هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير، 
3440 حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ ، عَنْ ثَابِتٍ ، عَنْ أَنَسٍ ، أَنَّ قُرَيْشًا صَالَحُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ : اكْتُبْ ، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، قَالَ سُهَيْلٌ : أَمَّا بِاسْمِ اللَّهِ ، فَمَا نَدْرِي مَا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، وَلَكِنِ اكْتُبْ مَا نَعْرِفُ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ ، فَقَالَ : اكْتُبْ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ ، قَالُوا : لَوْ عَلِمْنَا أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ لَاتَّبَعْنَاكَ ، وَلَكِنِ اكْتُبِ اسْمَكَ وَاسْمَ أَبِيكَ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اكْتُبْ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، فَاشْتَرَطُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ مَنْ جَاءَ مِنْكُمْ لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكُمْ ، وَمَنْ جَاءَكُمْ مِنَّا رَدَدْتُمُوهُ عَلَيْنَا ، فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَنَكْتُبُ هَذَا ؟ قَالَ : نَعَمْ ، إِنَّهُ مَنْ ذَهَبَ مِنَّا إِلَيْهِمْ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ ، وَمَنْ جَاءَنَا مِنْهُمْ سَيَجْعَلُ اللَّهُ لَهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا
هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير، 
3440 حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا عفان ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس ، أن قريشا صالحوا النبي صلى الله عليه وسلم فيهم سهيل بن عمرو ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي : اكتب ، بسم الله الرحمن الرحيم ، قال سهيل : أما باسم الله ، فما ندري ما بسم الله الرحمن الرحيم ، ولكن اكتب ما نعرف باسمك اللهم ، فقال : اكتب من محمد رسول الله ، قالوا : لو علمنا أنك رسول الله لاتبعناك ، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اكتب من محمد بن عبد الله ، فاشترطوا على النبي صلى الله عليه وسلم أن من جاء منكم لم نرده عليكم ، ومن جاءكم منا رددتموه علينا ، فقالوا : يا رسول الله ، أنكتب هذا ؟ قال : نعم ، إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله ، ومن جاءنا منهم سيجعل الله له فرجا ومخرجا
هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير، 

: هذه القراءةُ حاسوبية، وما زالت قيدُ الضبطِ والتطوير، 

It has been narrated on the authority of Anas that the Quraish made peace with the Prophet (ﷺ). Among them was Suhail b. Amr. The Prophet (ﷺ) said to 'Ali:

Write In the name of Allah, most Gracious and most Merciful. Suhail said: As for Bismillah, we do not know what is meant by Bismillah-ir-Rahman-ir-Rahim (In the name of Allah most Gracious and most Merciful). But write what we understand, i. e. Bi ismika allahumma (in thy name. O Allah). Then, the Prophet (ﷺ) said: Write: From Muhammad, the Messenger of Allah. They said: If we knew that thou welt the Messenger of Allah, we would follow you. Therefore, write your name and the name of your father. So the Prophet (ﷺ) said: Write From Muhammad b. 'Abdullah. They laid the condition on the Prophet (ﷺ) that anyone who joined them from the Muslims, the Meccans would not return him, and anyone who joined you (the Muslims) from them, you would send him back to them. The Companions said: Messenger of Allah, should we write this? He said: Yes. One who goes away from us to join them-may Allah keep him away! and one who comes to join us from them (and is sent back) Allah will provide him relief and a way of escape.

شرح الحديث من فـــتح المــــنعم

: : هذه القراءةُ حاسوبية، وما زالت قيدُ الضبطِ والتطوير،   

عن أنس رضي الله عنه أن قريشا صالحوا النبي صلى الله عليه وسلم فيهم سهيل بن عمرو فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي اكتب بسم الله الرحمن الرحيم قال سهيل: أما باسم الله فما ندري ما بسم الله الرحمن الرحيم ولكن اكتب ما نعرف باسمك اللهم فقال اكتب من محمد رسول الله قالوا: لو علمنا أنك رسول الله لاتبعناك ولكن اكتب اسمك واسم أبيك فقال النبي صلى الله عليه وسلم اكتب من محمد بن عبد الله فاشترطوا على النبي صلى الله عليه وسلم أن من جاء منكم لم نرده عليكم ومن جاءكم منا رددتموه علينا.
فقالوا: يا رسول الله أنكتب هذا؟ قال نعم إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله ومن جاءنا منهم سيجعل الله له فرجا ومخرجا.


