاحِشِ الْجَهَالَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهَا (وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ وَيَكْتُبُ مِنَ الْإِنْجِيلِ بِالْعَرَبِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَكْتُبَ) هَكَذَا هُوَ فِي مُسْلِمٍ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ وَيَكْتُبُ بِالْعَرَبِيَّةِ وَوَقَعَ فِي أَوَّلِ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ يَكْتُبُ)الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ فَيَكْتُبُ مِنَ الْإِنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ وَحَاصِلُهُمَا أَنَّهُ تَمَكَّنَ مِنْ مَعْرِفَةِ دِينِ النَّصَارَى بِحَيْثُ إِنَّهُ صَارَ يَتَصَرَّفُ فِي الْإِنْجِيلِ فَيَكْتُبُ أَيَّ مَوْضِعٍ شَاءَ مِنْهُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ إِنْ شَاءَ وَبِالْعَرَبِيَّةِ إِنْ شَاءَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهَا (فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَيْ عم اسمع من بن أَخِيكَ) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى (قَالَتْ خَدِيجَةُ أَيِ بن عَمِّ) هَكَذَا هُوَ فِي الْأُصُولِ فِي الْأَوَّلِ عم وفى الثانى بن عم وكلاهما صحيح أما الثانى فلأنه بن عَمِّهَا حَقِيقَةً كَمَا ذَكَرَهُ أَوَّلًا فِي الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدٍ وَهِيَ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدٍ.
.
وَأَمَّا الْأَوَّلُ فسمته عما مجازا للاحترام وهذه عَادَةُ الْعَرَبِ فِي آدَابِ خِطَابِهِمْ يُخَاطِبُ الصَّغِيرُ الكبير بياعم احْتِرَامًا لَهُ وَرَفْعًا لِمَرْتَبَتِهِ وَلَا يَحْصُلُ هَذَا الغرض بقولها يا بن عَمِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
قَوْلُهُ (هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) النَّامُوسُ بِالنُّونِ وَالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَهُوَ جِبْرِيلُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ وَغَرِيبِ الْحَدِيثِ النَّامُوسُ فِي اللُّغَةِ صَاحِبُ سِرِّ الْخَيْرِ وَالْجَاسُوسُ صَاحِبُ سِرِّ الشَّرِّ وَيُقَالُ نَمَسْتُ السِّرَّ بِفَتْحِ النُّونِ وَالْمِيمِ أَنْمِسُهُ بِكَسْرِ الْمِيمِ نَمْسًا أَيْ كَتَمْتُهُ وَنَمَسْتُ الرَّجُلَ وَنَامَسْتُهُ سَارَرْتُهُ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُسَمَّى النَّامُوسَ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ الْمُرَادُ هُنَا قَالَ الْهَرَوِيُّ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّهُ بِالْغَيْبِ وَالْوَحْيِ.
.
وَأَمَّا .
قَوْلُهُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَذَا هُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا وَهُوَ الْمَشْهُورُ وَرُوِّينَاهُ فِي غَيْرِ الصَّحِيحِ نَزَلَ عَلَى عِيسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وكلاهما صحيح قوله (ياليتنى فِيهَا جَذَعًا) الضَّمِيرُ فِيهَا يَعُودُ إِلَى أَيَّامِ النُّبُوَّةِ وَمُدَّتِهَا وَقَولُهُ جَذَعًا يَعْنِي شَابًّا قَوِيًّا حَتَّى أُبَالِغَ فِي نُصْرَتِكَ وَالْأَصْلُ فِي الْجَذَعِ لِلدَّوَابِّ وَهُوَ هُنَا اسْتِعَارَةٌ.
.
وَأَمَّا .
قَوْلُهُ جَذَعًا فَهَكَذَا هُوَ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا بالنصب قال القاضي ووقع فى رواية بن مَاهَانَ جَذَعٌ بِالرَّفْعِ وَكَذَلِكَ هُوَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ فِي الْبُخَارِيِّ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ ظَاهِرَةٌ.
.
وَأَمَّا النَّصْبُ فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وَجْهِهِ فَقَالَ الْخَطَّابِيُّ والمازرى وغيرهمانُصِبَ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ الْمَحْذُوفَةِ تَقْدِيرُهُ لَيْتَنِي أَكُونُ فِيهَا جَذَعًا وَهَذَا يَجِيءُ عَلَى مَذْهَبِ النَّحْوِيِّينَ الْكُوفِيِّينَ.
وَقَالَ الْقَاضِي الظَّاهِرُ عِنْدِي أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ وَخَبَرُ لَيْتَ .
قَوْلُهُ فِيهَا وَهَذَا الَّذِي اخْتَارَهُ الْقَاضِي هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي اخْتَارَهُ أَهْلُ التَّحْقِيقِ وَالْمَعْرِفَةِ مِنْ شُيُوخِنَا وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم (أو مخرجى هُمْ) هُوَ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ هَكَذَا الرواية ويجوز تخفيف الياء على وجه والصحيح الْمَشْهُورِ تَشْدِيدُهَا وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى بِمُصْرِخِيَّ وَهُوَ جَمْعُ مُخْرِجٍ فَالْيَاءُ الْأُولَى يَاءُ الْجَمْعِ وَالثَّانِيَةُ ضَمِيرُ الْمُتَكَلِّمِ وَفُتِحَتْ لِلتَّخْفِيفِ لِئَلَّا يَجْتَمِعَ الْكَسْرَةُ وَالْيَاءَانِ بَعْدَ كَسْرَتَيْنِ .
قَوْلُهُ (وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ) أَيْ وَقْتَ خُرُوجِكَ .
قَوْلُهُ (أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا) هُوَ بِفَتْحِ الزَّايِ وَبِهَمْزَةٍ قَبْلَهَا أَيْ قَوِيًّا بَالِغًا .
قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى (أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ قَالَ قَالَ الزُّهْرِيُّ وَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ) هَكَذَا هُوَ فِي الْأُصُولِ وَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بِالْوَاوِ وَهُوَ الصَّحِيحُ وَالْقَائِلُ وَأَخْبَرَنِي هُوَ الزُّهْرِيُّ وَفِي هَذِهِ الْوَاوِ فَائِدَةٌ لَطِيفَةٌ قَدَّمْنَاهَا فِي مَوَاضِعَ وَهِيَ أَنَّ مَعْمَرًا سَمِعَ مِنَ الزُّهْرِيِّ أَحَادِيثَ قَالَ الزُّهْرِيُّ فِيهَا أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بِكَذَا وَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بِكَذَا إِلَى آخِرِهَا فَإِذَا أَرَادَ مَعْمَرٌ رِوَايَةَ غَيْرِ الْأَوَّلِ قَالَ قَالَ الزُّهْرِيُّ وَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ فَأَتَى بِالْوَاوِ لِيَكُونَ رَاوِيًا كَمَا سَمِعَ وَهَذَا مِنَ الِاحْتِيَاطِ وَالتَّحْقِيقِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى الْأَلْفَاظِ وَالتَّحَرِّي فِيهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
قَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَعْنِي رِوَايَةَ مَعْمَرٍ (فَوَاللَّهِ لَا يُحْزِنْكَ اللَّهُ) هُوَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ وَقَدْ قَدَّمْنَا بَيَانَهُ قولهالعلماء انما ابتدىء صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرُّؤْيَا لِئَلَّا يَفْجَأَهُ الملك ويأتيه صريح النبوة بغتة فلا يحتملها قوى البشرية فبدىء بِأَوَّلِ خِصَالِ النُّبُوَّةِ وَتَبَاشِيرِ الْكَرَامَةِ مِنْ صِدْقِ الرُّؤْيَا وَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ مِنْ رُؤْيَةِ الضَّوْءِ وَسَمَاعِ الصَّوْتِ وَسَلَامِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ عَلَيْهِ بِالنُّبُوَّةِ قَوْلُهَا (ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ فَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ يَتَحَنَّثُ فِيهِ وَهُوَ التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ أُولَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهِ وَيَتَزَوَّدَ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ رضى الله عنها فيتزود لمثلها حتى فجئه الْحَقُّ) أَمَّا الْخَلَاءُ فَمَمْدُودٌ وَهُوَ الْخَلْوَةُ وَهِيَ شَأْنُ الصَّالِحِينَ وَعِبَادِ اللَّهِ الْعَارِفِينَ قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ حُبِّبَتِ الْعُزْلَةُ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ مَعَهَا فَرَاغَ الْقَلْبِ وَهِيَ مُعِينةٌ عَلَى التَّفَكُّرِ وَبِهَا يَنْقَطِعُ عَنْ مَأْلُوفَاتِ الْبَشَرِ وَيَتَخَشَّعُ قَلْبُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
.
وَأَمَّا الْغَارُ فَهُوَ الْكَهْفُ وَالنَّقْبُ فِي الْجَبَلِ وَجَمْعُهُ غِيرَانٌ وَالْمَغَارُ وَالْمَغَارَةُ بِمَعْنَى الْغَارِ وَتَصْغِيرُ الْغَارِ غُوَيْرٌ.
.
وَأَمَّا حِرَاءٌ فَبِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ وَبِالْمَدِّ وَهُوَ مَصْرُوفٌ وَمُذَكَّرٌ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ.
وَقَالَ الْقَاضِي فِيهِ لُغَتَانِ التَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ وَالتَّذْكِيرُ أَكْثَرُ فَمَنْ ذَكَّرَهُ صَرَفَهُ وَمَنْ أَنَّثَهُ لَمْ يَصْرِفْهُ أَرَادَ الْبُقْعَةَ أَوِ الْجِهَةَ الَّتِي فِيهَا الْجَبَلُ قَالَ الْقَاضِي.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِيهِ حَرَى بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالْقَصْرِ وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ قَالَ أَبُو عُمَرَ الزَّاهِدُ صَاحِبُ ثَعْلَبٍ وَأَبُو سُلَيْمَانُ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُمَا أَصْحَابُ الْحَدِيثِ وَالْعَوَامُّ يُخْطِئُونَ فِي حِرَاءٍ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ يَفْتَحُونَ الْحَاءَ وَهِيَ مَكْسُورَةٌ وَيَكْسِرُونَ الرَّاءَ وَهِيَ مَفْتُوحَةٌ وَيَقْصُرُونَ الْأَلِفَ وَهِيَ مَمْدُودَةٌ وَحِرَاءٌ جَبَلٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ نَحْوَ ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ عَنْ يَسَارِ الذَّاهِبِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى مِنًى وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
.
وَأَمَّا التَّحَنُّثُ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ وَالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ فَقَدْ فَسَّرَهُ بِالتَّعَبُّدِ وَهُوَ تَفْسِيرٌ صَحِيحٌ وَأَصْلُ الْحِنْثِ الْإِثْمُ فَمَعْنَى يَتَحَنَّثُ يَتَجَنَّبُ الْحِنْثَ فَكَأَنَّهُ بِعِبَادَتِهِ يَمْنَعُ نَفْسَهُ مِنَ الْحِنْثِ وَمِثْلُ يَتَحَنَّثُ يتحرح وَيَتَأَثَّمُ أَيْ يَتَجَنَّبُ الْحَرَجَ وَالْإِثْمَ.
.
وَأَمَّا قَوْلُهَا الليالى أولات العدد فمتعلق يتحنث لَا بِالتَّعَبُّدِ وَمَعْنَاهُ يَتَحَنَّثُ اللَّيَالِيَ وَلَوْ جُعِلَ مُتَعَلِّقًا بِالتَّعَبُّدِ فَسَدَ الْمَعْنَى فَإِنَّ التَّحَنُّثَ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ اللَّيَالِي بَلْ يُطْلَقُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَهَذَا التَّفْسِيرُ اعْتَرَضَ بَيْنَ كَلَامِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
.
وَأَمَّا كَلَامُهَا فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ اللَّيَالِيَ أُولَاتِ الْعَدَدِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَقَوْلُهَا فَجِئَهُ الْحَقُّ أَيْ جَاءَهُ الْوَحْيُ بَغْتَةً فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ مُتَوَقِّعًا لِلْوَحْيِ وَيُقَالُ فَجِئَهُ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَبَعْدَهَا هَمْزَةٌ مَفْتُوحَةٌ وَيُقَالُ فَجَأَهُ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالْهَمْزَةِ لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ حَكَاهُمَا الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ .
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَا أَنَا بقارىء) مَعْنَاهُ لَا أُحْسِنَ الْقِرَاءَةَ فَمَا نَافِيَةٌ هَذَا هُوَ الصَّوَابُ وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيهَا خِلَافًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا نَافِيَةً وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا اسْتِفْهَامِيَّةً وَضَعَّفُوهُ بِإِدْخَالِ الْبَاءِ فِي الْخَبَرِ قَالَ الْقَاضِي وَيُصَحِّحُ قَوْلَ مَنْ قَالَ اسْتِفْهَامِيَّةً رِوَايَةُ مَنْ رَوَى مَا أَقْرَأُ وَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ مَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَيْضًا نَافِيَةً وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي) أَمَّا غَطَّنِي فَبِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَالطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَمَعْنَاهُ عَصَرَنِي وَضَمَّنِي يُقَالُ غَطَّهُ وَغَتَّهُ وَضَغَطَهُ وَعَصَرَهُ وَخَنَقَهُ وَغَمَزَهُ كُلُّهُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ.
