هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير، 
323 وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ، حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ ، عَنْ زَائِدَةَ ، عَنِ الْمُخْتَارِ بْنِ فُلْفُلٍ ، قَالَ : قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنَا أَوَّلُ شَفِيعٍ فِي الْجَنَّةِ ، لَمْ يُصَدَّقْ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مَا صُدِّقْتُ ، وَإِنَّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ نَبِيًّا مَا يُصَدِّقُهُ مِنْ أُمَّتِهِ إِلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ
هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير، 
323 وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا حسين بن علي ، عن زائدة ، عن المختار بن فلفل ، قال : قال أنس بن مالك : قال النبي صلى الله عليه وسلم : أنا أول شفيع في الجنة ، لم يصدق نبي من الأنبياء ما صدقت ، وإن من الأنبياء نبيا ما يصدقه من أمته إلا رجل واحد
هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير، 

: هذه القراءةُ حاسوبية، وما زالت قيدُ الضبطِ والتطوير، 

شرح الحديث من فـــتح المــــنعم

: : هذه القراءةُ حاسوبية، وما زالت قيدُ الضبطِ والتطوير،   

قال أنس بن مالك رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم أنا أول شفيع في الجنة.
لم يصدق نبي من الأنبياء ما صدقت.
وإن من الأنبياء نبيا ما يصدقه من أمته إلا رجل واحد
.


المعنى العام

تحدثا بنعمة الله تعالى، واعترافا بفضله، وتبليغا لشريعته وتحذيرا من هول الموقف العظيم، ليأخذ المؤمن أهبته، ويتزود من دنياه لآخرته، يحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه عن أمور الآخرة، مبرزا شفاعته للناس عامة، وللمذنبين من أمته بصفة خاصة، موضحا فضل الله على عباده، ورحمته من آمن منهم، وإكرامه لهم، وإحسانه إليهم، مبينا عظيم اهتمامه صلى الله عليه وسلم بأمته، وشديد حرصه بأمنهم، وبالغ شفقته حتى على المذنبين منهم.

يقول: يحشر الله الناس يوم القيامة، يجمع الأولين والآخرين منذ آدم إلى النفخ في الصور، على أرض بيضاء نقية، ملساء مستوية لا ترى فيها عوجا ولا أمتا، ولا شجرا ولا حجرا ولا مدرا، لو أن ناظرا نظر إليهم لرآهم جميعا، ولو أن متكلما ناداهم لأسمعهم جميعا، حفاة عراة، الرجال والنساء جميعا، لكن لا ينظر بعضهم إلى بعض، ولا يفكر أحدهم في غير نفسه، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه؛ الخوف من المصير يتملكهم، والشعور بالصغار وحقيقة أنفسهم يملأ قلوبهم، يقفون كما يقف الجاني في قفص الاتهام، ينتظر فصل القضاء، وتدنو الشمس من رءوسهم، وتشتد حرارتها عليهم، ويطول وقوفهم، ويسيل عرقهم، أهوال وأهوال، فوق التصور والخيال، في وقت واحد، وفي مكان واحد، وفي أرض مستوية، لكن منهم من يبلغ عرقه عقبه، ومنهم من يبلغ ساقه، ومنهم من يبلغ ركبته، ومنهم من يبلغ فخده، ومنهم من يبلغ خاصرته، ومنهم من يبلغ منكبيه، ومنهم من يبلغ فاه، ومنهم من يغطيه عرقه، لا تقل: كيف والماء على الأرض المعتدلة يغطي من عليها على السواء؟ إنها خوارق الواقعة { { ليس لوقعتها كاذبة* خافضة رافعة } } [الواقعة: 2-3] { { يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد } } [الحج: 2] إنه ليوم عظيم { { يوم يقوم الناس لرب العالمين } } [المطففين: 6] { { وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون } } [الحج: 47] فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون، وما لا يحتملون، يفزع بعضهم إلى بعض: ألا ترون إلى ما قد وصلنا إليه ووصل إلينا من الكرب؟ أما من نهاية لما نحن فيه من الغم؟ ألا نستشفع إلى ربنا ليريحنا من مكاننا؟ فينطلقون من الضجر والجزع إلى أبيهم آدم، ومن للإنسان عند الشدة مثل أبيه؟ فيجدونه رافعا رأسه إلى السماء يقول: يا رب سلم.
سلم.
يقولون: يا أبانا.
يا أبا الخلق.
يا أبا البشر.
ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟ ألا تشفع لنا عند ربنا؟ فيقول: لست لها.
لست لها.
لقد عصيت ربي وأنا في الفردوس، وأكلت من الشجرة التي نهاني عنها، فإن يغفر لي اليوم حسبي.
نفسي نفسي.
فيقولون: يا أبانا، لقد خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، ونحن ذريتك، ألا تشفع لنا اليوم عند ربك؟ فيقول: إن ربي غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني أستحيي لقاء ربي من ذنبي.
نفسي.
نفسي، اذهبوا إلى نوح، أبيكم بعد أبيكم، أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض، وسماه ربه عبدا شكورا، فيأتون نوحا.
فيقولون: يا نوح.
أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وإن الله اصطفاك واستجاب دعاءك، فاشفع لنا عند ربك.
فيقول: لقد سألت ربي ما ليس لي به علم، وأهلكت أهل الأرض بدعوتي، وإن ربي غضب اليوم غضبا أستحيي من لقائه بمعصيتي، وإن يغفر لي اليوم حسبي.
نفسي.
نفسي.
اذهبوا إلى إبراهيم، فهو خليل الله لعله يشفع لكم، فيأتون إبراهيم فيستشفعون به، فيقول: إني كذبت ثلاث كذبات، وأشفق على نفسي منها، وإن يغفر لي اليوم حسبي.
نفسي نفسي.
اذهبوا إلى موسى، كلمه الله وأعطاه التوراة، فيأتون موسى.
فيقولون: يا موسى، اصطفاك الله على الناس برسالاته وبكلامه، فاشفع لنا عند ربك ليقضي بيننا، ويريحنا من مكاننا.
فيقول: إن ربي غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإني قتلت نفسا بغير نفس، ولم أومر بقتلها، فإن يغفر لي اليوم حسبي.
نفسي.
نفسي.
اذهبوا إلى عيسى عبد الله ورسوله وكلمته وروحه، فإنه كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، فيأتون عيسى فيقولون: يا عيسى، أنت رسول الله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وكلمت الناس في المهد صبيا.
اشفع لنا عند ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ فيقول: إني عبدت من دون الله، واتهمت بأنني قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله.
نفسي.
نفسي.
اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
انطلقوا إلى سيد ولد آدم.
فإنه أول من تنشق عنه الأرض.
فيأتون محمدا صلى الله عليه وسلم فيقول: أنا لها.
أنا لها.
فينطلق حتى يأتي تحت العرش.
فيقف حامدا شاكرا مثنيا على ربه بثناء وتحميد يلهمه إياه، حتى إذا تجلى الله له خر ساجدا لربه، يحمده ويثني عليه بمحامد لم يحمده بها أحد من قبله، ولا يحمده بها أحد بعده، ويمكث ساجدا ما شاء الله له أن يمكث.
ثم يقول له: يا محمد.
فيقول: لبيك وسعديك والخير في يديك، والمهدي من هديت، وعبدك بين يديك وبك وإليك، تباركت وتعاليت، سبحانك لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك.
فيقول له: ارفع رأسك، وسل تعطه.
اشفع تشفع، فيقول: يا رب.
فرق جمع الأمم إلى حيث تشاء، والطف بعبادك أهل الموقف، ويسر الحكم والقضاء.

هنالك تتطاير الصحف، وتنتشر الكتب، ويعض الظالم على يديه يقول: { { يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا } } [الفرقان: 27] هنالك تفتح أبواب جهنم وتفسح الطرق المؤدية إليها، وينادي المنادي: من كان يعبد شيئا فليتبعه، فيتبع من كان يعبد الصليب الصليب، ومن كان يعبد الشمس الشمس، ومن كان يعبد القمر القمر، ومن كان يعبد العجل العجل، ويساقون مع معبوداتهم إلى النار، يدعون إلى نار جهنم دعا.
يساقون إليها زمرا، كلما ألقي فيها فوج قالت: هل من مزيد.