المعنى العام

بعد حروب بين المسلمين وبين كفار قريش في بدر وأحد والخندق وبعد أن زاد مسلمو المدينة على ألف وخمسمائة مسلم رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه أنه والمسلمين يدخلون المسجد الحرام ويطوفون بالكعبة ويسعون بين الصفا والمروة ورؤيته صلى الله عليه وسلم حق وصدق أصبح فأخبر أصحابه ففرحوا وبخاصة المهاجرون الذين يحنون إلى وطنهم العزيز ونادى صلى الله عليه وسلم أنه سيخرج إلى العمرة فمن شاء وعنده هدى إلى الكعبة فليعده وفي مطلع ذي القعدة سنة ست من الهجرة ساق النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون هديهم وساروا نحو مكة وهم قريبون من ألف وأربعمائة مسلم ليس معهم سلاح المحارب بل سلاح المسافر فحسب فقد خرجوا يقصدون البيت الحرام لأداء النسك وقلدوا هديهم وأشعروه قلدوا الإبل والبقر والغنم بحبل مفتول من صوف مصبوغ وعلموا صفحة عنق الإبل والبقر بكية نار علامة على أنه هدى موهوب لأهل الحرم له حرمة وقدسية لا يعتدي عليه ولا يستغل في منافع الحرث والسقي وبعضهم كساه بالحبرة أو الحرير أو القباطي أو اللحف.

ساروا متجهين إلى مكة بعد أن أحرموا للعمرة من ذي الحليفة ساروا يهللون ويكبرون ويلبون وقد أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عينا يسبق المسلمين يستطلع لهم سلامة الطريق وجاء النذير يخبر أن قريشا أرسلت كتيبة قوامها مائتا فارس بقيادة خالد بن الوليد ليصدوا المسلمين قبل وصولهم وقد جمعوا له الجموع من القبائل المحيطة بمكة ليمنعوه من دخولها فغير طريقه عن طريق خالد بن الوليد ووصل إلى الحديبية عند ما يعرف بالتنعيم ونزل المسلمون عند مائها وأرسلوا عثمان بن عفان يخبر قريشا أنهم ما جاءوا محاربين وإنما جاءوا معتمرين وأصرت قريش على منعهم من الوصول إلى المسجد الحرام واحتجزوا عثمان رضي الله عنه وتراسلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يفاوضونه وفي هذه الأثناء أشيع أن الكفار قتلوا عثمان فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة بايع المسلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم على القتال وعدم الفرار حتى النصر أو الاستشهاد وفيهم نزل قوله تعالى: { { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا } } [الفتح: 18] وبعد تعدد الوساطات وظهور كذب إشاعة مقتل عثمان انتهت المفاوضات إلى صلح الحديبية يمثل قريشا فيه سهيل بن عمرو ويمثل المسلمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تعنت ممثل قريش في نصوص الصلح شكلا وموضوعا فمن حيث الشكل لم يقبل عبارة محمد رسول الله وأصر على ذكر الاسم واسم الأب فقط ولم يقبل بسم الله الرحمن الرحيم وأصر على ذكر باسمك اللهم ووافقه صلى الله عليه وسلم ومن حيث الموضوع كانت النصوص في ظاهرها إجحافا للمسلمين فكانت تنص على أن يرجع محمد وأصحابه دون الوصول إلى المسجد الحرام على أن يعودوا في العام القابل بدون سلاح فتترك لهم قريش مكة ثلاثة أيام يعتمرون فيها ويخرجون على أن لا يخرج معهم أحد من أهل مكة وإن كان مسلما ما لم يقدم معهم وأن من أراد ممن جاء معهم أن يبقى بمكة خلى بينه وبين البقاء ومن جاء إلى المسلمين مسلما من أهل مكة ردوه إلى أهله بمكة ومن جاء كفار مكة ممن كان قد أسلم لا يرده الكفار إلى المسلمين وأن توضع الحرب بين قريش وبين المسلمين سنوات فيأمن الناس على أموالهم ودمائهم لم يقبل المسلمون هذه النصوص وقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكيف يقبلون الضيم حسب مفهومهم ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين؟ شهد على الوثيقة أبو بكر وعمر وعثمان ولو استطاعوا أن يردوها لردوها شأن مشاعر جميع المسلمين.