.
وَأَمَّا الْجَهْدُ فَيَجُوزُ فَتْحُ الْجِيمِ وَضَمُّهَا لُغَتَانِ وَهُوَ الْغَايَةُ وَالْمَشَقَّةُ وَيَجُوزُ نَصْبُ الدَّالِ وَرَفْعُهَا فَعَلَى النَّصْبِ بَلَغَ جِبْرِيلُ مِنِّي الْجَهْدَ وَعَلَى الرَّفْعِ بَلَغَ الْجَهْدُ مِنِّي مَبْلَغَهُ وَغَايَتَهُ وَمِمَّنْ ذَكَرَ الْوَجْهَيْنِ فِي نَصْبِ الدَّالِ وَرَفْعِهَا صَاحِبُ التَّحْرِيرِ وَغَيْرُهُ.
.
وَأَمَّا أَرْسَلَنِي فَمَعْنَاهُ أَطْلَقَنِي قَالَ الْعُلَمَاءُ وَالْحِكْمَةُ فِي الْغَطِّ شَغْلُهُ مِنَ الِالْتِفَاتِ وَالْمُبَالَغَةُ فِي أَمْرِهِ بِإِحْضَارِ قَلْبِهِ لِمَا يقوله له وكرره ثلاثا مبالغة فى التنبيه فَفِيهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمُعَلِّمِ أَنْ يَحْتَاطَ فِي تَنْبِيهِ الْمُتَعَلِّمِ وَأَمْرِهِ بِإِحْضَارِ قَلْبِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (ثُمَّ أَرْسَلَنِي فقال اقرأ باسم ربك الذى خلق) هَذَا دَلِيلٌ صَرِيحٌ فِي أَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ اقْرَأْ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجَمَاهِيرُ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَقِيلَ أوله يا أيها المدثر وَلَيْسَ بِشَيْءٍ وَسَنَذْكُرُهُ بَعْدَ هَذَا فِيمَوْضِعِهِ مِنْ هَذَا الْبَابِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَاسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ بَعْضُ مَنْ يَقُولُ إِنَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لَيْسَتْ مِنَ الْقُرْآنِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ لِكَوْنِهَا لَمْ تُذْكَرْ هُنَا وَجَوَابُ الْمُثْبِتِينَ لَهَا أَنَّهَا لَمْ تَنْزِلْ أَوَّلًا بَلْ نَزَلَتِ الْبَسْمَلَةُ فِي وَقْتٍ آخَرَ كَمَا نَزَلَ بَاقِي السُّورَةِ فِي وَقْتٍ آخَرَ قَوْلُهَا (تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ) بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَمَعْنَى تَرْجُفُ تَرْعَدُ وَتَضْطَرِبُ وَأَصْلُهُ شِدَّةُ الْحَرَكَةِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَسَائِرُ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالْغَرِيبِ وَهِيَ اللَّحْمَةُ الَّتِي بَيْنَ الْمَنْكِبِ وَالْعُنُقِ تَضْطَرِبُ عِنْدَ فَزَعِ الْإِنْسَانِ .
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي) هَكَذَا هُوَ فِي الرِّوَايَاتِ مُكَرَّرٌ مَرَّتَيْنِ وَمَعْنَى زَمِّلُونِي غَطُّونِي بِالثِّيَابِ وَلُفُّونِي بِهَا وقولها فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ هُوَ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَهُوَ الْفَزَعُ .
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي) قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لَيْسَ هُوَ بِمَعْنَى الشَّكِّ فِيمَا أَتَاهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَكِنَّهُ رُبَّمَا خَشِيَ أَنْ لَا يَقْوَى عَلَى مُقَاوَمَةِ هَذَا الْأَمْرِ وَلَا يَقْدِرَ عَلَى حَمْلِ أَعْبَاءِ الْوَحْيِ فَتَزْهَقَ نَفْسُهُ أَوْ يَكُونَ هَذَا لِأَوَّلِ مَا رَأَى التَّبَاشِيرَ فِي النَّوْمِ وَالْيَقَظَةِ وَسَمِعَ الصَّوْتَ قَبْلَ لِقَاءِ الْمَلَكِ وَتَحَقُّقِهِ رِسَالَةَ رَبِّهِ فَيَكُونُ خَافَ أَنْ يَكُونَ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ فَأَمَّا مُنْذُ جَاءَهُ الْمَلَكُ بِرِسَالَةِ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الشَّكُّ فِيهِ وَلَا يَخْشَى مِنْ تَسَلُّطِ الشَّيْطَانِ عَلَيْهِ وَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ يُحْمَلُ جَمِيعُ مَا وَرَدَ مِنْ مِثْلِ هَذَا فِي حَدِيثِ الْبَعْثِ هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَذَكَرَ أَيْضًا فِي كِتَابِهِ الشِّفَاءُ هَذَيْنِ الِاحْتِمَالَيْنِ فِي كَلَامٍ مَبْسُوطٍ وَهَذَا الِاحْتِمَالُ الثَّانِي ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ خِلَافُ تَصْرِيحِ الْحَدِيثِ لِأَنَّ هَذَا كَانَ بَعْدَ غَطِّ الْمَلَكِ وَإِتْيَانِهِ بِاقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهَا (قَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ كَلَّا أَبْشِرْ فَوَاللَّهِ لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا وَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وتكسب المعدوموَتُقْرِي الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ) أَمَّا قَوْلُهَا كَلَّا فَهِيَ هُنَا كَلِمَةُ نَفْيٍ وَإِبْعَادٍ وهذا أحد معانيها وقد تَأْتِي كَلَّا بِمَعْنَى حَقًّا وَبِمَعْنَى أَلَا الَّتِي لِلتَّنْبِيهِ يُسْتَفْتَحُ بِهَا الْكَلَامُ وَقَدْ جَاءَتْ فِي الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ عَلَى أَقْسَامٍ وَقَدْ جَمَعَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْأَنْبَارِيِّ أَقْسَامَهَا وَمَوَاضِعَهَا فِي بَابٍ مِنْ كِتَابِهِ الْوَقْفُ وَالِابْتِدَاءُ.
.
وَأَمَّا قَوْلُهَا لَا يُخْزِيكَ فَهُوَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَبِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ كَذَا هُوَ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ وَعُقَيْلٍ.
وَقَالَ معمر فى روايته يحزنك بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ وَيَجُوزُ فَتْحُ الْيَاءِ فِي أَوَّلِهِ وَضَمُّهَا وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ وَالْخِزْيُ الْفَضِيحَةُ وَالْهَوَانُ.
.
وَأَمَّا صِلَةُ الرَّحِمِ فَهِيَ الْإِحْسَانُ إِلَى الْأَقَارِبِ عَلَى حَسَبِ حَالِ الْوَاصِلِ وَالْمَوْصُولِ فَتَارَةً تَكُونُ بِالْمَالِ وَتَارَةً بِالْخِدْمَةِ وَتَارَةً بِالزِّيَارَةِ وَالسَّلَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
.
وَأَمَّا الْكَلُّ فَهُوَ بِفَتْحِ الْكَافِ وَأَصْلُهُ الثِّقْلُ وَمِنْهُ .
قَوْلُهُ تَعَالَى وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مولاه وَيَدْخُلُ فِي حَمْلِ الْكَلِّ الْإِنْفَاقُ عَلَى الضَّعِيفِ وَالْيَتِيمِ وَالْعِيَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَهُوَ مِنَ الْكَلَالِ وَهُوَ الْإِعْيَاءُ.
.
وَأَمَّا قَوْلُهَا وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ فَهُوَ بِفَتْحِ التَّاءِ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ وَنَقَلَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ رِوَايَةِ الْأَكْثَرِينَ قَالَ وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ بِضَمِّهَا قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ ثَعْلَبٌ وَأَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ وَجَمَاعَاتٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ يُقَالُ كَسَبْتُ الرَّجُلَ مَالًا وَأَكْسَبْتُهُ مَالًا لُغَتَانِ أَفْصَحُهُمَا بِاتِّفَاقِهِمْ كَسَبْتُهُ بِحَذْفِ الْأَلْفِ.
.
وَأَمَّا مَعْنَى تَكْسِبُ الْمَعْدُومَ فَمَنْ رَوَاهُ بِالضَّمِّ فَمَعْنَاهُ تُكْسِبُ غَيْرَكَ الْمَالَ الْمَعْدُومَ أَيْ تُعْطِيهِ إِيَّاهُ تَبَرُّعًا فَحَذَفَ أحد المفعولين وقيل معناه تعطى الناس مالايجدونه عِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ نَفَائِسِ الْفَوَائِدِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ.
.
وَأَمَّا رِوَايَةُ الْفَتْحِ فَقِيلَ مَعْنَاهَا كَمَعْنَى الضَّمِّ وَقِيلَ مَعْنَاهَا تَكْسِبُ الْمَالَ الْمَعْدُومَ وَتُصِيبُ مِنْهُ مَا يَعْجِزُ غَيْرُكَ عَنْ تَحْصِيلِهِ وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَتَمَادَحُ بِكَسْبِ الْمَالِ الْمَعْدُومِ لَا سِيَّمَا قُرَيْشٌ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَحْظُوظًا فِي تِجَارَتِهِ وَهَذَا الْقَوْلُ حَكَاهُ الْقَاضِي عَنْ ثَابِتٍ صَاحِبِ الدَّلَائِلِ وَهُوَ ضَعِيفٌ أَوْ غَلَطٌ وَأَيُّ مَعْنًى لِهَذَا الْقَوْلِ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ إِلَّا أَنَّهُ يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ بِأَنْ يُضَمَّ إِلَيْهِ زِيَادَةٌ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ تَكْسِبُ الْمَالَ الْعَظِيمَ الَّذِي يَعْجِزُ عَنْهُ غَيْرُكَ ثُمَّ تَجُودُ بِهِ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ وَأَبْوَابِ الْمَكَارِمِ كَمَا ذَكَرَتْ مِنْ حَمْلِ الْكَلِّ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَقِرَى الضَّيْفِ وَالْإِعَانَةِ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ فَهَذَا هُوَالصَّوَابُ فِي هَذَا الْحَرْفِ.
.
وَأَمَّا صَاحِبُ التَّحْرِيرِ فَجَعَلَ الْمَعْدُومَ عِبَارَةً عَنِ الرَّجُلِ الْمُحْتَاجِ الْمُعْدِمِ الْعَاجِزِ عَنِ الْكَسْبِ وَسَمَّاهُ مَعْدُومًا لِكَوْنِهِ كَالْمَعْدُومِ الْمَيِّتِ حَيْثُ لَمْ يَتَصَرَّفْ فِي الْمَعِيشَةِ كَتَصَرُّفِ غَيْرِهِ قَالَ وَذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ أَنَّ صَوَابَهُ الْمُعْدِمَ بِحَذْفِ الْوَاوِ قَالَ وَلَيْسَ كَمَا قَالَ الْخَطَّابِيُّ بَلْ مَا رَوَاهُ الرُّوَاةُ صَوَابٌ قَالَ وَقِيلَ مَعْنَى تَكْسِبُ الْمَعْدُومَ أَيْ تَسْعَى فِي طَلَبِ عَاجِزٍ تُنْعِشُهُ وَالْكَسْبُ هُوَ الِاسْتِفَادَةُ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ وَإِنْ كَانَ لَهُ بَعْضُ الِاتِّجَاهِ كَمَا حَرَّرْتُ لَفْظَهُ فَالصَّحِيحُ الْمُخْتَارُ مَا قَدَّمْتُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
.
وَأَمَّا قَوْلُهَا وَتَقْرِي الضَّيْفَ فَهُوَ بِفَتْحِ التَّاءِ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ يُقَالُ قَرَيْتُ الضَّيْفَ أُقْرِيهِ قِرًى بِكَسْرِ الْقَافِ مَقْصُورٌ وَقَرَاءً بِفَتْحِ الْقَافِ وَالْمَدِّ وَيُقَالُ لِلطَّعَامِ الَّذِي يُضَيِّفُهُ بِهِ قِرًى بِكَسْرِ الْقَافِ مَقْصُورٌ وَيُقَالُ لِفَاعِلِهِ قَارٍ مِثْلُ قَضَى فَهُوَ قَاضٍ.
.
وَأَمَّا قَوْلُهَا وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ فَالنَّوَائِبُ جَمْعُ نائبة وهى الحادثة وانما قَالَتْ نَوَائِبَ الْحَقِّ لِأَنَّ النَّائِبَةَ قَدْ تَكُونُ فِي الْخَيْرِ وَقَدْ تَكُونُ فِي الشَّرِّ قَالَ لَبِيدٌ ... نَوَائِبُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ كِلَاهُمَا ... فَلَا الْخَيْرُ مَمْدُودٌ وَلَا الشَّرُّ لَازِبُ ...