حتى إذا ما خلا الموقف من عبدة غير الله، ولم يبق إلا عبدة الله أقيم العرض، فيمر أمام العرش كل نبي وأمته، يمر النبي ومعه الأمة، والنبي ومعه النفر، والنبي ومعه العشر، والنبي ومعه الخمسة، والنبي ومعه رجل واحد، ونبينا صلى الله عليه وسلم يومئذ أكثر الأنبياء تابعا، ثم تفتح ساحة القضاء، ويوضع الميزان، ويقوم الحساب فيقول محمد صلى الله عليه وسلم: يا رب أمتي أمتي.
فيقول له: أدخل من أمتك الجنة سبعين ألفا لا حساب عليهم ولا عذاب.
فيقول: يا رب زدني.
فيقول: ومع كل ألف سبعون ألفا، فتمر هذه الزمرة على الصراط كالبرق، تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر، وتكون أمة محمد صلى الله عليه وسلم أول الأمم حسابا، وأولها مرورا على الصراط، ويقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصراط، وأمته تعبر تجري بهم أعمالهم ولسانه لا يفتأ يقول: يا رب سلم سلم.
حتى إذا سقط من أمته في النار من سقط، ونجا من نجا، تشفع الناجون إليه أن يستفتح لهم الجنة، فيأتيها، فيأخذ حلقة بابها، فيقعقعها.
فيقول الخازن: من هذا؟ فيقول: محمد.
فيقول: مرحبا بمحمد.
بك أمرت ألا أفتح لأحد قبلك، فيدخل الجنة هو والسابقون وأصحاب اليمين، وينزلون منازلهم حسب أعمالهم.

ثم يخر ساجدا لربه، يحمده ويثني عليه، فيقول له: ارفع رأسك يا محمد، وسل تعط، واشفع تشفع، فيقول: يا رب.
أمتي.
أمتي.
فيقول له: أخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان؛ فيخرجه ويدخله الجنة، ثم يخر ساجدا لربه، ويحمده، ويثني عليه فيقول له ربه: ارفع رأسك يا محمد، وسل تعط، واشفع تشفع.
فيقول: يا رب أمتي أمتي.
فيقول له: أخرج من النار من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى من مثقال ذرة من إيمان، فيخرجه ويدخله الجنة، ثم يخر ساجدا لربه.
ويحمده، ويثني عليه.
فيقول له ربه: ما تريد يا محمد؟ فيقول: يا رب.
أناس من عبادك، لم يشركوا بك، ولم يعملوا خيرا قط، فشفعني فيهم.
فيقول له ربه: ليس ذلك لك.
فوعزتي وجلالي وعظمتي وكبريائي لأخرجنهم من النار، فيخرجهم ربهم، ثم يدخلهم الجنة.

ذلك المقام المحمود الذي خص به نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم وذلك لواء الحمد الذي منحه الله إياه يوم القيامة، وتلك شفقته صلى الله عليه وسلم بأمته في الدنيا والآخرة.
وصدق الله العظيم.
حيث يقول فيه: { { لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم } } [التوبة: 128] .

المباحث العربية

( يجمع الله الناس يوم القيامة) جمع الحشر والموقف العظيم، وفي الرواية الرابعة يجمع الله يوم القيامة الأولين والآخرين.
وفي الرواية الخامسة { { يوم يقوم الناس لرب العالمين } }

( فيهتمون لذلك -أو- فيلهمون لذلك) قال النووي: معنى اللفظتين متقارب، فمعنى الأولى أنهم يعتنون بسؤال الشفاعة وزوال الكرب الذي هم فيه، ومعنى الثانية أن الله تعالى يلهمهم سؤال ذلك، والإلهام أن يلقي الله تعالى في النفس أمرا يحمل على فعل شيء أو تركه.
اهـ

وأصل الكلام: فيهتمون بطلب الشفاعة لزوال كرب الجمع، أو فيلهمون طلب الشفاعة للتحول من كرب الجمع، فالإشارة للجمع وشدائده والمهتم به والملهم سؤال الشفاعة.
والأولى أن يكون معنى فيهتمون لذلك أي فيحزنون لذلك الجمع الشديد وأهواله، ففي القاموس: همه الأمر حزنه، فاهتم.

( لو استشفعنا على ربنا) السين والتاء للطلب، أي لو طلبنا من الأنبياء الشفاعة إلى ربنا -والشفاعة انضمام الأدنى إلى الأعلى- ليستعين به على ما يرومه، وفي رواية إلى ربنا بتضمين شفعنا معنى سعينا.
ولو للتمني، أو شرطية والجواب محذوف.

( حتى يريحنا من مكاننا هذا) أي من أرض الموقف العظيم، وفي رواية فيريحنا.

( فيأتون آدم) من إسناد ما للبعض للكل.

( أنت آدم أبو الخلق) وفي الرواية السابعة يا آدم.
أنت أبو البشر وفي الرواية السادسة يا أبانا.

( خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه) الإضافة في بيده وفي من روحه للتشريف.

( اشفع لنا عند ربك) وفي الرواية الرابعة اشفع لنا إلى ربك وفي الرواية السادسة أستفتح لنا الجنة أي اطلب لنا فتح الجنة.

( لست هناكم) هناك ظرف مكان، استعمل في ظرف الزمان، ومعناه هنا: لست في هذا المقام، أي لست أهلا في هذا الوقت.
قاله بعضهم، وقال آخرون: هو مستعمل في ظرف المكان على بابه، لكنه المكان المعنوي، لا الحسي، بل يمكن حمله على الحسي، لما روي أنه صلى الله عليه وسلم يباشر السؤال تحت العرش، وبعد أن يستأذن في دخول الجنة.

( فيذكر خطيئته التي أصاب فيستحيي ربه منها) يقال: استحيا منه واستحياه، لازم ومتعد، ومفعول أصاب عائد الموصول محذوف، والتقدير: التي أصابها، وفي الرواية الرابعة إن ربي غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه نهاني عن الشجرة، فعصيته وفي الرواية السادسة فيقول: وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئه أبيكم آدم، وفي رواية إني قد أخرجت بخطيئتي من الجنة وفي رواية وإني أذنبت ذنبا فأهبطت به إلى الأرض وفي رواية إني أخطأت وأنا في الفردوس، فإن يغفر لي اليوم حسبي.

( ولكن ائتوا نوحا أول رسول بعثه الله) سيأتي الكلام في أولية بعثته في فقه الحديث، وفي رواية أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض وفي رواية انطلقوا إلى أبيكم بعد أبيكم، إلى نوح.
ائتوا عبدا شاكرا.

( لست هناكم، ويذكر خطيئته) وفي رواية ويذكر سؤال ربه ما ليس له به علم وفي الرواية الرابعة وإنه قد كانت لي دعوة دعوت بها على قومي وفي رواية إني دعوت بدعوة أغرقت أهل الأرض وقد سقط من الرواية الثالثة والسادسة ذكر نوح عليه السلام.

( ولكن ائتوا إبراهيم) وفي الرواية الرابعة اذهبوا إلى إبراهيم وفي رواية ولكن عليكم بإبراهيم.

( الذي اتخذه الله خليلا) قال القاضي عياض: أصل الخلة الاختصاص والاصطفاء، وقيل: أصلها الانقطاع إلى من خاللت، مأخوذة من الخلة، وهي الحاجة، فسمي إبراهيم صلى الله عليه وسلم بذلك، لأنه قصر حاجته على ربه -سبحانه وتعالى- وقيل: الخلة صفاء المودة التي توجب تخلل الأسرار، وقيل: معناها المحبة والألطاف.
اهـ

وقال ابن الأنباري: الخليل معناه المحب الكامل المحبة، والمحبوب الموفي بحقيقة المحبة أي اللذان ليس في حبهما نقص ولا خلل.
اهـ

قال الواحدي: وهذا القول هو الاختيار، لأن الله عز وجل خليل إبراهيم، وإبراهيم خليل الله، ولا يجوز أن يقال: الله تعالى خليل إبراهيم، من الخلة التي هي الحاجة.
والله أعلم

( لست هناكم، ويذكر خطيئته) وفي رواية إني كنت كذبت ثلاث كذبات قوله: { { إني سقيم } } [الصافات: 89] وقوله: { { بل فعله كبيرهم هذا } } [الأنبياء: 63] وقوله لامرأته: أخبريه أني أخوك.
وذكر في الرواية الخامسة قوله في الكواكب: { { هذا ربي } } [الأنعام: 77] بدل الكذبة الثالثة.

( فيأتون موسى فيقول) لست هناكم ويذكر خطيئته، وفي الرواية الرابعة وإني قتلت نفسا لم أومر بقتلها وفي رواية إني قتلت نفسا بغير نفس.

( ولكن ائتوا عيسى روح الله وكلمته) ، ومعنى روح الله أي روح مخلوقة من الله، فالإضافة إضافة تشريف.
مثل: ناقة الله وبيت الله، وقيل معناه: ليس من أب، وإنما نفخ في أمه الروح، وقيل معناه رحمة الله، ومعنى وكلمته أنه كان بكلمة كن فسمي بها، كما يقال للمطر: رحمة.
والله أعلم.