لقد أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إتمام الصلح أن يقوموا إلى الهدى فينحروه وإلى رأسهم فيحلقوها للتحلل من الإحصار في العمرة ليعودوا بعد ذلك إلى المدينة ولم يتحرك منهم أحد لتنفيذ الأمر فدخل صلى الله عليه وسلم مغضبا على زوجته أم سلمة يقول لها: كاد المسلمون يهلكون آمرهم بالأمر فلا يستجيبون؟ قالت: هون عليك يا رسول الله واقبل عذرهم فقد دخلهم من الهم والغم من هذا الصلح ما دخلهم ثم قالت: أو تحب أن يفعلوا ما أمرتهم؟ قال: نعم قالت: اخرج إليهم فلا تكلم أحدا منهم وانحر بدنك وادع حالقك يحلق شعرك فإنك إن تفعل يئسوا من نسخ الحكم ومن التغيير ولم يجدوا بدا من الامتثال فاقتنع رسول الله صلى الله عليه وسلم برأيها فقام بتنفيذه فنفذ المسلمون.
وأذن فيهم بالرحيل إلى المدينة فرحلوا وفي نفوسهم انكسار وذلة وتحسر وهم وغم وأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم في الطريق { { إنا فتحنا لك فتحا مبينا* ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما* وينصرك الله نصرا عزيزا* هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما* ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ويكفر عنهم سيئاتهم وكان ذلك عند الله فوزا عظيما } } [الفتح: 1 - 5] وهنا دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر وكبار أصحابه فقرأ الآيات عليهم فطابت نفوسهم رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين.

المباحث العربية

( الحديبية) قال النووي: فيها لغتان تخفيف الياء وهو الأفصح والتشديد اهـ.

قال المحب الطبري: الحديبية قرية قريبة من مكة أكثرها في الحرم وقيل: هي بئر سمي المكان بها وقيل: شجرة حدباء صغرت وسمي المكان بها والمكان معروف وبه مسجد التنعيم.