(قَالَ الْعُلَمَاءُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَعْنَى كَلَامِ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إِنَّكَ لَا يُصِيبُكَ مَكْرُوهٌ لِمَا جَعَلَ اللَّهُ فِيكَ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَكَرَمِ الشَّمَائِلِ وَذَكَرَتْ ضُرُوبًا مِنْ ذَلِكَ وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ وَخِصَالَ الْخَيْرِ سَبَبُ السَّلَامَةِ مِنْ مَصَارِعِ السُّوءِ وَفِيهِ مَدْحُ الْإِنْسَانِ فِي وَجْهِهِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ لِمَصْلَحَةٍ نظر أو فيه تَأْنِيسُ مَنْ حَصَلَتْ لَهُ مَخَافَةً مِنْ أَمْرٍ وَتَبْشِيرُهُ وَذِكْرُ أَسْبَابِ السَّلَامَةِ لَهُ وَفِيهِ أَعْظَمُ دَلِيلٍ وَأَبْلَغُ حُجَّةٍ عَلَى كَمَالِ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَجَزَالَةِ رَأْيِهَا وَقُوَّةِ نَفْسِهَا وَثَبَاتِ قَلْبِهَا وَعِظَمِ فِقْهِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهَا (وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ) مَعْنَاهُ صَارَ نَصْرَانِيًّا وَالْجَاهِلِيَّةُ مَا قَبْلَ رِسَالَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُمُّوا بِذَلِكَ لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ فَاحِشِ الْجَهَالَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهَا (وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ وَيَكْتُبُ مِنَ الْإِنْجِيلِ بِالْعَرَبِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَكْتُبَ) هَكَذَا هُوَ فِي مُسْلِمٍ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ وَيَكْتُبُ بِالْعَرَبِيَّةِ وَوَقَعَ فِي أَوَّلِ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ يَكْتُبُ)الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ فَيَكْتُبُ مِنَ الْإِنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ وَحَاصِلُهُمَا أَنَّهُ تَمَكَّنَ مِنْ مَعْرِفَةِ دِينِ النَّصَارَى بِحَيْثُ إِنَّهُ صَارَ يَتَصَرَّفُ فِي الْإِنْجِيلِ فَيَكْتُبُ أَيَّ مَوْضِعٍ شَاءَ مِنْهُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ إِنْ شَاءَ وَبِالْعَرَبِيَّةِ إِنْ شَاءَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهَا (فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَيْ عم اسمع من بن أَخِيكَ) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى (قَالَتْ خَدِيجَةُ أَيِ بن عَمِّ) هَكَذَا هُوَ فِي الْأُصُولِ فِي الْأَوَّلِ عم وفى الثانى بن عم وكلاهما صحيح أما الثانى فلأنه بن عَمِّهَا حَقِيقَةً كَمَا ذَكَرَهُ أَوَّلًا فِي الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدٍ وَهِيَ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدٍ.
.
وَأَمَّا الْأَوَّلُ فسمته عما مجازا للاحترام وهذه عَادَةُ الْعَرَبِ فِي آدَابِ خِطَابِهِمْ يُخَاطِبُ الصَّغِيرُ الكبير بياعم احْتِرَامًا لَهُ وَرَفْعًا لِمَرْتَبَتِهِ وَلَا يَحْصُلُ هَذَا الغرض بقولها يا بن عَمِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
قَوْلُهُ (هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) النَّامُوسُ بِالنُّونِ وَالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَهُوَ جِبْرِيلُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ وَغَرِيبِ الْحَدِيثِ النَّامُوسُ فِي اللُّغَةِ صَاحِبُ سِرِّ الْخَيْرِ وَالْجَاسُوسُ صَاحِبُ سِرِّ الشَّرِّ وَيُقَالُ نَمَسْتُ السِّرَّ بِفَتْحِ النُّونِ وَالْمِيمِ أَنْمِسُهُ بِكَسْرِ الْمِيمِ نَمْسًا أَيْ كَتَمْتُهُ وَنَمَسْتُ الرَّجُلَ وَنَامَسْتُهُ سَارَرْتُهُ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُسَمَّى النَّامُوسَ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ الْمُرَادُ هُنَا قَالَ الْهَرَوِيُّ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّهُ بِالْغَيْبِ وَالْوَحْيِ.
.
وَأَمَّا .
قَوْلُهُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَذَا هُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا وَهُوَ الْمَشْهُورُ وَرُوِّينَاهُ فِي غَيْرِ الصَّحِيحِ نَزَلَ عَلَى عِيسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وكلاهما صحيح قوله (ياليتنى فِيهَا جَذَعًا) الضَّمِيرُ فِيهَا يَعُودُ إِلَى أَيَّامِ النُّبُوَّةِ وَمُدَّتِهَا وَقَولُهُ جَذَعًا يَعْنِي شَابًّا قَوِيًّا حَتَّى أُبَالِغَ فِي نُصْرَتِكَ وَالْأَصْلُ فِي الْجَذَعِ لِلدَّوَابِّ وَهُوَ هُنَا اسْتِعَارَةٌ.
.
وَأَمَّا .
قَوْلُهُ جَذَعًا فَهَكَذَا هُوَ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا بالنصب قال القاضي ووقع فى رواية بن مَاهَانَ جَذَعٌ بِالرَّفْعِ وَكَذَلِكَ هُوَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ فِي الْبُخَارِيِّ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ ظَاهِرَةٌ.
.
وَأَمَّا النَّصْبُ فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وَجْهِهِ فَقَالَ الْخَطَّابِيُّ والمازرى وغيرهمانُصِبَ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ الْمَحْذُوفَةِ تَقْدِيرُهُ لَيْتَنِي أَكُونُ فِيهَا جَذَعًا وَهَذَا يَجِيءُ عَلَى مَذْهَبِ النَّحْوِيِّينَ الْكُوفِيِّينَ.
وَقَالَ الْقَاضِي الظَّاهِرُ عِنْدِي أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ وَخَبَرُ لَيْتَ .
قَوْلُهُ فِيهَا وَهَذَا الَّذِي اخْتَارَهُ الْقَاضِي هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي اخْتَارَهُ أَهْلُ التَّحْقِيقِ وَالْمَعْرِفَةِ مِنْ شُيُوخِنَا وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم (أو مخرجى هُمْ) هُوَ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ هَكَذَا الرواية ويجوز تخفيف الياء على وجه والصحيح الْمَشْهُورِ تَشْدِيدُهَا وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى بِمُصْرِخِيَّ وَهُوَ جَمْعُ مُخْرِجٍ فَالْيَاءُ الْأُولَى يَاءُ الْجَمْعِ وَالثَّانِيَةُ ضَمِيرُ الْمُتَكَلِّمِ وَفُتِحَتْ لِلتَّخْفِيفِ لِئَلَّا يَجْتَمِعَ الْكَسْرَةُ وَالْيَاءَانِ بَعْدَ كَسْرَتَيْنِ .
قَوْلُهُ (وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ) أَيْ وَقْتَ خُرُوجِكَ .
قَوْلُهُ (أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا) هُوَ بِفَتْحِ الزَّايِ وَبِهَمْزَةٍ قَبْلَهَا أَيْ قَوِيًّا بَالِغًا .
قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى (أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ قَالَ قَالَ الزُّهْرِيُّ وَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ) هَكَذَا هُوَ فِي الْأُصُولِ وَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بِالْوَاوِ وَهُوَ الصَّحِيحُ وَالْقَائِلُ وَأَخْبَرَنِي هُوَ الزُّهْرِيُّ وَفِي هَذِهِ الْوَاوِ فَائِدَةٌ لَطِيفَةٌ قَدَّمْنَاهَا فِي مَوَاضِعَ وَهِيَ أَنَّ مَعْمَرًا سَمِعَ مِنَ الزُّهْرِيِّ أَحَادِيثَ قَالَ الزُّهْرِيُّ فِيهَا أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بِكَذَا وَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بِكَذَا إِلَى آخِرِهَا فَإِذَا أَرَادَ مَعْمَرٌ رِوَايَةَ غَيْرِ الْأَوَّلِ قَالَ قَالَ الزُّهْرِيُّ وَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ فَأَتَى بِالْوَاوِ لِيَكُونَ رَاوِيًا كَمَا سَمِعَ وَهَذَا مِنَ الِاحْتِيَاطِ وَالتَّحْقِيقِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى الْأَلْفَاظِ وَالتَّحَرِّي فِيهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
قَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَعْنِي رِوَايَةَ مَعْمَرٍ (فَوَاللَّهِ لَا يُحْزِنْكَ اللَّهُ) هُوَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ وَقَدْ قَدَّمْنَا بَيَانَهُ قولهالعلماء انما ابتدىء صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرُّؤْيَا لِئَلَّا يَفْجَأَهُ الملك ويأتيه صريح النبوة بغتة فلا يحتملها قوى البشرية فبدىء بِأَوَّلِ خِصَالِ النُّبُوَّةِ وَتَبَاشِيرِ الْكَرَامَةِ مِنْ صِدْقِ الرُّؤْيَا وَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ مِنْ رُؤْيَةِ الضَّوْءِ وَسَمَاعِ الصَّوْتِ وَسَلَامِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ عَلَيْهِ بِالنُّبُوَّةِ قَوْلُهَا (ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ فَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ يَتَحَنَّثُ فِيهِ وَهُوَ التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ أُولَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهِ وَيَتَزَوَّدَ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ رضى الله عنها فيتزود لمثلها حتى فجئه الْحَقُّ) أَمَّا الْخَلَاءُ فَمَمْدُودٌ وَهُوَ الْخَلْوَةُ وَهِيَ شَأْنُ الصَّالِحِينَ وَعِبَادِ اللَّهِ الْعَارِفِينَ قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ حُبِّبَتِ الْعُزْلَةُ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ مَعَهَا فَرَاغَ الْقَلْبِ وَهِيَ مُعِينةٌ عَلَى التَّفَكُّرِ وَبِهَا يَنْقَطِعُ عَنْ مَأْلُوفَاتِ الْبَشَرِ وَيَتَخَشَّعُ قَلْبُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
.
وَأَمَّا الْغَارُ فَهُوَ الْكَهْفُ وَالنَّقْبُ فِي الْجَبَلِ وَجَمْعُهُ غِيرَانٌ وَالْمَغَارُ وَالْمَغَارَةُ بِمَعْنَى الْغَارِ وَتَصْغِيرُ الْغَارِ غُوَيْرٌ.
.
وَأَمَّا حِرَاءٌ فَبِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ وَبِالْمَدِّ وَهُوَ مَصْرُوفٌ وَمُذَكَّرٌ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ.
وَقَالَ الْقَاضِي فِيهِ لُغَتَانِ التَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ وَالتَّذْكِيرُ أَكْثَرُ فَمَنْ ذَكَّرَهُ صَرَفَهُ وَمَنْ أَنَّثَهُ لَمْ يَصْرِفْهُ أَرَادَ الْبُقْعَةَ أَوِ الْجِهَةَ الَّتِي فِيهَا الْجَبَلُ قَالَ الْقَاضِي.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِيهِ حَرَى بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالْقَصْرِ وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ قَالَ أَبُو عُمَرَ الزَّاهِدُ صَاحِبُ ثَعْلَبٍ وَأَبُو سُلَيْمَانُ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُمَا أَصْحَابُ الْحَدِيثِ وَالْعَوَامُّ يُخْطِئُونَ فِي حِرَاءٍ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ يَفْتَحُونَ الْحَاءَ وَهِيَ مَكْسُورَةٌ وَيَكْسِرُونَ الرَّاءَ وَهِيَ مَفْتُوحَةٌ وَيَقْصُرُونَ الْأَلِفَ وَهِيَ مَمْدُودَةٌ وَحِرَاءٌ جَبَلٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ نَحْوَ ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ عَنْ يَسَارِ الذَّاهِبِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى مِنًى وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
.
وَأَمَّا التَّحَنُّثُ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ وَالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ فَقَدْ فَسَّرَهُ بِالتَّعَبُّدِ وَهُوَ تَفْسِيرٌ صَحِيحٌ وَأَصْلُ الْحِنْثِ الْإِثْمُ فَمَعْنَى يَتَحَنَّثُ يَتَجَنَّبُ الْحِنْثَ فَكَأَنَّهُ بِعِبَادَتِهِ يَمْنَعُ نَفْسَهُ مِنَ الْحِنْثِ وَمِثْلُ يَتَحَنَّثُ يتحرح وَيَتَأَثَّمُ أَيْ يَتَجَنَّبُ الْحَرَجَ وَالْإِثْمَ.
.
وَأَمَّا قَوْلُهَا الليالى أولات العدد فمتعلق يتحنث لَا بِالتَّعَبُّدِ وَمَعْنَاهُ يَتَحَنَّثُ اللَّيَالِيَ وَلَوْ جُعِلَ مُتَعَلِّقًا بِالتَّعَبُّدِ فَسَدَ الْمَعْنَى فَإِنَّ التَّحَنُّثَ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ اللَّيَالِي بَلْ يُطْلَقُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَهَذَا التَّفْسِيرُ اعْتَرَضَ بَيْنَ كَلَامِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
.