( لست هناكم) وفي الرواية الرابعة ولم يذكر له ذنبا وعند الترمذي إني عبدت من دون الله وعند أحمد والنسائي إني اتخذت إلها من دون الله.

( ولكن ائتوا محمدا عبدا قد غفر له) عبدا حال، وقد غفر له حال مترادفة، أو متداخلة من الضمير في عبدا بعد تأويله بمشتق.

( فيأتوني) بحذف إحدى النونين، وهو جائز.

( فإذا أنا رأيته وقعت ساجدا) وفي الرواية الرابعة فآتي تحت العرش فأقع ساجدا لربي وفي رواية فيتجلى له الرب، ولا يتجلى لشيء قبله وفي رواية يعرفني الله نفسه، فأسجد له سجدة يرضى بها عني وفي رواية فإذا رأيت ربي خررت له ساجدا شاكرا له.

( فيدعني ما شاء الله) أي فيتركني ساجدا مدة يشاؤها الله، فلفظ ما حرف مصدري زماني، ومفعول المشيئة محذوف، وقد أبرز في بعض الروايات بلفظ فيدعني ما شاء الله أن يدعني.

( فيقال: يا محمد) حذف الفاعل القائل، ودلت عليه إحدى الروايات وفيها فأوحى الله إلى جبريل، أن اذهب إلى محمد فقل له: ارفع رأسك فالقائل الحقيقي هو الله تعالى على لسان جبريل.

( قل تسمع.
سل تعطه...إلخ)
في الرواية الثالثة بواو العطف وفيها وقل يسمع لك والهاء في تعطه للسكت.

( ثم أشفع فيحد لي حدا، فأخرجهم من النار) فيحد بفتح الياء، وضم الحاء، أي يبين لي في كل مرة من مرات الشفاعة حدا أقف عنده، ولا أتعداه، وقد بينت الرواية الثالثة هذه الحدود.
الحد الأول: من كان في قلبه مثقال برة أو شعيرة من إيمان، الحد الثاني: من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، الحد الثالث: من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل من إيمان.

( فلا أدري في الثالثة أو في الرابعة.
قال: فأقول يا رب، ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن)
أي فلا أدري أقال في الرفعة الثالثة أو في الرفعة الرابعة، وهذا الشك من الراوي جاء بطريق الجزم أنه في الرابعة في بعض الروايات.

( إلا من حبسه القرآن.
أي وجب عليه الخلود)
أبهم في هذه الرواية قائل أي وجب عليه الخلود وتبين من بعض الروايات أنه قتادة أحد رواة الحديث، والمعنى: إلا من أخبر القرآن أنه مخلد في النار، وهم الكفار.

الرواية الثانية

( وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرة) والمعنى: ما يعدل ذرة ويساويها، والذرة بفتح الذال وتشديد الراء، واحدة الذر، وهو الحيوان المعروف الصغير من النمل، قال النووي، ثم قال: ورواه بعضهم بضم الذال وتخفيف الراء، واتفقوا على أنه تصحيف.
اهـ

الرواية الثالثة

( وتشفعنا بثابت) البناني، وكان من خاصة أنس بن مالك، وفي رواية البخاري فذهبنا معنا بثابت البناني إليه يسأله لنا عن حديث الشفاعة، وفيه فقلنا لثابت: لا تسأله عن شيء أول من حديث الشفاعة.

( إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم إلى بعض) ماج الناس أي اختلطوا، يقال: ماج البحر إذا اضطربت أمواجه.

( فأحمده بمحامد لا أقدر عليه) قال النووي: هكذا هو في الأصول لا أقدر عليه وهو صحيح، ويعود الضمير في عليه إلى الحمد.

( فأخرجه من النار) قال النووي: اتفقت الأصول على أنه فأخرجه بضميره صلى الله عليه وسلم وحده، في الانطلاق الثاني والثالث، أما الانطلاق الأول ففي بعض الأصول فأخرجوه على لفظ الجمع، وفي بعضها فأخرجه وفي أكثرها فأخرجوا بغير هاء، وكله صحيح، فمن رواه فأخرجوه يكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ومن تبعه من الملائكة ومن حذف الهاء فلأنها ضمير المفعول، وهو فضلة، يكثر حذفه.
والله أعلم.

( فلما كنا بظهر الجبان) قال أهل اللغة: الجبان والجبانة بفتح الجيم وتشديد الباء هما الصحراء، ويسمى بهما المقابر، لأنها تكون في الصحراء، وهو من تسمية الشيء باسم موضعه، وقوله: بظهر الجبان أي بظاهرها وأعلاها المرتفع منها.

( لو ملنا إلى الحسن) يعني لو عدلنا واتجهنا إلى الحسن البصري، وجواب لو محذوف، أي لكان خيرا، أو هي للعرض.

( وهو مستخف) أي طالب الاختفاء من الحجاج بن يوسف، وفي رواية البخاري قلت لبعض أصحابنا: لو مررنا بالحسن وهو متوار في منزل أبي خليفة، فحدثنا بما حدثنا به أنس بن مالك.

( قال: هيه) بكسر الهاء الأولى والثانية، وبينهما ياء ساكنة، قال أهل اللغة: يقال في الاستزادة من الحديث: إيه، ويقال: هيه؛ بالهاء بدل الهمزة، اسم فعل أمر، تقول للرجل إذا استزدته من حديث أو عمل: إيه بكسر الهمزة فإن وصلت نونت، فقلت: إيه حديثا.

( وهو يومئذ جميع) بفتح الجيم وكسر الميم، أي مجتمع القوة والحفظ.

( وما ذكرت لكم هذا إلا وأنا أريد أن أحدثكموه ثم أرجع إلى ربي) تم الكلام عند قوله: أحدثكموه ثم ابتدأ تمام الحديث، فقال: ثم أرجع ومعناه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثم أرجع إلى ربي....
إلخ.

( وعظمتي وجبريائي) بكسر الجيم، أي سلطاني، أو قهري.

الرواية الرابعة

( رفع إليه الذراع، وكانت تعجبه) لنضجها، وسرعة استمرائها مع زيادة لذتها، وحلاوة مذاقها، وبعدها عن مواضع الأذى، وفائدة وصف حالة المحدث وقت التحديث التوثيق بالرواية.

( فنهس منها نهسة) أكثر الرواة رووه بالسين، ووقع في بعض الروايات بالشين وكلاهما بمعنى واحد، أي أخذ بأطراف أسنانه، وقيل: النهس الأخذ بأطراف الأسنان، والنهش بالأضراس.

( أنا سيد الناس يوم القيامة) قال القاضي عياض: السيد الذي يفوق قومه، والذي يفزع إليه في الشدائد، والنبي صلى الله عليه وسلم سيدهم في الدنيا والآخرة، وإنما خص يوم القيامة لارتفاع السؤدد فيها، وتسليم جميعهم له.
اهـ.

( يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد) الصعيد الأرض الواسعة المستوية.

( فيسمعهم الداعي) بضم الياء وكسر الميم، والداعي فاعل، أي يصل صوت الداعي إليهم جميعا بقوة ودرجة واحدة.

( وينفذهم البصر) بفتح الياء وضم الفاء والذال، وروي بضم الياء يقال: نفذ البصر القوم إذا بلغهم وجاوزهم، وأنفذ البصر القوم إذا خرقهم وسرى فيهم، و أل في البصر للعهد.
قيل: بصر الرحمن، ورد بأن بصر الرحمن ينفذ في عباده، وهو مطلع عليهم في كل وقت وفي الأرض المستوية وغير المستوية، فالأصح أن المراد بصر المخلوق، والمعنى: أنه يحيط بهم الناظر، لا يخفى عليه منهم شيء، لاستواء الأرض وعدم وجود شيء عليها يستر الناظرين، ورواه بعضهم بالدال المهملة ينفدهم أي يبلغ أولهم وآخرهم، حتى يراهم كلهم، ويستوعبهم.

( وتدنو الشمس) من رءوس الناس، كما سيوضح في فقه الحديث.

( ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟) بفتح الغين، أي ما صل وانتهى إلينا من الكرب والشدة.
قال النووي: بفتح الغين هذا هو الصحيح المعروف، وضبطه بعض الأئمة المتأخرين بفتح الباء واللام وإسكان الغين، وله وجه ولكن المختار فتح الغين، ويدل عليه قوله في أول الحديث: ألا ترون ما قد بلغكم؟ ولو كان بإسكان الغين لقال: بلغتم.
اهـ.