وكان خروجه صلى الله عليه وسلم من المدينة يوم الإثنين مستهل ذي القعدة سنة ست من الهجرة خرج يسوق الهدى قاصدا العمرة يريد زيارة البيت لا يريد قتالا ومعه ألف وأربعمائة من أصحابه فلما أتى ذا الحليفة [بيار علي] قلد الهدى وأشعره وأحرم منها بعمرة وبعث عينا من خزاعة يدعى ناجية وقيل: بسر يأتيه بخبر قريش وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى بلغ غدير الأشطاط قريبا من عسفان فأتاه عينه فقال له: إن قريشا جمعوا جموعا وقد جمعوا لك الأحابيش وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت ومانعوك فقال صلى الله عليه وسلم: أشيروا أيها الناس علي أترون أن أميل إلى ذراري هؤلاء الذين أعانوهم -يقصد ذراري أهل غدير الأشطاط الذين تجمعوا مع قريش لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم- والذين يريدون أن يصدونا عن البيت؟ فإن يأتونا كان الله عز وجل قد قطع عنقا من المشركين وإلا تركناهم محرومين؟ قال أبو بكر: يا رسول الله خرجت عامدا لهذا البيت لا تريد قتل أحد ولا حرب أحد فتوجه له فمن صدنا عنه قاتلناه قال: امضوا على اسم الله وسار صلى الله عليه وسلم حتى بلغ كراع الغميم -قريبا من رابغ والجحفة بين مكة والمدينة- فقال لأصحابه: إن خالد بن الوليد في مائتي فارس فيهم عكرمة بن أبي جهل يعسكرون قريبا منا كطليع لجيش قريش فمن الخبير بالطرق يخرجنا على طريق غير طريقهم؟ قال رجل من أسلم: أنا يا رسول الله ونزل عن دابته فسلك بهم طريقا وعرا أفضى بهم إلى أرض سهلة وما شعر بهم خالد حتى رأى غبارا من بعيد فانطلق يركض نذيرا لقريش وسار صلى الله عليه وسلم حتى وصل قريبا من الحديبية فبركت ناقته فقال الناس: تعبت القصواء أو غضبت من السير فقال النبي صلى الله عليه وسلم: واحرنت القصواء وما ذلك لها بخلق ولكن حبسها حابس الفيل والذي نفسي بيده لا يسألونني -كفار قريش- خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها ثم زجر الناقة فوثبت حتى نزل بأقصى الحديبية على ماء قليل وشكى العطش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزع سهما من كنانته ثم أمرهم أن يجعلوه في البئر فمازال يجيش لهم بالماء حتى ارتووا وفاض ماؤهم فبينما هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه من خزاعة وكانوا موضع نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا على مياه الحديبية ومعهم ذوات الألبان من الإبل ليتزودوا بلبنها وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لم نجيء لقتال أحد ولكنا جئنا معتمرين وإن قريشا أضعفتهم الحرب وأضرت بهم فإن شاءوا جعلت بيني وبينهم مدة دون حرب ويخلوا بيني وبين الناس فإذا ظهرت فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا وإلا فقد استجموا واستراحوا وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفصل رأسي عن جسدي ولينفذن الله أمره فقال بديل: سأبلغهم ما تقول قال: فانطلق حتى أتى قريشا قال: إنا جئناكم من هذا الرجل وسمعناه يقول قولا فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تخبرونا عنه بشيء وقال ذوو الرأي منهم: هات ما سمعته يقول قال: سمعته يقول كذا وكذا فحدثهم بما قال النبي صلى الله عليه وسلم فقام عروة بن مسعود فقال: أي قوم ألستم بالوالد؟ قالوا: بلى قال أو لست بالولد؟ قالوا: بلى قال: فهل تتهموني؟ قالوا: لا.
قال: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ فلما تراجعوا وامتنعوا جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني؟ قالوا: بلى قال فإن هذا قد عرض عليكم خطة رشد اقبلوها ودعوني آته قالوا: ائته فأتاه فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم نحوا من قوله لبديل فقال عروة عند ذلك: أي محمد أرأيت إن استأصلت أمر قومك؟ هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟ وإن تكن الأخرى فإني والله لا أرى وجوها وإني لأرى أشوابا من الناس -أي أخلاطا شتى سيفرون ويدعوك وكأني بهم لوقد لقيت قريشا قد أسلموك فتؤخذ أسيرا فأي شيء أشد عليك من هذا؟ فقال له أبو بكر: امصص بظر اللات [اللات طاغية عروة التي كان يعبدها والبظر -بفتح الباء وسكون الظاء قطعة تبقى بعد الختان في فرج المرأة وكانت عادة العرب الشتم بهذا لكن بلفظ الأم بدل اللات] أنحن نفر عنه وندعه؟ فقال: من ذا؟ قالوا: أبو بكر قال: أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أجزك عليها لأجبتك قال: وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فكلما تكلم كلمة أخذ بلحية النبي صلى الله عليه وسلم والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النبي صلى الله عليه وسلم ومعه السيف والمغفر وقد لبس لأمته ليشتفي من عروة لأنه عمه فلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف وقال له: أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع عروة رأسه فقال: من هذا؟ قال: المغيرة بن شعبة فقال: أي غدر ألست أسعى في غدرتك؟ وكان المغيرة صحب قوما في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم ثم جاء فأسلم -فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما الإسلام فأقبل وأما المال فلست منه في شيء ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعينيه فرأى أنهم يبتدرون أمره ويقتتلون على وضوئه وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده وما يرفعون فيه النظر إجلالا له وتعظيما فرجع عروة إلى أصحابه فقال: أي قوم والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي والله ما رأيت مليكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد [صلى الله عليه وسلم] : هذا فلان وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها له [مقلدة مشعرة هديا لا للقتال] فبعثت له واستقبله المسلمون يلبون فلما رأى ذلك قال: سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت فلما رجع إلى أصحابه قال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت فما أرى أن يصدوا عن البيت فقام رجل منهم يقال له: مكرز بن حفص فقال: دعوني آته فقالوا: ائته فلما أشرف عليهم قال النبي صلى الله عليه وسلم هذا مكرز وهو رجل فاجر وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب أن يبعث إلى قريش رجلا يخبرهم بأنه إنما جاء معتمرا فبعث عثمان وأمره أن يبشر المستضعفين من المؤمنين بالفتح القريب فتوجه عثمان وأجاره أبان بن سعيد بن العاص وبعثت قريش سهيل بن عمرو ليعقد عنهم صلحا مع محمد صلى الله عليه وسلم -فجاء وكانت قصة الحديث الذي نحن بصدد شرحه.

