هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير، 
263 حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَرْحٍ ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ ، قَالَ : أَخْبَرَنِي يُونُسُ ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ ، قَالَ : حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ ، أَنَّ عَائِشَةَ ، زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا قَالَتْ : كَانَ أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةَ فِي النَّوْمِ ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ ، فَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ يَتَحَنَّثُ فِيهِ - وَهُوَ التَّعَبُّدُ - اللَّيَالِيَ أُوْلَاتِ الْعَدَدِ ، قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهِ وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا ، حَتَّى فَجِئَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ ، فَقَالَ : اقْرَأْ ، قَالَ : مَا أَنَا بِقَارِئٍ ، قَالَ : فَأَخَذَنِي ، فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي ، فَقَالَ : اقْرَأْ ، قَالَ : قُلْتُ : مَا أَنَا بِقَارِئٍ ، قَالَ : فَأَخَذَنِي ، فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي ، فَقَالَ : أَقْرَأْ ، فَقُلْتُ : مَا أَنَا بِقَارِئٍ ، فَأَخَذَنِي ، فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي ، فَقَالَ : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } ، فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ ، حَتَّى دَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ ، فَقَالَ : زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي ، فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ ، ثُمَّ قَالَ لِخَدِيجَةَ : أَيْ خَدِيجَةُ ، مَا لِي وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ ، قَالَ : لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي ، قَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ : كَلَّا أَبْشِرْ ، فَوَاللَّهِ ، لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا ، وَاللَّهِ ، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ ، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ ، وَتُكْسِبُ الْمَعْدُومَ ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ ، فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ خَدِيجَةَ أَخِي أَبِيهَا ، وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ ، وَيَكْتُبُ مِنَ الْإِنْجِيلِ بِالْعَرَبِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ ، فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ : أَيْ عَمِّ ، اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ ، قَالَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ : يَا ابْنَ أَخِي ، مَاذَا تَرَى ؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرَ مَا رَآهُ ، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ : هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا ، يَا لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا حِينَ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ ؟ قَالَ وَرَقَةُ : نَعَمْ لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا ، وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ ، قَالَ : قَالَ الزُّهْرِيُّ : وَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ ، عَنْ عَائِشَةَ ، أَنَّهَا قَالَتْ : أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْوَحْيِ وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِمِثْلِ حَدِيثِ يُونُسَ ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ : فَوَاللَّهِ ، لَا يُحْزِنُكَ اللَّهُ أَبَدًا ، وَقَالَ : قَالَتْ خَدِيجَةُ : أَيْ ابْنَ عَمِّ ، اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ ، وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ ، قَالَ : حَدَّثَنِي أَبِي ، عَنْ جَدِّي ، قَالَ : حَدَّثَنِي عُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ : سَمِعْتُ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ ، يَقُولُ : قَالَتْ عَائِشَةُ : زَوْجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَرَجَعَ إِلَى خَدِيجَةَ ، يَرْجُفُ فُؤَادُهُ ، وَاقْتَصَّ الْحَدِيثَ بِمِثْلِ حَدِيثِ يُونُسَ ، وَمَعْمَرٍ ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَوَّلَ حَدِيثِهِمَا مِنْ قَوْلِهِ : أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ ، وَتَابَعَ يُونُسَ عَلَى قَوْلِهِ ، فَوَاللَّهِ ِ لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا ، وَذَكَرَ قَوْلَ خَدِيجَةَ : أَيْ ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ
هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير،  وهو التعبد الليالي أولات العدد ، قبل أن يرجع إلى أهله ويتزود لذلك ، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها ، حتى فجئه الحق وهو في غار حراء ، فجاءه الملك ، فقال : اقرأ ، قال : ما أنا بقارئ ، قال : فأخذني ، فغطني حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني ، فقال : اقرأ ، قال : قلت : ما أنا بقارئ ، قال : فأخذني ، فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني ، فقال : أقرأ ، فقلت : ما أنا بقارئ ، فأخذني ، فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني ، فقال : { اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم } ، فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ترجف بوادره ، حتى دخل على خديجة ، فقال : زملوني زملوني ، فزملوه حتى ذهب عنه الروع ، ثم قال لخديجة : أي خديجة ، ما لي وأخبرها الخبر ، قال : لقد خشيت على نفسي ، قالت له خديجة : كلا أبشر ، فوالله ، لا يخزيك الله أبدا ، والله ، إنك لتصل الرحم ، وتصدق الحديث ، وتحمل الكل ، وتكسب المعدوم ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق ، فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ، وهو ابن عم خديجة أخي أبيها ، وكان امرأ تنصر في الجاهلية ، وكان يكتب الكتاب العربي ، ويكتب من الإنجيل بالعربية ما شاء الله أن يكتب ، وكان شيخا كبيرا قد عمي ، فقالت له خديجة : أي عم ، اسمع من ابن أخيك ، قال ورقة بن نوفل : يا ابن أخي ، ماذا ترى ؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رآه ، فقال له ورقة : هذا الناموس الذي أنزل على موسى صلى الله عليه وسلم ، يا ليتني فيها جذعا ، يا ليتني أكون حيا حين يخرجك قومك ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أو مخرجي هم ؟ قال ورقة : نعم لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عودي ، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا ، وحدثني محمد بن رافع ، حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، قال : قال الزهري : وأخبرني عروة ، عن عائشة ، أنها قالت : أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي وساق الحديث بمثل حديث يونس ، غير أنه قال : فوالله ، لا يحزنك الله أبدا ، وقال : قالت خديجة : أي ابن عم ، اسمع من ابن أخيك ، وحدثني عبد الملك بن شعيب بن الليث ، قال : حدثني أبي ، عن جدي ، قال : حدثني عقيل بن خالد ، قال ابن شهاب : سمعت عروة بن الزبير ، يقول : قالت عائشة : زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، فرجع إلى خديجة ، يرجف فؤاده ، واقتص الحديث بمثل حديث يونس ، ومعمر ، ولم يذكر أول حديثهما من قوله : أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة ، وتابع يونس على قوله ، فوالله لا يخزيك الله أبدا ، وذكر قول خديجة : أي ابن عم اسمع من ابن أخيك
هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير، 

: هذه القراءةُ حاسوبية، وما زالت قيدُ الضبطِ والتطوير، 

A'isha, the wife of the Messenger of Allah (ﷺ), reported:

The first (form) with which was started the revelation to the Messenger of Allah was the true vision in sleep. And he did not see any vision but it came like the bright gleam of dawn. Thenceforth solitude became dear to him and he used to seclude himself in the cave of Hira', where he would engage in tahannuth (and that is a worship for a number of nights) before returning to his family and getting provisions again for this purpose. He would then return to Khadija and take provisions for a like period, till Truth came upon him while he was in the cave of Hira'. There came to him the angel and said: Recite, to which he replied: I am not lettered. He took hold of me [the Apostle said] and pressed me, till I was hard pressed; thereafter he let me off and said: Recite. I said: I am not lettered. He then again took hold of me and pressed me for the second time till I was hard pressed and then let me off and said: Recite, to which I replied: I am not lettered. He took hold of me and pressed me for the third time, till I was hard pressed and then let me go and said: Recite in the name of your Lord Who created, created man from a clot of blood. Recite. And your most bountiful Lord is He Who taught the use of pen, taught man what he knew not (al-Qur'an, xcvi. 1-4). Then the Prophet returned therewith, his heart was trembling, and he went to Khadija and said: Wrap me up, wrap me up! So they wrapped him till the fear had left him. He then said to Khadija: O Khadija! what has happened to me? and he informed her of the happening, saying: I fear for myself. She replied: It can't be. Be happy. I swear by Allah that He shall never humiliate you. By Allah, you join ties of relationship, you speak the truth, you bear people's burden, you help the destitute, you entertain guests, and you help against the vicissitudes which affect people. Khadija then took him to Waraqa b. Naufal b. Asad b. 'Abd al-'Uzza, and he was the son of Khadija's uncle, i. e., the brother of her father. And he was the man who had embraced Christianity in the Days of Ignorance (i. e. before Islam) and he used to write books in Arabic and, therefore, wrote Injil in Arabic as God willed that he should write. He was very old and had become blind Khadija said to him: O uncle! listen to the son of your brother. Waraqa b. Naufal said: O my nephew! what did you see? The Messenger of Allah (ﷺ), then, informed him what he had seen, and Waraqa said to him: It is namus that God sent down to Musa. Would that I were then (during your prophetic career) a young man. Would that I might be alive when your people would expel you! The Messenger of Allah (ﷺ) said: Will they drive me out? Waraqa said: Yes. Never came a man with a like of what you have brought but met hostilities. If I see your day I shall help you wholeheartedly.

شاهد كل الشروح المتوفرة للحديث

هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير،  [160] فِيهِ الْأَحَادِيثُ الْمَشْهُورَةُ فَنَذْكُرُهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى تَرْتِيبِ أَلْفَاظِهَا وَمَعَانِيهَا فَ.

     قَوْلُهُ  فِي الْإِسْنَادِ (أَبُو الطَّاهِرِ بْنُ السَّرْحِ) هُوَ بِالسِّينِ وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَتَيْنِ وَالسِّينُ مَفْتُوحَةٌ وَقَولُهُ (أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ كَانَ أَوَّلُ مَا بدىء بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةَ) هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ مَرَاسِيلِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَإِنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَمْ تُدْرِكْ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ فَتَكُونُ قَدْ سَمِعَتْهَا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ مِنَ الصَّحَابِيِّ وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي الْفُصُولِ أَنَّ مُرْسَلَ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ إِلَّا مَا انْفَرَدَ بِهِ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفِرَايِنِيُّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَقَوْلُهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا (الرُّؤْيَا الصَّادِقَةَ) وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةَ وَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ وفى من هنا قولان أحدهما أنها لبيان الجنس والثانى للتبعيض ذكرهما الْقَاضِي وَقَوْلُهَا (فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ) قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ فَلَقُ الصُّبْحِ وَفَرَقُ الصُّبْحِ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَاللَّامِ وَالرَّاءِ هُوَ ضِيَاؤُهُ وَإِنَّمَا يُقَالُ هَذَا فِي الشَّيْءِ الْوَاضِحِ الْبَيِّنِ قَالَ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ وغيره من)العلماء انما ابتدىء صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرُّؤْيَا لِئَلَّا يَفْجَأَهُ الملك ويأتيه صريح النبوة بغتة فلا يحتملها قوى البشرية فبدىء بِأَوَّلِ خِصَالِ النُّبُوَّةِ وَتَبَاشِيرِ الْكَرَامَةِ مِنْ صِدْقِ الرُّؤْيَا وَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ مِنْ رُؤْيَةِ الضَّوْءِ وَسَمَاعِ الصَّوْتِ وَسَلَامِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ عَلَيْهِ بِالنُّبُوَّةِ قَوْلُهَا (ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ فَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ يَتَحَنَّثُ فِيهِ وَهُوَ التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ أُولَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهِ وَيَتَزَوَّدَ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ رضى الله عنها فيتزود لمثلها حتى فجئه الْحَقُّ) أَمَّا الْخَلَاءُ فَمَمْدُودٌ وَهُوَ الْخَلْوَةُ وَهِيَ شَأْنُ الصَّالِحِينَ وَعِبَادِ اللَّهِ الْعَارِفِينَ قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ حُبِّبَتِ الْعُزْلَةُ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ مَعَهَا فَرَاغَ الْقَلْبِ وَهِيَ مُعِينةٌ عَلَى التَّفَكُّرِ وَبِهَا يَنْقَطِعُ عَنْ مَأْلُوفَاتِ الْبَشَرِ وَيَتَخَشَّعُ قَلْبُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

.
وَأَمَّا الْغَارُ فَهُوَ الْكَهْفُ وَالنَّقْبُ فِي الْجَبَلِ وَجَمْعُهُ غِيرَانٌ وَالْمَغَارُ وَالْمَغَارَةُ بِمَعْنَى الْغَارِ وَتَصْغِيرُ الْغَارِ غُوَيْرٌ.

.
وَأَمَّا حِرَاءٌ فَبِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ وَبِالْمَدِّ وَهُوَ مَصْرُوفٌ وَمُذَكَّرٌ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ.

     وَقَالَ  الْقَاضِي فِيهِ لُغَتَانِ التَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ وَالتَّذْكِيرُ أَكْثَرُ فَمَنْ ذَكَّرَهُ صَرَفَهُ وَمَنْ أَنَّثَهُ لَمْ يَصْرِفْهُ أَرَادَ الْبُقْعَةَ أَوِ الْجِهَةَ الَّتِي فِيهَا الْجَبَلُ قَالَ الْقَاضِي.

     وَقَالَ  بَعْضُهُمْ فِيهِ حَرَى بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالْقَصْرِ وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ قَالَ أَبُو عُمَرَ الزَّاهِدُ صَاحِبُ ثَعْلَبٍ وَأَبُو سُلَيْمَانُ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُمَا أَصْحَابُ الْحَدِيثِ وَالْعَوَامُّ يُخْطِئُونَ فِي حِرَاءٍ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ يَفْتَحُونَ الْحَاءَ وَهِيَ مَكْسُورَةٌ وَيَكْسِرُونَ الرَّاءَ وَهِيَ مَفْتُوحَةٌ وَيَقْصُرُونَ الْأَلِفَ وَهِيَ مَمْدُودَةٌ وَحِرَاءٌ جَبَلٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ نَحْوَ ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ عَنْ يَسَارِ الذَّاهِبِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى مِنًى وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

.
وَأَمَّا التَّحَنُّثُ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ وَالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ فَقَدْ فَسَّرَهُ بِالتَّعَبُّدِ وَهُوَ تَفْسِيرٌ صَحِيحٌ وَأَصْلُ الْحِنْثِ الْإِثْمُ فَمَعْنَى يَتَحَنَّثُ يَتَجَنَّبُ الْحِنْثَ فَكَأَنَّهُ بِعِبَادَتِهِ يَمْنَعُ نَفْسَهُ مِنَ الْحِنْثِ وَمِثْلُ يَتَحَنَّثُ يتحرح وَيَتَأَثَّمُ أَيْ يَتَجَنَّبُ الْحَرَجَ وَالْإِثْمَ.

.
وَأَمَّا قَوْلُهَا الليالى أولات العدد فمتعلق يتحنث لَا بِالتَّعَبُّدِ وَمَعْنَاهُ يَتَحَنَّثُ اللَّيَالِيَ وَلَوْ جُعِلَ مُتَعَلِّقًا بِالتَّعَبُّدِ فَسَدَ الْمَعْنَى فَإِنَّ التَّحَنُّثَ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ اللَّيَالِي بَلْ يُطْلَقُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَهَذَا التَّفْسِيرُ اعْتَرَضَ بَيْنَ كَلَامِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.

.
وَأَمَّا كَلَامُهَا فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ اللَّيَالِيَ أُولَاتِ الْعَدَدِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَقَوْلُهَا فَجِئَهُ الْحَقُّ أَيْ جَاءَهُ الْوَحْيُ بَغْتَةً فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ مُتَوَقِّعًا لِلْوَحْيِ وَيُقَالُ فَجِئَهُ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَبَعْدَهَا هَمْزَةٌ مَفْتُوحَةٌ وَيُقَالُ فَجَأَهُ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالْهَمْزَةِ لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ حَكَاهُمَا الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ .

     قَوْلُهُ  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَا أَنَا بقارىء) مَعْنَاهُ لَا أُحْسِنَ الْقِرَاءَةَ فَمَا نَافِيَةٌ هَذَا هُوَ الصَّوَابُ وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيهَا خِلَافًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا نَافِيَةً وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا اسْتِفْهَامِيَّةً وَضَعَّفُوهُ بِإِدْخَالِ الْبَاءِ فِي الْخَبَرِ قَالَ الْقَاضِي وَيُصَحِّحُ قَوْلَ مَنْ قَالَ اسْتِفْهَامِيَّةً رِوَايَةُ مَنْ رَوَى مَا أَقْرَأُ وَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ مَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَيْضًا نَافِيَةً وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

     قَوْلُهُ  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي) أَمَّا غَطَّنِي فَبِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَالطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَمَعْنَاهُ عَصَرَنِي وَضَمَّنِي يُقَالُ غَطَّهُ وَغَتَّهُ وَضَغَطَهُ وَعَصَرَهُ وَخَنَقَهُ وَغَمَزَهُ كُلُّهُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ.

.
وَأَمَّا الْجَهْدُ فَيَجُوزُ فَتْحُ الْجِيمِ وَضَمُّهَا لُغَتَانِ وَهُوَ الْغَايَةُ وَالْمَشَقَّةُ وَيَجُوزُ نَصْبُ الدَّالِ وَرَفْعُهَا فَعَلَى النَّصْبِ بَلَغَ جِبْرِيلُ مِنِّي الْجَهْدَ وَعَلَى الرَّفْعِ بَلَغَ الْجَهْدُ مِنِّي مَبْلَغَهُ وَغَايَتَهُ وَمِمَّنْ ذَكَرَ الْوَجْهَيْنِ فِي نَصْبِ الدَّالِ وَرَفْعِهَا صَاحِبُ التَّحْرِيرِ وَغَيْرُهُ.

.
وَأَمَّا أَرْسَلَنِي فَمَعْنَاهُ أَطْلَقَنِي قَالَ الْعُلَمَاءُ وَالْحِكْمَةُ فِي الْغَطِّ شَغْلُهُ مِنَ الِالْتِفَاتِ وَالْمُبَالَغَةُ فِي أَمْرِهِ بِإِحْضَارِ قَلْبِهِ لِمَا يقوله له وكرره ثلاثا مبالغة فى التنبيه فَفِيهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمُعَلِّمِ أَنْ يَحْتَاطَ فِي تَنْبِيهِ الْمُتَعَلِّمِ وَأَمْرِهِ بِإِحْضَارِ قَلْبِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

     قَوْلُهُ  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (ثُمَّ أَرْسَلَنِي فقال اقرأ باسم ربك الذى خلق) هَذَا دَلِيلٌ صَرِيحٌ فِي أَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ اقْرَأْ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجَمَاهِيرُ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَقِيلَ أوله يا أيها المدثر وَلَيْسَ بِشَيْءٍ وَسَنَذْكُرُهُ بَعْدَ هَذَا فِيمَوْضِعِهِ مِنْ هَذَا الْبَابِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَاسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ بَعْضُ مَنْ يَقُولُ إِنَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لَيْسَتْ مِنَ الْقُرْآنِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ لِكَوْنِهَا لَمْ تُذْكَرْ هُنَا وَجَوَابُ الْمُثْبِتِينَ لَهَا أَنَّهَا لَمْ تَنْزِلْ أَوَّلًا بَلْ نَزَلَتِ الْبَسْمَلَةُ فِي وَقْتٍ آخَرَ كَمَا نَزَلَ بَاقِي السُّورَةِ فِي وَقْتٍ آخَرَ قَوْلُهَا (تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ) بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَمَعْنَى تَرْجُفُ تَرْعَدُ وَتَضْطَرِبُ وَأَصْلُهُ شِدَّةُ الْحَرَكَةِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَسَائِرُ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالْغَرِيبِ وَهِيَ اللَّحْمَةُ الَّتِي بَيْنَ الْمَنْكِبِ وَالْعُنُقِ تَضْطَرِبُ عِنْدَ فَزَعِ الْإِنْسَانِ .

     قَوْلُهُ  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي) هَكَذَا هُوَ فِي الرِّوَايَاتِ مُكَرَّرٌ مَرَّتَيْنِ وَمَعْنَى زَمِّلُونِي غَطُّونِي بِالثِّيَابِ وَلُفُّونِي بِهَا وقولها فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ هُوَ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَهُوَ الْفَزَعُ .

     قَوْلُهُ  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي) قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لَيْسَ هُوَ بِمَعْنَى الشَّكِّ فِيمَا أَتَاهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَكِنَّهُ رُبَّمَا خَشِيَ أَنْ لَا يَقْوَى عَلَى مُقَاوَمَةِ هَذَا الْأَمْرِ وَلَا يَقْدِرَ عَلَى حَمْلِ أَعْبَاءِ الْوَحْيِ فَتَزْهَقَ نَفْسُهُ أَوْ يَكُونَ هَذَا لِأَوَّلِ مَا رَأَى التَّبَاشِيرَ فِي النَّوْمِ وَالْيَقَظَةِ وَسَمِعَ الصَّوْتَ قَبْلَ لِقَاءِ الْمَلَكِ وَتَحَقُّقِهِ رِسَالَةَ رَبِّهِ فَيَكُونُ خَافَ أَنْ يَكُونَ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ فَأَمَّا مُنْذُ جَاءَهُ الْمَلَكُ بِرِسَالَةِ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الشَّكُّ فِيهِ وَلَا يَخْشَى مِنْ تَسَلُّطِ الشَّيْطَانِ عَلَيْهِ وَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ يُحْمَلُ جَمِيعُ مَا وَرَدَ مِنْ مِثْلِ هَذَا فِي حَدِيثِ الْبَعْثِ هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَذَكَرَ أَيْضًا فِي كِتَابِهِ الشِّفَاءُ هَذَيْنِ الِاحْتِمَالَيْنِ فِي كَلَامٍ مَبْسُوطٍ وَهَذَا الِاحْتِمَالُ الثَّانِي ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ خِلَافُ تَصْرِيحِ الْحَدِيثِ لِأَنَّ هَذَا كَانَ بَعْدَ غَطِّ الْمَلَكِ وَإِتْيَانِهِ بِاقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهَا (قَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ كَلَّا أَبْشِرْ فَوَاللَّهِ لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا وَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وتكسب المعدوموَتُقْرِي الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ) أَمَّا قَوْلُهَا كَلَّا فَهِيَ هُنَا كَلِمَةُ نَفْيٍ وَإِبْعَادٍ وهذا أحد معانيها وقد تَأْتِي كَلَّا بِمَعْنَى حَقًّا وَبِمَعْنَى أَلَا الَّتِي لِلتَّنْبِيهِ يُسْتَفْتَحُ بِهَا الْكَلَامُ وَقَدْ جَاءَتْ فِي الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ عَلَى أَقْسَامٍ وَقَدْ جَمَعَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْأَنْبَارِيِّ أَقْسَامَهَا وَمَوَاضِعَهَا فِي بَابٍ مِنْ كِتَابِهِ الْوَقْفُ وَالِابْتِدَاءُ.

.
وَأَمَّا قَوْلُهَا لَا يُخْزِيكَ فَهُوَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَبِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ كَذَا هُوَ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ وَعُقَيْلٍ.