وَأَمَّا كَلَامُهَا فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ اللَّيَالِيَ أُولَاتِ الْعَدَدِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَقَوْلُهَا فَجِئَهُ الْحَقُّ أَيْ جَاءَهُ الْوَحْيُ بَغْتَةً فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ مُتَوَقِّعًا لِلْوَحْيِ وَيُقَالُ فَجِئَهُ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَبَعْدَهَا هَمْزَةٌ مَفْتُوحَةٌ وَيُقَالُ فَجَأَهُ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالْهَمْزَةِ لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ حَكَاهُمَا الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ .
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَا أَنَا بقارىء) مَعْنَاهُ لَا أُحْسِنَ الْقِرَاءَةَ فَمَا نَافِيَةٌ هَذَا هُوَ الصَّوَابُ وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيهَا خِلَافًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا نَافِيَةً وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا اسْتِفْهَامِيَّةً وَضَعَّفُوهُ بِإِدْخَالِ الْبَاءِ فِي الْخَبَرِ قَالَ الْقَاضِي وَيُصَحِّحُ قَوْلَ مَنْ قَالَ اسْتِفْهَامِيَّةً رِوَايَةُ مَنْ رَوَى مَا أَقْرَأُ وَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ مَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَيْضًا نَافِيَةً وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي) أَمَّا غَطَّنِي فَبِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَالطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَمَعْنَاهُ عَصَرَنِي وَضَمَّنِي يُقَالُ غَطَّهُ وَغَتَّهُ وَضَغَطَهُ وَعَصَرَهُ وَخَنَقَهُ وَغَمَزَهُ كُلُّهُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ.
.
وَأَمَّا الْجَهْدُ فَيَجُوزُ فَتْحُ الْجِيمِ وَضَمُّهَا لُغَتَانِ وَهُوَ الْغَايَةُ وَالْمَشَقَّةُ وَيَجُوزُ نَصْبُ الدَّالِ وَرَفْعُهَا فَعَلَى النَّصْبِ بَلَغَ جِبْرِيلُ مِنِّي الْجَهْدَ وَعَلَى الرَّفْعِ بَلَغَ الْجَهْدُ مِنِّي مَبْلَغَهُ وَغَايَتَهُ وَمِمَّنْ ذَكَرَ الْوَجْهَيْنِ فِي نَصْبِ الدَّالِ وَرَفْعِهَا صَاحِبُ التَّحْرِيرِ وَغَيْرُهُ.
.
وَأَمَّا أَرْسَلَنِي فَمَعْنَاهُ أَطْلَقَنِي قَالَ الْعُلَمَاءُ وَالْحِكْمَةُ فِي الْغَطِّ شَغْلُهُ مِنَ الِالْتِفَاتِ وَالْمُبَالَغَةُ فِي أَمْرِهِ بِإِحْضَارِ قَلْبِهِ لِمَا يقوله له وكرره ثلاثا مبالغة فى التنبيه فَفِيهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمُعَلِّمِ أَنْ يَحْتَاطَ فِي تَنْبِيهِ الْمُتَعَلِّمِ وَأَمْرِهِ بِإِحْضَارِ قَلْبِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (ثُمَّ أَرْسَلَنِي فقال اقرأ باسم ربك الذى خلق) هَذَا دَلِيلٌ صَرِيحٌ فِي أَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ اقْرَأْ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجَمَاهِيرُ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَقِيلَ أوله يا أيها المدثر وَلَيْسَ بِشَيْءٍ وَسَنَذْكُرُهُ بَعْدَ هَذَا فِيمَوْضِعِهِ مِنْ هَذَا الْبَابِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَاسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ بَعْضُ مَنْ يَقُولُ إِنَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لَيْسَتْ مِنَ الْقُرْآنِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ لِكَوْنِهَا لَمْ تُذْكَرْ هُنَا وَجَوَابُ الْمُثْبِتِينَ لَهَا أَنَّهَا لَمْ تَنْزِلْ أَوَّلًا بَلْ نَزَلَتِ الْبَسْمَلَةُ فِي وَقْتٍ آخَرَ كَمَا نَزَلَ بَاقِي السُّورَةِ فِي وَقْتٍ آخَرَ قَوْلُهَا (تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ) بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَمَعْنَى تَرْجُفُ تَرْعَدُ وَتَضْطَرِبُ وَأَصْلُهُ شِدَّةُ الْحَرَكَةِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَسَائِرُ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالْغَرِيبِ وَهِيَ اللَّحْمَةُ الَّتِي بَيْنَ الْمَنْكِبِ وَالْعُنُقِ تَضْطَرِبُ عِنْدَ فَزَعِ الْإِنْسَانِ .
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي) هَكَذَا هُوَ فِي الرِّوَايَاتِ مُكَرَّرٌ مَرَّتَيْنِ وَمَعْنَى زَمِّلُونِي غَطُّونِي بِالثِّيَابِ وَلُفُّونِي بِهَا وقولها فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ هُوَ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَهُوَ الْفَزَعُ .
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي) قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لَيْسَ هُوَ بِمَعْنَى الشَّكِّ فِيمَا أَتَاهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَكِنَّهُ رُبَّمَا خَشِيَ أَنْ لَا يَقْوَى عَلَى مُقَاوَمَةِ هَذَا الْأَمْرِ وَلَا يَقْدِرَ عَلَى حَمْلِ أَعْبَاءِ الْوَحْيِ فَتَزْهَقَ نَفْسُهُ أَوْ يَكُونَ هَذَا لِأَوَّلِ مَا رَأَى التَّبَاشِيرَ فِي النَّوْمِ وَالْيَقَظَةِ وَسَمِعَ الصَّوْتَ قَبْلَ لِقَاءِ الْمَلَكِ وَتَحَقُّقِهِ رِسَالَةَ رَبِّهِ فَيَكُونُ خَافَ أَنْ يَكُونَ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ فَأَمَّا مُنْذُ جَاءَهُ الْمَلَكُ بِرِسَالَةِ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الشَّكُّ فِيهِ وَلَا يَخْشَى مِنْ تَسَلُّطِ الشَّيْطَانِ عَلَيْهِ وَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ يُحْمَلُ جَمِيعُ مَا وَرَدَ مِنْ مِثْلِ هَذَا فِي حَدِيثِ الْبَعْثِ هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَذَكَرَ أَيْضًا فِي كِتَابِهِ الشِّفَاءُ هَذَيْنِ الِاحْتِمَالَيْنِ فِي كَلَامٍ مَبْسُوطٍ وَهَذَا الِاحْتِمَالُ الثَّانِي ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ خِلَافُ تَصْرِيحِ الْحَدِيثِ لِأَنَّ هَذَا كَانَ بَعْدَ غَطِّ الْمَلَكِ وَإِتْيَانِهِ بِاقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهَا (قَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ كَلَّا أَبْشِرْ فَوَاللَّهِ لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا وَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وتكسب المعدوموَتُقْرِي الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ) أَمَّا قَوْلُهَا كَلَّا فَهِيَ هُنَا كَلِمَةُ نَفْيٍ وَإِبْعَادٍ وهذا أحد معانيها وقد تَأْتِي كَلَّا بِمَعْنَى حَقًّا وَبِمَعْنَى أَلَا الَّتِي لِلتَّنْبِيهِ يُسْتَفْتَحُ بِهَا الْكَلَامُ وَقَدْ جَاءَتْ فِي الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ عَلَى أَقْسَامٍ وَقَدْ جَمَعَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْأَنْبَارِيِّ أَقْسَامَهَا وَمَوَاضِعَهَا فِي بَابٍ مِنْ كِتَابِهِ الْوَقْفُ وَالِابْتِدَاءُ.
.
وَأَمَّا قَوْلُهَا لَا يُخْزِيكَ فَهُوَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَبِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ كَذَا هُوَ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ وَعُقَيْلٍ.
وَقَالَ معمر فى روايته يحزنك بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ وَيَجُوزُ فَتْحُ الْيَاءِ فِي أَوَّلِهِ وَضَمُّهَا وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ وَالْخِزْيُ الْفَضِيحَةُ وَالْهَوَانُ.
.
وَأَمَّا صِلَةُ الرَّحِمِ فَهِيَ الْإِحْسَانُ إِلَى الْأَقَارِبِ عَلَى حَسَبِ حَالِ الْوَاصِلِ وَالْمَوْصُولِ فَتَارَةً تَكُونُ بِالْمَالِ وَتَارَةً بِالْخِدْمَةِ وَتَارَةً بِالزِّيَارَةِ وَالسَّلَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
.
وَأَمَّا الْكَلُّ فَهُوَ بِفَتْحِ الْكَافِ وَأَصْلُهُ الثِّقْلُ وَمِنْهُ .
قَوْلُهُ تَعَالَى وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مولاه وَيَدْخُلُ فِي حَمْلِ الْكَلِّ الْإِنْفَاقُ عَلَى الضَّعِيفِ وَالْيَتِيمِ وَالْعِيَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَهُوَ مِنَ الْكَلَالِ وَهُوَ الْإِعْيَاءُ.
.
وَأَمَّا قَوْلُهَا وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ فَهُوَ بِفَتْحِ التَّاءِ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ وَنَقَلَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ رِوَايَةِ الْأَكْثَرِينَ قَالَ وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ بِضَمِّهَا قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ ثَعْلَبٌ وَأَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ وَجَمَاعَاتٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ يُقَالُ كَسَبْتُ الرَّجُلَ مَالًا وَأَكْسَبْتُهُ مَالًا لُغَتَانِ أَفْصَحُهُمَا بِاتِّفَاقِهِمْ كَسَبْتُهُ بِحَذْفِ الْأَلْفِ.
.
وَأَمَّا مَعْنَى تَكْسِبُ الْمَعْدُومَ فَمَنْ رَوَاهُ بِالضَّمِّ فَمَعْنَاهُ تُكْسِبُ غَيْرَكَ الْمَالَ الْمَعْدُومَ أَيْ تُعْطِيهِ إِيَّاهُ تَبَرُّعًا فَحَذَفَ أحد المفعولين وقيل معناه تعطى الناس مالايجدونه عِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ نَفَائِسِ الْفَوَائِدِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ.
.
وَأَمَّا رِوَايَةُ الْفَتْحِ فَقِيلَ مَعْنَاهَا كَمَعْنَى الضَّمِّ وَقِيلَ مَعْنَاهَا تَكْسِبُ الْمَالَ الْمَعْدُومَ وَتُصِيبُ مِنْهُ مَا يَعْجِزُ غَيْرُكَ عَنْ تَحْصِيلِهِ وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَتَمَادَحُ بِكَسْبِ الْمَالِ الْمَعْدُومِ لَا سِيَّمَا قُرَيْشٌ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَحْظُوظًا فِي تِجَارَتِهِ وَهَذَا الْقَوْلُ حَكَاهُ الْقَاضِي عَنْ ثَابِتٍ صَاحِبِ الدَّلَائِلِ وَهُوَ ضَعِيفٌ أَوْ غَلَطٌ وَأَيُّ مَعْنًى لِهَذَا الْقَوْلِ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ إِلَّا أَنَّهُ يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ بِأَنْ يُضَمَّ إِلَيْهِ زِيَادَةٌ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ تَكْسِبُ الْمَالَ الْعَظِيمَ الَّذِي يَعْجِزُ عَنْهُ غَيْرُكَ ثُمَّ تَجُودُ بِهِ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ وَأَبْوَابِ الْمَكَارِمِ كَمَا ذَكَرَتْ مِنْ حَمْلِ الْكَلِّ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَقِرَى الضَّيْفِ وَالْإِعَانَةِ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ فَهَذَا هُوَالصَّوَابُ فِي هَذَا الْحَرْفِ.
.
وَأَمَّا صَاحِبُ التَّحْرِيرِ فَجَعَلَ الْمَعْدُومَ عِبَارَةً عَنِ الرَّجُلِ الْمُحْتَاجِ الْمُعْدِمِ الْعَاجِزِ عَنِ الْكَسْبِ وَسَمَّاهُ مَعْدُومًا لِكَوْنِهِ كَالْمَعْدُومِ الْمَيِّتِ حَيْثُ لَمْ يَتَصَرَّفْ فِي الْمَعِيشَةِ كَتَصَرُّفِ غَيْرِهِ قَالَ وَذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ أَنَّ صَوَابَهُ الْمُعْدِمَ بِحَذْفِ الْوَاوِ قَالَ وَلَيْسَ كَمَا قَالَ الْخَطَّابِيُّ بَلْ مَا رَوَاهُ الرُّوَاةُ صَوَابٌ قَالَ وَقِيلَ مَعْنَى تَكْسِبُ الْمَعْدُومَ أَيْ تَسْعَى فِي طَلَبِ عَاجِزٍ تُنْعِشُهُ وَالْكَسْبُ هُوَ الِاسْتِفَادَةُ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ وَإِنْ كَانَ لَهُ بَعْضُ الِاتِّجَاهِ كَمَا حَرَّرْتُ لَفْظَهُ فَالصَّحِيحُ الْمُخْتَارُ مَا قَدَّمْتُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
.