( إن ربي غضب اليوم) المراد من الغضب لازمه، وهو ما يظهر من انتقامه وإيصال السوء لبعض عصاته، مما يشاهده أهل الموقف من الأهوال التي لم تكن، ولا يكون مثلها، كما أن الرضى في حقه تعالى ظهور رحمته ولطفه بمن أراد به الخير والكرامة، لأن الله تعالى يستحيل في حقه التغير في الغضب والرضى.

( نفسي نفسي) مبتدأ وخبر، أي نفسي هي روحي وكل ما أملك وأحرص عليه في هذا الوقت.
قاله بعضهم: والأولى جعل الأولى مبتدأ محذوف الخبر، أو خبرا لمبتدأ محذوف، والثانية تأكيدا، يؤيد ذلك تكرير نفسي في بعض الروايات ثلاث مرات، والتقدير: نفسي هي المستحقة للشفاعة، أو المستحق للشفاعة نفسي.

( ثم قال: يا محمد.
ارفع رأسك)
فيه التعبير بالماضي بدل المضارع لتحقق الوقوع، والأصل فيقول على لسان جبريل كما سبق بيانه.

( إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة) المصراعان بكسر الميم جانبا الباب، والجار والمجرور متعلق بمحذوف حال.

( كما بين مكة وهجر -أو كما بين مكة وبصرى) شك من الراوي في أي اللفظتين جاء، وهجر اسم مدينة ببلاد البحرين.
قال الجوهري في صحاحه: هجر اسم بلد مذكر مصروف.
وقال الزجاجي في الجمل هجر يذكر ويؤنث.
قال النووي: وهجر هذه غير هجر المذكورة في حديث إذا بلغ الماء قلتين بقلال هجر تلك قرية من قرى المدينة، كانت القلال تصنع بها، وهي غير مصروفة.
اهـ.

وأما بصرى بضم الباء فهي مدينة معروفة، وهي مدينة حوران قريبة من دمشق بالشام، وهي غير البصرة بالعراق.
والهدف من التعبير المبالغة في سعة باب الجنة، لا تحديد مسافة ما بين المصراعين.

الرواية الخامسة

( ألا تقولون: كيفه؟ قالوا: كيفه يا رسول الله؟) الهاء للسكت تلحق الكلمة في الوقف، أما قول الصحابة كيفه يا رسول الله فقد ألحقوها مع الوصل إجراء له مجرى الوقوف، أو قصدا إلى اتباع لفظ النبي صلى الله عليه وسلم، الذي حثهم عليه، فلو قالوا: كيف؟ لما كانوا سائلين عن اللفظ الذي حثهم عليه.
قاله النووي.

( إلى عضادتي الباب) بكسر العين.
قاله الجوهري: عضادتا الباب هما خشبتاه من جانبيه.
اهـ وإلى بمعنى نهاية الحد، أي ما بين المصراعين منتهيين إلى عضادتي الباب كما بين مكة وهجر.

الرواية السادسة

( فيقوم المؤمنون حتى تزلف لهم الجنة) تزلف بضم التاء وإسكان الزاي مبني للمجهول، أي تقرب لهم، كقوله تعالى: { { وأزلفت الجنة للمتقين } } [الشعراء: 90] .

( إنما كنت خليلا من وراء وراء) قال صاحب التحرير: هذه الكلمة وراء وراء تذكر على سبيل التواضع، أي لست بتلك الدرجة الرفيعة، ولعل المقصود منها: أن المكارم التي أعطيتها كانت بواسطة جبريل عليه السلام، ولكن ائتوا موسى، فإنه حصل له سماع الكلام من غير واسطة، فكأن إبراهيم عليه السلام قال: أنا وراء موسى الذي هو وراء محمد صلى الله عليه وسلم عليهم أجمعين.
اهـ.

والمشهور في ضبط وراء وراء الفتح فيها بلا تنوين، فالكلمة الثانية مؤكدة، كشذر مذر، وسقطوا بين بين، فركبتا وبنيتا على الفتح، وقال أبو البقاء: الصواب الضم، لأن تفسيره من وراء ذلك، أو من وراء شيء آخر.
اهـ فهما مبنيان على الضم، كقبل وبعد، وقد نقل عن الأخفش أنه يقال: لقيته من وراء؛ بالضم على الغاية، كقوله: من قبل ومن بعد، وأنشد الأخفش في ذلك قول الشاعر:

إذا أنا لم أومن عليك ولم يكن
لقاؤك إلا من وراء وراء

( اعمدوا إلى موسى) بكسر الميم، ماضيه عمد بفتحها، أي اقصدوا واتجهوا.

( وترسل الأمانة والرحم، فتقومان جنبتي الصراط) فتقومان بالتاء، لأن المؤنثتين الغائبتين تكونان بالتاء، وخطأ مجيئها بالياء.
وجنبتا الصراط بفتح الجيم والنون ومعناهما جانباه؛ وإرسال الرحم والأمانة لعظم حقهما، فتصوران مشخصتين على الصفة التي يريدها الله تعالى.

وفي الكلام اختصار؛ اعتمادا على فهم السامع، وأصله: فتقومان جنبتي الصراط، لتطالبا كل من يريد المرور بحقهما.

( وشد الرجال) بالجيم، جمع رجل.
قال النووي: هذا هو الصحيح المعروف المشهور، ونقل عن بعضهم أنه بالحاء، قال القاضي عياض: وهما متقاربان في المعنى، وشدها جريها وعدوها البالغ.
اهـ.

( تجري بهم أعمالهم) هو كالتفسير لقوله: فيمر أولكم كالبرق..إلخ ومعناه: أنهم يكونون في سرعة المرور على حسب مراتبهم وأعمالهم.

( وفي حافتي الصراط) هو بتخفيف الفاء، وهما جانباه، ففي القاموس: وحافتا الوادي [بفتح الفاء مخففة] وغيره جانباه؛ والجمع حافات [بتخفيف الفاء أيضا] .

( فمخدوش ناج ومكدوس في النار) ووقع في أكثر الأصول هنا مكردس وهو قريب من معنى المكدوس، أي المتراكم بعضه على بعض من تكدست الدواب في سيرها إذا ركب بعضها بعضا.

( إن قعر جهنم لسبعون خريفا) قال النووي: هكذا هو في بعض الأصول لسبعون بالواو، وهذا ظاهر وفيه حذف، تقديره: إن مسافة قعر جهنم سير سبعين سنة، ووقع في معظم الأصول والروايات لسبعين بالياء، وهو صحيح أيضا، إما على مذهب من يحذف المضاف ويبقى المضاف إليه على جره، فيكون التقدير: سير سبعين، وإما على أن قعر جهنم مصدر، يقال: قعرت بالشيء إذا بلغت قعره، ويكون سبعين ظرف زمان، والتقدير: إن بلوغ قعر جهنم لكائن في سبعين خريفا، والخريف السنة.
اهـ.
والله أعلم.

فقه الحديث

يمكن حصر فقه الحديث في النقاط التالية:

1- أرض المحشر، وأحوال الناس في الحشر.

2- استشفاعهم بالأنبياء.

3- أقوال العلماء في معاصي الأنبياء وذنوبهم.

4- أنواع الشفاعة وكيفيتها، ومذاهب العلماء فيها.

5- دعوات الأنبياء واستجابتها، وكون محمد صلى الله عليه وسلم أكثرهم تبعا.

6- ما يؤخذ من الحديث من الأحكام.

وهذا هو التفصيل:

1- أرض المحشر، وأحوال الناس في المحشر.

روى البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي ( أي الدقيق النقي من الغش والنخال) قال الخطابي: يريد أنها مستوية، قال سهل: ليس فيها معلم لأحد.
قال عياض: ليس فيها علامة سكنى، ولا بناء، ولا أثر، ولا شيء من العلامات التي يهتدي بها في الطرقات، كالجبل والصخرة البارزة، وروايتنا الرابعة تشير إلى هذا في قولها: يجمع الله يوم القيامة الأولين والآخرين في صعيد واحد، فيسمعهم الداعي، وينفذهم البصر.

وقد اختلف السلف في المراد بقوله تعالى { { يوم تبدل الأرض غير الأرض } } [إبراهيم: 48] هل معنى تبديلها تغيير ذاتها وصفاتها؟ أو تغيير صفاتها فقط؟ فعن ابن مسعود: تبدل الأرض أرضا كأنها فضة، لم يسفك فيها دم حرام ولم يعمل عليها خطيئة.
وعن عكرمة قال: بلغنا أن هذه الأرض -يعني أرض الدنيا- تطوى، وإلى جنبها أخرى، يحشر الناس منها إليها.