     وَقَالَ  معمر فى روايته يحزنك بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ وَيَجُوزُ فَتْحُ الْيَاءِ فِي أَوَّلِهِ وَضَمُّهَا وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ وَالْخِزْيُ الْفَضِيحَةُ وَالْهَوَانُ.

.
وَأَمَّا صِلَةُ الرَّحِمِ فَهِيَ الْإِحْسَانُ إِلَى الْأَقَارِبِ عَلَى حَسَبِ حَالِ الْوَاصِلِ وَالْمَوْصُولِ فَتَارَةً تَكُونُ بِالْمَالِ وَتَارَةً بِالْخِدْمَةِ وَتَارَةً بِالزِّيَارَةِ وَالسَّلَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

.
وَأَمَّا الْكَلُّ فَهُوَ بِفَتْحِ الْكَافِ وَأَصْلُهُ الثِّقْلُ وَمِنْهُ .

     قَوْلُهُ  تَعَالَى وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مولاه وَيَدْخُلُ فِي حَمْلِ الْكَلِّ الْإِنْفَاقُ عَلَى الضَّعِيفِ وَالْيَتِيمِ وَالْعِيَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَهُوَ مِنَ الْكَلَالِ وَهُوَ الْإِعْيَاءُ.

.
وَأَمَّا قَوْلُهَا وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ فَهُوَ بِفَتْحِ التَّاءِ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ وَنَقَلَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ رِوَايَةِ الْأَكْثَرِينَ قَالَ وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ بِضَمِّهَا قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ ثَعْلَبٌ وَأَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ وَجَمَاعَاتٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ يُقَالُ كَسَبْتُ الرَّجُلَ مَالًا وَأَكْسَبْتُهُ مَالًا لُغَتَانِ أَفْصَحُهُمَا بِاتِّفَاقِهِمْ كَسَبْتُهُ بِحَذْفِ الْأَلْفِ.

.
وَأَمَّا مَعْنَى تَكْسِبُ الْمَعْدُومَ فَمَنْ رَوَاهُ بِالضَّمِّ فَمَعْنَاهُ تُكْسِبُ غَيْرَكَ الْمَالَ الْمَعْدُومَ أَيْ تُعْطِيهِ إِيَّاهُ تَبَرُّعًا فَحَذَفَ أحد المفعولين وقيل معناه تعطى الناس مالايجدونه عِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ نَفَائِسِ الْفَوَائِدِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ.

.
وَأَمَّا رِوَايَةُ الْفَتْحِ فَقِيلَ مَعْنَاهَا كَمَعْنَى الضَّمِّ وَقِيلَ مَعْنَاهَا تَكْسِبُ الْمَالَ الْمَعْدُومَ وَتُصِيبُ مِنْهُ مَا يَعْجِزُ غَيْرُكَ عَنْ تَحْصِيلِهِ وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَتَمَادَحُ بِكَسْبِ الْمَالِ الْمَعْدُومِ لَا سِيَّمَا قُرَيْشٌ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَحْظُوظًا فِي تِجَارَتِهِ وَهَذَا الْقَوْلُ حَكَاهُ الْقَاضِي عَنْ ثَابِتٍ صَاحِبِ الدَّلَائِلِ وَهُوَ ضَعِيفٌ أَوْ غَلَطٌ وَأَيُّ مَعْنًى لِهَذَا الْقَوْلِ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ إِلَّا أَنَّهُ يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ بِأَنْ يُضَمَّ إِلَيْهِ زِيَادَةٌ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ تَكْسِبُ الْمَالَ الْعَظِيمَ الَّذِي يَعْجِزُ عَنْهُ غَيْرُكَ ثُمَّ تَجُودُ بِهِ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ وَأَبْوَابِ الْمَكَارِمِ كَمَا ذَكَرَتْ مِنْ حَمْلِ الْكَلِّ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَقِرَى الضَّيْفِ وَالْإِعَانَةِ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ فَهَذَا هُوَالصَّوَابُ فِي هَذَا الْحَرْفِ.

.
وَأَمَّا صَاحِبُ التَّحْرِيرِ فَجَعَلَ الْمَعْدُومَ عِبَارَةً عَنِ الرَّجُلِ الْمُحْتَاجِ الْمُعْدِمِ الْعَاجِزِ عَنِ الْكَسْبِ وَسَمَّاهُ مَعْدُومًا لِكَوْنِهِ كَالْمَعْدُومِ الْمَيِّتِ حَيْثُ لَمْ يَتَصَرَّفْ فِي الْمَعِيشَةِ كَتَصَرُّفِ غَيْرِهِ قَالَ وَذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ أَنَّ صَوَابَهُ الْمُعْدِمَ بِحَذْفِ الْوَاوِ قَالَ وَلَيْسَ كَمَا قَالَ الْخَطَّابِيُّ بَلْ مَا رَوَاهُ الرُّوَاةُ صَوَابٌ قَالَ وَقِيلَ مَعْنَى تَكْسِبُ الْمَعْدُومَ أَيْ تَسْعَى فِي طَلَبِ عَاجِزٍ تُنْعِشُهُ وَالْكَسْبُ هُوَ الِاسْتِفَادَةُ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ وَإِنْ كَانَ لَهُ بَعْضُ الِاتِّجَاهِ كَمَا حَرَّرْتُ لَفْظَهُ فَالصَّحِيحُ الْمُخْتَارُ مَا قَدَّمْتُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

.
وَأَمَّا قَوْلُهَا وَتَقْرِي الضَّيْفَ فَهُوَ بِفَتْحِ التَّاءِ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ يُقَالُ قَرَيْتُ الضَّيْفَ أُقْرِيهِ قِرًى بِكَسْرِ الْقَافِ مَقْصُورٌ وَقَرَاءً بِفَتْحِ الْقَافِ وَالْمَدِّ وَيُقَالُ لِلطَّعَامِ الَّذِي يُضَيِّفُهُ بِهِ قِرًى بِكَسْرِ الْقَافِ مَقْصُورٌ وَيُقَالُ لِفَاعِلِهِ قَارٍ مِثْلُ قَضَى فَهُوَ قَاضٍ.

.
وَأَمَّا قَوْلُهَا وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ فَالنَّوَائِبُ جَمْعُ نائبة وهى الحادثة وانما قَالَتْ نَوَائِبَ الْحَقِّ لِأَنَّ النَّائِبَةَ قَدْ تَكُونُ فِي الْخَيْرِ وَقَدْ تَكُونُ فِي الشَّرِّ قَالَ لَبِيدٌ ... نَوَائِبُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ كِلَاهُمَا ... فَلَا الْخَيْرُ مَمْدُودٌ وَلَا الشَّرُّ لَازِبُ ... (قَالَ الْعُلَمَاءُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَعْنَى كَلَامِ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إِنَّكَ لَا يُصِيبُكَ مَكْرُوهٌ لِمَا جَعَلَ اللَّهُ فِيكَ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَكَرَمِ الشَّمَائِلِ وَذَكَرَتْ ضُرُوبًا مِنْ ذَلِكَ وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ وَخِصَالَ الْخَيْرِ سَبَبُ السَّلَامَةِ مِنْ مَصَارِعِ السُّوءِ وَفِيهِ مَدْحُ الْإِنْسَانِ فِي وَجْهِهِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ لِمَصْلَحَةٍ نظر أو فيه تَأْنِيسُ مَنْ حَصَلَتْ لَهُ مَخَافَةً مِنْ أَمْرٍ وَتَبْشِيرُهُ وَذِكْرُ أَسْبَابِ السَّلَامَةِ لَهُ وَفِيهِ أَعْظَمُ دَلِيلٍ وَأَبْلَغُ حُجَّةٍ عَلَى كَمَالِ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَجَزَالَةِ رَأْيِهَا وَقُوَّةِ نَفْسِهَا وَثَبَاتِ قَلْبِهَا وَعِظَمِ فِقْهِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهَا (وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ) مَعْنَاهُ صَارَ نَصْرَانِيًّا وَالْجَاهِلِيَّةُ مَا قَبْلَ رِسَالَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُمُّوا بِذَلِكَ لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ فَاحِشِ الْجَهَالَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهَا (وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ وَيَكْتُبُ مِنَ الْإِنْجِيلِ بِالْعَرَبِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَكْتُبَ) هَكَذَا هُوَ فِي مُسْلِمٍ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ وَيَكْتُبُ بِالْعَرَبِيَّةِ وَوَقَعَ فِي أَوَّلِ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ يَكْتُبُ)الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ فَيَكْتُبُ مِنَ الْإِنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ وَحَاصِلُهُمَا أَنَّهُ تَمَكَّنَ مِنْ مَعْرِفَةِ دِينِ النَّصَارَى بِحَيْثُ إِنَّهُ صَارَ يَتَصَرَّفُ فِي الْإِنْجِيلِ فَيَكْتُبُ أَيَّ مَوْضِعٍ شَاءَ مِنْهُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ إِنْ شَاءَ وَبِالْعَرَبِيَّةِ إِنْ شَاءَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهَا (فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَيْ عم اسمع من بن أَخِيكَ) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى (قَالَتْ خَدِيجَةُ أَيِ بن عَمِّ) هَكَذَا هُوَ فِي الْأُصُولِ فِي الْأَوَّلِ عم وفى الثانى بن عم وكلاهما صحيح أما الثانى فلأنه بن عَمِّهَا حَقِيقَةً كَمَا ذَكَرَهُ أَوَّلًا فِي الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدٍ وَهِيَ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدٍ.

.
وَأَمَّا الْأَوَّلُ فسمته عما مجازا للاحترام وهذه عَادَةُ الْعَرَبِ فِي آدَابِ خِطَابِهِمْ يُخَاطِبُ الصَّغِيرُ الكبير بياعم احْتِرَامًا لَهُ وَرَفْعًا لِمَرْتَبَتِهِ وَلَا يَحْصُلُ هَذَا الغرض بقولها يا بن عَمِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

     قَوْلُهُ  (هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) النَّامُوسُ بِالنُّونِ وَالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَهُوَ جِبْرِيلُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ وَغَرِيبِ الْحَدِيثِ النَّامُوسُ فِي اللُّغَةِ صَاحِبُ سِرِّ الْخَيْرِ وَالْجَاسُوسُ صَاحِبُ سِرِّ الشَّرِّ وَيُقَالُ نَمَسْتُ السِّرَّ بِفَتْحِ النُّونِ وَالْمِيمِ أَنْمِسُهُ بِكَسْرِ الْمِيمِ نَمْسًا أَيْ كَتَمْتُهُ وَنَمَسْتُ الرَّجُلَ وَنَامَسْتُهُ سَارَرْتُهُ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُسَمَّى النَّامُوسَ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ الْمُرَادُ هُنَا قَالَ الْهَرَوِيُّ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّهُ بِالْغَيْبِ وَالْوَحْيِ.

.
وَأَمَّا .

     قَوْلُهُ  الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَذَا هُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا وَهُوَ الْمَشْهُورُ وَرُوِّينَاهُ فِي غَيْرِ الصَّحِيحِ نَزَلَ عَلَى عِيسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وكلاهما صحيح قوله (ياليتنى فِيهَا جَذَعًا) الضَّمِيرُ فِيهَا يَعُودُ إِلَى أَيَّامِ النُّبُوَّةِ وَمُدَّتِهَا وَقَولُهُ جَذَعًا يَعْنِي شَابًّا قَوِيًّا حَتَّى أُبَالِغَ فِي نُصْرَتِكَ وَالْأَصْلُ فِي الْجَذَعِ لِلدَّوَابِّ وَهُوَ هُنَا اسْتِعَارَةٌ.

.
وَأَمَّا .

     قَوْلُهُ  جَذَعًا فَهَكَذَا هُوَ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا بالنصب قال القاضي ووقع فى رواية بن مَاهَانَ جَذَعٌ بِالرَّفْعِ وَكَذَلِكَ هُوَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ فِي الْبُخَارِيِّ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ ظَاهِرَةٌ.

.
وَأَمَّا النَّصْبُ فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وَجْهِهِ فَقَالَ الْخَطَّابِيُّ والمازرى وغيرهمانُصِبَ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ الْمَحْذُوفَةِ تَقْدِيرُهُ لَيْتَنِي أَكُونُ فِيهَا جَذَعًا وَهَذَا يَجِيءُ عَلَى مَذْهَبِ النَّحْوِيِّينَ الْكُوفِيِّينَ.

     وَقَالَ  الْقَاضِي الظَّاهِرُ عِنْدِي أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ وَخَبَرُ لَيْتَ .

     قَوْلُهُ  فِيهَا وَهَذَا الَّذِي اخْتَارَهُ الْقَاضِي هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي اخْتَارَهُ أَهْلُ التَّحْقِيقِ وَالْمَعْرِفَةِ مِنْ شُيُوخِنَا وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

     قَوْلُهُ  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم (أو مخرجى هُمْ) هُوَ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ هَكَذَا الرواية ويجوز تخفيف الياء على وجه والصحيح الْمَشْهُورِ تَشْدِيدُهَا وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى بِمُصْرِخِيَّ وَهُوَ جَمْعُ مُخْرِجٍ فَالْيَاءُ الْأُولَى يَاءُ الْجَمْعِ وَالثَّانِيَةُ ضَمِيرُ الْمُتَكَلِّمِ وَفُتِحَتْ لِلتَّخْفِيفِ لِئَلَّا يَجْتَمِعَ الْكَسْرَةُ وَالْيَاءَانِ بَعْدَ كَسْرَتَيْنِ .

     قَوْلُهُ  (وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ) أَيْ وَقْتَ خُرُوجِكَ .

     قَوْلُهُ  (أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا) هُوَ بِفَتْحِ الزَّايِ وَبِهَمْزَةٍ قَبْلَهَا أَيْ قَوِيًّا بَالِغًا .

     قَوْلُهُ  فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى (أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ قَالَ قَالَ الزُّهْرِيُّ وَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ) هَكَذَا هُوَ فِي الْأُصُولِ وَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بِالْوَاوِ وَهُوَ الصَّحِيحُ وَالْقَائِلُ وَأَخْبَرَنِي هُوَ الزُّهْرِيُّ وَفِي هَذِهِ الْوَاوِ فَائِدَةٌ لَطِيفَةٌ قَدَّمْنَاهَا فِي مَوَاضِعَ وَهِيَ أَنَّ مَعْمَرًا سَمِعَ مِنَ الزُّهْرِيِّ أَحَادِيثَ قَالَ الزُّهْرِيُّ فِيهَا أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بِكَذَا وَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بِكَذَا إِلَى آخِرِهَا فَإِذَا أَرَادَ مَعْمَرٌ رِوَايَةَ غَيْرِ الْأَوَّلِ قَالَ قَالَ الزُّهْرِيُّ وَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ فَأَتَى بِالْوَاوِ لِيَكُونَ رَاوِيًا كَمَا سَمِعَ وَهَذَا مِنَ الِاحْتِيَاطِ وَالتَّحْقِيقِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى الْأَلْفَاظِ وَالتَّحَرِّي فِيهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

     قَوْلُهُ  فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَعْنِي رِوَايَةَ مَعْمَرٍ (فَوَاللَّهِ لَا يُحْزِنْكَ اللَّهُ) هُوَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ وَقَدْ قَدَّمْنَا بَيَانَهُ قولهالعلماء انما ابتدىء صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرُّؤْيَا لِئَلَّا يَفْجَأَهُ الملك ويأتيه صريح النبوة بغتة فلا يحتملها قوى البشرية فبدىء بِأَوَّلِ خِصَالِ النُّبُوَّةِ وَتَبَاشِيرِ الْكَرَامَةِ مِنْ صِدْقِ الرُّؤْيَا وَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ مِنْ رُؤْيَةِ الضَّوْءِ وَسَمَاعِ الصَّوْتِ وَسَلَامِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ عَلَيْهِ بِالنُّبُوَّةِ قَوْلُهَا (ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ فَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ يَتَحَنَّثُ فِيهِ وَهُوَ التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ أُولَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهِ وَيَتَزَوَّدَ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ رضى الله عنها فيتزود لمثلها حتى فجئه الْحَقُّ) أَمَّا الْخَلَاءُ فَمَمْدُودٌ وَهُوَ الْخَلْوَةُ وَهِيَ شَأْنُ الصَّالِحِينَ وَعِبَادِ اللَّهِ الْعَارِفِينَ قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ حُبِّبَتِ الْعُزْلَةُ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ مَعَهَا فَرَاغَ الْقَلْبِ وَهِيَ مُعِينةٌ عَلَى التَّفَكُّرِ وَبِهَا يَنْقَطِعُ عَنْ مَأْلُوفَاتِ الْبَشَرِ وَيَتَخَشَّعُ قَلْبُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

.
وَأَمَّا الْغَارُ فَهُوَ الْكَهْفُ وَالنَّقْبُ فِي الْجَبَلِ وَجَمْعُهُ غِيرَانٌ وَالْمَغَارُ وَالْمَغَارَةُ بِمَعْنَى الْغَارِ وَتَصْغِيرُ الْغَارِ غُوَيْرٌ.

.
وَأَمَّا حِرَاءٌ فَبِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ وَبِالْمَدِّ وَهُوَ مَصْرُوفٌ وَمُذَكَّرٌ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ.

     وَقَالَ  الْقَاضِي فِيهِ لُغَتَانِ التَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ وَالتَّذْكِيرُ أَكْثَرُ فَمَنْ ذَكَّرَهُ صَرَفَهُ وَمَنْ أَنَّثَهُ لَمْ يَصْرِفْهُ أَرَادَ الْبُقْعَةَ أَوِ الْجِهَةَ الَّتِي فِيهَا الْجَبَلُ قَالَ الْقَاضِي.

     وَقَالَ  بَعْضُهُمْ فِيهِ حَرَى بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالْقَصْرِ وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ قَالَ أَبُو عُمَرَ الزَّاهِدُ صَاحِبُ ثَعْلَبٍ وَأَبُو سُلَيْمَانُ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُمَا أَصْحَابُ الْحَدِيثِ وَالْعَوَامُّ يُخْطِئُونَ فِي حِرَاءٍ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ يَفْتَحُونَ الْحَاءَ وَهِيَ مَكْسُورَةٌ وَيَكْسِرُونَ الرَّاءَ وَهِيَ مَفْتُوحَةٌ وَيَقْصُرُونَ الْأَلِفَ وَهِيَ مَمْدُودَةٌ وَحِرَاءٌ جَبَلٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ نَحْوَ ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ عَنْ يَسَارِ الذَّاهِبِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى مِنًى وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

.
وَأَمَّا التَّحَنُّثُ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ وَالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ فَقَدْ فَسَّرَهُ بِالتَّعَبُّدِ وَهُوَ تَفْسِيرٌ صَحِيحٌ وَأَصْلُ الْحِنْثِ الْإِثْمُ فَمَعْنَى يَتَحَنَّثُ يَتَجَنَّبُ الْحِنْثَ فَكَأَنَّهُ بِعِبَادَتِهِ يَمْنَعُ نَفْسَهُ مِنَ الْحِنْثِ وَمِثْلُ يَتَحَنَّثُ يتحرح وَيَتَأَثَّمُ أَيْ يَتَجَنَّبُ الْحَرَجَ وَالْإِثْمَ.

.
وَأَمَّا قَوْلُهَا الليالى أولات العدد فمتعلق يتحنث لَا بِالتَّعَبُّدِ وَمَعْنَاهُ يَتَحَنَّثُ اللَّيَالِيَ وَلَوْ جُعِلَ مُتَعَلِّقًا بِالتَّعَبُّدِ فَسَدَ الْمَعْنَى فَإِنَّ التَّحَنُّثَ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ اللَّيَالِي بَلْ يُطْلَقُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَهَذَا التَّفْسِيرُ اعْتَرَضَ بَيْنَ كَلَامِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.

.
وَأَمَّا كَلَامُهَا فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ اللَّيَالِيَ أُولَاتِ الْعَدَدِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَقَوْلُهَا فَجِئَهُ الْحَقُّ أَيْ جَاءَهُ الْوَحْيُ بَغْتَةً فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ مُتَوَقِّعًا لِلْوَحْيِ وَيُقَالُ فَجِئَهُ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَبَعْدَهَا هَمْزَةٌ مَفْتُوحَةٌ وَيُقَالُ فَجَأَهُ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالْهَمْزَةِ لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ حَكَاهُمَا الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ .

     قَوْلُهُ  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَا أَنَا بقارىء) مَعْنَاهُ لَا أُحْسِنَ الْقِرَاءَةَ فَمَا نَافِيَةٌ هَذَا هُوَ الصَّوَابُ وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيهَا خِلَافًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا نَافِيَةً وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا اسْتِفْهَامِيَّةً وَضَعَّفُوهُ بِإِدْخَالِ الْبَاءِ فِي الْخَبَرِ قَالَ الْقَاضِي وَيُصَحِّحُ قَوْلَ مَنْ قَالَ اسْتِفْهَامِيَّةً رِوَايَةُ مَنْ رَوَى مَا أَقْرَأُ وَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ مَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَيْضًا نَافِيَةً وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

     قَوْلُهُ  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي) أَمَّا غَطَّنِي فَبِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَالطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَمَعْنَاهُ عَصَرَنِي وَضَمَّنِي يُقَالُ غَطَّهُ وَغَتَّهُ وَضَغَطَهُ وَعَصَرَهُ وَخَنَقَهُ وَغَمَزَهُ كُلُّهُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ.

.
وَأَمَّا الْجَهْدُ فَيَجُوزُ فَتْحُ الْجِيمِ وَضَمُّهَا لُغَتَانِ وَهُوَ الْغَايَةُ وَالْمَشَقَّةُ وَيَجُوزُ نَصْبُ الدَّالِ وَرَفْعُهَا فَعَلَى النَّصْبِ بَلَغَ جِبْرِيلُ مِنِّي الْجَهْدَ وَعَلَى الرَّفْعِ بَلَغَ الْجَهْدُ مِنِّي مَبْلَغَهُ وَغَايَتَهُ وَمِمَّنْ ذَكَرَ الْوَجْهَيْنِ فِي نَصْبِ الدَّالِ وَرَفْعِهَا صَاحِبُ التَّحْرِيرِ وَغَيْرُهُ.