وَأَمَّا قَوْلُهَا وَتَقْرِي الضَّيْفَ فَهُوَ بِفَتْحِ التَّاءِ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ يُقَالُ قَرَيْتُ الضَّيْفَ أُقْرِيهِ قِرًى بِكَسْرِ الْقَافِ مَقْصُورٌ وَقَرَاءً بِفَتْحِ الْقَافِ وَالْمَدِّ وَيُقَالُ لِلطَّعَامِ الَّذِي يُضَيِّفُهُ بِهِ قِرًى بِكَسْرِ الْقَافِ مَقْصُورٌ وَيُقَالُ لِفَاعِلِهِ قَارٍ مِثْلُ قَضَى فَهُوَ قَاضٍ.
.
وَأَمَّا قَوْلُهَا وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ فَالنَّوَائِبُ جَمْعُ نائبة وهى الحادثة وانما قَالَتْ نَوَائِبَ الْحَقِّ لِأَنَّ النَّائِبَةَ قَدْ تَكُونُ فِي الْخَيْرِ وَقَدْ تَكُونُ فِي الشَّرِّ قَالَ لَبِيدٌ ... نَوَائِبُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ كِلَاهُمَا ... فَلَا الْخَيْرُ مَمْدُودٌ وَلَا الشَّرُّ لَازِبُ ...
(قَالَ الْعُلَمَاءُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَعْنَى كَلَامِ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إِنَّكَ لَا يُصِيبُكَ مَكْرُوهٌ لِمَا جَعَلَ اللَّهُ فِيكَ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَكَرَمِ الشَّمَائِلِ وَذَكَرَتْ ضُرُوبًا مِنْ ذَلِكَ وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ وَخِصَالَ الْخَيْرِ سَبَبُ السَّلَامَةِ مِنْ مَصَارِعِ السُّوءِ وَفِيهِ مَدْحُ الْإِنْسَانِ فِي وَجْهِهِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ لِمَصْلَحَةٍ نظر أو فيه تَأْنِيسُ مَنْ حَصَلَتْ لَهُ مَخَافَةً مِنْ أَمْرٍ وَتَبْشِيرُهُ وَذِكْرُ أَسْبَابِ السَّلَامَةِ لَهُ وَفِيهِ أَعْظَمُ دَلِيلٍ وَأَبْلَغُ حُجَّةٍ عَلَى كَمَالِ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَجَزَالَةِ رَأْيِهَا وَقُوَّةِ نَفْسِهَا وَثَبَاتِ قَلْبِهَا وَعِظَمِ فِقْهِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهَا (وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ) مَعْنَاهُ صَارَ نَصْرَانِيًّا وَالْجَاهِلِيَّةُ مَا قَبْلَ رِسَالَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُمُّوا بِذَلِكَ لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ فَاحِشِ الْجَهَالَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهَا (وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ وَيَكْتُبُ مِنَ الْإِنْجِيلِ بِالْعَرَبِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَكْتُبَ) هَكَذَا هُوَ فِي مُسْلِمٍ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ وَيَكْتُبُ بِالْعَرَبِيَّةِ وَوَقَعَ فِي أَوَّلِ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ يَكْتُبُ)الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ فَيَكْتُبُ مِنَ الْإِنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ وَحَاصِلُهُمَا أَنَّهُ تَمَكَّنَ مِنْ مَعْرِفَةِ دِينِ النَّصَارَى بِحَيْثُ إِنَّهُ صَارَ يَتَصَرَّفُ فِي الْإِنْجِيلِ فَيَكْتُبُ أَيَّ مَوْضِعٍ شَاءَ مِنْهُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ إِنْ شَاءَ وَبِالْعَرَبِيَّةِ إِنْ شَاءَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهَا (فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَيْ عم اسمع من بن أَخِيكَ) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى (قَالَتْ خَدِيجَةُ أَيِ بن عَمِّ) هَكَذَا هُوَ فِي الْأُصُولِ فِي الْأَوَّلِ عم وفى الثانى بن عم وكلاهما صحيح أما الثانى فلأنه بن عَمِّهَا حَقِيقَةً كَمَا ذَكَرَهُ أَوَّلًا فِي الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدٍ وَهِيَ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدٍ.
.
وَأَمَّا الْأَوَّلُ فسمته عما مجازا للاحترام وهذه عَادَةُ الْعَرَبِ فِي آدَابِ خِطَابِهِمْ يُخَاطِبُ الصَّغِيرُ الكبير بياعم احْتِرَامًا لَهُ وَرَفْعًا لِمَرْتَبَتِهِ وَلَا يَحْصُلُ هَذَا الغرض بقولها يا بن عَمِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
قَوْلُهُ (هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) النَّامُوسُ بِالنُّونِ وَالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَهُوَ جِبْرِيلُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ وَغَرِيبِ الْحَدِيثِ النَّامُوسُ فِي اللُّغَةِ صَاحِبُ سِرِّ الْخَيْرِ وَالْجَاسُوسُ صَاحِبُ سِرِّ الشَّرِّ وَيُقَالُ نَمَسْتُ السِّرَّ بِفَتْحِ النُّونِ وَالْمِيمِ أَنْمِسُهُ بِكَسْرِ الْمِيمِ نَمْسًا أَيْ كَتَمْتُهُ وَنَمَسْتُ الرَّجُلَ وَنَامَسْتُهُ سَارَرْتُهُ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُسَمَّى النَّامُوسَ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ الْمُرَادُ هُنَا قَالَ الْهَرَوِيُّ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّهُ بِالْغَيْبِ وَالْوَحْيِ.
.
وَأَمَّا .
قَوْلُهُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَذَا هُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا وَهُوَ الْمَشْهُورُ وَرُوِّينَاهُ فِي غَيْرِ الصَّحِيحِ نَزَلَ عَلَى عِيسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وكلاهما صحيح قوله (ياليتنى فِيهَا جَذَعًا) الضَّمِيرُ فِيهَا يَعُودُ إِلَى أَيَّامِ النُّبُوَّةِ وَمُدَّتِهَا وَقَولُهُ جَذَعًا يَعْنِي شَابًّا قَوِيًّا حَتَّى أُبَالِغَ فِي نُصْرَتِكَ وَالْأَصْلُ فِي الْجَذَعِ لِلدَّوَابِّ وَهُوَ هُنَا اسْتِعَارَةٌ.
.
وَأَمَّا .
قَوْلُهُ جَذَعًا فَهَكَذَا هُوَ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا بالنصب قال القاضي ووقع فى رواية بن مَاهَانَ جَذَعٌ بِالرَّفْعِ وَكَذَلِكَ هُوَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ فِي الْبُخَارِيِّ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ ظَاهِرَةٌ.
.
وَأَمَّا النَّصْبُ فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وَجْهِهِ فَقَالَ الْخَطَّابِيُّ والمازرى وغيرهمانُصِبَ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ الْمَحْذُوفَةِ تَقْدِيرُهُ لَيْتَنِي أَكُونُ فِيهَا جَذَعًا وَهَذَا يَجِيءُ عَلَى مَذْهَبِ النَّحْوِيِّينَ الْكُوفِيِّينَ.
وَقَالَ الْقَاضِي الظَّاهِرُ عِنْدِي أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ وَخَبَرُ لَيْتَ .
قَوْلُهُ فِيهَا وَهَذَا الَّذِي اخْتَارَهُ الْقَاضِي هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي اخْتَارَهُ أَهْلُ التَّحْقِيقِ وَالْمَعْرِفَةِ مِنْ شُيُوخِنَا وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم (أو مخرجى هُمْ) هُوَ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ هَكَذَا الرواية ويجوز تخفيف الياء على وجه والصحيح الْمَشْهُورِ تَشْدِيدُهَا وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى بِمُصْرِخِيَّ وَهُوَ جَمْعُ مُخْرِجٍ فَالْيَاءُ الْأُولَى يَاءُ الْجَمْعِ وَالثَّانِيَةُ ضَمِيرُ الْمُتَكَلِّمِ وَفُتِحَتْ لِلتَّخْفِيفِ لِئَلَّا يَجْتَمِعَ الْكَسْرَةُ وَالْيَاءَانِ بَعْدَ كَسْرَتَيْنِ .
قَوْلُهُ (وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ) أَيْ وَقْتَ خُرُوجِكَ .
قَوْلُهُ (أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا) هُوَ بِفَتْحِ الزَّايِ وَبِهَمْزَةٍ قَبْلَهَا أَيْ قَوِيًّا بَالِغًا .
قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى (أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ قَالَ قَالَ الزُّهْرِيُّ وَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ) هَكَذَا هُوَ فِي الْأُصُولِ وَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بِالْوَاوِ وَهُوَ الصَّحِيحُ وَالْقَائِلُ وَأَخْبَرَنِي هُوَ الزُّهْرِيُّ وَفِي هَذِهِ الْوَاوِ فَائِدَةٌ لَطِيفَةٌ قَدَّمْنَاهَا فِي مَوَاضِعَ وَهِيَ أَنَّ مَعْمَرًا سَمِعَ مِنَ الزُّهْرِيِّ أَحَادِيثَ قَالَ الزُّهْرِيُّ فِيهَا أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بِكَذَا وَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بِكَذَا إِلَى آخِرِهَا فَإِذَا أَرَادَ مَعْمَرٌ رِوَايَةَ غَيْرِ الْأَوَّلِ قَالَ قَالَ الزُّهْرِيُّ وَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ فَأَتَى بِالْوَاوِ لِيَكُونَ رَاوِيًا كَمَا سَمِعَ وَهَذَا مِنَ الِاحْتِيَاطِ وَالتَّحْقِيقِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى الْأَلْفَاظِ وَالتَّحَرِّي فِيهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
قَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَعْنِي رِوَايَةَ مَعْمَرٍ (فَوَاللَّهِ لَا يُحْزِنْكَ اللَّهُ) هُوَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ وَقَدْ قَدَّمْنَا بَيَانَهُ قولهفِي رِوَايَةِ عُقَيْلٍ وَهُوَ بِضَمِّ الْعَيْنِ (يَرْجُفُ فُؤَادَهُ) قَدْ قَدَّمْنَا فِي حَدِيثِ أَهْلُ الْيَمَنِ أَرَقُّ قُلُوبًا بَيَانَ الِاخْتِلَافِ فِي الْقَلْبِ وَالْفُؤَادِ.
.