وذهب آخرون إلى أن التغيير إنما يقع في صفات الأرض دون ذاتها، ويستندون إلى ما أخرجه الحاكم عن عبد الله بن عمرو قال: إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مد الأديم، وحشر الخلائق.
وإلى ما جاء عن ابن عباس من قوله: يزاد فيها، وينقص منها، ويذهب آكامها وجبالها وأوديتها وشجرها، وتمد مد الأديم العكاظي.

وجمع الحافظ ابن حجر بين الروايتين الأخيرتين وبين القول الأول بأن ذلك كله يقع لأرض الدنيا لكن أرض الموقف غيرها.
والله أعلم.

ولا يعنينا في هذا المقام أن يكون التغيير في ذات الأرض، أو في صفاتها؛ وإنما الذي يعنينا أن الأولين والآخرين من الخلائق سيجمعون في صعيد واحد يوم يقوم الناس لرب العالمين، وتدنو الشمس من الرءوس كما جاء في روايتنا الرابعة، وكما جاء عند الحاكم من حديث عقبة بن عامر رفعه تدنو الشمس من الأرض يوم القيامة، فيعرق الناس وعند مسلم تدني الشمس يوم القيامة من الخلق، حتى تكون منهم كمقدار ميل، فيكون الناس على مقدار أعمالهم في العرق ويطول الموقف، ويشتد الكرب، حتى يقول الرجل: يا رب أرحني ولو إلى النار.

2- الاستشفاع بالأنبياء

وعندئذ يقول بعضهم لبعض: ألا تنظرون من يشفع لكم عند ربكم؟ ويتوجهون إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

وتكاد تجمع الروايات على أنهم يفزعون إلى آدم ثم إلى نوح ثم إلى إبراهيم ثم إلى موسى ثم إلى عيسى ثم إلى محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
نعم أسقط بعض الرواة نوحا عليه السلام، كما في الرواية الثالثة والسادسة، ولكن العبرة بمن ذكره صلى الله عليه وسلم.

ولعل اختيار الناس هؤلاء دون غيرهم لتأهلهم لذلك المقام العظيم، قاله بعضهم، والذي يبدو من الحديث أن اختيارهم مقصور على آدم عليه السلام، أما من بعده فإن اختياره راجع إلى الأنبياء أنفسهم، كل منهم وجه إلى نبي بعده، وإنما توجه الناس إلى آدم باعتباره أبا البشر، وتوجه الإنسان في الشدائد إلى أبيه أمر طبيعي، وخصوصا إذا كان له شيء من الصفات التي تؤهله لتفريج الشدة، نلمس ذلك في قولهم: يا أبانا، أنت أبو البشر، أنت آدم أبو الخلق، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه وأمر الملائكة فسجدوا لك، وأسكنك جنته، وعلمك أسماء كل شيء، اشفع لذريتك، اشفع لنا عند ربك.

أما وجه اختيار آدم لنوح فقد جاءت به بعض الروايات، وفيها انطلقوا إلى أبيكم بعد أبيكم، إلى نوح، ائتوا عبدا شاكرا، وفي روايتنا الأولى ولكن ائتوا نوحا، أول رسول بعثه الله وفي رواية بعثه الله إلى أهل الأرض.

وقد استشكلت هذه الأولية بأن آدم نبي مرسل، وكذا شيث وإدريس، وهم قبل نوح، وقد نقل النووي عن بعض العلماء أجوبة عن هذا الإشكال، فقال: قال الإمام أبو عبد الله المازري: قد ذكر المؤرخون أن إدريس جد نوح عليهما السلام، فإن قام دليل على أن إدريس مرسل لم يصح قول المؤرخين إنه قبل نوح، لإخبار النبي صلى الله عليه وسلم نقلا عن آدم أن نوحا أول رسول بعث، وإن لم يقم دليل جاز ما قالوه، وصح أن يحمل أن إدريس كان نبيا غير مرسل، قال القاضي عياض: وقد قيل إن إدريس هو إلياس، وأنه كان نبيا في بني إسرائيل، كما جاء في بعض الأخبار مع يوشع بن نون، فإن كان هكذا سقط الاعتراض.

قال القاضي: وبمثل هذا يسقط الاعتراض بآدم وشيث ورسالتهما إلى من معهما إن كانا رسولين فإن آدم إنما أرسل لبنيه، ولم يكونوا كفارا بل أمر بتعليمهم الإيمان وطاعة الله تعالى، وكذلك خلفه شيث بعده فيهم بخلاف رسالة نوح إلى كفار أهل الأرض.
قال القاضي: وقد رأيت ابن بطال ذهب إلى أن آدم ليس برسول ليسلم من هذا الاعتراض، لكن حديث أبي ذر ينص على أن آدم وإدريس رسولان.
اهـ.

وأما وجه اختيار نوح لإبراهيم فهو اتخاذ الله إبراهيم خليلا كما جاء في الروايات.

وأما وجه اختيار إبراهيم لموسى فلأنه كليم الله، وأعطاه التوراة وفضله على الناس برسالاته وبكلامه، كما جاء في الروايات.

وأما وجه اختيار موسى لعيسى فلأنه روح الله وكلمته التي ألقاها إلى مريم، وكلم الناس وهو في المهد صبيا كما جاء في الروايات.

وأما وجه اختيار عيسى لمحمد فلأنه خاتم النبيين، وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ولأنه سيد ولد آدم، وأول من تنشق عنه الأرض، كما جاء في الروايات الأخرى.

وقال الحافظ ابن حجر: وقد قيل: إنما اختص المذكورون بذلك لمزايا أخرى، لا تتعلق بالتفضيل، فآدم لكونه والد الجميع، ونوح لكونه الأب الثاني، وإبراهيم للأمر باتباع ملته، وموسى لأنه أكثر الأنبياء تبعا، وعيسى لأنه أولى الناس بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، قال: ويحتمل أن يكونوا اختصوا بذلك لأنهم أصحاب شرائع، عمل بها أتباعهم فيما بين كل واحد منهم والذي بعده.
اهـ.

قال النووي: والحكمة في أن الله تعالى ألهم الناس سؤال آدم ومن بعده صلوات الله وسلامه عليهم، ولم يلهمهم سؤال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ابتداء هي -والله أعلم- إظهار فضيلة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فإنهم لو سألوه ابتداء لكان يحتمل أن غيره يقدر على هذا ويحصله، وأما إذا سألوا غيره من رسل الله تعالى وأصفيائه، فامتنعوا، ثم سألوه فأجاب، وحصل غرضهم، فهو النهاية في ارتفاع المنزلة وكمال القرب وعظيم الإدلال والأنس.
اهـ.

وهل كان الأنبياء يعلمون صاحب الشفاعة الحقيقي حين أحال كل منهم على الآخر؟ أو لم يكونوا يعلمون؟ أجاب عن ذلك القاضي عياض فقال: قال كل منهم: لست هناكم، أو لست لها، تواضعا، وإكبارا لما يسألونه، وقد تكون إشارة من كل واحد منهم إلى أن هذه الشفاعة وهذا المقام ليس له بل لغيره، وكل واحد منهم يدل على الآخر، حتى انتهى الأمر إلى صاحبه، قال: ويحتمل أنهم علموا أن صاحبها محمد صلى الله عليه وسلم على التعيين وتكون إحالة كل منهم على الآخر لغرض تدريج الشفاعة في ذلك إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، قال: وأما مبادرة النبي صلى الله عليه وسلم لذلك وإجابته لدعوتهم فلتحققه صلى الله عليه وسلم أن هذه الكرامة وهذا المقام له صلى الله عليه وسلم خاصة.
اهـ.

وقد تعرض الحافظ ابن حجر للذين يطلبون الشفاعة من محمد صلى الله عليه وسلم، فساق رواية للنضر بن أنس عن أبيه قال: حدثني نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: إني لقائم أنتظر أمتي تعبر الصراط إذ جاء عيسى فقال: يا محمد، هذه الأنبياء قد جاءتك يسألونك لتدعو الله أن يفرق جمع الأمم إلى حيث يشاء، لغم ما هم فيه قال: فأفادت هذه الرواية تعيين موقف النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ، وأن هذا الذي وصف من كلام أهل الموقف يقع عند نصب الصراط، وأن عيسى عليه السلام هو الذي يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الأنبياء جميعا يسألونه في ذلك.
اهـ.

وليس في هذا ما يمنع من أن وفود الأمم تتوجه مع الأنبياء إلى النبي صلى الله عليه وسلم أخذا بظاهر قوله في أكثر الروايات: فيأتوني بعد قوله: فيأتون عيسى.
والله أعلم.

3- أقوال العلماء في معاصي الأنبياء وذنوبهم

وقد اعتذر كل نبي قبل محمد [صلى الله وسلم عليهم جميعا] بانشغاله بنفسه ذاكرا معصيته.