.
وَأَمَّا أَرْسَلَنِي فَمَعْنَاهُ أَطْلَقَنِي قَالَ الْعُلَمَاءُ وَالْحِكْمَةُ فِي الْغَطِّ شَغْلُهُ مِنَ الِالْتِفَاتِ وَالْمُبَالَغَةُ فِي أَمْرِهِ بِإِحْضَارِ قَلْبِهِ لِمَا يقوله له وكرره ثلاثا مبالغة فى التنبيه فَفِيهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمُعَلِّمِ أَنْ يَحْتَاطَ فِي تَنْبِيهِ الْمُتَعَلِّمِ وَأَمْرِهِ بِإِحْضَارِ قَلْبِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

     قَوْلُهُ  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (ثُمَّ أَرْسَلَنِي فقال اقرأ باسم ربك الذى خلق) هَذَا دَلِيلٌ صَرِيحٌ فِي أَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ اقْرَأْ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجَمَاهِيرُ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَقِيلَ أوله يا أيها المدثر وَلَيْسَ بِشَيْءٍ وَسَنَذْكُرُهُ بَعْدَ هَذَا فِيمَوْضِعِهِ مِنْ هَذَا الْبَابِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَاسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ بَعْضُ مَنْ يَقُولُ إِنَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لَيْسَتْ مِنَ الْقُرْآنِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ لِكَوْنِهَا لَمْ تُذْكَرْ هُنَا وَجَوَابُ الْمُثْبِتِينَ لَهَا أَنَّهَا لَمْ تَنْزِلْ أَوَّلًا بَلْ نَزَلَتِ الْبَسْمَلَةُ فِي وَقْتٍ آخَرَ كَمَا نَزَلَ بَاقِي السُّورَةِ فِي وَقْتٍ آخَرَ قَوْلُهَا (تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ) بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَمَعْنَى تَرْجُفُ تَرْعَدُ وَتَضْطَرِبُ وَأَصْلُهُ شِدَّةُ الْحَرَكَةِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَسَائِرُ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالْغَرِيبِ وَهِيَ اللَّحْمَةُ الَّتِي بَيْنَ الْمَنْكِبِ وَالْعُنُقِ تَضْطَرِبُ عِنْدَ فَزَعِ الْإِنْسَانِ .

     قَوْلُهُ  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي) هَكَذَا هُوَ فِي الرِّوَايَاتِ مُكَرَّرٌ مَرَّتَيْنِ وَمَعْنَى زَمِّلُونِي غَطُّونِي بِالثِّيَابِ وَلُفُّونِي بِهَا وقولها فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ هُوَ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَهُوَ الْفَزَعُ .

     قَوْلُهُ  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي) قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لَيْسَ هُوَ بِمَعْنَى الشَّكِّ فِيمَا أَتَاهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَكِنَّهُ رُبَّمَا خَشِيَ أَنْ لَا يَقْوَى عَلَى مُقَاوَمَةِ هَذَا الْأَمْرِ وَلَا يَقْدِرَ عَلَى حَمْلِ أَعْبَاءِ الْوَحْيِ فَتَزْهَقَ نَفْسُهُ أَوْ يَكُونَ هَذَا لِأَوَّلِ مَا رَأَى التَّبَاشِيرَ فِي النَّوْمِ وَالْيَقَظَةِ وَسَمِعَ الصَّوْتَ قَبْلَ لِقَاءِ الْمَلَكِ وَتَحَقُّقِهِ رِسَالَةَ رَبِّهِ فَيَكُونُ خَافَ أَنْ يَكُونَ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ فَأَمَّا مُنْذُ جَاءَهُ الْمَلَكُ بِرِسَالَةِ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الشَّكُّ فِيهِ وَلَا يَخْشَى مِنْ تَسَلُّطِ الشَّيْطَانِ عَلَيْهِ وَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ يُحْمَلُ جَمِيعُ مَا وَرَدَ مِنْ مِثْلِ هَذَا فِي حَدِيثِ الْبَعْثِ هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَذَكَرَ أَيْضًا فِي كِتَابِهِ الشِّفَاءُ هَذَيْنِ الِاحْتِمَالَيْنِ فِي كَلَامٍ مَبْسُوطٍ وَهَذَا الِاحْتِمَالُ الثَّانِي ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ خِلَافُ تَصْرِيحِ الْحَدِيثِ لِأَنَّ هَذَا كَانَ بَعْدَ غَطِّ الْمَلَكِ وَإِتْيَانِهِ بِاقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهَا (قَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ كَلَّا أَبْشِرْ فَوَاللَّهِ لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا وَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وتكسب المعدوموَتُقْرِي الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ) أَمَّا قَوْلُهَا كَلَّا فَهِيَ هُنَا كَلِمَةُ نَفْيٍ وَإِبْعَادٍ وهذا أحد معانيها وقد تَأْتِي كَلَّا بِمَعْنَى حَقًّا وَبِمَعْنَى أَلَا الَّتِي لِلتَّنْبِيهِ يُسْتَفْتَحُ بِهَا الْكَلَامُ وَقَدْ جَاءَتْ فِي الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ عَلَى أَقْسَامٍ وَقَدْ جَمَعَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْأَنْبَارِيِّ أَقْسَامَهَا وَمَوَاضِعَهَا فِي بَابٍ مِنْ كِتَابِهِ الْوَقْفُ وَالِابْتِدَاءُ.

.
وَأَمَّا قَوْلُهَا لَا يُخْزِيكَ فَهُوَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَبِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ كَذَا هُوَ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ وَعُقَيْلٍ.

     وَقَالَ  معمر فى روايته يحزنك بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ وَيَجُوزُ فَتْحُ الْيَاءِ فِي أَوَّلِهِ وَضَمُّهَا وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ وَالْخِزْيُ الْفَضِيحَةُ وَالْهَوَانُ.

.
وَأَمَّا صِلَةُ الرَّحِمِ فَهِيَ الْإِحْسَانُ إِلَى الْأَقَارِبِ عَلَى حَسَبِ حَالِ الْوَاصِلِ وَالْمَوْصُولِ فَتَارَةً تَكُونُ بِالْمَالِ وَتَارَةً بِالْخِدْمَةِ وَتَارَةً بِالزِّيَارَةِ وَالسَّلَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

.
وَأَمَّا الْكَلُّ فَهُوَ بِفَتْحِ الْكَافِ وَأَصْلُهُ الثِّقْلُ وَمِنْهُ .

     قَوْلُهُ  تَعَالَى وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مولاه وَيَدْخُلُ فِي حَمْلِ الْكَلِّ الْإِنْفَاقُ عَلَى الضَّعِيفِ وَالْيَتِيمِ وَالْعِيَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَهُوَ مِنَ الْكَلَالِ وَهُوَ الْإِعْيَاءُ.

.
وَأَمَّا قَوْلُهَا وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ فَهُوَ بِفَتْحِ التَّاءِ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ وَنَقَلَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ رِوَايَةِ الْأَكْثَرِينَ قَالَ وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ بِضَمِّهَا قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ ثَعْلَبٌ وَأَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ وَجَمَاعَاتٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ يُقَالُ كَسَبْتُ الرَّجُلَ مَالًا وَأَكْسَبْتُهُ مَالًا لُغَتَانِ أَفْصَحُهُمَا بِاتِّفَاقِهِمْ كَسَبْتُهُ بِحَذْفِ الْأَلْفِ.

.
وَأَمَّا مَعْنَى تَكْسِبُ الْمَعْدُومَ فَمَنْ رَوَاهُ بِالضَّمِّ فَمَعْنَاهُ تُكْسِبُ غَيْرَكَ الْمَالَ الْمَعْدُومَ أَيْ تُعْطِيهِ إِيَّاهُ تَبَرُّعًا فَحَذَفَ أحد المفعولين وقيل معناه تعطى الناس مالايجدونه عِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ نَفَائِسِ الْفَوَائِدِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ.

.
وَأَمَّا رِوَايَةُ الْفَتْحِ فَقِيلَ مَعْنَاهَا كَمَعْنَى الضَّمِّ وَقِيلَ مَعْنَاهَا تَكْسِبُ الْمَالَ الْمَعْدُومَ وَتُصِيبُ مِنْهُ مَا يَعْجِزُ غَيْرُكَ عَنْ تَحْصِيلِهِ وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَتَمَادَحُ بِكَسْبِ الْمَالِ الْمَعْدُومِ لَا سِيَّمَا قُرَيْشٌ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَحْظُوظًا فِي تِجَارَتِهِ وَهَذَا الْقَوْلُ حَكَاهُ الْقَاضِي عَنْ ثَابِتٍ صَاحِبِ الدَّلَائِلِ وَهُوَ ضَعِيفٌ أَوْ غَلَطٌ وَأَيُّ مَعْنًى لِهَذَا الْقَوْلِ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ إِلَّا أَنَّهُ يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ بِأَنْ يُضَمَّ إِلَيْهِ زِيَادَةٌ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ تَكْسِبُ الْمَالَ الْعَظِيمَ الَّذِي يَعْجِزُ عَنْهُ غَيْرُكَ ثُمَّ تَجُودُ بِهِ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ وَأَبْوَابِ الْمَكَارِمِ كَمَا ذَكَرَتْ مِنْ حَمْلِ الْكَلِّ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَقِرَى الضَّيْفِ وَالْإِعَانَةِ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ فَهَذَا هُوَالصَّوَابُ فِي هَذَا الْحَرْفِ.

.
وَأَمَّا صَاحِبُ التَّحْرِيرِ فَجَعَلَ الْمَعْدُومَ عِبَارَةً عَنِ الرَّجُلِ الْمُحْتَاجِ الْمُعْدِمِ الْعَاجِزِ عَنِ الْكَسْبِ وَسَمَّاهُ مَعْدُومًا لِكَوْنِهِ كَالْمَعْدُومِ الْمَيِّتِ حَيْثُ لَمْ يَتَصَرَّفْ فِي الْمَعِيشَةِ كَتَصَرُّفِ غَيْرِهِ قَالَ وَذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ أَنَّ صَوَابَهُ الْمُعْدِمَ بِحَذْفِ الْوَاوِ قَالَ وَلَيْسَ كَمَا قَالَ الْخَطَّابِيُّ بَلْ مَا رَوَاهُ الرُّوَاةُ صَوَابٌ قَالَ وَقِيلَ مَعْنَى تَكْسِبُ الْمَعْدُومَ أَيْ تَسْعَى فِي طَلَبِ عَاجِزٍ تُنْعِشُهُ وَالْكَسْبُ هُوَ الِاسْتِفَادَةُ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ وَإِنْ كَانَ لَهُ بَعْضُ الِاتِّجَاهِ كَمَا حَرَّرْتُ لَفْظَهُ فَالصَّحِيحُ الْمُخْتَارُ مَا قَدَّمْتُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

.
وَأَمَّا قَوْلُهَا وَتَقْرِي الضَّيْفَ فَهُوَ بِفَتْحِ التَّاءِ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ يُقَالُ قَرَيْتُ الضَّيْفَ أُقْرِيهِ قِرًى بِكَسْرِ الْقَافِ مَقْصُورٌ وَقَرَاءً بِفَتْحِ الْقَافِ وَالْمَدِّ وَيُقَالُ لِلطَّعَامِ الَّذِي يُضَيِّفُهُ بِهِ قِرًى بِكَسْرِ الْقَافِ مَقْصُورٌ وَيُقَالُ لِفَاعِلِهِ قَارٍ مِثْلُ قَضَى فَهُوَ قَاضٍ.

.
وَأَمَّا قَوْلُهَا وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ فَالنَّوَائِبُ جَمْعُ نائبة وهى الحادثة وانما قَالَتْ نَوَائِبَ الْحَقِّ لِأَنَّ النَّائِبَةَ قَدْ تَكُونُ فِي الْخَيْرِ وَقَدْ تَكُونُ فِي الشَّرِّ قَالَ لَبِيدٌ ... نَوَائِبُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ كِلَاهُمَا ... فَلَا الْخَيْرُ مَمْدُودٌ وَلَا الشَّرُّ لَازِبُ ... (قَالَ الْعُلَمَاءُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَعْنَى كَلَامِ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إِنَّكَ لَا يُصِيبُكَ مَكْرُوهٌ لِمَا جَعَلَ اللَّهُ فِيكَ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَكَرَمِ الشَّمَائِلِ وَذَكَرَتْ ضُرُوبًا مِنْ ذَلِكَ وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ وَخِصَالَ الْخَيْرِ سَبَبُ السَّلَامَةِ مِنْ مَصَارِعِ السُّوءِ وَفِيهِ مَدْحُ الْإِنْسَانِ فِي وَجْهِهِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ لِمَصْلَحَةٍ نظر أو فيه تَأْنِيسُ مَنْ حَصَلَتْ لَهُ مَخَافَةً مِنْ أَمْرٍ وَتَبْشِيرُهُ وَذِكْرُ أَسْبَابِ السَّلَامَةِ لَهُ وَفِيهِ أَعْظَمُ دَلِيلٍ وَأَبْلَغُ حُجَّةٍ عَلَى كَمَالِ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَجَزَالَةِ رَأْيِهَا وَقُوَّةِ نَفْسِهَا وَثَبَاتِ قَلْبِهَا وَعِظَمِ فِقْهِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهَا (وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ) مَعْنَاهُ صَارَ نَصْرَانِيًّا وَالْجَاهِلِيَّةُ مَا قَبْلَ رِسَالَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُمُّوا بِذَلِكَ لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ فَاحِشِ الْجَهَالَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهَا (وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ وَيَكْتُبُ مِنَ الْإِنْجِيلِ بِالْعَرَبِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَكْتُبَ) هَكَذَا هُوَ فِي مُسْلِمٍ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ وَيَكْتُبُ بِالْعَرَبِيَّةِ وَوَقَعَ فِي أَوَّلِ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ يَكْتُبُ)الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ فَيَكْتُبُ مِنَ الْإِنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ وَحَاصِلُهُمَا أَنَّهُ تَمَكَّنَ مِنْ مَعْرِفَةِ دِينِ النَّصَارَى بِحَيْثُ إِنَّهُ صَارَ يَتَصَرَّفُ فِي الْإِنْجِيلِ فَيَكْتُبُ أَيَّ مَوْضِعٍ شَاءَ مِنْهُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ إِنْ شَاءَ وَبِالْعَرَبِيَّةِ إِنْ شَاءَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهَا (فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَيْ عم اسمع من بن أَخِيكَ) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى (قَالَتْ خَدِيجَةُ أَيِ بن عَمِّ) هَكَذَا هُوَ فِي الْأُصُولِ فِي الْأَوَّلِ عم وفى الثانى بن عم وكلاهما صحيح أما الثانى فلأنه بن عَمِّهَا حَقِيقَةً كَمَا ذَكَرَهُ أَوَّلًا فِي الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدٍ وَهِيَ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدٍ.

.
وَأَمَّا الْأَوَّلُ فسمته عما مجازا للاحترام وهذه عَادَةُ الْعَرَبِ فِي آدَابِ خِطَابِهِمْ يُخَاطِبُ الصَّغِيرُ الكبير بياعم احْتِرَامًا لَهُ وَرَفْعًا لِمَرْتَبَتِهِ وَلَا يَحْصُلُ هَذَا الغرض بقولها يا بن عَمِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

     قَوْلُهُ  (هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) النَّامُوسُ بِالنُّونِ وَالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَهُوَ جِبْرِيلُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ وَغَرِيبِ الْحَدِيثِ النَّامُوسُ فِي اللُّغَةِ صَاحِبُ سِرِّ الْخَيْرِ وَالْجَاسُوسُ صَاحِبُ سِرِّ الشَّرِّ وَيُقَالُ نَمَسْتُ السِّرَّ بِفَتْحِ النُّونِ وَالْمِيمِ أَنْمِسُهُ بِكَسْرِ الْمِيمِ نَمْسًا أَيْ كَتَمْتُهُ وَنَمَسْتُ الرَّجُلَ وَنَامَسْتُهُ سَارَرْتُهُ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُسَمَّى النَّامُوسَ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ الْمُرَادُ هُنَا قَالَ الْهَرَوِيُّ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّهُ بِالْغَيْبِ وَالْوَحْيِ.

.
وَأَمَّا .

     قَوْلُهُ  الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَذَا هُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا وَهُوَ الْمَشْهُورُ وَرُوِّينَاهُ فِي غَيْرِ الصَّحِيحِ نَزَلَ عَلَى عِيسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وكلاهما صحيح قوله (ياليتنى فِيهَا جَذَعًا) الضَّمِيرُ فِيهَا يَعُودُ إِلَى أَيَّامِ النُّبُوَّةِ وَمُدَّتِهَا وَقَولُهُ جَذَعًا يَعْنِي شَابًّا قَوِيًّا حَتَّى أُبَالِغَ فِي نُصْرَتِكَ وَالْأَصْلُ فِي الْجَذَعِ لِلدَّوَابِّ وَهُوَ هُنَا اسْتِعَارَةٌ.

.
وَأَمَّا .

     قَوْلُهُ  جَذَعًا فَهَكَذَا هُوَ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا بالنصب قال القاضي ووقع فى رواية بن مَاهَانَ جَذَعٌ بِالرَّفْعِ وَكَذَلِكَ هُوَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ فِي الْبُخَارِيِّ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ ظَاهِرَةٌ.

.
وَأَمَّا النَّصْبُ فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وَجْهِهِ فَقَالَ الْخَطَّابِيُّ والمازرى وغيرهمانُصِبَ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ الْمَحْذُوفَةِ تَقْدِيرُهُ لَيْتَنِي أَكُونُ فِيهَا جَذَعًا وَهَذَا يَجِيءُ عَلَى مَذْهَبِ النَّحْوِيِّينَ الْكُوفِيِّينَ.

     وَقَالَ  الْقَاضِي الظَّاهِرُ عِنْدِي أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ وَخَبَرُ لَيْتَ .

     قَوْلُهُ  فِيهَا وَهَذَا الَّذِي اخْتَارَهُ الْقَاضِي هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي اخْتَارَهُ أَهْلُ التَّحْقِيقِ وَالْمَعْرِفَةِ مِنْ شُيُوخِنَا وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

     قَوْلُهُ  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم (أو مخرجى هُمْ) هُوَ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ هَكَذَا الرواية ويجوز تخفيف الياء على وجه والصحيح الْمَشْهُورِ تَشْدِيدُهَا وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى بِمُصْرِخِيَّ وَهُوَ جَمْعُ مُخْرِجٍ فَالْيَاءُ الْأُولَى يَاءُ الْجَمْعِ وَالثَّانِيَةُ ضَمِيرُ الْمُتَكَلِّمِ وَفُتِحَتْ لِلتَّخْفِيفِ لِئَلَّا يَجْتَمِعَ الْكَسْرَةُ وَالْيَاءَانِ بَعْدَ كَسْرَتَيْنِ .

     قَوْلُهُ  (وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ) أَيْ وَقْتَ خُرُوجِكَ .

     قَوْلُهُ  (أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا) هُوَ بِفَتْحِ الزَّايِ وَبِهَمْزَةٍ قَبْلَهَا أَيْ قَوِيًّا بَالِغًا .

     قَوْلُهُ  فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى (أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ قَالَ قَالَ الزُّهْرِيُّ وَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ) هَكَذَا هُوَ فِي الْأُصُولِ وَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بِالْوَاوِ وَهُوَ الصَّحِيحُ وَالْقَائِلُ وَأَخْبَرَنِي هُوَ الزُّهْرِيُّ وَفِي هَذِهِ الْوَاوِ فَائِدَةٌ لَطِيفَةٌ قَدَّمْنَاهَا فِي مَوَاضِعَ وَهِيَ أَنَّ مَعْمَرًا سَمِعَ مِنَ الزُّهْرِيِّ أَحَادِيثَ قَالَ الزُّهْرِيُّ فِيهَا أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بِكَذَا وَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بِكَذَا إِلَى آخِرِهَا فَإِذَا أَرَادَ مَعْمَرٌ رِوَايَةَ غَيْرِ الْأَوَّلِ قَالَ قَالَ الزُّهْرِيُّ وَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ فَأَتَى بِالْوَاوِ لِيَكُونَ رَاوِيًا كَمَا سَمِعَ وَهَذَا مِنَ الِاحْتِيَاطِ وَالتَّحْقِيقِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى الْأَلْفَاظِ وَالتَّحَرِّي فِيهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

     قَوْلُهُ  فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَعْنِي رِوَايَةَ مَعْمَرٍ (فَوَاللَّهِ لَا يُحْزِنْكَ اللَّهُ) هُوَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ وَقَدْ قَدَّمْنَا بَيَانَهُ قولهالعلماء انما ابتدىء صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرُّؤْيَا لِئَلَّا يَفْجَأَهُ الملك ويأتيه صريح النبوة بغتة فلا يحتملها قوى البشرية فبدىء بِأَوَّلِ خِصَالِ النُّبُوَّةِ وَتَبَاشِيرِ الْكَرَامَةِ مِنْ صِدْقِ الرُّؤْيَا وَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ مِنْ رُؤْيَةِ الضَّوْءِ وَسَمَاعِ الصَّوْتِ وَسَلَامِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ عَلَيْهِ بِالنُّبُوَّةِ قَوْلُهَا (ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ فَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ يَتَحَنَّثُ فِيهِ وَهُوَ التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ أُولَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهِ وَيَتَزَوَّدَ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ رضى الله عنها فيتزود لمثلها حتى فجئه الْحَقُّ) أَمَّا الْخَلَاءُ فَمَمْدُودٌ وَهُوَ الْخَلْوَةُ وَهِيَ شَأْنُ الصَّالِحِينَ وَعِبَادِ اللَّهِ الْعَارِفِينَ قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ حُبِّبَتِ الْعُزْلَةُ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ مَعَهَا فَرَاغَ الْقَلْبِ وَهِيَ مُعِينةٌ عَلَى التَّفَكُّرِ وَبِهَا يَنْقَطِعُ عَنْ مَأْلُوفَاتِ الْبَشَرِ وَيَتَخَشَّعُ قَلْبُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

.
وَأَمَّا الْغَارُ فَهُوَ الْكَهْفُ وَالنَّقْبُ فِي الْجَبَلِ وَجَمْعُهُ غِيرَانٌ وَالْمَغَارُ وَالْمَغَارَةُ بِمَعْنَى الْغَارِ وَتَصْغِيرُ الْغَارِ غُوَيْرٌ.

.
وَأَمَّا حِرَاءٌ فَبِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ وَبِالْمَدِّ وَهُوَ مَصْرُوفٌ وَمُذَكَّرٌ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ.

     وَقَالَ  الْقَاضِي فِيهِ لُغَتَانِ التَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ وَالتَّذْكِيرُ أَكْثَرُ فَمَنْ ذَكَّرَهُ صَرَفَهُ وَمَنْ أَنَّثَهُ لَمْ يَصْرِفْهُ أَرَادَ الْبُقْعَةَ أَوِ الْجِهَةَ الَّتِي فِيهَا الْجَبَلُ قَالَ الْقَاضِي.