وَأَمَّا عِلْمُ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِرَجَفَانِ فُؤَادِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا رَأَتْهُ حَقِيقَةً وَيَجُوزُ أَنَّهَا لَمْ تَرَهُ وَعَلِمَتْهُ بِقَرَائِنَ وَصُورَةِ الْحَالِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
[160] بن سرح بِفَتْح أَوله ومهملات أَن عَائِشَة أخْبرته قَالَت كَانَ أول مَا بُدِئَ بِهِ هُوَ مُرْسل صحابية فَإِنَّهَا لم تدْرك هَذِه الْقَضِيَّة فإمَّا أَن تكون سَمعتهَا من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو من صَحَابِيّ قَالَ بن حجر وَيُؤَيّد سماعهَا مِنْهُ قَوْلهَا فِي أثْنَاء الحَدِيث قَالَ فأخذني فغطني من الْوَحْي من بَيَانِيَّة أَو تبعيضية مثل بِالنّصب حَال فلق الصُّبْح بِفَتْح الْفَاء وَاللَّام وَحكي سكونها ضياؤه يضْرب مثلا للشَّيْء الْوَاضِح الْبَين الْخَلَاء بِالْمدِّ الْخلْوَة بِغَار حراء بِكَسْر الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الرَّاء وَالْمدّ مَصْرُوف وروى بِفَتْح الْحَاء وَالْقصر جبل بَينه وَبَين مَكَّة ثَلَاثَة أَمْيَال على يسَار الذَّاهِب من مَكَّة إِلَى منى يَتَحَنَّث فِيهِ فِي سيرة بن هِشَام يتحنف بِالْفَاءِ أَي يتتبع الحنيفية وَهِي دين إِبْرَاهِيم وَالْفَاء تبدل ثاء فِي كثير من كَلَامهم وَهُوَ التَّعَبُّد مدرج فِي الْخَبَر قطعا قَالَ بن حجر وَهُوَ يحْتَمل أَن يكون من كَلَام عُرْوَة أَو من دونه قَالَ وَجزم الطَّيِّبِيّ بِأَنَّهُ من تَفْسِير الزُّهْرِيّ وَلم يذكر دَلِيله قَالَ وَلم يَأْتِ التَّصْرِيح بِصفة تعبده لَكِن فِي رِوَايَة عبيد بن عُمَيْر عِنْد بن إِسْحَاق فيطعم من يرد عَلَيْهِ من الْمُشْركين وَجَاء عَن بعض الْمَشَايِخ أَنه كَانَ يتعبد بالتفكر اللَّيَالِي بِالنّصب على الظّرْف وتعلقه بيتحنث لَا بالتعبد أولات الْعدَد فِي رِوَايَة بن إِسْحَاق أَنه كَانَ يعْتَكف شهر رَمَضَان إِلَى أَهله أَي خَدِيجَة لمثلهَا أَي اللَّيَالِي فجئه الْحق بِكَسْر الْجِيم وهمزة أَي بغته وَيُقَال بِفَتْح الْجِيم أَيْضا فَجَاءَهُ الْملك الْفَاء تفسيرية لَا تعقبية فَقَالَ اقْرَأ عِنْد بن إِسْحَاق من مُرْسل عبيد بن عُمَيْر أَتَانِي جِبْرِيل بنمط من ديباج فِيهِ كتاب فَقَالَ اقْرَأ مَا أَنا بقارئ مَا نَافِيَة أَي مَا أحسن الْقِرَاءَة وَقيل استفهامية ورد بِدُخُول الْبَاء فِي الْخَبَر فغطني بغين مُعْجمَة وطاء مُهْملَة أَي عصرني وضمني وَفِي مُسْند الطَّيَالِسِيّ فأخذني بحلقي وَلابْن أبي شيبَة فغمني وَلابْن إِسْحَاق فغتني وَالْكل بِمَعْنى حَتَّى بلغ مني الْجهد بِفَتْح الْجِيم وَضمّهَا لُغَتَانِ وَهُوَ الْغَايَة وَالْمَشَقَّة وبرفع الدَّال ونصبها أَي بلغ الْجهد مني مبلغه وغايته أَو بلغ جِبْرِيل مني الْجهد أَرْسلنِي أطلقني فَرجع بهَا أَي بِالْآيَاتِ ترجف ترْعد وتضطرب بوادره بِالْمُوَحَّدَةِ جمع بادرة وَهِي اللحمة الَّتِي بَين الْمنْكب والعنق تضطرب عِنْد فزع الْإِنْسَان زَمِّلُونِي أَي غطوني بالثياب ولفوني بهَا الروع بِفَتْح الرَّاء الْفَزع لقد خشيت على نَفسِي قيل خشِي الْجُنُون وَأَن يكون مَا رَآهُ من جنس الكهانة قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ وَذَلِكَ قبل حُصُول الْعلم الضَّرُورِيّ لَهُ أَن الَّذِي جَاءَهُ ملك وَأَنه من عِنْد الله وَقيل الْمَوْت من شدَّة الرعب وَقيل الْمَرَض وَقيل الْعَجز عَن حمل أعباء النُّبُوَّة وَقيل عدم الصَّبْر على أَذَى قومه وَقيل أَن يقتلوه وَقيل أَن يكذبوه وَقيل أَن يعيروه كلا نفي وإبعاد لَا يخزيك الله بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وَالزَّاي من الخزي وَهُوَ الفضيحة والهوان الْكل بِفَتْح الْكَاف الثّقل قَالَ النَّوَوِيّ وَيدخل فِي حمل الْكل الْإِنْفَاق على الضَّعِيف واليتيم والعيال وَغير ذَلِك وتكسب الْمَعْدُوم بِفَتْح التَّاء فِي الْأَشْهر وَرُوِيَ بضَمهَا وَعَلِيهِ فَالْمَعْنى تكسب غَيْرك المَال الْمَعْدُوم أَي تعطيه إِيَّاه تَبَرعا فَحذف أحد المفعولين وَقيل تُعْطِي النَّاس مَا لَا يجدونه عِنْد غَيْرك من نفائس الْفَوَائِد وَمَكَارِم الْأَخْلَاق وَأما الْفَتْح فَقيل مَعْنَاهُ كالضم وَقيل مَعْنَاهُ تكسب المَال الْمَعْدُوم وتصيب مِنْهُ مَا يعجز غَيْرك عَن تَحْصِيله وَكَانَت الْعَرَب تتمادح بكسب المَال لَا سِيمَا قُرَيْش وَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم محظوظا فِي تِجَارَته وتقري بِفَتْح أَوله بِلَا همز نَوَائِب جمع نائبة وَهِي الْحَادِثَة ورقة بِفَتْح الرَّاء تنصر بالنُّون أَي صَار نَصْرَانِيّا فَقَالَت لَهُ خَدِيجَة يَا عَم قَالَ بن حجر هَذَا وهم فَإِنَّهُ بن عَمها لَا عَمها فَالصَّوَاب مَا فِي رِوَايَة البُخَارِيّ يَا بن عَم قَالَ وَمَا أجَاب بِهِ النَّوَوِيّ من أَنَّهَا سمته عَمَّا مجَازًا للاحترام على عَادَة الْعَرَب فِي خطابهم الْكَبِير ب يَا عَم احتراما لَهُ فَغير مُتَّجه لِأَن الْقِصَّة لم تَتَعَدَّد ومخرجها مُتحد فَلَا يحمل على أَنَّهَا قَالَت ذَلِك مرَّتَيْنِ فَتعين الْحمل على الْحَقِيقَة انْتهى قلت وَعِنْدِي أَنَّهَا قَالَت بن عَم على حذف حرف النداء فتصحفت بن بِأَيّ هَذَا الناموس إِشَارَة إِلَى الْملك الَّذِي ذكره النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي خَبره وَهُوَ اسْم لجبريل وَأَصله فِي اللُّغَة صَاحب سر الْخَيْر يُقَال نمست الرجل أَي ساررته ونمست السِّرّ كتمته أنزل على مُوسَى فِي رِوَايَة عِنْد أبي نعيم فِي الدَّلَائِل على عِيسَى قَالَ النَّوَوِيّ وَكِلَاهُمَا صَحِيح يَا لَيْتَني فِيهَا أَي فِي أَيَّام النُّبُوَّة ومدتها جذعا أَي شَابًّا قَوِيا حَتَّى أبالغ فِي نصرتك وَأَصله للدواب فاستعير هُنَا ونصبه على الْحَال فِيمَا رَجحه القَاضِي وَالنَّوَوِيّ وَفِي رِوَايَة بن ماهان بِالرَّفْع خبر لَيْت قَالَ بن بَرى الْمَشْهُور عِنْد أهل اللُّغَة والْحَدِيث جذع بِسُكُون الْعين قلت هُوَ رجز مَشْهُور عِنْدهم يتمثلون بِهِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَني فِيهَا جذع أخب فِيهَا وأضع أَو مخرجي هم بِهَمْزَة الإستفهام وَاو الْعَطف الْمَفْتُوحَة ومخرجي بتَشْديد الْيَاء جمع مخرج قلبت وَاو الْجمع يَاء وأدغمت فِي يَاء الْإِضَافَة وَهُوَ خبر مقدم وهم مُبْتَدأ مُؤخر وَإِن يدركني يَوْمك أَي وَقت خُرُوجك مؤزرا بِهَمْزَة وزاي وَرَاء أَي قَوِيا بَالغا من الأزر وَهُوَ الشدَّة وَالْقُوَّة وَأنكر الْقَزاز فَقَالَ لَيْسَ فِي اللُّغَة مؤزرا من الأزر وَإِنَّمَا هُوَ مؤازر من وازرته أَي عاونته غير أَنه قَالَ فوَاللَّه لَا يحزنك الله يَعْنِي بِالْمُهْمَلَةِ وَالنُّون من الْحزن وَفِي أَوله الْفَتْح وَالضَّم من حزنه لُغَة قُرَيْش وأحزنه لُغَة تَمِيم.
وَقَالَ قَالَت خَدِيجَة أَي بن عَم أَي بدل قَول الرَّاوِي فِي الطَّرِيق الأولى أَي عَم وَهُوَ الصَّوَاب فَكَأَنَّهُ سقط من تِلْكَ لَفْظَة بن
[ سـ
:263 ... بـ
:160]
حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَرْحٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا قَالَتْ كَانَ أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةَ فِي النَّوْمِ فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ فَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ يَتَحَنَّثُ فِيهِ وَهُوَ التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ أُوْلَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهِ وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا حَتَّى فَجِئَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ اقْرَأْ قَالَ مَا أَنَا بِقَارِئٍ قَالَ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ اقْرَأْ قَالَ.
قُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ قَالَ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ أَقْرَأْ فَقُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ فَقَالَ زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ ثُمَّ قَالَ لِخَدِيجَةَ أَيْ خَدِيجَةُ مَا لِي وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ قَالَ لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي قَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ كَلَّا أَبْشِرْ فَوَاللَّهِ لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا وَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتَقْرِي الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى وَهُوَ ابْنُ عَمِّ خَدِيجَةَ أَخِي أَبِيهَا وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ وَيَكْتُبُ مِنْ الْإِنْجِيلِ بِالْعَرَبِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ أَيْ عَمِّ اسْمَعْ مِنْ ابْنِ أَخِيكَ قَالَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ يَا ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرَى فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرَ مَا رَآهُ فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا يَا لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا حِينَ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ قَالَ وَرَقَةُ نَعَمْ لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ قَالَ قَالَ الزُّهْرِيُّ وَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْوَحْيِ وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِمِثْلِ حَدِيثِ يُونُسَ غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ فَوَاللَّهِ لَا يُحْزِنُكَ اللَّهُ أَبَدًا.
وَقَالَ قَالَتْ خَدِيجَةُ أَيْ ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنْ ابْنِ أَخِيكَ وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ جَدِّي قَالَ حَدَّثَنِي عُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ سَمِعْتُ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُ قَالَتْ عَائِشَةُ زَوْجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَجَعَ إِلَى خَدِيجَةَ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ وَاقْتَصَّ الْحَدِيثَ بِمِثْلِ حَدِيثِ يُونُسَ وَمَعْمَرٍ وَلَمْ يَذْكُرْ أَوَّلَ حَدِيثِهِمَا مِنْ قَوْلِهِ أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ وَتَابَعَ يُونُسَ عَلَى قَوْلِهِ فَوَاللَّهِ لَا يَخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا وَذَكَرَ قَوْلَ خَدِيجَةَ أَيْ ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنْ ابْنِ أَخِيكَ
فَقَوْلُهُ فِي الْإِسْنَادِ أَبُو الطَّاهِرِ بْنُ السَّرْحِ هُوَ بِالسِّينِ وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَتَيْنِ وَالسِّينُ مَفْتُوحَةٌ
وَقَوْلُهُ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ كَانَ أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ مَرَاسِيلِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَإِنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَمْ تُدْرِكْ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ فَتَكُونُ قَدْ سَمِعَتْهَا مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ مِنَ الصَّحَابِيِّ وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي الْفُصُولِ أَنَّ مُرْسَلَ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ إِلَّا مَا انْفَرَدَ بِهِ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفِرَايِنِيُّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
وَقَوْلُهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا الرُّؤْيَا الصَّادِقَةَ وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - " الرُّؤْيَا الصَّالِحَةَ وَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَفِي مِنْ هُنَا قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا لِبَيَانِ الْجِنْسِ وَالثَّانِي لِلتَّبْعِيضِ وَذَكَرَهُمَا الْقَاضِي
وَقَوْلُهَا فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ فَلَقُ الصُّبْحِ وَفَرَقُ الصُّبْحِ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَاللَّامِ وَالرَّاءِ هُوَ ضِيَاؤُهُ وَإِنَّمَا يُقَالُ هَذَا فِي الشَّيْءِ الْوَاضِحِ الْبَيِّنِ قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَغَيْرُهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِنَّمَا ابْتُدِئَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالرُّؤْيَا لِئَلَّا يَفْجَأَهُ الْمَلَكُ وَيَأْتِيهِ صَرِيحُ النُّبُوَّةِ بَغْتَةً فَلَا تَحْتَمِلُهَا قُوَى الْبَشَرِيَّةِ فَبُدِئَ بِأَوَّلِ خِصَالِ النُّبُوَّةِ وَتَبَاشِيرِ الْكَرَامَةِ مِنْ صِدْقِ الرُّؤْيَا وَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ مِنْ رُؤْيَةِ الضَّوْءِ وَسَمَاعِ الصَّوْتِ وَسَلَامِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ عَلَيْهِ بِالنُّبُوَّةِ
قَوْلُهَا ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ فَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ يَتَحَنَّثُ فِيهِ وَهُوَ التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ أُولَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهِ وَيَتَزَوَّدَ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا حَتَّى فَجَأَهُ الْحَقُّ أَمَّا الْخَلَاءُ فَمَمْدُودٌ وَهُوَ الْخَلْوَةُ وَهِيَ شَأْنُ الصَّالِحِينَ وَعِبَادِ اللَّهِ الْعَارِفِينَ قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حُبِّبَتِ الْعُزْلَةُ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّ مَعَهَا فَرَاغَ الْقَلْبِ وَهِيَ مُعِينةٌ عَلَى التَّفَكُّرِ وَبِهَا يَنْقَطِعُ عَنْ مَأْلُوفَاتِ الْبَشَرِ وَيَتَخَشَّعُ قَلْبُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْغَارُ فَهُوَ الْكَهْفُ وَالنَّقْبُ فِي الْجَبَلِ وَجَمْعُهُ غِيرَانٌ وَالْمَغَارُ وَالْمَغَارَةُ بِمَعْنَى الْغَارِ وَتَصْغِيرُ الْغَارِ غُوَيْرٌ
وَأَمَّا حِرَاءٌ فَبِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ وَبِالْمَدِّ وَهُوَ مَصْرُوفٌ وَمُذَكَّرٌ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ.