فآدم يذكر أنه أكل من الشجرة، وقد نهي عنها، ففي بعض الروايات إني قد أخرجت بخطيئتي من الجنة وفي بعضها وإني أذنبت ذنبا فأهبطت به إلى الأرض وفي بعضها هل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم آدم، وفي بعضها إني أخطأت وأنا في الفردوس، فإن يغفر لي اليوم حسبي وفي بعضها إن ربي غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإنه نهاني من الشجرة فعصيت.
نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري.

ونوح يذكر أنه دعا على قومه بالهلاك، ففي بعض الروايات إني دعوت بدعوة أغرقت أهل الأرض وفي رواية ويذكر سؤال ربه ما ليس له به علم.

وإبراهيم يذكر كذباته الثلاث، ففي بعض الروايات إني كنت كذبت ثلاث كذبات زاد في بعضها قوله: إني سقيم وقوله: بل فعله كبيرهم هذا وقوله لامرأته: أخبريه أني أخوك، وذكرت بعض الروايات بدل الأخيرة قوله في الكوكب: هذا ربي.

قال صلى الله عليه وسلم: ما منها كذبة إلا ما حل بها عن دين الله أي إلا جادل بها عن دين الله.
وقال البيضاوي: الحق أن الكلمات الثلاث إنما كانت من معاريض الكلام، لكن لما كانت صورتها صورة الكذب أشفق منها استصغارا لنفسه عن الشفاعة.

وموسى يذكر أنه قتل نفسا بغير نفس ومن غير أن يؤمر بقتلها.

وعيسى يذكر أنه عبد من دون الله، ففي بعض الروايات إني اتخذت إلها من دون الله، وإن يغفر لي اليوم حسبي.

أما محمد صلى الله عليه وسلم فقد وصف بأنه قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر مما يوحي بأنه أذنب كإخوانه الأنبياء.

ومن هنا نشأ إشكال حاصله: إذا كانت مغفرة الذنب تؤهل صاحبها للشفاعة، فلم لا يؤهل موسى لذلك، مع أنه قد غفر له بنص القرآن؟ قال تعالى: { { فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين* قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم } } [القصص: 15-16] ولم أشفق موسى من المؤاخذة؟.

أجاب الحافظ ابن حجر، واختار أن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يقع منه ذنب، وقال: يؤخذ من هذا التفرقة بين من وقع منه شيء، ومن لم يقع منه شيء أصلا، فإن موسى عليه السلام مع وقوع المغفرة له لم يرتفع إشفاقه من المؤاخذة بذلك، ورأى في نفسه تقصيرا عن مقام الشفاعة، مع وجود ما صدر منه، بخلاف نبينا صلى الله عليه وسلم في ذلك كله، ومن ثم احتج عيسى بأنه صاحب الشفاعة، لأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، بمعنى أن الله أخبر أنه لا يؤاخذ بذنب لو وقع منه.
اهـ.

وقد أطال المفسرون في المراد من قوله تعالى: { { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر } } [الفتح:2] .

فقال بعضهم: المتقدم ما قبل النبوة، والمتأخر العصمة، وقيل: ما وقع من سهو أو تأويل.
وقيل: المتقدم ذنب آدم، والمتأخر ذنب أمته.
وقيل: المعنى أنه مغفور له غير مؤاخذ لو وقع، وقيل: المراد به ذنوب أمته.
قال النووي: فعلى هذا يكون المراد الغفران لبعضهم، أو سلامتهم من الخلود في النار، وقيل: هو تنزيه له من الذنوب، وقيل: غير ذلك.
والله أعلم.

وقد استدل بهذا الحديث من جواز الخطايا على الأنبياء، وأجاب القاضي عياض عن أصل المسألة فقال: لا خلاف في عصمتهم من الكفر بعد النبوة وكذا ما قبلها على الصحيح.

وكذا القول في الكبيرة، ويلتحق بها ما يزري بفاعله من الصغائر.

وكذا القول في كل ما يقدح في الإبلاغ من جهة القول.

واختلفوا في الفعل، فمنعه بعضهم حتى في النسيان، وأجاز الجمهور السهو لكن لا يحصل التمادي.

واختلفوا فيما عدا ذلك كله من الصغائر، فذهب جماعة من أهل النظر إلى عصمتهم منها مطلقا، وأولوا الحديث والآيات الواردة في ذلك بضروب من التأويل؛ ومن جملة ذلك أن الصادر عنهم إما أن يكون بتأويل من بعضهم، أو بسهو، أو بإذن، لكن خشوا ألا يكون ذلك موافقا لمقامهم فأشفقوا من المؤاخذة أو المعاتبة، قال: وهذا أرجح المقالات، ليس هو مذهب المعتزلة -وإن قالوا بعصمتهم مطلقا- لأن منزعهم في ذلك هو التكفير بالذنوب مطلقا، ولا يجوز على النبي الكفر، ومنزعنا أن أمة النبي مأمورة بالاقتداء به في أفعاله، فلو جاز منه وقوع المعصية للزم الأمر بالشيء الواحد والنهي عنه في حالة واحدة، وهو باطل، ثم قال: وجميع ما ذكر في حديث الباب لا يخرج عما قلناه، لأن أكل آدم من الشجرة كان عن سهو، وطلب نوح نجاة ولده كان عن تأويل، ومقالات إبراهيم كانت معاريض، وأراد بها الخير، وقتيل موسى كان كافرا.
اهـ.
والله أعلم.

4- أنواع الشفاعة وكيفيتها ومذاهب العلماء فيها.

أما أنواع الشفاعة فقد قال النووي تبعا للقاضي عياض: الشفاعة خمس:

أ- في الإراحة من هول الموقف.

ب- وفي إدخال قوم الجنة بغير حساب.

جـ- وفي إدخال قوم حوسبوا، فاستحقوا العذاب ألا يعذبوا.

د- وفي إخراج من أدخل النار من العصاة.

هـ- وفي رفع الدرجات، وزاد القاضي عياض: شفاعته صلى الله عليه وسلم للتخفيف عن أبي طالب في العذاب.

وزاد القرطبي: إنه أول شافع في دخول أمته الجنة قبل الناس.

وسنتناول كل واحدة بشيء من التفصيل، وبالله التوفيق.

الشفاعة العظمى للإراحة من هول الموقف: ودليلها ما جاء في الرواية الأولى، والثالثة، والرابعة، والخامسة، والسادسة، من توجه الناس إلى آدم ثم إلى نوح، ثم إلى إبراهيم، ثم إلى موسى ثم إلى عيسى، ثم إلى محمد ( صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) وصاحب هذه الشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم لا يشاركه فيها أحد من الملائكة ولا من الأنبياء، وكيفيتها طبقا لما جاء في الروايات الصحيحة: أن ينطلق صلى الله عليه وسلم، فيأتي تحت العرش، فيقع ساجدا، يثني ويحمد حتى يقال له: ارفع رأسك.

ففي الرواية الأولى فيأتوني، فأستأذن على ربي، فيؤذن لي فإذا أنا رأيته وقعت ساجدا، فيدعني ما شاء الله.
فيقال: يا محمد ارفع رأسك... وقريب من هذا في الرواية الثالثة، وفيها من الزيادة فأقوم بين يديه، فأحمده بمحامد لا أقدر عليه الآن يلهمنيه الله وفي الرواية الرابعة فأنطلق، فآتي تحت العرش فأقع ساجدا لربي.
ثم يفتح الله علي ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه لأحد قبلي.

وكأنه صلى الله عليه وسلم يلهم التحميد والثناء قبل السجود وفي أثنائه وبعده عندما يرفع رأسه.

وقد روى النسائي بعض هذه المحامد من حديث حذيفة رفعه فيقال: يا محمد.
فأقول: لبيك وسعديك، والخير في يديك، والمهدي من هديت، وعبدك بين يديك، وبك وإليك، تباركت وتعاليت، سبحانك لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك.
سبحانك رب البيت.

فيقال: ارفع رأسك يا محمد وسل تعط واشفع تشفع.
فيطلب من ربه أن يفرق جمع الأمم إلى حيث يشاء.

فينادي المنادي: ألا فلتتبع كل أمة ما كانت تعبد في الدنيا، فيساق المشركون إلى النار، ويبقى في الموقف من كان يعبد الله فيوضع الميزان وتتطاير الصحف، ويقوم العرض والحساب وينصب الصراط.

وهذا النوع من الشفاعة ثابت بإجماع الأمة: أهل السنة منها والمعتزلة والخوارج.
وغيرهم.