     وَقَالَ  بَعْضُهُمْ فِيهِ حَرَى بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالْقَصْرِ وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ قَالَ أَبُو عُمَرَ الزَّاهِدُ صَاحِبُ ثَعْلَبٍ وَأَبُو سُلَيْمَانُ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُمَا أَصْحَابُ الْحَدِيثِ وَالْعَوَامُّ يُخْطِئُونَ فِي حِرَاءٍ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ يَفْتَحُونَ الْحَاءَ وَهِيَ مَكْسُورَةٌ وَيَكْسِرُونَ الرَّاءَ وَهِيَ مَفْتُوحَةٌ وَيَقْصُرُونَ الْأَلِفَ وَهِيَ مَمْدُودَةٌ وَحِرَاءٌ جَبَلٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ نَحْوَ ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ عَنْ يَسَارِ الذَّاهِبِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى مِنًى وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

.
وَأَمَّا التَّحَنُّثُ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ وَالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ فَقَدْ فَسَّرَهُ بِالتَّعَبُّدِ وَهُوَ تَفْسِيرٌ صَحِيحٌ وَأَصْلُ الْحِنْثِ الْإِثْمُ فَمَعْنَى يَتَحَنَّثُ يَتَجَنَّبُ الْحِنْثَ فَكَأَنَّهُ بِعِبَادَتِهِ يَمْنَعُ نَفْسَهُ مِنَ الْحِنْثِ وَمِثْلُ يَتَحَنَّثُ يتحرح وَيَتَأَثَّمُ أَيْ يَتَجَنَّبُ الْحَرَجَ وَالْإِثْمَ.

.
وَأَمَّا قَوْلُهَا الليالى أولات العدد فمتعلق يتحنث لَا بِالتَّعَبُّدِ وَمَعْنَاهُ يَتَحَنَّثُ اللَّيَالِيَ وَلَوْ جُعِلَ مُتَعَلِّقًا بِالتَّعَبُّدِ فَسَدَ الْمَعْنَى فَإِنَّ التَّحَنُّثَ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ اللَّيَالِي بَلْ يُطْلَقُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَهَذَا التَّفْسِيرُ اعْتَرَضَ بَيْنَ كَلَامِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.

.
وَأَمَّا كَلَامُهَا فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ اللَّيَالِيَ أُولَاتِ الْعَدَدِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَقَوْلُهَا فَجِئَهُ الْحَقُّ أَيْ جَاءَهُ الْوَحْيُ بَغْتَةً فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ مُتَوَقِّعًا لِلْوَحْيِ وَيُقَالُ فَجِئَهُ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَبَعْدَهَا هَمْزَةٌ مَفْتُوحَةٌ وَيُقَالُ فَجَأَهُ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالْهَمْزَةِ لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ حَكَاهُمَا الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ .

     قَوْلُهُ  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَا أَنَا بقارىء) مَعْنَاهُ لَا أُحْسِنَ الْقِرَاءَةَ فَمَا نَافِيَةٌ هَذَا هُوَ الصَّوَابُ وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيهَا خِلَافًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا نَافِيَةً وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا اسْتِفْهَامِيَّةً وَضَعَّفُوهُ بِإِدْخَالِ الْبَاءِ فِي الْخَبَرِ قَالَ الْقَاضِي وَيُصَحِّحُ قَوْلَ مَنْ قَالَ اسْتِفْهَامِيَّةً رِوَايَةُ مَنْ رَوَى مَا أَقْرَأُ وَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ مَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَيْضًا نَافِيَةً وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

     قَوْلُهُ  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي) أَمَّا غَطَّنِي فَبِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَالطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَمَعْنَاهُ عَصَرَنِي وَضَمَّنِي يُقَالُ غَطَّهُ وَغَتَّهُ وَضَغَطَهُ وَعَصَرَهُ وَخَنَقَهُ وَغَمَزَهُ كُلُّهُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ.

.
وَأَمَّا الْجَهْدُ فَيَجُوزُ فَتْحُ الْجِيمِ وَضَمُّهَا لُغَتَانِ وَهُوَ الْغَايَةُ وَالْمَشَقَّةُ وَيَجُوزُ نَصْبُ الدَّالِ وَرَفْعُهَا فَعَلَى النَّصْبِ بَلَغَ جِبْرِيلُ مِنِّي الْجَهْدَ وَعَلَى الرَّفْعِ بَلَغَ الْجَهْدُ مِنِّي مَبْلَغَهُ وَغَايَتَهُ وَمِمَّنْ ذَكَرَ الْوَجْهَيْنِ فِي نَصْبِ الدَّالِ وَرَفْعِهَا صَاحِبُ التَّحْرِيرِ وَغَيْرُهُ.

.
وَأَمَّا أَرْسَلَنِي فَمَعْنَاهُ أَطْلَقَنِي قَالَ الْعُلَمَاءُ وَالْحِكْمَةُ فِي الْغَطِّ شَغْلُهُ مِنَ الِالْتِفَاتِ وَالْمُبَالَغَةُ فِي أَمْرِهِ بِإِحْضَارِ قَلْبِهِ لِمَا يقوله له وكرره ثلاثا مبالغة فى التنبيه فَفِيهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمُعَلِّمِ أَنْ يَحْتَاطَ فِي تَنْبِيهِ الْمُتَعَلِّمِ وَأَمْرِهِ بِإِحْضَارِ قَلْبِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

     قَوْلُهُ  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (ثُمَّ أَرْسَلَنِي فقال اقرأ باسم ربك الذى خلق) هَذَا دَلِيلٌ صَرِيحٌ فِي أَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ اقْرَأْ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجَمَاهِيرُ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَقِيلَ أوله يا أيها المدثر وَلَيْسَ بِشَيْءٍ وَسَنَذْكُرُهُ بَعْدَ هَذَا فِيمَوْضِعِهِ مِنْ هَذَا الْبَابِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَاسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ بَعْضُ مَنْ يَقُولُ إِنَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لَيْسَتْ مِنَ الْقُرْآنِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ لِكَوْنِهَا لَمْ تُذْكَرْ هُنَا وَجَوَابُ الْمُثْبِتِينَ لَهَا أَنَّهَا لَمْ تَنْزِلْ أَوَّلًا بَلْ نَزَلَتِ الْبَسْمَلَةُ فِي وَقْتٍ آخَرَ كَمَا نَزَلَ بَاقِي السُّورَةِ فِي وَقْتٍ آخَرَ قَوْلُهَا (تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ) بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَمَعْنَى تَرْجُفُ تَرْعَدُ وَتَضْطَرِبُ وَأَصْلُهُ شِدَّةُ الْحَرَكَةِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَسَائِرُ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالْغَرِيبِ وَهِيَ اللَّحْمَةُ الَّتِي بَيْنَ الْمَنْكِبِ وَالْعُنُقِ تَضْطَرِبُ عِنْدَ فَزَعِ الْإِنْسَانِ .

     قَوْلُهُ  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي) هَكَذَا هُوَ فِي الرِّوَايَاتِ مُكَرَّرٌ مَرَّتَيْنِ وَمَعْنَى زَمِّلُونِي غَطُّونِي بِالثِّيَابِ وَلُفُّونِي بِهَا وقولها فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ هُوَ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَهُوَ الْفَزَعُ .

     قَوْلُهُ  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي) قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لَيْسَ هُوَ بِمَعْنَى الشَّكِّ فِيمَا أَتَاهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَكِنَّهُ رُبَّمَا خَشِيَ أَنْ لَا يَقْوَى عَلَى مُقَاوَمَةِ هَذَا الْأَمْرِ وَلَا يَقْدِرَ عَلَى حَمْلِ أَعْبَاءِ الْوَحْيِ فَتَزْهَقَ نَفْسُهُ أَوْ يَكُونَ هَذَا لِأَوَّلِ مَا رَأَى التَّبَاشِيرَ فِي النَّوْمِ وَالْيَقَظَةِ وَسَمِعَ الصَّوْتَ قَبْلَ لِقَاءِ الْمَلَكِ وَتَحَقُّقِهِ رِسَالَةَ رَبِّهِ فَيَكُونُ خَافَ أَنْ يَكُونَ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ فَأَمَّا مُنْذُ جَاءَهُ الْمَلَكُ بِرِسَالَةِ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الشَّكُّ فِيهِ وَلَا يَخْشَى مِنْ تَسَلُّطِ الشَّيْطَانِ عَلَيْهِ وَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ يُحْمَلُ جَمِيعُ مَا وَرَدَ مِنْ مِثْلِ هَذَا فِي حَدِيثِ الْبَعْثِ هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَذَكَرَ أَيْضًا فِي كِتَابِهِ الشِّفَاءُ هَذَيْنِ الِاحْتِمَالَيْنِ فِي كَلَامٍ مَبْسُوطٍ وَهَذَا الِاحْتِمَالُ الثَّانِي ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ خِلَافُ تَصْرِيحِ الْحَدِيثِ لِأَنَّ هَذَا كَانَ بَعْدَ غَطِّ الْمَلَكِ وَإِتْيَانِهِ بِاقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهَا (قَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ كَلَّا أَبْشِرْ فَوَاللَّهِ لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا وَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وتكسب المعدوموَتُقْرِي الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ) أَمَّا قَوْلُهَا كَلَّا فَهِيَ هُنَا كَلِمَةُ نَفْيٍ وَإِبْعَادٍ وهذا أحد معانيها وقد تَأْتِي كَلَّا بِمَعْنَى حَقًّا وَبِمَعْنَى أَلَا الَّتِي لِلتَّنْبِيهِ يُسْتَفْتَحُ بِهَا الْكَلَامُ وَقَدْ جَاءَتْ فِي الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ عَلَى أَقْسَامٍ وَقَدْ جَمَعَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْأَنْبَارِيِّ أَقْسَامَهَا وَمَوَاضِعَهَا فِي بَابٍ مِنْ كِتَابِهِ الْوَقْفُ وَالِابْتِدَاءُ.

.
وَأَمَّا قَوْلُهَا لَا يُخْزِيكَ فَهُوَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَبِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ كَذَا هُوَ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ وَعُقَيْلٍ.

     وَقَالَ  معمر فى روايته يحزنك بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ وَيَجُوزُ فَتْحُ الْيَاءِ فِي أَوَّلِهِ وَضَمُّهَا وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ وَالْخِزْيُ الْفَضِيحَةُ وَالْهَوَانُ.

.
وَأَمَّا صِلَةُ الرَّحِمِ فَهِيَ الْإِحْسَانُ إِلَى الْأَقَارِبِ عَلَى حَسَبِ حَالِ الْوَاصِلِ وَالْمَوْصُولِ فَتَارَةً تَكُونُ بِالْمَالِ وَتَارَةً بِالْخِدْمَةِ وَتَارَةً بِالزِّيَارَةِ وَالسَّلَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

.
وَأَمَّا الْكَلُّ فَهُوَ بِفَتْحِ الْكَافِ وَأَصْلُهُ الثِّقْلُ وَمِنْهُ .

     قَوْلُهُ  تَعَالَى وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مولاه وَيَدْخُلُ فِي حَمْلِ الْكَلِّ الْإِنْفَاقُ عَلَى الضَّعِيفِ وَالْيَتِيمِ وَالْعِيَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَهُوَ مِنَ الْكَلَالِ وَهُوَ الْإِعْيَاءُ.

.
وَأَمَّا قَوْلُهَا وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ فَهُوَ بِفَتْحِ التَّاءِ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ وَنَقَلَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ رِوَايَةِ الْأَكْثَرِينَ قَالَ وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ بِضَمِّهَا قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ ثَعْلَبٌ وَأَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ وَجَمَاعَاتٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ يُقَالُ كَسَبْتُ الرَّجُلَ مَالًا وَأَكْسَبْتُهُ مَالًا لُغَتَانِ أَفْصَحُهُمَا بِاتِّفَاقِهِمْ كَسَبْتُهُ بِحَذْفِ الْأَلْفِ.

.
وَأَمَّا مَعْنَى تَكْسِبُ الْمَعْدُومَ فَمَنْ رَوَاهُ بِالضَّمِّ فَمَعْنَاهُ تُكْسِبُ غَيْرَكَ الْمَالَ الْمَعْدُومَ أَيْ تُعْطِيهِ إِيَّاهُ تَبَرُّعًا فَحَذَفَ أحد المفعولين وقيل معناه تعطى الناس مالايجدونه عِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ نَفَائِسِ الْفَوَائِدِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ.

.
وَأَمَّا رِوَايَةُ الْفَتْحِ فَقِيلَ مَعْنَاهَا كَمَعْنَى الضَّمِّ وَقِيلَ مَعْنَاهَا تَكْسِبُ الْمَالَ الْمَعْدُومَ وَتُصِيبُ مِنْهُ مَا يَعْجِزُ غَيْرُكَ عَنْ تَحْصِيلِهِ وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَتَمَادَحُ بِكَسْبِ الْمَالِ الْمَعْدُومِ لَا سِيَّمَا قُرَيْشٌ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَحْظُوظًا فِي تِجَارَتِهِ وَهَذَا الْقَوْلُ حَكَاهُ الْقَاضِي عَنْ ثَابِتٍ صَاحِبِ الدَّلَائِلِ وَهُوَ ضَعِيفٌ أَوْ غَلَطٌ وَأَيُّ مَعْنًى لِهَذَا الْقَوْلِ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ إِلَّا أَنَّهُ يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ بِأَنْ يُضَمَّ إِلَيْهِ زِيَادَةٌ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ تَكْسِبُ الْمَالَ الْعَظِيمَ الَّذِي يَعْجِزُ عَنْهُ غَيْرُكَ ثُمَّ تَجُودُ بِهِ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ وَأَبْوَابِ الْمَكَارِمِ كَمَا ذَكَرَتْ مِنْ حَمْلِ الْكَلِّ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَقِرَى الضَّيْفِ وَالْإِعَانَةِ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ فَهَذَا هُوَالصَّوَابُ فِي هَذَا الْحَرْفِ.

.
وَأَمَّا صَاحِبُ التَّحْرِيرِ فَجَعَلَ الْمَعْدُومَ عِبَارَةً عَنِ الرَّجُلِ الْمُحْتَاجِ الْمُعْدِمِ الْعَاجِزِ عَنِ الْكَسْبِ وَسَمَّاهُ مَعْدُومًا لِكَوْنِهِ كَالْمَعْدُومِ الْمَيِّتِ حَيْثُ لَمْ يَتَصَرَّفْ فِي الْمَعِيشَةِ كَتَصَرُّفِ غَيْرِهِ قَالَ وَذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ أَنَّ صَوَابَهُ الْمُعْدِمَ بِحَذْفِ الْوَاوِ قَالَ وَلَيْسَ كَمَا قَالَ الْخَطَّابِيُّ بَلْ مَا رَوَاهُ الرُّوَاةُ صَوَابٌ قَالَ وَقِيلَ مَعْنَى تَكْسِبُ الْمَعْدُومَ أَيْ تَسْعَى فِي طَلَبِ عَاجِزٍ تُنْعِشُهُ وَالْكَسْبُ هُوَ الِاسْتِفَادَةُ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ وَإِنْ كَانَ لَهُ بَعْضُ الِاتِّجَاهِ كَمَا حَرَّرْتُ لَفْظَهُ فَالصَّحِيحُ الْمُخْتَارُ مَا قَدَّمْتُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

.
وَأَمَّا قَوْلُهَا وَتَقْرِي الضَّيْفَ فَهُوَ بِفَتْحِ التَّاءِ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ يُقَالُ قَرَيْتُ الضَّيْفَ أُقْرِيهِ قِرًى بِكَسْرِ الْقَافِ مَقْصُورٌ وَقَرَاءً بِفَتْحِ الْقَافِ وَالْمَدِّ وَيُقَالُ لِلطَّعَامِ الَّذِي يُضَيِّفُهُ بِهِ قِرًى بِكَسْرِ الْقَافِ مَقْصُورٌ وَيُقَالُ لِفَاعِلِهِ قَارٍ مِثْلُ قَضَى فَهُوَ قَاضٍ.

.
وَأَمَّا قَوْلُهَا وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ فَالنَّوَائِبُ جَمْعُ نائبة وهى الحادثة وانما قَالَتْ نَوَائِبَ الْحَقِّ لِأَنَّ النَّائِبَةَ قَدْ تَكُونُ فِي الْخَيْرِ وَقَدْ تَكُونُ فِي الشَّرِّ قَالَ لَبِيدٌ ... نَوَائِبُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ كِلَاهُمَا ... فَلَا الْخَيْرُ مَمْدُودٌ وَلَا الشَّرُّ لَازِبُ ... (قَالَ الْعُلَمَاءُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَعْنَى كَلَامِ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إِنَّكَ لَا يُصِيبُكَ مَكْرُوهٌ لِمَا جَعَلَ اللَّهُ فِيكَ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَكَرَمِ الشَّمَائِلِ وَذَكَرَتْ ضُرُوبًا مِنْ ذَلِكَ وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ وَخِصَالَ الْخَيْرِ سَبَبُ السَّلَامَةِ مِنْ مَصَارِعِ السُّوءِ وَفِيهِ مَدْحُ الْإِنْسَانِ فِي وَجْهِهِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ لِمَصْلَحَةٍ نظر أو فيه تَأْنِيسُ مَنْ حَصَلَتْ لَهُ مَخَافَةً مِنْ أَمْرٍ وَتَبْشِيرُهُ وَذِكْرُ أَسْبَابِ السَّلَامَةِ لَهُ وَفِيهِ أَعْظَمُ دَلِيلٍ وَأَبْلَغُ حُجَّةٍ عَلَى كَمَالِ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَجَزَالَةِ رَأْيِهَا وَقُوَّةِ نَفْسِهَا وَثَبَاتِ قَلْبِهَا وَعِظَمِ فِقْهِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهَا (وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ) مَعْنَاهُ صَارَ نَصْرَانِيًّا وَالْجَاهِلِيَّةُ مَا قَبْلَ رِسَالَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُمُّوا بِذَلِكَ لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ فَاحِشِ الْجَهَالَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهَا (وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ وَيَكْتُبُ مِنَ الْإِنْجِيلِ بِالْعَرَبِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَكْتُبَ) هَكَذَا هُوَ فِي مُسْلِمٍ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ وَيَكْتُبُ بِالْعَرَبِيَّةِ وَوَقَعَ فِي أَوَّلِ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ يَكْتُبُ)الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ فَيَكْتُبُ مِنَ الْإِنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ وَحَاصِلُهُمَا أَنَّهُ تَمَكَّنَ مِنْ مَعْرِفَةِ دِينِ النَّصَارَى بِحَيْثُ إِنَّهُ صَارَ يَتَصَرَّفُ فِي الْإِنْجِيلِ فَيَكْتُبُ أَيَّ مَوْضِعٍ شَاءَ مِنْهُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ إِنْ شَاءَ وَبِالْعَرَبِيَّةِ إِنْ شَاءَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهَا (فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَيْ عم اسمع من بن أَخِيكَ) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى (قَالَتْ خَدِيجَةُ أَيِ بن عَمِّ) هَكَذَا هُوَ فِي الْأُصُولِ فِي الْأَوَّلِ عم وفى الثانى بن عم وكلاهما صحيح أما الثانى فلأنه بن عَمِّهَا حَقِيقَةً كَمَا ذَكَرَهُ أَوَّلًا فِي الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدٍ وَهِيَ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدٍ.

.
وَأَمَّا الْأَوَّلُ فسمته عما مجازا للاحترام وهذه عَادَةُ الْعَرَبِ فِي آدَابِ خِطَابِهِمْ يُخَاطِبُ الصَّغِيرُ الكبير بياعم احْتِرَامًا لَهُ وَرَفْعًا لِمَرْتَبَتِهِ وَلَا يَحْصُلُ هَذَا الغرض بقولها يا بن عَمِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

     قَوْلُهُ  (هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) النَّامُوسُ بِالنُّونِ وَالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَهُوَ جِبْرِيلُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ وَغَرِيبِ الْحَدِيثِ النَّامُوسُ فِي اللُّغَةِ صَاحِبُ سِرِّ الْخَيْرِ وَالْجَاسُوسُ صَاحِبُ سِرِّ الشَّرِّ وَيُقَالُ نَمَسْتُ السِّرَّ بِفَتْحِ النُّونِ وَالْمِيمِ أَنْمِسُهُ بِكَسْرِ الْمِيمِ نَمْسًا أَيْ كَتَمْتُهُ وَنَمَسْتُ الرَّجُلَ وَنَامَسْتُهُ سَارَرْتُهُ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُسَمَّى النَّامُوسَ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ الْمُرَادُ هُنَا قَالَ الْهَرَوِيُّ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّهُ بِالْغَيْبِ وَالْوَحْيِ.

.
وَأَمَّا .

     قَوْلُهُ  الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَذَا هُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا وَهُوَ الْمَشْهُورُ وَرُوِّينَاهُ فِي غَيْرِ الصَّحِيحِ نَزَلَ عَلَى عِيسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وكلاهما صحيح قوله (ياليتنى فِيهَا جَذَعًا) الضَّمِيرُ فِيهَا يَعُودُ إِلَى أَيَّامِ النُّبُوَّةِ وَمُدَّتِهَا وَقَولُهُ جَذَعًا يَعْنِي شَابًّا قَوِيًّا حَتَّى أُبَالِغَ فِي نُصْرَتِكَ وَالْأَصْلُ فِي الْجَذَعِ لِلدَّوَابِّ وَهُوَ هُنَا اسْتِعَارَةٌ.

.
وَأَمَّا .

     قَوْلُهُ  جَذَعًا فَهَكَذَا هُوَ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا بالنصب قال القاضي ووقع فى رواية بن مَاهَانَ جَذَعٌ بِالرَّفْعِ وَكَذَلِكَ هُوَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ فِي الْبُخَارِيِّ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ ظَاهِرَةٌ.

.
وَأَمَّا النَّصْبُ فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وَجْهِهِ فَقَالَ الْخَطَّابِيُّ والمازرى وغيرهمانُصِبَ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ الْمَحْذُوفَةِ تَقْدِيرُهُ لَيْتَنِي أَكُونُ فِيهَا جَذَعًا وَهَذَا يَجِيءُ عَلَى مَذْهَبِ النَّحْوِيِّينَ الْكُوفِيِّينَ.

     وَقَالَ  الْقَاضِي الظَّاهِرُ عِنْدِي أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ وَخَبَرُ لَيْتَ .