فلما انتهوا من كتابة الصلح بلغ المسلمين أن عثمان قتل فاحتفظوا بسهيل رهينة وبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة على القتال وعلى أن لا يفروا فبلغهم بعد ذلك أن الخبر باطل ورجع عثمان.

( كتب علي بن أبي طالب الصلح بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين يوم الحديبية فكتب) كتب الأولى فيها مجاز المشارفة ليصح ترتيب وتعقيب كتب الثانية عليها أي أشرف على الكتابة فكتب كما نقول: توضأ فغسل.. وخطب فقال كذا وكذا ونحوه في الرواية الثانية لما صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الحديبية -أي من المشركين- كتب علي كتابا على أن الكتاب هو الصلح.

وقد جاء عند عمر بن شيبة أن كاتب الصلح هو محمد بن مسلمة قال الحافظ ابن حجر: ويجمع بأن أصل كتاب الصلح بخط علي كما هو في الصحيح ونسخ مثله محمد بن مسلمة لسهيل بن عمرو.

( هذا ما كاتب عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم) الطرف الثاني للمكاتبة محذوف والتقدير: هذا ما كاتب عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين أو أهل مكة وفي الرواية الثالثة هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله أي أهل مكة قال النووي: قال العلماء: معنى قاضى هنا فاصل وأمضى أمره ومنه: قضى القاضي أي فصل الحكم وأمضاه ولهذا سميت تلك السنة عام المقاضاة وعمرة القضية وعمرة القضاء وكله من هذا وغلطوا من قال: إنها سميت عمرة القضاء لقضاء العمرة التي صد عنها لأنه لا يجب قضاء المصدود عنها إذا تحلل بالإحصار وقيل غير ذلك وسيأتي مزيد لهذا في فقه الحديث.

( فقالوا: لا تكتب رسول الله) القائل واحد وهو سهيل بن عمرو كما هو واضح من الرواية الرابعة فقد كان مبعوث قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعقد بينه وبينهم الصلح نائبا عنهم فنسب الصلح والقول إليهم لرضاهم به وتفويضهم إياه وفي الرواية الثالثة صالحه أهل مكة وفي الرواية الرابعة أن قريشا صالحوا النبي صلى الله عليه وسلم وفيهم سهيل بن عمرو وذكر ابن إسحق أن قريشا بعثت للصلح بديل بن ورقاء مع سهيل بن عمرو ولكن مضى قريبا نقلا عن رواية البخاري أن بديل بن ورقاء كان رسول قريش في نفر من خزاعة في المراسلات والمفاوضات السابقة على الصلح لكن يحتمل أنه عاد مرة ثانية مع سهيل وعند البخاري فقال النبي صلى الله عليه وسلم والله إني لرسول الله وإن كذبتموني أكتب محمد بن عبد الله.