أما النوع الثاني وهو إدخال قوم الجنة بغير حساب: فدليله ما رواه أبو هريرة في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: سألت ربي فوعدني أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفا بغير حساب.
فاستزدت ربي فزادني مع كل ألف سبعين ألفا وأخرج الترمذي وحسنه، والطبراني وابن حبان في صحيحه.
من حديث أبي أمامة رفعه وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفا مع كل ألف سبعون ألفا.
لا حساب عليهم ولا عذاب.
وثلاث حثيات من حثيات ربي وقوله في الرواية الرابعة فأقول: يا رب أمتي.
أمتي.
فيقال: يا محمد.
ادخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة.
وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب.

وهذا النوع وإن سلم به المعتزلة والخوارج لكنهم اشترطوا ألا يكون فيهم مرتكب كبيرة لم يتب منها؛ لأن أصحاب الكبائر عندهم لا يدخلون الجنة إن لم يتوبوا.

أما النوع الثالث وهو الشفاعة في قوم حوسبوا، فاستحقوا العذاب ألا يعذبوا: فإن دليله قوله صلى الله عليه وسلم ونبيكم على الصراط يقول: رب سلم سلم.

وهذه الشفاعة ليست خاصة به صلى الله عليه وسلم فقد سبق في شرح الحديث الماضي أن الأنبياء كذلك يقفون على الصراط يقولون يا رب سلم سلم.

وهذا النوع ينكره المعتزلة والخوارج، لأن مستحق العذاب عندهم لا بد أن يعذب.

وأما النوع الرابع وهو الشفاعة فيمن دخل النار أن يخرج منها: فإن دليله ما جاء في الرواية الأولى، والثانية، والثالثة من شفاعته صلى الله عليه وسلم في المذنبين، وإخراجه من النار من كان في قلبه مثقال حبة من برة أو شعيرة من إيمان، ثم من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، ثم من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل من إيمان.

وما جاء في الحديث الذي سبق شرحه من شفاعة المؤمنين لإخوانهم الذين دخلوا النار، فيخرجون خلقا كثيرا قد عادوا حمما فيلقيهم الله في نهر الحياة.. إلخ.

وهذا النوع من الشفاعة ليس خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم وتنكره الخوارج والمعتزلة أشد الإنكار، وتمسكوا بقوله تعالى: { { فما تنفعهم شفاعة الشافعين } } [المدثر: 48] وأجاب أهل السنة بأنها في الكفار، وخصوصا أن الأحاديث في إثبات الشفاعة المحمدية متواترة، قاله في الفتح.

وأما النوع الخامس فهو الشفاعة في رفع الدرجات: بأن يشفع لمن لم يبلغ عمله درجة عالية أن يبلغها بشفاعته، وقد أشار النووي في الروضة إلى أن هذه الشفاعة من خصائصه صلى الله عليه وسلم، لكن الظاهر أنه يشاركه فيها صالحو المؤمنين، وإلى ذلك يشير قوله تعالى: { { والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء } } [الطور:21] قاله كثير من المفسرين.

قال القاضي عياض: أثبتت المعتزلة الشفاعة العامة في الإراحة من كرب الموقف، والشفاعة في رفع الدرجات، وأنكرت ما عداهما.
اهـ.

أما شفاعته صلى الله عليه وسلم في دخول أمته الجنة قبل الناس: فلها شواهد كثيرة، ففي الرواية السابعة أنا أول الناس يشفع في الجنة وفي الثامنة أنا أول من يقرع باب الجنة وفي العاشرة آتي باب الجنة يوم القيامة، فأستفتح، فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد.
فيقول: بك أمرت.
لا أفتح لأحد قبلك وعن الترمذي فآخذ حلقة باب الجنة، فأقعقعها، فيقال: من هذا؟ فأقول: محمد، فيفتحون لي، ويرحبون، فأخر ساجدا.

نعم أخرج أحمد والنسائي والحاكم، قال: يشفع نبيكم رابع أربعة جبريل، ثم إبراهيم ثم موسى أو عيسى، ثم نبيكم لكنه مردود إذ لم يصرح برفعه، وقد ضعفه البخاري، وقال: المشهور قوله صلى الله عليه وسلم أنا أول شافع والله أعلم.

من هذا العرض لأنواع الشفاعة يتضح أن رواياتنا الأولى والثالثة والرابعة، كل منها فيها سقط وحذف كبير، كأن الراوي في كل منها ركب شيئا على غير أصله.
وذلك أن أول الحديث ذكر الشفاعة في الإراحة من كرب الموقف، وفي آخره ذكر الشفاعة في الإخراج من النار، ولعل الرواية السادسة توضح هذا السقط، إذ فيها فيأتون محمدا صلى الله عليه وسلم، فيقوم فيؤذن له ( أي ويشفع للخلائق من هول الموقف، فينصرف إلى النار من ينصرف ويتم العرض والحساب، وينصب الصراط) وترسل الأمانة والرحم، فتقومان جنبي الصراط، يمينا وشمالا، فيمر أولكم كالبرق الحديث، فبهذا يتصل الكلام، وتجتمع متون الأحاديث، لأن الشفاعة التي لجأ الناس إليها فيها هي الإراحة من كرب الموقف، وبعدها يجري من أمور القضاء بين العباد ما يجرى، ثم يمر المؤمنون على الصراط، ويسقط في النار من يسقط، ثم تحل الشفاعة في إخراج العصاة من النار.
فكأن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ الآخر، وفي هذا الإشكال يقول الداودي عن رواياتنا: لا أراه محفوظا، لأن الخلائق اجتمعوا واستشفعوا، ولو كان المراد هذه الأمة خاصة لم تذهب إلى غير نبيها، فدل على أن المراد الجميع، وإذا كانت الشفاعة لهم في فصل القضاء، فكيف يخصها بقوله: أمتي أمتي ثم قال: وأول هذا الحديث ليس متصلا بآخره، بل بقي بين طلبهم الشفاعة وبين قوله: أمتي، أمتي أمور كثيرة من أمور القيامة.
اهـ.

ومن هذا العرض لأنواع الشفاعة نستطيع فهم المراد من المقام المحمود الذي ورد في الرواية السادسة عشرة من الحديث الذي سبق أن شرحناه، والذي يقول الله تعالى فيه: { { ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا } } [الإسراء:79] .

قال ابن بطال: الجمهور على أن المراد به الشفاعة، وبالغ الواحدي فنقل فيه الإجماع.

وقال الطبري: قال أكثر أهل التأويل: المقام المحمود هو الذي يقومه النبي صلى الله عليه وسلم ليريحهم من كرب الموقف، ثم ساق عدة أحاديث في ذلك منها ما روي عن أبي هريرة في قوله تعالى: { { عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا } } .
قال: سئل عنها صلى الله عليه وسلم.
فقال: هي الشفاعة ومن حديث كعب بن مالك رفعه أكون أنا وأمتي على تل، فيكسوني ربي حلة خضراء ثم يؤذن لي، فأقول ما شاء الله أن أقول، فذلك المقام المحمود ومن حديث ابن مسعود رفعه إني لأقوم يوم القيامة المقام المحمود إذا جيء بكم حفاة عراة، وفيه ثم يكسوني ربي حلة، فألبسها فأقوم عن يمين العرش مقاما لا يقومه أحد؛ يغبطني به الأولون والآخرون.

قال الحافظ ابن حجر: والراجح أن المراد بالمقام المحمود الشفاعة لكن الشفاعة التي وردت في المقام المحمود نوعان: الأول: العامة في فصل القضاء، والثاني: الشفاعة في إخراج المذنبين من النار.
اهـ.
وظاهر كثير من الأحاديث تؤيد النوع الأول، والرواية السادسة عشرة من الحديث السابق تؤيد النوع الثاني إذ فيها فإنه مقام محمد صلى الله عليه وسلم المحمود الذي يخرج الله به من يخرج.

وقيل: المقام المحمود أن يجلسه الله معه على عرشه يوم القيامة، وقيل: إعطاؤه لواء الحمد يوم القيامة، وقيل: وقوفه بين الله وبين جبريل يوم القيامة مما يغبطه بمقامه ذلك أهل الجمع، وقيل: هو ثناؤه على ربه.

قال الحافظ ابن حجر بعد أن ذكر هذه الأقوال: ويمكن رد الأقوال كلها إلى الشفاعة، فإن إعطاءه لواء الحمد، وثناءه على ربه وكلامه بين يديه، وجلوسه على كرسيه، وقيامه أقرب من جبريل، كل ذلك صفات للمقام المحمود، والذي يشفع فيه ليقضي بين الخلق، أما شفاعته في إخراج المذنبين من النار فمن توابع ذلك.
والله أعلم.

5- دعوات الأنبياء واستجابتها، وكون محمد أكثرهم تابعا.