     قَوْلُهُ  فِيهَا وَهَذَا الَّذِي اخْتَارَهُ الْقَاضِي هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي اخْتَارَهُ أَهْلُ التَّحْقِيقِ وَالْمَعْرِفَةِ مِنْ شُيُوخِنَا وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

     قَوْلُهُ  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم (أو مخرجى هُمْ) هُوَ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ هَكَذَا الرواية ويجوز تخفيف الياء على وجه والصحيح الْمَشْهُورِ تَشْدِيدُهَا وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى بِمُصْرِخِيَّ وَهُوَ جَمْعُ مُخْرِجٍ فَالْيَاءُ الْأُولَى يَاءُ الْجَمْعِ وَالثَّانِيَةُ ضَمِيرُ الْمُتَكَلِّمِ وَفُتِحَتْ لِلتَّخْفِيفِ لِئَلَّا يَجْتَمِعَ الْكَسْرَةُ وَالْيَاءَانِ بَعْدَ كَسْرَتَيْنِ .

     قَوْلُهُ  (وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ) أَيْ وَقْتَ خُرُوجِكَ .

     قَوْلُهُ  (أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا) هُوَ بِفَتْحِ الزَّايِ وَبِهَمْزَةٍ قَبْلَهَا أَيْ قَوِيًّا بَالِغًا .

     قَوْلُهُ  فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى (أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ قَالَ قَالَ الزُّهْرِيُّ وَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ) هَكَذَا هُوَ فِي الْأُصُولِ وَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بِالْوَاوِ وَهُوَ الصَّحِيحُ وَالْقَائِلُ وَأَخْبَرَنِي هُوَ الزُّهْرِيُّ وَفِي هَذِهِ الْوَاوِ فَائِدَةٌ لَطِيفَةٌ قَدَّمْنَاهَا فِي مَوَاضِعَ وَهِيَ أَنَّ مَعْمَرًا سَمِعَ مِنَ الزُّهْرِيِّ أَحَادِيثَ قَالَ الزُّهْرِيُّ فِيهَا أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بِكَذَا وَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بِكَذَا إِلَى آخِرِهَا فَإِذَا أَرَادَ مَعْمَرٌ رِوَايَةَ غَيْرِ الْأَوَّلِ قَالَ قَالَ الزُّهْرِيُّ وَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ فَأَتَى بِالْوَاوِ لِيَكُونَ رَاوِيًا كَمَا سَمِعَ وَهَذَا مِنَ الِاحْتِيَاطِ وَالتَّحْقِيقِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى الْأَلْفَاظِ وَالتَّحَرِّي فِيهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

     قَوْلُهُ  فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَعْنِي رِوَايَةَ مَعْمَرٍ (فَوَاللَّهِ لَا يُحْزِنْكَ اللَّهُ) هُوَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ وَقَدْ قَدَّمْنَا بَيَانَهُ قولهفِي رِوَايَةِ عُقَيْلٍ وَهُوَ بِضَمِّ الْعَيْنِ (يَرْجُفُ فُؤَادَهُ) قَدْ قَدَّمْنَا فِي حَدِيثِ أَهْلُ الْيَمَنِ أَرَقُّ قُلُوبًا بَيَانَ الِاخْتِلَافِ فِي الْقَلْبِ وَالْفُؤَادِ.

.
وَأَمَّا عِلْمُ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِرَجَفَانِ فُؤَادِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا رَأَتْهُ حَقِيقَةً وَيَجُوزُ أَنَّهَا لَمْ تَرَهُ وَعَلِمَتْهُ بِقَرَائِنَ وَصُورَةِ الْحَالِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ

هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير،  [160] بن سرح بِفَتْح أَوله ومهملات أَن عَائِشَة أخْبرته قَالَت كَانَ أول مَا بُدِئَ بِهِ هُوَ مُرْسل صحابية فَإِنَّهَا لم تدْرك هَذِه الْقَضِيَّة فإمَّا أَن تكون سَمعتهَا من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو من صَحَابِيّ قَالَ بن حجر وَيُؤَيّد سماعهَا مِنْهُ قَوْلهَا فِي أثْنَاء الحَدِيث قَالَ فأخذني فغطني من الْوَحْي من بَيَانِيَّة أَو تبعيضية مثل بِالنّصب حَال فلق الصُّبْح بِفَتْح الْفَاء وَاللَّام وَحكي سكونها ضياؤه يضْرب مثلا للشَّيْء الْوَاضِح الْبَين الْخَلَاء بِالْمدِّ الْخلْوَة بِغَار حراء بِكَسْر الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الرَّاء وَالْمدّ مَصْرُوف وروى بِفَتْح الْحَاء وَالْقصر جبل بَينه وَبَين مَكَّة ثَلَاثَة أَمْيَال على يسَار الذَّاهِب من مَكَّة إِلَى منى يَتَحَنَّث فِيهِ فِي سيرة بن هِشَام يتحنف بِالْفَاءِ أَي يتتبع الحنيفية وَهِي دين إِبْرَاهِيم وَالْفَاء تبدل ثاء فِي كثير من كَلَامهم وَهُوَ التَّعَبُّد مدرج فِي الْخَبَر قطعا قَالَ بن حجر وَهُوَ يحْتَمل أَن يكون من كَلَام عُرْوَة أَو من دونه قَالَ وَجزم الطَّيِّبِيّ بِأَنَّهُ من تَفْسِير الزُّهْرِيّ وَلم يذكر دَلِيله قَالَ وَلم يَأْتِ التَّصْرِيح بِصفة تعبده لَكِن فِي رِوَايَة عبيد بن عُمَيْر عِنْد بن إِسْحَاق فيطعم من يرد عَلَيْهِ من الْمُشْركين وَجَاء عَن بعض الْمَشَايِخ أَنه كَانَ يتعبد بالتفكر اللَّيَالِي بِالنّصب على الظّرْف وتعلقه بيتحنث لَا بالتعبد أولات الْعدَد فِي رِوَايَة بن إِسْحَاق أَنه كَانَ يعْتَكف شهر رَمَضَان إِلَى أَهله أَي خَدِيجَة لمثلهَا أَي اللَّيَالِي فجئه الْحق بِكَسْر الْجِيم وهمزة أَي بغته وَيُقَال بِفَتْح الْجِيم أَيْضا فَجَاءَهُ الْملك الْفَاء تفسيرية لَا تعقبية فَقَالَ اقْرَأ عِنْد بن إِسْحَاق من مُرْسل عبيد بن عُمَيْر أَتَانِي جِبْرِيل بنمط من ديباج فِيهِ كتاب فَقَالَ اقْرَأ مَا أَنا بقارئ مَا نَافِيَة أَي مَا أحسن الْقِرَاءَة وَقيل استفهامية ورد بِدُخُول الْبَاء فِي الْخَبَر فغطني بغين مُعْجمَة وطاء مُهْملَة أَي عصرني وضمني وَفِي مُسْند الطَّيَالِسِيّ فأخذني بحلقي وَلابْن أبي شيبَة فغمني وَلابْن إِسْحَاق فغتني وَالْكل بِمَعْنى حَتَّى بلغ مني الْجهد بِفَتْح الْجِيم وَضمّهَا لُغَتَانِ وَهُوَ الْغَايَة وَالْمَشَقَّة وبرفع الدَّال ونصبها أَي بلغ الْجهد مني مبلغه وغايته أَو بلغ جِبْرِيل مني الْجهد أَرْسلنِي أطلقني فَرجع بهَا أَي بِالْآيَاتِ ترجف ترْعد وتضطرب بوادره بِالْمُوَحَّدَةِ جمع بادرة وَهِي اللحمة الَّتِي بَين الْمنْكب والعنق تضطرب عِنْد فزع الْإِنْسَان زَمِّلُونِي أَي غطوني بالثياب ولفوني بهَا الروع بِفَتْح الرَّاء الْفَزع لقد خشيت على نَفسِي قيل خشِي الْجُنُون وَأَن يكون مَا رَآهُ من جنس الكهانة قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ وَذَلِكَ قبل حُصُول الْعلم الضَّرُورِيّ لَهُ أَن الَّذِي جَاءَهُ ملك وَأَنه من عِنْد الله وَقيل الْمَوْت من شدَّة الرعب وَقيل الْمَرَض وَقيل الْعَجز عَن حمل أعباء النُّبُوَّة وَقيل عدم الصَّبْر على أَذَى قومه وَقيل أَن يقتلوه وَقيل أَن يكذبوه وَقيل أَن يعيروه كلا نفي وإبعاد لَا يخزيك الله بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وَالزَّاي من الخزي وَهُوَ الفضيحة والهوان الْكل بِفَتْح الْكَاف الثّقل قَالَ النَّوَوِيّ وَيدخل فِي حمل الْكل الْإِنْفَاق على الضَّعِيف واليتيم والعيال وَغير ذَلِك وتكسب الْمَعْدُوم بِفَتْح التَّاء فِي الْأَشْهر وَرُوِيَ بضَمهَا وَعَلِيهِ فَالْمَعْنى تكسب غَيْرك المَال الْمَعْدُوم أَي تعطيه إِيَّاه تَبَرعا فَحذف أحد المفعولين وَقيل تُعْطِي النَّاس مَا لَا يجدونه عِنْد غَيْرك من نفائس الْفَوَائِد وَمَكَارِم الْأَخْلَاق وَأما الْفَتْح فَقيل مَعْنَاهُ كالضم وَقيل مَعْنَاهُ تكسب المَال الْمَعْدُوم وتصيب مِنْهُ مَا يعجز غَيْرك عَن تَحْصِيله وَكَانَت الْعَرَب تتمادح بكسب المَال لَا سِيمَا قُرَيْش وَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم محظوظا فِي تِجَارَته وتقري بِفَتْح أَوله بِلَا همز نَوَائِب جمع نائبة وَهِي الْحَادِثَة ورقة بِفَتْح الرَّاء تنصر بالنُّون أَي صَار نَصْرَانِيّا فَقَالَت لَهُ خَدِيجَة يَا عَم قَالَ بن حجر هَذَا وهم فَإِنَّهُ بن عَمها لَا عَمها فَالصَّوَاب مَا فِي رِوَايَة البُخَارِيّ يَا بن عَم قَالَ وَمَا أجَاب بِهِ النَّوَوِيّ من أَنَّهَا سمته عَمَّا مجَازًا للاحترام على عَادَة الْعَرَب فِي خطابهم الْكَبِير ب يَا عَم احتراما لَهُ فَغير مُتَّجه لِأَن الْقِصَّة لم تَتَعَدَّد ومخرجها مُتحد فَلَا يحمل على أَنَّهَا قَالَت ذَلِك مرَّتَيْنِ فَتعين الْحمل على الْحَقِيقَة انْتهى قلت وَعِنْدِي أَنَّهَا قَالَت بن عَم على حذف حرف النداء فتصحفت بن بِأَيّ هَذَا الناموس إِشَارَة إِلَى الْملك الَّذِي ذكره النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي خَبره وَهُوَ اسْم لجبريل وَأَصله فِي اللُّغَة صَاحب سر الْخَيْر يُقَال نمست الرجل أَي ساررته ونمست السِّرّ كتمته أنزل على مُوسَى فِي رِوَايَة عِنْد أبي نعيم فِي الدَّلَائِل على عِيسَى قَالَ النَّوَوِيّ وَكِلَاهُمَا صَحِيح يَا لَيْتَني فِيهَا أَي فِي أَيَّام النُّبُوَّة ومدتها جذعا أَي شَابًّا قَوِيا حَتَّى أبالغ فِي نصرتك وَأَصله للدواب فاستعير هُنَا ونصبه على الْحَال فِيمَا رَجحه القَاضِي وَالنَّوَوِيّ وَفِي رِوَايَة بن ماهان بِالرَّفْع خبر لَيْت قَالَ بن بَرى الْمَشْهُور عِنْد أهل اللُّغَة والْحَدِيث جذع بِسُكُون الْعين قلت هُوَ رجز مَشْهُور عِنْدهم يتمثلون بِهِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَني فِيهَا جذع أخب فِيهَا وأضع أَو مخرجي هم بِهَمْزَة الإستفهام وَاو الْعَطف الْمَفْتُوحَة ومخرجي بتَشْديد الْيَاء جمع مخرج قلبت وَاو الْجمع يَاء وأدغمت فِي يَاء الْإِضَافَة وَهُوَ خبر مقدم وهم مُبْتَدأ مُؤخر وَإِن يدركني يَوْمك أَي وَقت خُرُوجك مؤزرا بِهَمْزَة وزاي وَرَاء أَي قَوِيا بَالغا من الأزر وَهُوَ الشدَّة وَالْقُوَّة وَأنكر الْقَزاز فَقَالَ لَيْسَ فِي اللُّغَة مؤزرا من الأزر وَإِنَّمَا هُوَ مؤازر من وازرته أَي عاونته غير أَنه قَالَ فوَاللَّه لَا يحزنك الله يَعْنِي بِالْمُهْمَلَةِ وَالنُّون من الْحزن وَفِي أَوله الْفَتْح وَالضَّم من حزنه لُغَة قُرَيْش وأحزنه لُغَة تَمِيم.

     وَقَالَ  قَالَت خَدِيجَة أَي بن عَم أَي بدل قَول الرَّاوِي فِي الطَّرِيق الأولى أَي عَم وَهُوَ الصَّوَاب فَكَأَنَّهُ سقط من تِلْكَ لَفْظَة بن

هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير، 

عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها، أنها قالت: كان أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم.
فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح.
ثم حبب إليه الخلاء.
فكان يخلو بغار حراء يتحنث فيه.
( وهو التعبد) الليالي أولات العدد.
قبل أن يرجع إلى أهله.
ويتزود لذلك.
ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها.
حتى فجئه الحق وهو في غار حراء.
فجاءه الملك فقال: اقرأ.
قال ما أنا بقارئ قال، فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد.
ثم أرسلني فقال: اقرأ.
قال قلت: ما أنا بقارئ.
قال فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد.
ثم أرسلني فقال: اقرأ.
فقلت: ما أنا بقارئ.
فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد.
ثم أرسلني فقال: { { اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم } } [العلق: 1-5] فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ترجف بوادره حتى دخل على خديجة فقال زملوني زملوني فزملوه حتى ذهب عنه الروع.
ثم قال لخديجة أي خديجة! ما لي وأخبرها الخبر.
قال لقد خشيت على نفسي قالت له خديجة: كلا أبشر.
فوالله! لا يخزيك الله أبدا.
والله! إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.
فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى.
وهو ابن عم خديجة، أخي أبيها.
وكان امرأ تنصر في الجاهلية.
وكان يكتب الكتاب العربي، ويكتب من الإنجيل بالعربية ما شاء الله أن يكتب.
وكان شيخا كبيرا قد عمي.
فقالت له خديجة: أي عم، اسمع من ابن أخيك.
قال ورقة ابن نوفل: يا ابن أخي، ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رآه.
فقال له ورقة: هذا الناموس الذي أنزل على موسى صلى الله عليه وسلم.
يا ليتني فيها جذعا.
يا ليتني أكون حيا حين يخرجك قومك.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أومخرجي هم؟ قال ورقة: نعم.
لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عودي.
وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا.


المعنى العام

لقد حبب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلاء والعزلة، والبعد عن الأوثان والرجس، فكان يهرب بنفسه إلى جبل قريب من مكة، وفي فجوة من فجواته، وكهف من كهوفه وغار من غيرانه، يسمى غار حراء، كان يخلو ويتعبد، ويتفكر في الإله الخالق المدبر، ويأسف لقومه الذين يعبدون ما لا ينفع ولا يضر، ولا يغني عن الحق شيئا.

لقد رحل في تجارته إلى الشام، والتقى في طريقه ببعض الرهبان، وبشروا به عمه، وأوصوه به خيرا، إنه يطمع فيما قاله الرهبان أن نبيا من العرب يبعث في آخر الزمان، لقد شهد العرب له بالأمانة والصدق، وشهد له معارفه بمكارم الأخلاق، فلم لا يكمل نفسه، ولم لا يطرق باب التبتل، ولو شهرا من كل عام، لقد اختار شهر رمضان -أو هكذا ألهمه ربه- ليكون شهر التعبد في غار حراء، فكان يأخذ زاد أيام، وماذا عساه أن يكون الزاد؟ إنه لقيمات وتمرات وقليل من اللبن، يأكل منه ما تيسر، ويطعم منه ابن السبيل، ويمنح بقاياه للطيور، ثم يعود إلى مكة وإلى زوجه خديجة، ليأخذ زادا جديدا لمدة جديدة، وإنها لنعمت الزوج، لم تكن تقدم مصلحتها ولا مصلحة بناتها عليه فتطلب منه بقاءه بجوارها، ولم تكن تتقاعس عن تزويده بما يريد، بل كانت عونا له وسندا، تسارع بإعداد زاده، وتحمله عنه خطوات تودعه بها متمنية أن لو كانت بجواره في الغار، لولا بناتها الصغيرات، وكان التبتل عنده صلى الله عليه وسلم فوق مطالب النفس، وشهوة الجسد، فكان ما أسرع أن يودع أهله، ليعيش في خلوته وعزلته، حتى إذا فقد زاده عاد فتزود حتى ينتهي آخر شهر رمضان، فينزل ليعيش بين أهله، إلى شهر رمضان من العام الآخر، وهكذا لقد صفت نفسه، واستنارت مرآة بصيرته، فكانت الرؤيا الصادقة بشرى من بشريات الله، ومقدمة من مقدمات الوحي، فكان صلى الله عليه وسلم لا يرى رؤيا إلا جاءت واضحة صادقة مثل ضوء الصبح.

وفي خلوة من خلواته بغار حراء سمع صوتا يقول له: اقرأ.
ماذا يقرأ وليس أمامه كتاب ولا مكتوب؟ وكيف يقرأ وهو أمي، لا يعرف القراءة؟ قال للصوت متعجبا مجيبا: ما أنا بعارف للقراءة، وشعر بشيء يضمه ويضغط عليه، حتى لتكاد ضلوعه تتداخل، وحتى ليكاد نفسه يضيق، ثم أطلق وتنفس الصعداء، وسمع الصوت ثانيا يقول له: اقرأ .
وأجاب بنفس الجواب الأول: ما تعلمت القراءة، وشعر ثانية بالضغط الشديد، ثم أطلق وسمع الصوت يقول له: اقرأ قال: ما أنا بقارئ، فشعر بالضغط ثالثة، ثم أطلق، وسمع الصوت يقول: { { اقرأ باسم ربك الذي خلق } } الذي خلقك وخلق القوى والقدر { { خلق الإنسان من علق } } فسواه في أحسن تقويم { { اقرأ وربك الأكرم } } كرمك بالشرف والنبوة، وبالقدرة على القراءة وإن كنت أميا، فهو { { الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم } } [العلق: 4- 5] .

وسكت الصوت، والتفت الرسول صلى الله عليه وسلم حوله فلم ير شيئا، لقد فزع في مكانه الموحش وارتعدت فرائصه، ونفرت عروقه، وهرول إلى خديجة يستنجد برأيها السديد، ويشكو لها ما به، ويحكي لها ما رأى: يقول لها: إني أخاف على نفسي، إن ما أجد فوق طاقة البشر، إنني أخشى ألا أطيق، قالت له خديجة: أبشر ولا تخف، إنك تتحلى بكريم الصفات: تصل الأقارب، وتساعد المحتاج وتكرم الضيف، وتعين المنكوب، أبشر فمثلك لا يخزيه الله أبدا.

وفكرت فيما تفسر به ما رأى وما حكى؟ وماذا عساها تفسر له ما لم يسبق لعلمها مثله؟ لكنها تطمئن إلى أن التفسير عند ابن عمها ورقة بن نوفل.
الرجل المثقف.
القارئ والكاتب بالعربية والعبرانية، المطلع على الكتب المنزلة، المهتدي إلى النصرانية الصحيحة قبل تحريفها، ذهبت إليه وحدها، وحكت له قصة زوجها، فقال لها: إنه النبي المنتظر الذي نقرأ عنه في التوراة والإنجيل، والذي يحذر اليهود والنصارى أبناءهم منه، والذي محا الأساقفة ذكره من الكتب المنزلة خوفا على سلطتهم.

وعادت خديجة لتصحب زوجها إلى ابن عمها، ليسمع كل من الآخر.

قالت له: يا ابن عم.
اسمع من ابن أخيك.

فقال ورقة: قال يا ابن أخي، ماذا ترى؟ فقص عليه ما رأى.

قال ورقة: أبشر، هذا أمين الوحي، وصاحب السر، الذي أنزله الله على موسى، يا ليتني أبقى حيا إلى أن يحاربك قومك ويخرجوك من بلدك، وفزع صلى الله عليه وسلم لخبر إخراجه من أحب بلد إلى نفسه.
فقال: أيصل بهم عدائي إلى إخراجي؟ قال: نعم.
ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا عاداه قومه، وإن يدركني يوم إخراجك أنصرك نصرا عظيما، نصرا لا يعادله نصر، وكان ورقة شيخا كبيرا قد عمي، فلم يلبث بعد هذا الحديث إلا قليلا حتى توفي.

المباحث العربية

( كان أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي) أول اسم كان وخبرها الرؤيا الصادقة والوحي لغة الإعلام في خفاء، وقيل: أصله التفهيم، وكل ما دللت به من كلام أو كتابة أو إشارة فهو وحي.
وشرعا الإعلام بالشرع، وهو المقصود في الحديث الذي معنا.
وقد يطلق الوحي ويراد به اسم المفعول منه أي الموحى به.
وهو كلام الله، كما يطلق ويراد به الواسطة النازلة للإعلام.
وهو جبريل عليه السلام حامل الوحي، ومنه حديث كيف يأتيك الوحي؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال...
الحديث.

ومن في قولها من الوحي تبعيضية، أي من أقسام الوحي، ويحتمل أن تكون بيانية.

( الرؤيا الصادقة في النوم) قال الراغب: الرؤية بالهاء: إدراك المرء بحاسة البصر، وتطلق على ما يدرك بالتخيل، نحو أرى أن زيدا ما سفر.
وعلى التفكر النظري نحو إني أرى ما لا ترون وعلى الرأي.
اهـ والرؤيا بالقصر: ما يراه الشخص في منامه، وعليه فقولها في النوم صفة كاشفة لزيادة الإيضاح، وقال بعض العلماء، قد تجيء الرؤيا بمعنى الرؤية، كقوله تعالى: { { وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس } } [الإسراء: 60] فزعم أن المراد بها ما رآه النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء من العجائب، وكان الإسراء جميعه في اليقظة.

قال الحافظ ابن حجر: وعكس بعضهم، فزعم أنه حجة لمن قال: إن الإسراء كان مناما، والأول هو المتعمد، وتتمة الكلام عن أقسام الوحي وحقيقة الرؤيا تأتي في فقه الحديث.