وروايتنا الأولى لم تذكر الاعتراض الأول الذي ذكرته الرواية الرابعة وهو الاعتراض على بسم الله الرحمن الرحيم وقول سهيل أما اسم الله فما ندري: ما بسم الله الرحمن الرحيم وفي الكلام حذف حذف فيه جواب أما أي أما اسم الله فنعلمه ونسلم به وأما الرحمن الرحيم فما ندري ما معناهما.

والظاهر أن عليا رضي الله عنه لم يكن كتب ابتداء بسم الله الرحمن الرحيم حتى يتعرض لمحوها كما في رسول الله فالاعتراض من سهيل صدر عند إشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتابتها وقبل أن يكتب علي أما رسول الله فيبدو أن عليا رضي الله عنه أسرع بكتابتها قبل الاعتراض أو أنه لم يستمع ولم يقبل الاعتراض ابتداء فكتبها على الرغم من الاعتراض.

( لو نعلم أنك رسول الله لم نقاتلك) في الرواية الثالثة فلو نعلم أنك رسول الله تابعناك وفي ملحقها بايعناك وفي رواية البخاري ما صددناك عن البيت وما قاتلناك.

( امحه.
فقال: ما أنا بالذي أمحاه فمحاه النبي صلى الله عليه وسلم)
وفي الرواية الثالثة فأمر عليا أن يمحاها قال النووي: هكذا هو في جميع النسخ بالذي أمحاه وهي لغة في أمحوه اهـ.
وفي لسان العرب: محا الشيء يمحوه ويمحاه محوا ومحيا أذهب أثره وطيئ تقول: محيته محيا ومحوا.

( فمحاه النبي صلى الله عليه وسلم بيده) في الرواية الثالثة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرني مكانها فأراه مكانها فمحاها والظاهر أن المحو لم يكن بممحاة مزيلة للأثر بل كان يطمس المكتوب بالمداد.

( وكان فيما اشترطوا أن يدخلوا مكة فيقيموا بها ثلاثا) الظاهر أن ضمير اشترطوا لقريش أهل مكة والمعنى: كان فيما اشترط المشركون أن يدخل المسلمون مكة فيقيموا بها ثلاثا -أي ثلاث ليال بأيامها وهذا الشرط وإن كان للمسلمين لا عليهم فإن توابعه أو تضييقه بهذه المدة تجعله عليهم لا لهم.

وضمير الإفراد في ولا يدخلها بسلاح مراد به هو ومن معه لأنهم أتباعه ومثله في الرواية الثالثة أن يدخلها فيقيم بها ثلاثا.. فأقام..فليخرج..فخرج.

( ولا يدخلها بسلاح إلا جلبان السلاح) قال القاضي: ضبطناه بضم الجيم واللام وتشديد الباء قال: وكذا رواه الأكثرون وصوبه ابن قتيبة وغيره ورواه بعضهم بإسكان اللام وكذا ذكره الهروي وصوبه وهو ألطف من الجراب يكون من الجلد يوضع فيه السيف مغمدا ويطرح فيه الراكب سوطه وأداته ويعلقه في رحله اهـ وقد فسره الراوي أبو إسحاق في ملحق الرواية الأولى بالقراب وما فيه وفي الرواية الثانية السيف وقرابه أي في قرابه.

( لما أحصر النبي صلى الله عليه وسلم عند البيت) العندية على التساهل والتسامح أو هي مقولة بالتشكيك إذ هي أمر نسبي ففي المسافات البعيدة لها معنى غير المسافاة القريبة فقد يقال: بلد كذا عند بلد كذا وبينهما أميال والمراد هنا بالحديبية.