وقد تعرضت الرواية الحادية عشرة والثانية عشرة والثالثة عشرة والرابعة عشرة إلى دعوات الأنبياء، وأن لكل نبي دعوة مستجابة وقد استشكل هذا بما وقع لكثير من الأنبياء حيث استجيبت لهم دعوات كثيرة، ولاسيما نبينا صلى الله عليه وسلم، وظاهره: أن لكل نبي دعوة واحدة مستجابة فقط، وأجيب عن هذا الإشكال: بأن المراد بالإجابة في الدعوة المذكورة القطع بها وما عدا ذلك من دعواتهم فهو محل رجاء الإجابة، وقيل: معنى قوله لكل نبي دعوة أي أفضل دعواته.
ولهم دعوات أخرى، وقيل: لكل منهم دعوة عامة مستجابة في أمته، إما بإهلاكهم، وإما بنجاتهم، أما الدعوات الخاصة فمنها ما يستجاب، ومنها ما لا يستجاب، وقيل: لكل منهم دعوة تخصه، لدنياه أو لنفسه، كقول نوح: { { لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا } } [نوح: 26] وقول زكريا: { { فهب لي من لدنك وليا } } [مريم: 5] وقول سليمان { { وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي } } [ص: 35] .

وقال بعضهم: اعلم أن جميع دعوات الأنبياء مستجابة، والمراد بهذا الحديث أن كل نبي دعا على أمته بالإهلاك، إلا أنا فلم أدع، فأعطيت الشفاعة عوضا عن ذلك الصبر على أذاهم، والمراد أمة الدعوة، لا أمة الإجابة، وتعقبه الطيبي بأنه صلى الله عليه وسلم دعا على أحياء من العرب، ودعا على أناس من قريش بأسمائهم، ودعا على رعل وذكوان، ودعا على مضر، قال: والأولى أن يقال: إن الله جعل لكل نبي دعوة تستجاب في حق أمته، فنالها كل منهم في الدنيا.
أما نبينا فإنه لما دعا على بعض أمته نزل عليه: { { ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم } } [آل عمران: 128] فبقيت تلك الدعوة المستجابة مدخرة للآخرة.
وغالب من دعا عليهم لم يرد إهلاكهم، وإنما أراد ردعهم ليتوبوا قال: وأما جزمه أولا بأن جميع أدعيتهم مستجابة ففيه غفلة عن الحديث الصحيح سألت ربي ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة الحديث.

كما تعرضت الروايات السابعة والثامنة والتاسعة إلى أن محمدا صلى الله عليه وسلم أكثر الأنبياء تابعا، ولا خلاف في ذلك، ففي البخاري عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: عرضت علي الأمم، فأجد النبي يمر معه الأمة، والنبي يمر معه النفر، والنبي يمر معه العشرة، والنبي يمر معه الخمسة، والنبي يمر وحده، فنظرت فإذا سواد كثير، قلت: يا جبريل، هؤلاء أمتي؟ قال: لا.
ولكن انظر إلى الأفق، فنظرت، فإذا سواد كثير، قال: هؤلاء أمتك، وهؤلاء سبعون ألفا قدامهم لا حساب عليهم ولا عذاب وفيه عن عبد الله بن مسعود قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في قبة، فقال: أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟ قلنا: نعم.
قال: أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة.
قلنا: نعم.
قال: أترضون أن تكونوا شطر أهل الجنة وفي رواية بل أرجو أن تكونوا ثلثي أهل الجنة ثم قال: إن مثلكم في الأمم كمثل الشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود.

وسيأتي مثله بعد عدة أحاديث إن شاء الله.

ويؤخذ من الحديث

1- من قوله: فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون وما لا يحتملون شدة هول الموقف.

2- وأخذ الناس بمبدأ الاستشارة فيما بينهم عند حدوث الخطب.

3- وأن الناس يوم القيامة يستصحبون حالهم في الدنيا من التوسل إلى الله تعالى في حوائجهم بأنبيائهم، والباعث على ذلك الإلهام.

4- ويؤخذ من قولهم أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك.
ونحو ذلك للأنبياء أن من طلب من كبير أمرا مهما، ينبغي أن يقدم بين يدي سؤاله وصف المسئول بأحسن صفاته وأشرف مزاياه، ليكون ذلك أدعى للإجابة.

5- وتقديم ذوي الأسنان، والآباء على الأبناء في الأمور التي لها بال.

6- وتواضع الأنبياء وإكبارهم الشفاعة وإشفاقهم على أنفسهم في الموقف العظيم.

7- وأن المسئول إذا لم يقدر على تحصيل ما سئل ينبغي أن يعتذر بما يقبل منه.

8- وأن يدل على من يظن أنه يقوم بالمهمة، فالدال على الخير كفاعله.

9- وأن يثنى على المدلول عليه بأوصافه المقتضية لأهليته، ليكون أدعى في قبول عذره في الامتناع.

10- قال القاضي عياض: استدل بالحديث من جوز الخطايا على الأنبياء وقد بحث هذا الاستدلال بالتفصيل في النقطة الثالثة من الشرح.

11- جواز إطلاق الغضب على الله مرادا به اللازم.

12- وفضيلة من ذكر من الأنبياء ( آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام) .

13- تفضيل محمد صلى الله عليه وسلم على جميع المخلوقين من الرسل والملائكة، فإن هذا الأمر العظيم، وهو الشفاعة العظمى لا يقدر على الإقدام عليه غيره.

14- وكمال شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته, ورأفته بهم، وعنايته بالنظر في مصالحهم المهمة، فأخر دعوته لأمته إلى أهم أوقات حاجاتهم.

15- ويؤخذ من قوله: أنا سيد الناس يوم القيامة مشروعية التحدث بنعمة الله.

16- وأنه يغطي على الناس يوم القيامة بعض ما عملوه في الدنيا، لأن في السائلين من سمع هذا الحديث، ومع ذلك لم يستحضر أحد منهم أن ذلك المقام يختص به نبينا صلى الله عليه وسلم، إذ لو استحضروا ذلك لسألوه من أول وهلة، ولما احتاجوا إلي التردد من نبي إلى نبي، ولعل الله أنساهم ذلك للحكمة التي تترتب عليه من إظهار فضل نبينا صلى الله عليه وسلم.

17- ومزيد اهتمام الشرع بالأمانة والرحم.

18- وإثبات الشفاعة العظمى.

19- والشفاعة لإخراج عصاة المؤمنين من النار.

20- ويؤخذ من قوله: فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا التبرك بالمشيئة والامتثال لقوله تعالى: { { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله } } [الكهف: 23-24] .

21- وفيه دلالة لمذهب أهل الحق أن كل من مات غير مشرك بالله تعالى لا يخلد في النار، وإن كان مصرا على الكبائر.

22- واستدل الغزالي بقوله: من كان في قلبه على نجاة من أيقن بذلك وحال بينه وبين النطق به الموت، وظاهر الحديث يؤيده، والمخالفون يؤولون، ويقدرون محذوفا، أي من كان في قلبه منضما إلى النطق به مع القدرة، جمعا بين الأدلة.

23- ويؤخذ من قوله: مثقال برة، ومثقال حبة خردل وأدنى من ذلك الدلالة لمذهب السلف وأهل السنة ومن وافقهم من المتكلمين في أن الإيمان ينقص ويزيد.

24- ويؤخذ من وصف مصراعي باب الجنة سعة أبواب الجنة.

25- ومن وصف قعر جهنم عمق النار وهولها.

26- ويؤخذ من قوله فأنطلق، فآتي تحت العرش، فأقع ساجدا استحباب أن يتحرى العبد للدعاء المكان الشريف، لأن الدعاء فيه أقرب للإجابة.

27- وأن ناسا من الأمة الإسلامية يدخلون الجنة بغير حساب.

28- وأن محمدا صلى الله عليه وسلم أكثر الأنبياء تابعا.

29- وأن محمدا صلى الله عليه وسلم أول من يفتح له باب الجنة.

30- ويؤخذ من الرواية الثالثة تقديم الرجل الذي هو من خاصة العالم ليسأله، فقد قدموا ثابت البناني لأنه من خواص أنس.

31- وأنه ينبغي للعالم وكبير المجلس أن يكرم فضلاء الداخلين عليه، ويميزهم بمزيد إكرام في المجلس وغيره.

32- ويؤخذ من ضحك الحسن أنه لا بأس بضحك العالم بحضرة أصحابه، إذا كان بينه وبينهم أنس، ولم يخرج بضحكه إلى حد يعد تركا للمروءة.

33- ومن قوله: { { خلق الإنسان من عجل } } [الأنبياء: 37] جواز الاستشهاد بالقرآن في مثل هذا الموطن، من غير أن يسند إلى الله تعالى.

والله تعالى أعلم