وفي رواية البخاري الصالحة بدل الصادقة قال النووي: وهما بمعنى واحد، قال الحافظ ابن حجر: هما بمعنى واحد بالنسبة إلى أمور الآخرة في حق الأنبياء، وأما بالنسبة إلى أمور الدنيا فبينهما عموم وخصوص.
اهـ.
فالصادقة هي التي تقع بعينها أو بتعبير، ورؤيا الأنبياء كلها كذلك، أي ليست أضغاث أحلام.
والصالحة هي التي تسر، وليست رؤيا الأنبياء كلها كذلك في أمور الدنيا.

( مثل فلق الصبح) بنصب مثل على الحال، أي مشبهة ضياء الصبح، أو على أنه صفة لمصدر محذوف، أي جاءت مجيئا مثل فلق الصبح، والمراد بفلق الصبح ضياؤه، وخص بالتشبيه لظهوره الواضح الذي لا شك فيه، ويقال فيه: فرق الصبح بالراء.

( ثم حبب إليه الخلاء) حبب بالبناء للمجهول، لعدم تحقق الباعث على ذلك، والخلاء بالمد المكان الخالي، ويطلق على الخلوة وهو المراد هنا، والتعبير بثم ظاهر في أن تحبيب الخلوة متأخر عن الرؤيا الصادقة، ويحتمل أن تكون لترتيب الأخبار، فيكون تحبيب الخلوة سابقا على الرؤية الصادقة، والأول أظهر.

( فكان يخلو بغار حراء) الغار: الكهف والنقب في الجبل، والغار والمغارة بمعنى واحد.

وحراء بكسر الحاء وتخفيف الراء وبالمد مصروف، علم مذكر، هذا هو الصحيح.
وقال القاضي عياض: فيه لغتان: التذكير والتأنيث، والتذكير أكثر، فمن ذكره صرفه، ومن أنثه أراد البقعة أو الجهة التي فيها الجبل، ولم يصرفه للعلمية والتأنيث.

وحراء جبل بينه وبين مكة نحو ثلاثة أميال عن يسار الذاهب من مكة إلى منى.

( يتحنث فيه- وهو التعبد- الليالي أولات العدد) التحنث: التعبد وأصل الحنث الإثم، فمعنى يتحنث يتجنب الحنث، فكأنه بعبادته يمنع نفسه من الحنث، ومثله يتحرج يتجنب الحرج، والليالي منصوب على الظرفية، متعلق بيتحنث لا بالتعبد، تفسير للتحنث صادر من الزهري الراوي، وأولات منصوب بالكسرة صفة لليالي، وأولات العدد أي الليالي الكثيرة، وإبهام العدد لاختلافه من فترة إلى أخرى.

( قبل أن يرجع إلى أهله) أي زوجه خديجة وأولاده منها، أي كان يتعبد بعض الليالي، ثم يرجع إلى بيته.

( ويتزود لذلك) أي للتحنث فترة أخرى، والتزود استصحاب الزاد.

( ثم يرجع إلى خديجة) أي بعد التحنث فترة أخرى ليالي ذوات العدد.

( فيتزود لمثلها) لمثل الليالي ذوات العدد، ويحتمل أن يكون الضمير للمرة أو الفعلة أو الخلوة أو العبادة، والأول أقرب.

( حتى فجئه الحق) حتى هنا على بابها من انتهاء الغاية، أي انتهى توجهه لغار حراء مؤقتا بمجيء الملك، فترك ذلك، بقية شهر رمضان لانزعاجه، وليس معنى هذا أنه انقطع عن الذهاب إلى الغار نهائيا، بل إنه ذهب إليه في الغار بعد ذلك كما سيفهم من شرح الحديث التالي وفجئه بفتح الفاء وكسر الجيم ثم همزة، أي جاءه الوحي بغتة، قال النووي: فإنه صلى الله عليه وسلم لم يكن متوقعا للوحي.
وفي الكلام مضاف محذوف، قال الطيبي: أي أمر الحق، وهو الوحي، أو رسول الحق، وهو جبريل، وقيل الأمر البين الظاهر، أو المراد حتى جاءه الملك بالحق، أي بالأمر الذي بعث به.

( وهو في غار حراء) جملة في محل النصب على الحال وهي تفيد رفع توهم من يظن أن الملك لم يدخل إليه الغار، وأنه كلمه من الخارج والنبي صلى الله عليه وسلم بالداخل.

( فجاءه الملك) أي جبريل، لا خلاف في ذلك، وهل كان صلى الله عليه وسلم يعرف حين جاءه أنه الملك جبريل؟ أو أخبر وقت ذاك بأنه جاءه جاء، والتعبير عنه بالملك من لفظ عائشة، وقصدت به ما تعهده، وما عرف بعد بأنه جبريل؟ .. قولان.

والفاء في فجاءه تفسيرية، وليست تعقيبية، لأن مجيء الملك ليس بعد مجيء الوحي، بل هو نفسه، والتفسير عين المفسر من جهة الإجمال، وغيره من جهة التفصيل.

( فقال: اقرأ) قيل: يحتمل أن تكون صيغة الأمر محذوفة، أي قل: اقرأ، وأن مراد جبريل بهذا أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم لفظ اقرأ وإنما لم يقل له.
قل اقرأ إلى آخره لئلا يظن أن لفظة قل قرآن.
قال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أن يكون السر فيه الابتلاء في أول الأمر حتى يترتب عليه ما وقع من الغط وغيره، ولو قال له في الأول.
قل: { { اقرأ باسم ربك } } إلى آخره لبادر إلى ذلك، ولم يقع منه ما وقع.

( ما أنا بقارئ) معناه: لا أحسن القراءة، فما نافية، والباء زائدة لتأكيد النفي، هذا هو الصواب.
وقال بعضهم: يصح أن تكون استفهامية.
استئناسا برواية ما أقرأ؟ ورواية ماذا أقرأ؟ ويضعفه دخول الباء.
وإن حكي عن الأخفش جوازه فهو شاذ.

( غطني حتى بلغ مني الجهد) غطني بفتح الغين وتشديد الطاء، ضمني وعصرني.
والغط في الأصل حبس النفس والجهد روي بفتح الجيم ونصب الدال، أي بلغ الغط مني غاية وسعي.
وروي بضم الجيم والرفع أي بلغ مني الجهد مبلغه.

( ثم أرسلني) أي أطلقني.

( فرجع بها) الباء للمصاحبة.
أي مصاحبا للآيات الخمس المذكورة.

( ترجف بوادره) البوادر جمع بادرة، وهي اللحمة التي بين المنكب والعنق، وجرت العادة بأنها تضطرب عند الفزع.
وجمع فقال: بوادره وللإنسان بادرتان على رأي من يرى الجمع فوق الواحد.
وفي الرواية الثانية ويرجف فؤاده فإسناد الرجفان إلى الفؤاد لأنه محله وإلى البوادر لأنها مظهره.
وعلمت خديجة برجفان فؤاده عن طريق القرائن وصورة الحال.

( زملوني.
زملوني)
مرتين.
وهو كذلك في أكثر الروايات.
ووقع في بعضها عند البخاري مرة واحدة، والتزميل: التلفيف.
وقال ذلك لشدة ما لحقه من هول الأمر.
وجرت العادة بسكون الرعدة بالتلفيف.

( فزملوه حتى ذهب عنه الروع) بفتح الراء، وهو الفزع.

( أي خديجة.
ما لي؟)
أي حرف نداء.
وما اسم استفهام مبتدأ وخبره لي يعنى أي شيء حصل لي؟ .

( كلا) قال النووي وغيره كلا كلمة نفي وإبعاد، وقال القزاز: هي هنا بمعنى الرد لما خشي على نفسه.
أي لا خشية عليك.

( أبشر) لم تبين الروايات هنا المبشر به، اللهم إلا إذا اعتبرنا نفي الخزي خيرا يبشر به، لكن ورد في دلائل البيهقي أبشر، إن هذا والله خير وفي رواية أبشر فإنك رسول الله حقا.

( لا يخزيك الله أبدا) وفي رواية لا يحزنك وأحزنه لغة تميم، وحزنه لغة قريش، والخزي: الوقوع في بلية وشهرة بذلة.

( وتحمل الكل) بفتح الكاف أصله الثقل، ومنه قوله تعالى: { { وهو كل على مولاه } } [النحل: 76] ويدخل في حمل الكل الإنفاق على الضعيف واليتيم والعيال وغير ذلك، وهو من الكلال، وهو الإعياء.

فالكل هو: من لا يستقل بأمره.

( وتكسب المعدوم) روي بضم التاء، ومعناه تكسب غيرك المال المعدوم، أي تعطيه إياه تبرعا، أو تعطي الناس ما لا يجدونه عند غيرك من نفائس الفوائد ومكارم الخلاق.
فحذف أحد المفعولين.
وروي بفتح التاء.
قال النووي: وهذا هو الصحيح المشهور.
يقال: كسبت الرجل مالا.
وأكسبته مالا.
لغتان.
أفصحها باتفاق أهل اللغة كسبته بحذف الألف، والمعنى على الفتح يمكن أن يكون كالمعنى على الضم، وقيل: معناه تكسب المال المعدوم، وتصيب منه ما يعجز غيرك عن تحصيله، ثم تجود به في وجوه الخير، وجعل بعضهم المعدوم عبارة عن الرجل المحتاج المعدم العاجز عن الكسب، وسماه معدوما لأنه كالمعدوم الميت، حيث لم يتصرف في المعيشة كما يتصرف غيره.
وقيل: معناه وتسعى في طلب عاجز فتنعشه.
والكسب هو الاستفادة.

( وتقري الضيف) بفتح التاء.
قال أهل اللغة: يقال قريت الضيف أقريه قرى بكسر القاف، وقرى الضيف إكرامه.

( وتعين على نوائب الحق) النوائب جمع نائبة، وهي الحادثة، وجملة وتعين على نوائب الحق كلمة جامعة لأفراد ما تقدم، ولما لم يتقدم.

( فانطلقت به خديجة) أي مضت معه، فالباء للمصاحبة.

( وهو ابن عم خديجة - أخي أبيها) أخي أبيها بدل من عم وفائدة ذكرها رفع توهم أن العمومة مجازية.

( وكان امرأ تنصر في الجاهلية) أي صار نصرانيا قبل رسالة محمد صلى الله عليه وسلم قال الحافظ ابن حجر: وقد تطلق الجاهلية ويراد بها ما قبل دخول المحكي عنه في الإسلام، وله أمثله كثيرة.
اهـ.

( وكان يكتب الكتاب العربي، ويكتب من الإنجيل بالعربية) هكذا في مسلم الكتاب العربي ويكتب بالعربية ووقع في صحيح البخاري يكتب الكتاب العبراني.
فيكتب من الإنجيل بالعبرانية وكلاهما صحيح، وحاصلهما أنه تمكن من معرفة دين النصارى، بحيث إنه صار يتصرف في الإنجيل، فيكتب أي موضع شاء منه، بالعبرانية إن شاء وبالعربية إن شاء، لتمكنه من الكتابين واللسانين، وإنما وصفته بكتابة الإنجيل دون حفظه لأن حفظ التوراة والإنجيل لم يكن متيسرا كتيسير حفظ القرآن الذي خصت به هذه الأمة.
ولهذا جاء في وصفها أناجيلها صدورها.

( فقالت له خديجة: أي عم) وفي الرواية الثانية أي ابن عم قال النووي: هكذا هو في الأصول، وفي الأولى عم وفي الثانية ابن عم وكلاهما صحيح، أما الثاني فلأنه ابن عمها حقيقة، كما ذكره أولا في الحديث، وأما الأول فسمته عما مجازا للاحترام، وهذه عادة العرب في آداب خطابهم، يخاطب الصغير الكبير بيا عم، احتراما له ورفعة لمرتبته، ولا يحصل هذا الغرض بقولها: يا بن عم، اهـ.

ولم يرتض الحافظ ابن حجر هذا التوجيه، لأن القصة لم تتعدد، ومخرجها متحد، فلا يحمل أنها قالت ذلك مرتين، مرة أي عم ومرة أي ابن عم فوجب اعتماد الحقيقة وهي أي ابن عم واعتبار رواية أي عم وهما من الراوي.

( اسمع من ابن أخيك) لأن والده عبد الله بن عبد المطلب، وورقة في عدد النسب إلى قصي ابن كلاب [الذي يجتمعان فيه] سواء، فكان من هذه الحيثية في درجة أخوته، أو قالته على سبيل التوقير لسنه.

( هذا الناموس الذي أنزل على موسى) الناموس في اللغة صاحب سر الخير، والجاسوس صاحب سر الشر، قال الحافظ ابن حجر: والصحيح الذي عليه الجمهور أن الناموس صاحب السر مطلقا.
ويقال: نمست السر أنمسه بكسر الميم، أي كتمته، واتفقوا على أن جبريل عليه السلام يسمى الناموس، واتفقوا على أنه المراد هنا.
قال الهروي: سمي بذلك لأن الله تعالى خصه بالغيب والوحي.

( يا ليتني فيها جذعا) الضمير في فيها يعود إلى أيام النبوة ومدتها.
وقوله جذعا بفتح الجيم والذال، أي شابا قويا، وهو هنا استعارة، وأصل الجذع الصغير من البهائم، كأنه تمنى أن يكون عند ظهور الدعوة إلى الإسلام شابا، ليكون أمكن لنصره، وبهذا يتبين سر الوصف بكونه كان شيخا كبيرا قد عمي، والمشهور في الصحيحين وغيرهما جذعا بالنصب، وفي بعض الروايات جذع بالرفع، وإعرابها ظاهر، خبر ليت وأما النصب فقيل على أنه خبر كان المحذوفة، والتقدير: يا ليتني أكون فيها جذعا، وهذا يصح على مذهب الكوفيين، والصحيح الذي اختاره أهل التحقيق أنه منصوب على الحال، وخبر ليت الجار والمجرور، والتقدير: يا ليتني أستقر في أيام البعثة حالة كوني شابا قويا.

( أومخرجي هم؟) بفتح الواو وتشديد الياء، هكذا الرواية، ويجوز تخفيف الياء على وجه، والصحيح المشهور تشديد الياء، وهو جمع مخرج فالياء الأولى ياء الجمع، والثانية ضمير المتكلم، وفتحت للتخفيف لئلا يجتمع الكسرة والياءان بعد كسرتين.
وهم مبتدأ مؤخر.
ومخرجي خبر مقدم.

( لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عودي) في بعض الروايات بمثل ما جئت به.

( وإن يدركني يومك) أي وإن يدركني يوم بعثك ودعوتك حيا.

( أنصرك نصرا مؤزرا) أي قويا بالغا.
مأخوذ من الأزر وهو القوة، وقيل: من الإزار، وأشار بذلك إلى تشميره في تصرفه.

فقه الحديث

قال المازري: كثر كلام الناس في حقيقة الرؤيا.
وقال فيها غير الإسلاميين أقاويل كثيرة منكرة، لأنهم حاولوا الوقوف على حقائق لا تدرك بالعقل، ولا يقوم عليها برهان.
وهم لا يصدقون بالسمع.
فاضطربت أقوالهم: فمن ينتمي إلى الطب ينسب الرؤيا إلى الأخلاط.
فيقول: من غلب عليه البلغم رأى أنه يسبح في الماء ونحوه، ومن غلبت عليه الصفراء رأى النيران والصعود في الجو، وهكذا إلى آخره، ومن ينتمي إلى الفلسفة يقول: إن صور ما يجري في الأرض هي في العالم العلوي كالنفوس.
فما حاذى بعض النفوس منها انتقش فيها.
قال: وهذا أشد فسادا من الأول.
اهـ.

وقال القرطبي: سبب تخليط غير الشرعيين إعراضهم عما جاءت به الأنبياء من الطريق المستقيم، وبيان ذلك: أن الرؤيا إنما هي من إدراكات النفس، وقد غيب عنا علم حقيقتها -أي النفس- وإذا كان كذلك فالأولى ألا نعلم علم إدراكاتها.
بل كثير مما انكشف لنا من إدراكات السمع والبصر إنما نعلم منها أمورا جملية لا تفصيلية.
اهـ.

وقال أبو بكر بن العربي: الرؤيا إدراكات علقها الله تعالى في قلب العبد، على يدي ملك أو شيطان.
إما بأسمائها -أي حقيقتها- وإما بكناها- أي بعبارتها- وإما تخليط.
ونظيرها في اليقظة الخواطر فإنها قد تأتي على نسق وفي قصد، وقد تأتي مسترسلة من غير قصد.
اهـ.

والتحقيق أن الرؤيا أنواع: منها ما يكون بتلاعب الشيطان.
ليحزن الرائي.
وفي هذا النوع يقول صلى الله عليه وسلم: وإذا رأى أحدكم غير ذلك مما يكره فإنما هي من الشيطان.
فليستعذ بالله من شرها.
ولا يذكرها لأحد فإنها لا تضره.

ومنها ما يكون نتيجة لإطلاق النفس في النوم نحو رغباتها وآمالها المكبوتة في اليقظة .
وفي هذا النوع يقول المثل: حلم الجائع خبز.

ومنها ما يكون نتيجة لامتلاء المعدة، واختلال المزاج، فيرى صورا مفككة وأجزاء متناثرة، ومناظر مبعثرة، لا تجمعها وحدة ولا تربطها رابطة، وخير ما يطلق على هذا النوع أنه أضغاث أحلام.

ومنها الرؤيا الصادقة، يراها الصالح أو ترى له، وفيها يقول صلى الله عليه وسلم: الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة.

وكون الرؤيا الصادقة جزءا من النبوة إنما هو باعتبار صدقها لا غير وإلا لساغ لصاحبها أن يسمى نبيا، وليس كذلك.
والناس أمام هذا النوع ثلاث درجات، الأنبياء: ورؤياهم كلها صدق، وقد يقع فيها ما يحتاج إلى تعبير، والصالحون: والأغلب على رؤياهم الصدق وقد يقع فيها ما يحتاج إلى تعبير، ومن عداهم: يقع في رؤياهم الصدق والأضغاث وهم على ثلاثة أقسام: مستورون: فالغالب استواء الحال في حقهم، وفسقة: والغالب على رؤياهم الأضغاث، ويقل فيها الصدق، وكفار: ويندر جدا في رؤياهم الصدق، كما في رؤيا صاحبي السجن مع يوسف عليه السلام.

ويشير إلى هذا التقسيم ما أخرجه مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثا.

والحديث الذي معنا صريح في أن رؤيا الأنبياء نوع من الوحي، ومن قوله تعالى: { { إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده } } [النساء: 163] أخذ المفسرون أن أول أحوال النبيين في الوحي الرؤيا، كما روى أبو نعيم في الدلائل بإسناد حسن، عن علقمة قال: إن أول ما يؤتى به الأنبياء في المنام، حتى تهدأ قلوبهم، ثم يتنزل الوحي بعد في اليقظة.

ومن أنواع الوحي الإلهام، بأن يقذف الله في قلب نبيه ما يريد من غير واسطة.
وليس هذا النوع قاصرا على الأنبياء، فقد أوحي إلى أم موسى أن ترضعه إلخ.

{ { وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ } } [النحل: 68] الآيات.

ومن أنواع الوحي أيضا التكليم بلا واسطة، كتكليم الله لموسى عليه السلام، وكتكليمه محمدا صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج.

والمشهور والكثير من أنواعه ما كان بواسطة جبريل عليه السلام، وإن اتخذ مجيئه أشكالا مختلفة، مرة في صورته التي خلقه الله عليها، فيسد ما بين الأفق، ومرة يتقدمه مثل صلصلة الجرس فينزل فيثقل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ليتفصد جبينه عرقا في اليوم الشديد البرد، فينفصم عنه وقد وعى ما قال، ومرة يتقدمه مثل دوي النحل، ومرة في صورة رجل مجهول، ومرة في صورة دحية الكلبي.

وقد اختلفت الأقوال في حالة جبريل التي جاء عليها في غار حراء بسورة: اقرأ فقيل.
إنه جاء على صورته الحقيقية، واستند هذا القول إلى رواية عن طريق ابن لهيعة [وهو ضعيف] وفيها ثم استعلن له جبريل من قبل حراء، ثم ذكر قصة إقرائه -اقرأ باسم ربك- ورأى حينئذ جبريل له جناحان من ياقوت يختطفان البصر وقد مال الحافظ ابن حجر في الفتح إلى هذا الرأي.

وعندي أنه بعيد، إذ لو وقع هذا لكان جديرا بأن يوصف لخديجة ثم لورقة، ولم يرد في أي من الروايات أنه وصفه لأي منهما، فضلا عن أن الغار لا يتسع له بهذه الصورة: اللهم إلا أن يكون كلمه وهو خارج الغار، والذي أميل إليه أن هذا المجيء كان من قبيل سماع الصوت من غير رؤية، وفي هذا النوع تقليل من الانزعاج، وتوثيق بأنه ليس من كلام البشر.

بخلاف ما لو جاء بصورته الحقيقية، أو بصورة البشر، ولا يتنافى هذا الرأي مع الغط فإن الإنسان قد يحس بالشيء ولا يراه.

والحكمة في اختيار حراء مقرا للعبادة أن المقيم فيه كان يمكنه رؤية الكعبة.
فيجتمع لمن يخلو فيه ثلاث عبادات: الخلوة، والتعبد، والنظر إلى البيت - قاله ابن أبي جمرة.

قال الحافظ ابن حجر: ولم ينازعوا النبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء.
مع مزيد الفضل فيه على غيره.
لأن جده عبد المطلب أول من كان يخلو فيه من قريش، وكانوا يعظمونه لجلالته وكبر سنه فتبعه على ذلك من كان يتأله، فكان صلى الله عليه وسلم يخلو بمكان جده.
وسلم له ذلك أعمامه لكرامته عليهم.
اهـ.

وكان صلى الله عليه وسلم يخرج إلى حراء في كل عام شهرا في السنة يتنسك فيه.
وكان هذا الشهر رمضان.

وأما نوع تعبده صلى الله عليه وسلم فقد اختلف فيه.
فذهب جماعة إلى أنه كان يتعبد بشرع سابق.
ثم اختلفوا في تعيينه على أقوال: شرع آدم.
نوح.
إبراهيم لقوله تعالى: { { أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا } } [النحل: 123] ( ويقويه ملازمته للحج والطواف ونحو ذلك مما بقي عندهم من شريعة إبراهيم) .
موسى.
عيسى أي شريعة وذهب جماعة إلى كل التوقف.

والجمهور على أنه لم يكن يتعبد بشرع سابق.
ومستندهم أنه لو وجد لنقل.

أما بماذا كان يتعبد فقد قيل: بما يلقى إليه من أنوار المعرفة، وقيل: بما يحصل له من الرؤيا، وقيل: بالتفكر وقيل: باجتناب رؤية ما كان يقع من قومه.