وَقَالَ الْقَاضِي فِيهِ لُغَتَانِ التَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ وَالتَّذْكِيرُ أَكْثَرُ فَمَنْ ذَكَّرَهُ صَرَفَهُ وَمَنْ أَنَّثَهُ لَمْ يَصْرِفْهُ أَرَادَ الْبُقْعَةَ أَوِ الْجِهَةَ الَّتِي فِيهَا الْجَبَلُ قَالَ الْقَاضِي.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِيهِ حَرَى بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالْقَصْرِ وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ قَالَ أَبُو عُمَرَ الزَّاهِدُ صَاحِبُ ثَعْلَبٍ وَأَبُو سُلَيْمَانُ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُمَا أَصْحَابُ الْحَدِيثِ وَالْعَوَامُّ يُخْطِئُونَ فِي حِرَاءٍ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ يَفْتَحُونَ الْحَاءَ وَهِيَ مَكْسُورَةٌ وَيَكْسِرُونَ الرَّاءَ وَهِيَ مَفْتُوحَةٌ وَيَقْصُرُونَ الْأَلِفَ وَهِيَ مَمْدُودَةٌ وَحِرَاءٌ جَبَلٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ نَحْوَ ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ عَنْ يَسَارِ الذَّاهِبِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى مِنًى وَاللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا التَّحَنُّثُ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ وَالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ فَقَدْ فَسَّرَهُ بِالتَّعَبُّدِ وَهُوَ تَفْسِيرٌ صَحِيحٌ وَأَصْلُ الْحِنْثِ الْإِثْمُ فَمَعْنَى يَتَحَنَّثُ يَتَجَنَّبُ الْحِنْثَ فَكَأَنَّهُ بِعِبَادَتِهِ يَمْنَعُ نَفْسَهُ مِنَ الْحِنْثِ وَمِثْلُ يَتَحَنَّثُ يَتَحَرَّجُ وَيَتَأَثَّمُ أَيْ يَتَجَنَّبُ الْحَرَجَ وَالْإِثْمَ
وَأَمَّا قَوْلُهَا اللَّيَالِيَ أُولَاتِ الْعَدَدِ فَمُتَعَلِّقٌ بِالتَّحَنُّثِ لَا بِالتَّعَبُّدِ وَمَعْنَاهُ يَتَحَنَّثُ اللَّيَالِيَ وَلَوْ جُعِلَ مُتَعَلِّقًا بِالتَّعَبُّدِ فَسَدَ الْمَعْنَى فَإِنَّ التَّحَنُّثَ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ اللَّيَالِي بَلْ يُطْلَقُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَهَذَا التَّفْسِيرُ اعْتَرَضَ بَيْنَ كَلَامِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
وَأَمَّا كَلَامُهَا فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ اللَّيَالِيَ أُولَاتِ الْعَدَدِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
وَقَوْلُهَا فَجِئَهُ الْحَقُّ أَيْ جَاءَهُ الْوَحْيُ بَغْتَةً فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ مُتَوَقِّعًا لِلْوَحْيِ وَيُقَالُ فَجِئَهُ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَبَعْدَهَا هَمْزَةٌ مَفْتُوحَةٌ وَيُقَالُ فَجَأَهُ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالْهَمْزَةِ لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ حَكَاهُمَا الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ
قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا أَنَا بِقَارِئٍ مَعْنَاهُ لَا أُحْسِنَ الْقِرَاءَةَ فَمَا نَافِيَةٌ هَذَا هُوَ الصَّوَابُ وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيهَا خِلَافًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا نَافِيَةً وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا اسْتِفْهَامِيَّةً وَضَعَّفُوهُ بِإِدْخَالِ الْبَاءِ فِي الْخَبَرِ قَالَ الْقَاضِي وَيُصَحِّحُ قَوْلَ مَنْ قَالَ اسْتِفْهَامِيَّةً رِوَايَةُ مَنْ رَوَى مَا أَقْرَأُ ؟ وَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ مَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَيْضًا نَافِيَةً وَاللَّهُ أَعْلَمُ
قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي أَمَّا غَطَّنِي فَبِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَالطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَمَعْنَاهُ عَصَرَنِي وَضَمَّنِي يُقَالُ غَطَّهُ وَغَتَّهُ وَضَغَطَهُ وَعَصَرَهُ وَخَنَقَهُ وَغَمَزَهُ كُلُّهُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ
وَأَمَّا الْجَهْدُ فَيَجُوزُ فَتْحُ الْجِيمِ وَضَمُّهَا لُغَتَانِ وَهُوَ الْغَايَةُ وَالْمَشَقَّةُ وَيَجُوزُ نَصْبُ الدَّالِ وَرَفْعُهَا فَعَلَى النَّصْبِ بَلَغَ جِبْرِيلُ مِنِّي الْجَهْدَ وَعَلَى الرَّفْعِ بَلَغَ الْجَهْدُ مِنِّي مَبْلَغَهُ وَغَايَتَهُ وَمِمَّنْ ذَكَرَ الْوَجْهَيْنِ فِي نَصْبِ الدَّالِ وَرَفْعِهَا صَاحِبُ التَّحْرِيرِ وَغَيْرُهُ
وَأَمَّا أَرْسَلَنِي فَمَعْنَاهُ أَطْلَقَنِي قَالَ الْعُلَمَاءُ وَالْحِكْمَةُ فِي الْغَطِّ شَغْلُهُ مِنَ الِالْتِفَاتِ وَالْمُبَالَغَةُ فِي أَمْرِهِ بِإِحْضَارِ قَلْبِهِ لِمَا يَقُولُهُ لَهُ وَكَرَّرَهُ ثَلَاثًا مُبَالَغَةً فِي التَّنَبُّهِ فَفِيهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمُعَلِّمِ أَنْ يَحْتَاطَ فِي تَنْبِيهِ الْمُتَعَلِّمِ وَأَمْرِهِ بِإِحْضَارِ قَلْبِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ هَذَا دَلِيلٌ صَرِيحٌ فِي أَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ اقْرَأْ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجَمَاهِيرُ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَقِيلَ أَوَّلُهُ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ وَسَنَذْكُرُهُ بَعْدَ هَذَا فِي مَوْضِعِهِ مِنْ هَذَا الْبَابِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَاسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ بَعْضُ مَنْ يَقُولُ إِنَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لَيْسَتْ مِنَ الْقُرْآنِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ لِكَوْنِهَا لَمْ تُذْكَرْ هُنَا وَجَوَابُ الْمُثْبِتِينَ لَهَا أَنَّهَا لَمْ تَنْزِلْ أَوَّلًا بَلْ نَزَلَتِ الْبَسْمَلَةُ فِي وَقْتٍ آخَرَ كَمَا نَزَلَ بَاقِي السُّورَةِ فِي وَقْتٍ آخَرَ
قَوْلُهَا تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَمَعْنَى تَرْجُفُ تَرْعَدُ وَتَضْطَرِبُ وَأَصْلُهُ شِدَّةُ الْحَرَكَةِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَسَائِرُ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالْغَرِيبِ وَهِيَ اللَّحْمَةُ الَّتِي بَيْنَ الْمَنْكِبِ وَالْعُنُقِ تَضْطَرِبُ عِنْدَ فَزَعِ الْإِنْسَانِ
قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي هَكَذَا هُوَ فِي الرِّوَايَاتِ مُكَرَّرٌ مَرَّتَيْنِ وَمَعْنَى زَمِّلُونِي غَطُّونِي بِالثِّيَابِ وَلُفُّونِي بِهَا وَقَوْلُهُ فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ هُوَ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَهُوَ الْفَزَعُ
قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَيْسَ هُوَ بِمَعْنَى الشَّكِّ فِيمَا أَتَاهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَكِنَّهُ رُبَّمَا خَشِيَ أَنْ لَا يَقْوَى عَلَى مُقَاوَمَةِ هَذَا الْأَمْرِ وَلَا يَقْدِرَ عَلَى حَمْلِ أَعْبَاءِ الْوَحْيِ فَتَزْهَقَ نَفْسُهُ أَوْ يَكُونَ هَذَا لِأَوَّلِ مَا رَأَى التَّبَاشِيرَ فِي النَّوْمِ وَالْيَقَظَةِ وَسَمِعَ الصَّوْتَ قَبْلَ لِقَاءِ الْمَلَكِ وَتَحَقُّقِهِ رِسَالَةَ رَبِّهِ فَيَكُونُ خَافَ أَنْ يَكُونَ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ فَأَمَّا مُنْذُ جَاءَهُ الْمَلَكُ بِرِسَالَةِ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الشَّكُّ فِيهِ وَلَا يَخْشَى مِنْ تَسَلُّطِ الشَّيْطَانِ عَلَيْهِ وَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ يُحْمَلُ جَمِيعُ مَا وَرَدَ مِنْ مِثْلِ هَذَا فِي حَدِيثِ الْبَعْثِ هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَذَكَرَ أَيْضًا فِي كِتَابِهِ الشِّفَاءُ هَذَيْنِ الِاحْتِمَالَيْنِ فِي كَلَامٍ مَبْسُوطٍ وَهَذَا الِاحْتِمَالُ الثَّانِي ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ خِلَافُ تَصْرِيحِ الْحَدِيثِ لِأَنَّ هَذَا كَانَ بَعْدَ غَطِّ الْمَلَكِ وَإِتْيَانِهِ بِاقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
قَوْلُهَا قَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ كَلَّا أَبْشِرْ فَوَاللَّهِ لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا وَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتُقْرِي الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ أَمَّا قَوْلُهَا كَلَّا فَهِيَ هُنَا كَلِمَةُ نَفْيٍ وَإِبْعَادٍ وَهَذَا أَحَدُ مَعَانِيهَا قَدْ تَأْتِي كَلَّا بِمَعْنَى حَقًّا وَبِمَعْنَى أَلَا الَّتِي لِلتَّنْبِيهِ يُسْتَفْتَحُ بِهَا الْكَلَامُ وَقَدْ جَاءَتْ فِي الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ عَلَى أَقْسَامٍ وَقَدْ جَمَعَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْأَنْبَارِيِّ أَقْسَامَهَا وَمَوَاضِعَهَا فِي بَابٍ مِنْ كِتَابِهِ الْوَقْفُ وَالِابْتِدَاءُ
وَأَمَّا قَوْلُهَا لَا يُخْزِيكَ فَهُوَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَبِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ كَذَا هُوَ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ وَعُقَيْلٍ .
وَقَالَ مَعْمَرٌ فِي رِوَايَتِهِ يُحْزِيكَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ وَيَجُوزُ فَتْحُ الْيَاءِ فِي أَوَّلِهِ وَضَمُّهَا وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ وَالْخِزْيُ الْفَضِيحَةُ وَالْهَوَانُ
وَأَمَّا صِلَةُ الرَّحِمِ فَهِيَ الْإِحْسَانُ إِلَى الْأَقَارِبِ عَلَى حَسَبِ حَالِ الْوَاصِلِ وَالْمَوْصُولِ فَتَارَةً تَكُونُ بِالْمَالِ وَتَارَةً بِالْخِدْمَةِ وَتَارَةً بِالزِّيَارَةِ وَالسَّلَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ
وَأَمَّا الْكَلُّ فَهُوَ بِفَتْحِ الْكَافِ وَأَصْلُهُ الثِّقْلُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ وَيَدْخُلُ فِي حَمْلِ الْكَلِّ الْإِنْفَاقُ عَلَى الضَّعِيفِ وَالْيَتِيمِ وَالْعِيَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَهُوَ مِنَ الْكَلَالِ وَهُوَ الْإِعْيَاءُ
وَأَمَّا قَوْلُهَا وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ فَهُوَ بِفَتْحِ التَّاءِ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ وَنَقَلَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ رِوَايَةِ الْأَكْثَرِينَ قَالَ وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ بِضَمِّهَا قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ ثَعْلَبٌ وَأَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ وَجَمَاعَاتٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ يُقَالُ كَسَبْتُ الرَّجُلَ مَالًا وَأَكْسَبْتُهُ مَالًا لُغَتَانِ أَفْصَحُهُمَا بِاتِّفَاقِهِمْ كَسَبْتُهُ بِحَذْفِ الْأَلْفِ
وَأَمَّا مَعْنَى تَكْسِبُ الْمَعْدُومَ فَمَنْ رَوَاهُ بِالضَّمِّ فَمَعْنَاهُ تُكْسِبُ غَيْرَكَ الْمَالَ الْمَعْدُومَ أَيْ تُعْطِيهِ إِيَّاهُ تَبَرُّعًا فَحَذَفَ أَحَدَ الْمَفْعُولَيْنِ وَقِيلَ مَعْنَاهُ تُعْطِي النَّاسَ مَا لَا يَجِدُونَهُ عِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ نَفَائِسِ الْفَوَائِدِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ
وَأَمَّا رِوَايَةُ الْفَتْحِ فَقِيلَ مَعْنَاهَا كَمَعْنَى الضَّمِّ وَقِيلَ مَعْنَاهَا تَكْسِبُ الْمَالَ الْمَعْدُومَ وَتُصِيبُ مِنْهُ مَا يَعْجِزُ غَيْرُكَ عَنْ تَحْصِيلِهِ وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَتَمَادَحُ بِكَسْبِ الْمَالِ الْمَعْدُومِ لَا سِيَّمَا قُرَيْشٌ وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَحْظُوظًا فِي تِجَارَتِهِ وَهَذَا الْقَوْلُ حَكَاهُ الْقَاضِي عَنْ ثَابِتٍ صَاحِبِ الدَّلَائِلِ وَهُوَ ضَعِيفٌ أَوْ غَلَطٌ وَأَيُّ مَعْنًى لِهَذَا الْقَوْلِ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ إِلَّا أَنَّهُ يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ بِأَنْ يُضَمَّ إِلَيْهِ زِيَادَةٌ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ تَكْسِبُ الْمَالَ الْعَظِيمَ الَّذِي يَعْجِزُ عَنْهُ غَيْرُكَ ثُمَّ تَجُودُ بِهِ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ وَأَبْوَابِ الْمَكَارِمِ كَمَا ذَكَرَتْ مِنْ حَمْلِ الْكَلِّ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَقِرَى الضَّيْفِ وَالْإِعَانَةِ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ فَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ فِي هَذَا الْحَرْفِ.