فالخلوة بمجردها تعبد، إذ الانعزال عن الناس - ولا سيما من كان على باطل - من جملة العبادة.
كما وقع للخليل عليه السلام، حيث قال: { { إني ذاهب إلى ربي } } [الصافات: 99] .
والله أعلم.

وقد أثار هذا الحديث خلافا في بدء بعثته صلى الله عليه وسلم وفي سنه آنذاك.
فقيل: إذا علم أنه كان يتنسك في غار حراء في شهر رمضان، وأن ابتداء الوحي جاءه وهو في الغار المذكور اقتضى ذلك أنه نبئ في شهر رمضان، وعلى هذا يكون سنه حينئذ أربعين سنة وستة أشهر.
ويعكر عليه قول ابن إسحاق: أنه بعث على رأس الأربعين.
قال الحافظ ابن حجر: ويمكن أن يكون المجيء في الغار كان أولا في شهر رمضان، وحينئذ نبئ وأنزل عليه { { اقرأ باسم ربك } } ثم كان المجيء الثاني في ربيع الأول بالإنذار حين أنزلت عليه { { يا أيها المدثر قم فأنذر } } [المدثر: 1] فيحمل قول ابن إسحاق على رأس الأربعين أي عند المجيء بالرسالة.
اهـ.

ولست أرى حاجة إلى هذا التأويل بهذا الاحتمال لتصحيح كلام ابن إسحاق.
فضلا عن أنهم كثيرا ما كانوا يهملون الكسر، أو يجبرونه، على أنه قيل: إن مدة وحي المنام كانت ستة أشهر وابتدأت في ربيع الأول، فالأمر بالنسبة لقول ابن إسحاق سهل يسير.

والحكمة من الافتتاح بهذه الآيات من سورة اقرأ أن هذه الآيات الخمس اشتملت على مقاصد القرآن.
ففيها براعة الاستهلال، وهي جديرة أن تسمى عنوان القرآن، لأن عنوان الكتاب يجمع مقاصده بعبارة وجيزة في أوله.

وبيان كونها اشتملت على مقاصد القرآن، وهي تنحصر في علوم التوحيد والأحكام، والأخبار، وقد اشتملت على الأمر بالقراءة، والبداءة فيها باسم الله، وفي هذه إشارة إلى الأحكام، وفيها ما يتعلق بتوحيد الرب وإثبات ذاته وصفاته، من صفة ذات، وصفة فعل، وفي هذا إشارة إلى أصول الدين، وفيها ما يتعلق بالأخبار من قوله: { { علم الإنسان ما لم يعلم } } [العلق: 5] قاله الحافظ ابن حجر.

وقد أشكل على الحديث أنه لم يرد أن جبريل ابتدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسلام مع أن القرآن نص في قصة إبراهيم أن الملائكة قالوا سلاما قال سلام حين دخلوا عليه.

وقد أجيب عن هذا الإشكال باحتمال أن يكون سلم، وحذف ذكره، لأنه معتاد، وباحتمال أن تكون مشروعية ابتداء السلام تتعلق بالبشر، لا من الملائكة، وإن وقع ذلك منهم في بعض الأحيان.

قال الحافظ ابن حجر: والحالة التي سلموا فيها على إبراهيم كانوا في صورة البشر، فلا ترد هنا، ولا يرد سلامهم على أهل الجنة، لأن أمور الآخرة مغايرة لأمور الدنيا غالبا.
اهـ.

والحكمة في الغط والجهد والمشقة أنه إشارة إلى ما سيحصل له من الشدة عند نزول القرآن، كما في حديث ابن عباس كان يعالج من التنزيل شدة.
وكما يشير إليه في قوله تعالى: { { إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا } } [المزمل: 5] .

وقال البلقيني: وهي حالة يؤخذ فيها عن حال الدنيا من غير موت، فهو مقام برزخي يحصل له عند تلقي الوحي.

وقال السهيلي: تأويل الغطات الثلاث أنها كانت إشارة إلى أنه سيقع له ولمن تبعه ثلاث شدائد، يبتلى بها، ثم يؤتى بالفرج: شدة الحصار بالشعب، وشدة التهديد والإيذاء مما دعا إلى الهجرة إلى الحبشة، وشدة المكر به ومحاولة قتله ليلة هجرته إلى المدينة، فكانت له العاقبة في الشدائد الثلاث.
اهـ.

وقال البلقيني: ويمكن أن تكون المناسبة أن الأمر الذي جاءه به ثقيل من حيث القول والعمل والنية، أو من جهة التوحيد والأحكام والإخبار بالغيب الماضي والآتي، وأشار بالإرسالات الثلاث إلى حصول التيسير والتسهيل والتخفيف في الدنيا والبرزخ والآخرة عليه وعلى أمته.
اهـ.

وقال الحافظ ابن حجر: والحكمة في هذا الغط شغله عن الالتفات لشيء آخر، أو لإظهار الشدة والجد في الأمر تنبيها على ثقل القول الذي سيلقى إليه، فلما ظهر أنه صبر على ذلك ألقي إليه.

ثم قال: وذكر بعض من لقيناه أن هذا من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم.
إذ لم ينقل عن أحد من الأنبياء أنه جرى له عند ابتداء الوحي، مثل ذلك.

وقد استشكل على قوله صلى الله عليه وسلم لقد خشيت على نفسي بأنه كيف يخشى على نفسه ويتشكك بعد نزول الملك؟

وقد أجاب عن ذلك القاضي عياض، فقال: ليس هو بمعنى الشك فيما أتاه من الله تعالى، لكنه ربما خشي ألا يقوى على مقاومة هذا الأمر، ولا يقدر على حمل أعباء الوحي، فتزهق نفسه، أو يكون هذا لأول ما رأى من التباشير في النوم واليقظة.
وسمع الصوت قبل لقاء الملك، وقبل تحققه من رسالة ربه، فيكون خاف أن يكون من الشيطان الرجيم، فأما منذ جاءه الملك برسالة ربه سبحانه وتعالى، فلا يجوز عليه الشك فيه، ولا يخشى من تسليط الشيطان عليه.
اهـ.

قال النووي: وهذا الاحتمال الثاني ضعيف، لأنه خلاف تصريح الحديث، لأن هذا كله كان بعد غط الملك وإتيانه بـ { { اقرأ باسم ربك الذي خلق } } .
اهـ.

أما قول ورقة: هذا الناموس الذي أنزل على موسى مع أنه كان قد تنصر وكان حقه أن يقول على عيسى.
فلأن كتاب موسى عليه السلام مشتمل على أكثر الأحكام، بخلاف الإنجيل فإنه مواعظ، والأحكام قليلة فيه، وأغلبها موافق لما في التوراة فكان تنزل الناموس على محمد صلى الله عليه وسلم مشبها تنزله على موسى أكثر من شبه تنزله على عيسى عليهما السلام.

وقيل: تحقيقا للرسالة، لأن نزول جبريل على موسى متفق عليه بين أهل الكتاب، بخلاف عيسى، فإن كثيرا من اليهود ينكرون نبوته.

على أنه قد ورد في غير الصحيحين في هذه القصة أن ورقة قال: ناموس عيسى، أي إن ورقة - على هذا- كان تارة يقول: ناموس موسى وتارة ناموس عيسى.

ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم

1- أن الرؤيا الصادقة كانت أولى المبتدآت من إيجاد الوحي، وأما مطلق ما يدل على ثبوته فقد تقدمت له أشياء، مثل تسليم الحجر، الذي ثبت في صحيح مسلم.

2- إعداد الزاد للمختلي إذا كان بحيث يتعذر عليه تحصيله، لبعد مكان اختلائه مثلا، ولا يقدح ذلك في التوكل، وذلك لوقوعه من النبي صلى الله عليه وسلم بعد حصول النبوة له بالرؤيا الصالحة، وإن كان الوحي في اليقظة قد تراخى عن ذلك.

3- استحباب العزلة والخلوة في العبادة، لأنها تساعد على التفكر ومعها فراغ القلب، وبها ينقطع عن مألوف البشر.

4- استدل بقول جبريل لمحمد اقرأ وهو لا يعرف القراءة على تكليف ما لا يطاق في الحال، وإن قدر عليه بعد ذلك.

5- استدل به على جواز تأخر البيان عن وقت الخطاب.

6- يؤخذ من الغط ثلاثا أن من يريد التأكد في أمر، وإيضاح البيان فيه أن يكرره ثلاثا، وقد كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك.

7- فيه دليل صريح على أن أول ما نزل من القرآن ( اقرأ) وهذا هو الصواب الذي عليه الجماهير من السلف والخلف، وقيل: أوله المدثر وليس بشيء.

8- استدل به السهيلي على أن البسملة يؤمر بقراءتها أول كل سورة، لكن لا يلزم من ذلك أن تكون آية من كل سورة.
كذا قال.
وقرره الطيبي فقال: قوله { { اقرأ باسم ربك } } أي اقرأ مفتتحا باسم ربك، وأصح تقدير له قل بسم الله ثم اقرأ.
قال: فيؤخذ منه أن البسملة مأمور بها في ابتداء كل قراءة.
اهـ.

ونقل عن أبي الحسن بن القصار من المالكية أنه قال: في هذه القصة رد على الشافعي في قوله: إن البسملة آية من كل سورة.
قال: لأن هذه أول سورة أنزلت، وليس في أولها البسملة.
وتعقب هذا القول بأن الأمر بالبسملة موجود فيها وإن تأخر نزولها، وقال النووي: ترتيب آيات السور في النزول لم يكن شرطا، وقد كانت الآية تنزل، فتوضع في مكان قبل التي نزلت قبلها، ثم تنزل الأخرى، فتوضع قبلها، إلى أن استقر الأمر في آخر عهده صلى الله عليه وسلم على هذا الترتيب.
اهـ.

9- استحباب تأنيس من نزل به أمر بذكر ما ييسره عليه ويهونه لديه.

10- وأن من نزل به أمر استحب له أن يطلع عليه من يثق بنصحه وصحة رأيه.

11- وأن مكارم الأخلاق وخصال الخير سبب للسلامة من مصارع السوء.

12- وفيه مدح الإنسان في وجهه في بعض الأحوال للمصلحة.

13- وفيه أعظم دليل وأبلغ حجة على كمال خديجة رضي الله عنها وجزالة رأيها، وقوة نفسها وثبات قلبها، وعظم فقهها.

14- وفيه ما كان عليه صلى الله عليه وسلم قبل النبوة من جميل الصفات.

15- يؤخذ من ذهاب الرسول صلى الله عليه وسلم مع خديجة، ومن قول خديجة لورقة اسمع من ابن أخيك إرشاد صاحب الحاجة إلى أن يقدم بين يديه من يعرف بقدره، مما يكون أقرب منه إلى المسئول.

16- ويؤخذ من قول ورقة يا ليتني فيها جذعا وتقريره على ذلك بعد الرسالة جواز تمني المستحيل إذا كان فعل خير، لأن ورقة تمنى أن يعود شابا، وهو مستحيل عادة.
قال الحافظ ابن حجر: ويظهر لي أن التمني ليس مقصودا على بابه، بل المراد من هذا التنبيه على صحة ما أخبره به، والتنويه بقوة تصديقه فيما يجيء به.

17- أخذ السهيلي من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: أومخرجي هم؟ شدة مفارقة الوطن على النفس، فإنه صلى الله عليه وسلم سمع قول ورقة أنهم يؤذونه، ويكذبونه، فلم يظهر منه انزعاج لذلك، فلما ذكر له الإخراج تحركت نفسه لذلك، لحب الوطن وإلفه، فقال: أومخرجي هم؟ قال: ويؤيد ذلك إدخال الواو بعد ألف الاستفهام مع اختصاص الإخراج بالسؤال عنه، فأشعر بأن الاستفهام على سبيل الإنكار أو التفجع، ويؤكد ذلك أن الوطن المشار إليه حرم الله، وجوار بيته، وبلدة الآباء من عهد إسماعيل عليه السلام.
اهـ.

قال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أن يكون انزعاجه من جهة خشية فوات ما أمله من إيمان قومه، ويحتمل أن يكون انزعج من الأمرين معا، واستبعد النبي أن يخرجوه لأنه لم يكن فيه سبب يقتضي الإخراج، لما اشتمل عليه من مكارم الأخلاق.

18- وفيه دليل على أن المجيب يقيم الدليل على ما يجيب به إذا اقتضاه المقام، فإن ورقة دلل وبين أن العلة في ذلك مجيئه لهم بالانتقال عن مألوفهم، ولأنه علم من الكتب أنهم لا يجيبونه.

19 - وفيه تشوق ورقة إلى يوم البعثة، وحرصه على نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقد فهم بعض العلماء من ذلك إسلام ورقة، واستأنسوا بما أخرجه الترمذي عن عائشة أن خديجة قالت للنبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن ورقة: كأن ورقة صدقك، ولكنه مات قبل أن تظهر؟ فقال: رأيته في المنام، وعليه ثياب بيض، ولو كان من أهل النار لكان لباسه غير ذلك.
وعند البزار والحاكم عن عائشة مرفوعا لا تسبوا ورقة، فإني رأيت له جنة أو جنتين.

والله أعلم

هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير،  باب بَدْءِ الْوَحْيِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[ سـ :263 ... بـ :160]
حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَرْحٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا قَالَتْ كَانَ أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةَ فِي النَّوْمِ فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ فَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ يَتَحَنَّثُ فِيهِ وَهُوَ التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ أُوْلَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهِ وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا حَتَّى فَجِئَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ اقْرَأْ قَالَ مَا أَنَا بِقَارِئٍ قَالَ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ اقْرَأْ قَالَ.

قُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ قَالَ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ أَقْرَأْ فَقُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ فَقَالَ زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ ثُمَّ قَالَ لِخَدِيجَةَ أَيْ خَدِيجَةُ مَا لِي وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ قَالَ لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي قَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ كَلَّا أَبْشِرْ فَوَاللَّهِ لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا وَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتَقْرِي الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى وَهُوَ ابْنُ عَمِّ خَدِيجَةَ أَخِي أَبِيهَا وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ وَيَكْتُبُ مِنْ الْإِنْجِيلِ بِالْعَرَبِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ أَيْ عَمِّ اسْمَعْ مِنْ ابْنِ أَخِيكَ قَالَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ يَا ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرَى فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرَ مَا رَآهُ فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا يَا لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا حِينَ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ قَالَ وَرَقَةُ نَعَمْ لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ قَالَ قَالَ الزُّهْرِيُّ وَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْوَحْيِ وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِمِثْلِ حَدِيثِ يُونُسَ غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ فَوَاللَّهِ لَا يُحْزِنُكَ اللَّهُ أَبَدًا.

     وَقَالَ  قَالَتْ خَدِيجَةُ أَيْ ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنْ ابْنِ أَخِيكَ وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ جَدِّي قَالَ حَدَّثَنِي عُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ سَمِعْتُ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُ قَالَتْ عَائِشَةُ زَوْجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَجَعَ إِلَى خَدِيجَةَ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ وَاقْتَصَّ الْحَدِيثَ بِمِثْلِ حَدِيثِ يُونُسَ وَمَعْمَرٍ وَلَمْ يَذْكُرْ أَوَّلَ حَدِيثِهِمَا مِنْ قَوْلِهِ أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ وَتَابَعَ يُونُسَ عَلَى قَوْلِهِ فَوَاللَّهِ لَا يَخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا وَذَكَرَ قَوْلَ خَدِيجَةَ أَيْ ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنْ ابْنِ أَخِيكَ
فَقَوْلُهُ فِي الْإِسْنَادِ أَبُو الطَّاهِرِ بْنُ السَّرْحِ هُوَ بِالسِّينِ وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَتَيْنِ وَالسِّينُ مَفْتُوحَةٌ
وَقَوْلُهُ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ كَانَ أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ مَرَاسِيلِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَإِنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَمْ تُدْرِكْ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ فَتَكُونُ قَدْ سَمِعَتْهَا مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ مِنَ الصَّحَابِيِّ وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي الْفُصُولِ أَنَّ مُرْسَلَ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ إِلَّا مَا انْفَرَدَ بِهِ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفِرَايِنِيُّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
وَقَوْلُهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا الرُّؤْيَا الصَّادِقَةَ وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - " الرُّؤْيَا الصَّالِحَةَ وَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَفِي مِنْ هُنَا قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا لِبَيَانِ الْجِنْسِ وَالثَّانِي لِلتَّبْعِيضِ وَذَكَرَهُمَا الْقَاضِي
وَقَوْلُهَا فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ فَلَقُ الصُّبْحِ وَفَرَقُ الصُّبْحِ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَاللَّامِ وَالرَّاءِ هُوَ ضِيَاؤُهُ وَإِنَّمَا يُقَالُ هَذَا فِي الشَّيْءِ الْوَاضِحِ الْبَيِّنِ قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَغَيْرُهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِنَّمَا ابْتُدِئَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالرُّؤْيَا لِئَلَّا يَفْجَأَهُ الْمَلَكُ وَيَأْتِيهِ صَرِيحُ النُّبُوَّةِ بَغْتَةً فَلَا تَحْتَمِلُهَا قُوَى الْبَشَرِيَّةِ فَبُدِئَ بِأَوَّلِ خِصَالِ النُّبُوَّةِ وَتَبَاشِيرِ الْكَرَامَةِ مِنْ صِدْقِ الرُّؤْيَا وَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ مِنْ رُؤْيَةِ الضَّوْءِ وَسَمَاعِ الصَّوْتِ وَسَلَامِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ عَلَيْهِ بِالنُّبُوَّةِ
قَوْلُهَا ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ فَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ يَتَحَنَّثُ فِيهِ وَهُوَ التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ أُولَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهِ وَيَتَزَوَّدَ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا حَتَّى فَجَأَهُ الْحَقُّ أَمَّا الْخَلَاءُ فَمَمْدُودٌ وَهُوَ الْخَلْوَةُ وَهِيَ شَأْنُ الصَّالِحِينَ وَعِبَادِ اللَّهِ الْعَارِفِينَ قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حُبِّبَتِ الْعُزْلَةُ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّ مَعَهَا فَرَاغَ الْقَلْبِ وَهِيَ مُعِينةٌ عَلَى التَّفَكُّرِ وَبِهَا يَنْقَطِعُ عَنْ مَأْلُوفَاتِ الْبَشَرِ وَيَتَخَشَّعُ قَلْبُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْغَارُ فَهُوَ الْكَهْفُ وَالنَّقْبُ فِي الْجَبَلِ وَجَمْعُهُ غِيرَانٌ وَالْمَغَارُ وَالْمَغَارَةُ بِمَعْنَى الْغَارِ وَتَصْغِيرُ الْغَارِ غُوَيْرٌ
وَأَمَّا حِرَاءٌ فَبِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ وَبِالْمَدِّ وَهُوَ مَصْرُوفٌ وَمُذَكَّرٌ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ.

     وَقَالَ  الْقَاضِي فِيهِ لُغَتَانِ التَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ وَالتَّذْكِيرُ أَكْثَرُ فَمَنْ ذَكَّرَهُ صَرَفَهُ وَمَنْ أَنَّثَهُ لَمْ يَصْرِفْهُ أَرَادَ الْبُقْعَةَ أَوِ الْجِهَةَ الَّتِي فِيهَا الْجَبَلُ قَالَ الْقَاضِي.

     وَقَالَ  بَعْضُهُمْ فِيهِ حَرَى بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالْقَصْرِ وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ قَالَ أَبُو عُمَرَ الزَّاهِدُ صَاحِبُ ثَعْلَبٍ وَأَبُو سُلَيْمَانُ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُمَا أَصْحَابُ الْحَدِيثِ وَالْعَوَامُّ يُخْطِئُونَ فِي حِرَاءٍ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ يَفْتَحُونَ الْحَاءَ وَهِيَ مَكْسُورَةٌ وَيَكْسِرُونَ الرَّاءَ وَهِيَ مَفْتُوحَةٌ وَيَقْصُرُونَ الْأَلِفَ وَهِيَ مَمْدُودَةٌ وَحِرَاءٌ جَبَلٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ نَحْوَ ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ عَنْ يَسَارِ الذَّاهِبِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى مِنًى وَاللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا التَّحَنُّثُ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ وَالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ فَقَدْ فَسَّرَهُ بِالتَّعَبُّدِ وَهُوَ تَفْسِيرٌ صَحِيحٌ وَأَصْلُ الْحِنْثِ الْإِثْمُ فَمَعْنَى يَتَحَنَّثُ يَتَجَنَّبُ الْحِنْثَ فَكَأَنَّهُ بِعِبَادَتِهِ يَمْنَعُ نَفْسَهُ مِنَ الْحِنْثِ وَمِثْلُ يَتَحَنَّثُ يَتَحَرَّجُ وَيَتَأَثَّمُ أَيْ يَتَجَنَّبُ الْحَرَجَ وَالْإِثْمَ
وَأَمَّا قَوْلُهَا اللَّيَالِيَ أُولَاتِ الْعَدَدِ فَمُتَعَلِّقٌ بِالتَّحَنُّثِ لَا بِالتَّعَبُّدِ وَمَعْنَاهُ يَتَحَنَّثُ اللَّيَالِيَ وَلَوْ جُعِلَ مُتَعَلِّقًا بِالتَّعَبُّدِ فَسَدَ الْمَعْنَى فَإِنَّ التَّحَنُّثَ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ اللَّيَالِي بَلْ يُطْلَقُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَهَذَا التَّفْسِيرُ اعْتَرَضَ بَيْنَ كَلَامِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.

وَأَمَّا كَلَامُهَا فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ اللَّيَالِيَ أُولَاتِ الْعَدَدِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
وَقَوْلُهَا فَجِئَهُ الْحَقُّ أَيْ جَاءَهُ الْوَحْيُ بَغْتَةً فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ مُتَوَقِّعًا لِلْوَحْيِ وَيُقَالُ فَجِئَهُ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَبَعْدَهَا هَمْزَةٌ مَفْتُوحَةٌ وَيُقَالُ فَجَأَهُ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالْهَمْزَةِ لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ حَكَاهُمَا الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ
قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا أَنَا بِقَارِئٍ مَعْنَاهُ لَا أُحْسِنَ الْقِرَاءَةَ فَمَا نَافِيَةٌ هَذَا هُوَ الصَّوَابُ وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيهَا خِلَافًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا نَافِيَةً وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا اسْتِفْهَامِيَّةً وَضَعَّفُوهُ بِإِدْخَالِ الْبَاءِ فِي الْخَبَرِ قَالَ الْقَاضِي وَيُصَحِّحُ قَوْلَ مَنْ قَالَ اسْتِفْهَامِيَّةً رِوَايَةُ مَنْ رَوَى مَا أَقْرَأُ ؟ وَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ مَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَيْضًا نَافِيَةً وَاللَّهُ أَعْلَمُ
قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي أَمَّا غَطَّنِي فَبِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَالطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَمَعْنَاهُ عَصَرَنِي وَضَمَّنِي يُقَالُ غَطَّهُ وَغَتَّهُ وَضَغَطَهُ وَعَصَرَهُ وَخَنَقَهُ وَغَمَزَهُ كُلُّهُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ
وَأَمَّا الْجَهْدُ فَيَجُوزُ فَتْحُ الْجِيمِ وَضَمُّهَا لُغَتَانِ وَهُوَ الْغَايَةُ وَالْمَشَقَّةُ وَيَجُوزُ نَصْبُ الدَّالِ وَرَفْعُهَا فَعَلَى النَّصْبِ بَلَغَ جِبْرِيلُ مِنِّي الْجَهْدَ وَعَلَى الرَّفْعِ بَلَغَ الْجَهْدُ مِنِّي مَبْلَغَهُ وَغَايَتَهُ وَمِمَّنْ ذَكَرَ الْوَجْهَيْنِ فِي نَصْبِ الدَّالِ وَرَفْعِهَا صَاحِبُ التَّحْرِيرِ وَغَيْرُهُ
وَأَمَّا أَرْسَلَنِي فَمَعْنَاهُ أَطْلَقَنِي قَالَ الْعُلَمَاءُ وَالْحِكْمَةُ فِي الْغَطِّ شَغْلُهُ مِنَ الِالْتِفَاتِ وَالْمُبَالَغَةُ فِي أَمْرِهِ بِإِحْضَارِ قَلْبِهِ لِمَا يَقُولُهُ لَهُ وَكَرَّرَهُ ثَلَاثًا مُبَالَغَةً فِي التَّنَبُّهِ فَفِيهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمُعَلِّمِ أَنْ يَحْتَاطَ فِي تَنْبِيهِ الْمُتَعَلِّمِ وَأَمْرِهِ بِإِحْضَارِ قَلْبِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ هَذَا دَلِيلٌ صَرِيحٌ فِي أَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ اقْرَأْ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجَمَاهِيرُ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَقِيلَ أَوَّلُهُ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ وَسَنَذْكُرُهُ بَعْدَ هَذَا فِي مَوْضِعِهِ مِنْ هَذَا الْبَابِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَاسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ بَعْضُ مَنْ يَقُولُ إِنَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لَيْسَتْ مِنَ الْقُرْآنِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ لِكَوْنِهَا لَمْ تُذْكَرْ هُنَا وَجَوَابُ الْمُثْبِتِينَ لَهَا أَنَّهَا لَمْ تَنْزِلْ أَوَّلًا بَلْ نَزَلَتِ الْبَسْمَلَةُ فِي وَقْتٍ آخَرَ كَمَا نَزَلَ بَاقِي السُّورَةِ فِي وَقْتٍ آخَرَ
قَوْلُهَا تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَمَعْنَى تَرْجُفُ تَرْعَدُ وَتَضْطَرِبُ وَأَصْلُهُ شِدَّةُ الْحَرَكَةِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَسَائِرُ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالْغَرِيبِ وَهِيَ اللَّحْمَةُ الَّتِي بَيْنَ الْمَنْكِبِ وَالْعُنُقِ تَضْطَرِبُ عِنْدَ فَزَعِ الْإِنْسَانِ
قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي هَكَذَا هُوَ فِي الرِّوَايَاتِ مُكَرَّرٌ مَرَّتَيْنِ وَمَعْنَى زَمِّلُونِي غَطُّونِي بِالثِّيَابِ وَلُفُّونِي بِهَا وَقَوْلُهُ فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ هُوَ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَهُوَ الْفَزَعُ
قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَيْسَ هُوَ بِمَعْنَى الشَّكِّ فِيمَا أَتَاهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَكِنَّهُ رُبَّمَا خَشِيَ أَنْ لَا يَقْوَى عَلَى مُقَاوَمَةِ هَذَا الْأَمْرِ وَلَا يَقْدِرَ عَلَى حَمْلِ أَعْبَاءِ الْوَحْيِ فَتَزْهَقَ نَفْسُهُ أَوْ يَكُونَ هَذَا لِأَوَّلِ مَا رَأَى التَّبَاشِيرَ فِي النَّوْمِ وَالْيَقَظَةِ وَسَمِعَ الصَّوْتَ قَبْلَ لِقَاءِ الْمَلَكِ وَتَحَقُّقِهِ رِسَالَةَ رَبِّهِ فَيَكُونُ خَافَ أَنْ يَكُونَ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ فَأَمَّا مُنْذُ جَاءَهُ الْمَلَكُ بِرِسَالَةِ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الشَّكُّ فِيهِ وَلَا يَخْشَى مِنْ تَسَلُّطِ الشَّيْطَانِ عَلَيْهِ وَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ يُحْمَلُ جَمِيعُ مَا وَرَدَ مِنْ مِثْلِ هَذَا فِي حَدِيثِ الْبَعْثِ هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَذَكَرَ أَيْضًا فِي كِتَابِهِ الشِّفَاءُ هَذَيْنِ الِاحْتِمَالَيْنِ فِي كَلَامٍ مَبْسُوطٍ وَهَذَا الِاحْتِمَالُ الثَّانِي ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ خِلَافُ تَصْرِيحِ الْحَدِيثِ لِأَنَّ هَذَا كَانَ بَعْدَ غَطِّ الْمَلَكِ وَإِتْيَانِهِ بِاقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
قَوْلُهَا قَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ كَلَّا أَبْشِرْ فَوَاللَّهِ لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا وَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتُقْرِي الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ أَمَّا قَوْلُهَا كَلَّا فَهِيَ هُنَا كَلِمَةُ نَفْيٍ وَإِبْعَادٍ وَهَذَا أَحَدُ مَعَانِيهَا قَدْ تَأْتِي كَلَّا بِمَعْنَى حَقًّا وَبِمَعْنَى أَلَا الَّتِي لِلتَّنْبِيهِ يُسْتَفْتَحُ بِهَا الْكَلَامُ وَقَدْ جَاءَتْ فِي الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ عَلَى أَقْسَامٍ وَقَدْ جَمَعَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْأَنْبَارِيِّ أَقْسَامَهَا وَمَوَاضِعَهَا فِي بَابٍ مِنْ كِتَابِهِ الْوَقْفُ وَالِابْتِدَاءُ
وَأَمَّا قَوْلُهَا لَا يُخْزِيكَ فَهُوَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَبِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ كَذَا هُوَ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ وَعُقَيْلٍ .

     وَقَالَ  مَعْمَرٌ فِي رِوَايَتِهِ يُحْزِيكَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ وَيَجُوزُ فَتْحُ الْيَاءِ فِي أَوَّلِهِ وَضَمُّهَا وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ وَالْخِزْيُ الْفَضِيحَةُ وَالْهَوَانُ
وَأَمَّا صِلَةُ الرَّحِمِ فَهِيَ الْإِحْسَانُ إِلَى الْأَقَارِبِ عَلَى حَسَبِ حَالِ الْوَاصِلِ وَالْمَوْصُولِ فَتَارَةً تَكُونُ بِالْمَالِ وَتَارَةً بِالْخِدْمَةِ وَتَارَةً بِالزِّيَارَةِ وَالسَّلَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ
وَأَمَّا الْكَلُّ فَهُوَ بِفَتْحِ الْكَافِ وَأَصْلُهُ الثِّقْلُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ وَيَدْخُلُ فِي حَمْلِ الْكَلِّ الْإِنْفَاقُ عَلَى الضَّعِيفِ وَالْيَتِيمِ وَالْعِيَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَهُوَ مِنَ الْكَلَالِ وَهُوَ الْإِعْيَاءُ
وَأَمَّا قَوْلُهَا وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ فَهُوَ بِفَتْحِ التَّاءِ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ وَنَقَلَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ رِوَايَةِ الْأَكْثَرِينَ قَالَ وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ بِضَمِّهَا قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ ثَعْلَبٌ وَأَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ وَجَمَاعَاتٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ يُقَالُ كَسَبْتُ الرَّجُلَ مَالًا وَأَكْسَبْتُهُ مَالًا لُغَتَانِ أَفْصَحُهُمَا بِاتِّفَاقِهِمْ كَسَبْتُهُ بِحَذْفِ الْأَلْفِ
وَأَمَّا مَعْنَى تَكْسِبُ الْمَعْدُومَ فَمَنْ رَوَاهُ بِالضَّمِّ فَمَعْنَاهُ تُكْسِبُ غَيْرَكَ الْمَالَ الْمَعْدُومَ أَيْ تُعْطِيهِ إِيَّاهُ تَبَرُّعًا فَحَذَفَ أَحَدَ الْمَفْعُولَيْنِ وَقِيلَ مَعْنَاهُ تُعْطِي النَّاسَ مَا لَا يَجِدُونَهُ عِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ نَفَائِسِ الْفَوَائِدِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ
وَأَمَّا رِوَايَةُ الْفَتْحِ فَقِيلَ مَعْنَاهَا كَمَعْنَى الضَّمِّ وَقِيلَ مَعْنَاهَا تَكْسِبُ الْمَالَ الْمَعْدُومَ وَتُصِيبُ مِنْهُ مَا يَعْجِزُ غَيْرُكَ عَنْ تَحْصِيلِهِ وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَتَمَادَحُ بِكَسْبِ الْمَالِ الْمَعْدُومِ لَا سِيَّمَا قُرَيْشٌ وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَحْظُوظًا فِي تِجَارَتِهِ وَهَذَا الْقَوْلُ حَكَاهُ الْقَاضِي عَنْ ثَابِتٍ صَاحِبِ الدَّلَائِلِ وَهُوَ ضَعِيفٌ أَوْ غَلَطٌ وَأَيُّ مَعْنًى لِهَذَا الْقَوْلِ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ إِلَّا أَنَّهُ يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ بِأَنْ يُضَمَّ إِلَيْهِ زِيَادَةٌ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ تَكْسِبُ الْمَالَ الْعَظِيمَ الَّذِي يَعْجِزُ عَنْهُ غَيْرُكَ ثُمَّ تَجُودُ بِهِ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ وَأَبْوَابِ الْمَكَارِمِ كَمَا ذَكَرَتْ مِنْ حَمْلِ الْكَلِّ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَقِرَى الضَّيْفِ وَالْإِعَانَةِ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ فَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ فِي هَذَا الْحَرْفِ.

وَأَمَّا صَاحِبُ التَّحْرِيرِ فَجَعَلَ الْمَعْدُومَ عِبَارَةً عَنِ الرَّجُلِ الْمُحْتَاجِ الْمُعْدِمِ الْعَاجِزِ عَنِ الْكَسْبِ وَسَمَّاهُ مَعْدُومًا لِكَوْنِهِ كَالْمَعْدُومِ الْمَيِّتِ حَيْثُ لَمْ يَتَصَرَّفْ فِي الْمَعِيشَةِ كَتَصَرُّفِ غَيْرِهِ قَالَ وَذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ أَنَّ صَوَابَهُ الْمُعْدِمَ بِحَذْفِ الْوَاوِ قَالَ وَلَيْسَ كَمَا قَالَ الْخَطَّابِيُّ بَلْ مَا رَوَاهُ الرُّوَاةُ صَوَابٌ قَالَ وَقِيلَ مَعْنَى تَكْسِبُ الْمَعْدُومَ أَيْ تَسْعَى فِي طَلَبِ عَاجِزٍ تُنْعِشُهُ وَالْكَسْبُ هُوَ الِاسْتِفَادَةُ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ وَإِنْ كَانَ لَهُ بَعْضُ الِاتِّجَاهِ كَمَا حَرَّرْتُ لَفْظَهُ فَالصَّحِيحُ الْمُخْتَارُ مَا قَدَّمْتُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا قَوْلُهَا وَتَقْرِي الضَّيْفَ فَهُوَ بِفَتْحِ التَّاءِ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ يُقَالُ قَرَيْتُ الضَّيْفَ أُقْرِيهِ قِرًى بِكَسْرِ الْقَافِ مَقْصُورٌ وَقَرَاءً بِفَتْحِ الْقَافِ وَالْمَدِّ وَيُقَالُ لِلطَّعَامِ الَّذِي يُضَيِّفُهُ بِهِ قِرًى بِكَسْرِ الْقَافِ مَقْصُورٌ وَيُقَالُ لِفَاعِلِهِ قَارٍ مِثْلُ قَضَى فَهُوَ قَاضٍ
وَأَمَّا قَوْلُهَا وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ فَالنَّوَائِبُ جَمْعُ نَائِبَةٍ وَهِيَ الْحَادِثَةُ إِنَّمَا قَالَتْ نَوَائِبَ الْحَقِّ لِأَنَّ النَّائِبَةَ قَدْ تَكُونُ فِي الْخَيْرِ وَقَدْ تَكُونُ فِي الشَّرِّ قَالَ لَبِيدٌ

نَوَائِبُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ كِلَاهُمَا فَلَا الْخَيْرُ مَمْدُودٌ وَلَا الشَّرُّ لَازِبُ قَالَ الْعُلَمَاءُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مَعْنَى كَلَامِ خَدِيجَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - إِنَّكَ لَا يُصِيبُكَ مَكْرُوهٌ لِمَا جَعَلَ اللَّهُ فِيكَ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَكَرَمِ الشَّمَائِلِ وَذَكَرَتْ ضُرُوبًا مِنْ ذَلِكَ وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ وَخِصَالَ الْخَيْرِ سَبَبُ السَّلَامَةِ مِنْ مَصَارِعِ السُّوءِ
وَفِيهِ مَدْحُ الْإِنْسَانِ فِي وَجْهِهِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ لِمَصْلَحَةٍ نَظَرًا
وَفِيهِ تَأْنِيسُ مَنْ حَصَلَتْ لَهُ مَخَافَةً مِنْ أَمْرٍ وَتَبْشِيرُهُ وَذِكْرُ أَسْبَابِ السَّلَامَةِ لَهُ
وَفِيهِ أَعْظَمُ دَلِيلٍ وَأَبْلَغُ حُجَّةٍ عَلَى كَمَالِ خَدِيجَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَجَزَالَةِ رَأْيِهَا وَقُوَّةِ نَفْسِهَا وَثَبَاتِ قَلْبِهَا وَعِظَمِ فِقْهِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ
قَوْلُهَا : وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَعْنَاهُ صَارَ نَصْرَانِيًّا وَالْجَاهِلِيَّةُ مَا قَبْلَ رِسَالَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُمُّوا بِذَلِكَ لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ فَاحِشِ الْجَهَالَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
قَوْلُهَا وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ وَيَكْتُبُ مِنَ الْإِنْجِيلِ بِالْعَرَبِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَكْتُبَ هَكَذَا هُوَ فِي مُسْلِمٍ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ وَيَكْتُبُ بِالْعَرَبِيَّةِ وَوَقَعَ فِي أَوَّلِ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ فَيَكْتُبُ مِنَ الْإِنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ وَحَاصِلُهُمَا أَنَّهُ تَمَكَّنَ مِنْ مَعْرِفَةِ دِينِ النَّصَارَى بِحَيْثُ إِنَّهُ صَارَ يَتَصَرَّفُ فِي الْإِنْجِيلِ فَيَكْتُبُ أَيَّ مَوْضِعٍ شَاءَ مِنْهُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ إِنْ شَاءَ وَبِالْعَرَبِيَّةِ إِنْ شَاءَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
قَوْلُهَا فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَيْ عَمُّ اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى قَالَتْ خَدِيجَةُ أَيِ ابْنَ عَمِّ هَكَذَا هُوَ فِي الْأُصُولِ فِي الْأَوَّلِ عَمِّ وَفِي الثَّانِي ابْنَ عَمِّ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ أَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ ابْنُ عَمِّهَا حَقِيقَةً كَمَا ذَكَرَهُ أَوَّلًا فِي الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدٍ وَهِيَ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدٍ .

وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَسَمَّتْهُ عَمًّا مَجَازًا لِلِاحْتِرَامِ هَذِهِ عَادَةُ الْعَرَبِ فِي آدَابِ خِطَابِهِمْ يُخَاطِبُ الصَّغِيرُ الْكَبِيرَ بِيَا عَمِّ احْتِرَامًا لَهُ وَرَفْعًا لِمَرْتَبَتِهِ وَلَا يَحْصُلُ هَذَا الْغَرَضُ بِقَوْلِهَا يَا ابْنَ عَمِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
قَوْلُهُ هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النَّامُوسُ بِالنُّونِ وَالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَهُوَ جِبْرِيلُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ وَغَرِيبِ الْحَدِيثِ النَّامُوسُ فِي اللُّغَةِ صَاحِبُ سِرِّ الْخَيْرِ وَالْجَاسُوسُ صَاحِبُ سِرِّ الشَّرِّ وَيُقَالُ نَمَسْتُ السِّرَّ بِفَتْحِ النُّونِ وَالْمِيمِ أَنْمِسُهُ بِكَسْرِ الْمِيمِ نَمْسًا أَيْ كَتَمْتُهُ وَنَمَسْتُ الرَّجُلَ وَنَامَسْتُهُ سَارَرْتُهُ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُسَمَّى النَّامُوسَ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ الْمُرَادُ هُنَا قَالَ الْهَرَوِيُّ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّهُ بِالْغَيْبِ وَالْوَحْيِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَذَا هُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا وَهُوَ الْمَشْهُورُ وَرُوِّينَاهُ فِي غَيْرِ الصَّحِيحِ نَزَلَ عَلَى عِيسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ
قَوْلُهُ يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا الضَّمِيرُ فِيهَا يَعُودُ إِلَى أَيَّامِ النُّبُوَّةِ وَمُدَّتِهَا وَقَوْلُهُ جَذَعًا يَعْنِي شَابًّا قَوِيًّا حَتَّى أُبَالِغَ فِي نُصْرَتِكَ وَالْأَصْلُ فِي الْجَذَعِ لِلدَّوَابِّ وَهُوَ هُنَا اسْتِعَارَةٌ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ جَذَعًا فَهَكَذَا هُوَ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا بِالنَّصْبِ قَالَ الْقَاضِي وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاهَانَ جَذَعٌ بِالرَّفْعِ وَكَذَلِكَ هُوَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ فِي الْبُخَارِيِّ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ ظَاهِرَةٌ.

وَأَمَّا النَّصْبُ فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وَجْهِهِ فَقَالَ الْخَطَّابِيُّ وَالْمَازِرِيُّ وَغَيْرُهُمَا نُصِبَ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ الْمَحْذُوفَةِ تَقْدِيرُهُ لَيْتَنِي أَكُونُ فِيهَا جَذَعًا وَهَذَا يَجِيءُ عَلَى مَذْهَبِ النَّحْوِيِّينَ الْكُوفِيِّينَ .

     وَقَالَ  الْقَاضِي الظَّاهِرُ عِنْدِي أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ وَخَبَرُ لَيْتَ قَوْلُهُ فِيهَا وَهَذَا الَّذِي اخْتَارَهُ الْقَاضِي هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي اخْتَارَهُ أَهْلُ التَّحْقِيقِ وَالْمَعْرِفَةِ مِنْ شُيُوخِنَا وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ هُوَ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ هَكَذَا الرِّوَايَةُ وَيَجُوزُ تَخْفِيفُ الْيَاءِ عَلَى وَجْهِ الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ تَشْدِيدُهَا وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى بِمُصْرِخِيَّ وَهُوَ جَمْعُ مُخْرِجٍ فَالْيَاءُ الْأُولَى يَاءُ الْجَمْعِ وَالثَّانِيَةُ ضَمِيرُ الْمُتَكَلِّمِ وَفُتِحَتْ لِلتَّخْفِيفِ لِئَلَّا يَجْتَمِعَ الْكَسْرَةُ وَالْيَاءَانِ بَعْدَ كَسْرَتَيْنِ .

قَوْلُهُ : ( وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ ) أَيْ وَقْتَ خُرُوجِكَ .

قَوْلُهُ : ( أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا ) هُوَ بِفَتْحِ الزَّايِ وَبِهَمْزَةٍ قَبْلَهَا أَيْ قَوِيًّا بَالِغًا .

قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى : ( أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ قَالَ : قَالَ الزُّهْرِيُّ وَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ ) هَكَذَا هُوَ فِي الْأُصُولِ ( وَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ ) بِالْوَاوِ وَهُوَ الصَّحِيحُ وَالْقَائِلُ وَأَخْبَرَنِي هُوَ الزُّهْرِيُّ وَفِي هَذِهِ الْوَاوِ فَائِدَةٌ لَطِيفَةٌ قَدَّمْنَاهَا فِي مَوَاضِعَ وَهِيَ أَنَّ مَعْمَرًا سَمِعَ مِنَ الزُّهْرِيِّ أَحَادِيثَ قَالَ الزُّهْرِيُّ فِيهَا أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بِكَذَا وَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بِكَذَا إِلَى آخِرِهَا فَإِذَا أَرَادَ مَعْمَرٌ رِوَايَةَ غَيْرِ الْأَوَّلِ قَالَ : قَالَ الزُّهْرِيُّ : وَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ فَأَتَى بِالْوَاوِ لِيَكُونَ رَاوِيًا كَمَا سَمِعَ وَهَذَا مِنَ الِاحْتِيَاطِ وَالتَّحْقِيقِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى الْأَلْفَاظِ وَالتَّحَرِّي فِيهَا .
وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

قَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَعْنِي رِوَايَةَ مَعْمَرٍ : ( فَوَاللَّهِ لَا يُحْزِنْكَ اللَّهُ ) هُوَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ وَقَدْ قَدَّمْنَا بَيَانَهُ .

قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ ( عُقَيْلٍ ) وَهُوَ بِضَمِّ الْعَيْنِ : ( يَرْجُفُ فُؤَادَهُ ) قَدْ قَدَّمْنَا فِي حَدِيثِ أَهْلُ الْيَمَنِ أَرَقُّ قُلُوبًا بَيَانَ الِاخْتِلَافِ فِي الْقَلْبِ وَالْفُؤَادِ ..
وَأَمَّا عِلْمُ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِرَجَفَانِ فُؤَادِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا رَأَتْهُ حَقِيقَةً ، وَيَجُوزُ أَنَّهَا لَمْ تَرَهُ وَعَلِمَتْهُ بِقَرَائِنَ وَصُورَةِ الْحَالِ .
وَاللَّهُ أَعْلَمُ .