وَأَمَّا صَاحِبُ التَّحْرِيرِ فَجَعَلَ الْمَعْدُومَ عِبَارَةً عَنِ الرَّجُلِ الْمُحْتَاجِ الْمُعْدِمِ الْعَاجِزِ عَنِ الْكَسْبِ وَسَمَّاهُ مَعْدُومًا لِكَوْنِهِ كَالْمَعْدُومِ الْمَيِّتِ حَيْثُ لَمْ يَتَصَرَّفْ فِي الْمَعِيشَةِ كَتَصَرُّفِ غَيْرِهِ قَالَ وَذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ أَنَّ صَوَابَهُ الْمُعْدِمَ بِحَذْفِ الْوَاوِ قَالَ وَلَيْسَ كَمَا قَالَ الْخَطَّابِيُّ بَلْ مَا رَوَاهُ الرُّوَاةُ صَوَابٌ قَالَ وَقِيلَ مَعْنَى تَكْسِبُ الْمَعْدُومَ أَيْ تَسْعَى فِي طَلَبِ عَاجِزٍ تُنْعِشُهُ وَالْكَسْبُ هُوَ الِاسْتِفَادَةُ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ وَإِنْ كَانَ لَهُ بَعْضُ الِاتِّجَاهِ كَمَا حَرَّرْتُ لَفْظَهُ فَالصَّحِيحُ الْمُخْتَارُ مَا قَدَّمْتُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا قَوْلُهَا وَتَقْرِي الضَّيْفَ فَهُوَ بِفَتْحِ التَّاءِ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ يُقَالُ قَرَيْتُ الضَّيْفَ أُقْرِيهِ قِرًى بِكَسْرِ الْقَافِ مَقْصُورٌ وَقَرَاءً بِفَتْحِ الْقَافِ وَالْمَدِّ وَيُقَالُ لِلطَّعَامِ الَّذِي يُضَيِّفُهُ بِهِ قِرًى بِكَسْرِ الْقَافِ مَقْصُورٌ وَيُقَالُ لِفَاعِلِهِ قَارٍ مِثْلُ قَضَى فَهُوَ قَاضٍ
وَأَمَّا قَوْلُهَا وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ فَالنَّوَائِبُ جَمْعُ نَائِبَةٍ وَهِيَ الْحَادِثَةُ إِنَّمَا قَالَتْ نَوَائِبَ الْحَقِّ لِأَنَّ النَّائِبَةَ قَدْ تَكُونُ فِي الْخَيْرِ وَقَدْ تَكُونُ فِي الشَّرِّ قَالَ لَبِيدٌ
نَوَائِبُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ كِلَاهُمَا فَلَا الْخَيْرُ مَمْدُودٌ وَلَا الشَّرُّ لَازِبُ قَالَ الْعُلَمَاءُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مَعْنَى كَلَامِ خَدِيجَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - إِنَّكَ لَا يُصِيبُكَ مَكْرُوهٌ لِمَا جَعَلَ اللَّهُ فِيكَ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَكَرَمِ الشَّمَائِلِ وَذَكَرَتْ ضُرُوبًا مِنْ ذَلِكَ وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ وَخِصَالَ الْخَيْرِ سَبَبُ السَّلَامَةِ مِنْ مَصَارِعِ السُّوءِ
وَفِيهِ مَدْحُ الْإِنْسَانِ فِي وَجْهِهِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ لِمَصْلَحَةٍ نَظَرًا
وَفِيهِ تَأْنِيسُ مَنْ حَصَلَتْ لَهُ مَخَافَةً مِنْ أَمْرٍ وَتَبْشِيرُهُ وَذِكْرُ أَسْبَابِ السَّلَامَةِ لَهُ
وَفِيهِ أَعْظَمُ دَلِيلٍ وَأَبْلَغُ حُجَّةٍ عَلَى كَمَالِ خَدِيجَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَجَزَالَةِ رَأْيِهَا وَقُوَّةِ نَفْسِهَا وَثَبَاتِ قَلْبِهَا وَعِظَمِ فِقْهِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ
قَوْلُهَا : وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَعْنَاهُ صَارَ نَصْرَانِيًّا وَالْجَاهِلِيَّةُ مَا قَبْلَ رِسَالَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُمُّوا بِذَلِكَ لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ فَاحِشِ الْجَهَالَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
قَوْلُهَا وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ وَيَكْتُبُ مِنَ الْإِنْجِيلِ بِالْعَرَبِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَكْتُبَ هَكَذَا هُوَ فِي مُسْلِمٍ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ وَيَكْتُبُ بِالْعَرَبِيَّةِ وَوَقَعَ فِي أَوَّلِ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ فَيَكْتُبُ مِنَ الْإِنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ وَحَاصِلُهُمَا أَنَّهُ تَمَكَّنَ مِنْ مَعْرِفَةِ دِينِ النَّصَارَى بِحَيْثُ إِنَّهُ صَارَ يَتَصَرَّفُ فِي الْإِنْجِيلِ فَيَكْتُبُ أَيَّ مَوْضِعٍ شَاءَ مِنْهُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ إِنْ شَاءَ وَبِالْعَرَبِيَّةِ إِنْ شَاءَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
قَوْلُهَا فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَيْ عَمُّ اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى قَالَتْ خَدِيجَةُ أَيِ ابْنَ عَمِّ هَكَذَا هُوَ فِي الْأُصُولِ فِي الْأَوَّلِ عَمِّ وَفِي الثَّانِي ابْنَ عَمِّ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ أَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ ابْنُ عَمِّهَا حَقِيقَةً كَمَا ذَكَرَهُ أَوَّلًا فِي الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدٍ وَهِيَ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدٍ .
وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَسَمَّتْهُ عَمًّا مَجَازًا لِلِاحْتِرَامِ هَذِهِ عَادَةُ الْعَرَبِ فِي آدَابِ خِطَابِهِمْ يُخَاطِبُ الصَّغِيرُ الْكَبِيرَ بِيَا عَمِّ احْتِرَامًا لَهُ وَرَفْعًا لِمَرْتَبَتِهِ وَلَا يَحْصُلُ هَذَا الْغَرَضُ بِقَوْلِهَا يَا ابْنَ عَمِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
قَوْلُهُ هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النَّامُوسُ بِالنُّونِ وَالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَهُوَ جِبْرِيلُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ وَغَرِيبِ الْحَدِيثِ النَّامُوسُ فِي اللُّغَةِ صَاحِبُ سِرِّ الْخَيْرِ وَالْجَاسُوسُ صَاحِبُ سِرِّ الشَّرِّ وَيُقَالُ نَمَسْتُ السِّرَّ بِفَتْحِ النُّونِ وَالْمِيمِ أَنْمِسُهُ بِكَسْرِ الْمِيمِ نَمْسًا أَيْ كَتَمْتُهُ وَنَمَسْتُ الرَّجُلَ وَنَامَسْتُهُ سَارَرْتُهُ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُسَمَّى النَّامُوسَ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ الْمُرَادُ هُنَا قَالَ الْهَرَوِيُّ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّهُ بِالْغَيْبِ وَالْوَحْيِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَذَا هُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا وَهُوَ الْمَشْهُورُ وَرُوِّينَاهُ فِي غَيْرِ الصَّحِيحِ نَزَلَ عَلَى عِيسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ
قَوْلُهُ يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا الضَّمِيرُ فِيهَا يَعُودُ إِلَى أَيَّامِ النُّبُوَّةِ وَمُدَّتِهَا وَقَوْلُهُ جَذَعًا يَعْنِي شَابًّا قَوِيًّا حَتَّى أُبَالِغَ فِي نُصْرَتِكَ وَالْأَصْلُ فِي الْجَذَعِ لِلدَّوَابِّ وَهُوَ هُنَا اسْتِعَارَةٌ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ جَذَعًا فَهَكَذَا هُوَ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا بِالنَّصْبِ قَالَ الْقَاضِي وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاهَانَ جَذَعٌ بِالرَّفْعِ وَكَذَلِكَ هُوَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ فِي الْبُخَارِيِّ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ ظَاهِرَةٌ.
وَأَمَّا النَّصْبُ فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وَجْهِهِ فَقَالَ الْخَطَّابِيُّ وَالْمَازِرِيُّ وَغَيْرُهُمَا نُصِبَ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ الْمَحْذُوفَةِ تَقْدِيرُهُ لَيْتَنِي أَكُونُ فِيهَا جَذَعًا وَهَذَا يَجِيءُ عَلَى مَذْهَبِ النَّحْوِيِّينَ الْكُوفِيِّينَ .
وَقَالَ الْقَاضِي الظَّاهِرُ عِنْدِي أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ وَخَبَرُ لَيْتَ قَوْلُهُ فِيهَا وَهَذَا الَّذِي اخْتَارَهُ الْقَاضِي هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي اخْتَارَهُ أَهْلُ التَّحْقِيقِ وَالْمَعْرِفَةِ مِنْ شُيُوخِنَا وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ هُوَ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ هَكَذَا الرِّوَايَةُ وَيَجُوزُ تَخْفِيفُ الْيَاءِ عَلَى وَجْهِ الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ تَشْدِيدُهَا وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى بِمُصْرِخِيَّ وَهُوَ جَمْعُ مُخْرِجٍ فَالْيَاءُ الْأُولَى يَاءُ الْجَمْعِ وَالثَّانِيَةُ ضَمِيرُ الْمُتَكَلِّمِ وَفُتِحَتْ لِلتَّخْفِيفِ لِئَلَّا يَجْتَمِعَ الْكَسْرَةُ وَالْيَاءَانِ بَعْدَ كَسْرَتَيْنِ .
قَوْلُهُ : ( وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ ) أَيْ وَقْتَ خُرُوجِكَ .
قَوْلُهُ : ( أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا ) هُوَ بِفَتْحِ الزَّايِ وَبِهَمْزَةٍ قَبْلَهَا أَيْ قَوِيًّا بَالِغًا .
قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى : ( أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ قَالَ : قَالَ الزُّهْرِيُّ وَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ ) هَكَذَا هُوَ فِي الْأُصُولِ ( وَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ ) بِالْوَاوِ وَهُوَ الصَّحِيحُ وَالْقَائِلُ وَأَخْبَرَنِي هُوَ الزُّهْرِيُّ وَفِي هَذِهِ الْوَاوِ فَائِدَةٌ لَطِيفَةٌ قَدَّمْنَاهَا فِي مَوَاضِعَ وَهِيَ أَنَّ مَعْمَرًا سَمِعَ مِنَ الزُّهْرِيِّ أَحَادِيثَ قَالَ الزُّهْرِيُّ فِيهَا أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بِكَذَا وَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بِكَذَا إِلَى آخِرِهَا فَإِذَا أَرَادَ مَعْمَرٌ رِوَايَةَ غَيْرِ الْأَوَّلِ قَالَ : قَالَ الزُّهْرِيُّ : وَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ فَأَتَى بِالْوَاوِ لِيَكُونَ رَاوِيًا كَمَا سَمِعَ وَهَذَا مِنَ الِاحْتِيَاطِ وَالتَّحْقِيقِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى الْأَلْفَاظِ وَالتَّحَرِّي فِيهَا .
وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
قَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَعْنِي رِوَايَةَ مَعْمَرٍ : ( فَوَاللَّهِ لَا يُحْزِنْكَ اللَّهُ ) هُوَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ وَقَدْ قَدَّمْنَا بَيَانَهُ .
قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ ( عُقَيْلٍ ) وَهُوَ بِضَمِّ الْعَيْنِ : ( يَرْجُفُ فُؤَادَهُ ) قَدْ قَدَّمْنَا فِي حَدِيثِ أَهْلُ الْيَمَنِ أَرَقُّ قُلُوبًا بَيَانَ الِاخْتِلَافِ فِي الْقَلْبِ وَالْفُؤَادِ ..
وَأَمَّا عِلْمُ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِرَجَفَانِ فُؤَادِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا رَأَتْهُ حَقِيقَةً ، وَيَجُوزُ أَنَّهَا لَمْ تَرَهُ وَعَلِمَتْهُ بِقَرَائِنَ وَصُورَةِ الْحَالِ .
وَاللَّهُ أَعْلَمُ .