وقال النووي: هكذا هو في جميع نسخ بلادنا أحصر عند البيت وكذا نقله القاضي عن رواية جميع الرواة سوى ابن الحذاء فإن في روايته عن البيت وهو الوجه.

وعن كلمة الإحصار قال النخعي والكوفيون: الحصر: الكسر والمرض والخوف.

وقال كثيرون من الصحابة وغيرهم: الإحصار كل حابس حبس الحاج من عدو ومرض وغير ذلك.

وأخرج الشافعي عن ابن عباس: لا حصر إلا من حبسه عدو.

والمشهور عن أكثر أهل اللغة: أن الإحصار إنما يكون بالمرض وأما بالعدو فهو الحصر وأثبت بعضهم أن أحصر وحصر بمعنى واحد يقال في جميع ما يمنع الإنسان من التصرف.

( ولا يخرج بأحد معه من أهلها) أي إذا أراد مسلم بمكة أن يخرج مع محمد صلى الله عليه وسلم وهو خارج ولم يكن جاء معه فلا يجوز لمحمد صلى الله عليه وسلم أن يخرج به ولا أن يدافع عن مصاحبته.

بل في الرواية الرابعة من جاءكم منا رددتموه علينا.

( ولا يمنع أحدا يمكث بها ممن كان معه) أي لا يمنع مسلما أن يرتد عن الإسلام ويمكث بمكة ممن جاء معه بل في الرواية الرابعة من جاء منكم لم نرده عليكم وفي ذلك بسط لحماية الكفار لمن رغب في الكفر ومنع لحماية المسلمين لمن رغب في الإسلام.

( فلما أن كان يوم الثالث) قال النووي: هكذا هو في النسخ كلها بإضافة يوم إلى الثالث وهو من إضافة الموصوف إلى الصفة ومذهب الكوفيين جوازه ومذهب البصريين تقدير محذوف أي يوم الزمان الثالث.

( فقالوا: يا رسول الله أنكتب هذا؟ قال: نعم) الظاهر أن هذا القول من المسلمين وقع بعد كتابة الصلح وأن هذا كان من الصحابة استغرابا وتعجبا وتبرما فبين الرسول صلى الله عليه وسلم حكمة موافقته على هذا الشرط فقال:

( إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله ومن جاءنا منهم سيجعل الله له فرجا ومخرجا) أي من ارتد عن الإسلام وذهب إليهم فهو شر أبعده الله عنا ومن جاءنا مسلما فرددناه لن يضره ردنا لأن الله سيجعل له فرجا ومخرجا وفي رواية البخاري كان فيما اشترط سهيل بن عمرو على النبي صلى الله عليه وسلم: أن لا يأتيك منا أحد -وإن كان على دينك- إلا رددته إلينا وخليت بيننا وبينه فكره المؤمنون ذلك وامتعضوا منه وأبى سهيل إلا ذلك فكاتبه النبي صلى الله عليه وسلم وفي رواية أخرى للبخاري فبينما هم كذلك إذ دخل أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده ويمشي مشيا بطيئا بسبب قيده وكان أبوه سهيل قد حبسه وأوثقه ومنعه من الهجرة وعذبه بسبب إسلامه فأفلت من سجنه -وقد خرج من أسفل مكة وتنكب الطريق وركب الجبال حتى هبط على المسلمين ورمي بنفسه بين أظهر المسلمين ففرح به المسلمون وتلقوه وعند ابن إسحق فقام سهيل بن عمرو إلى أبي جندل فضرب وجهه وأخذ يلببه فقال سهيل: هذا -يا محمد- أول من أقاضيك عليه أن ترده إلي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنا لم نقض الكتاب بعد قال: فوالله إذن لم أصالحك على شيء أبدا قال النبي صلى الله عليه وسلم: فأجزه لي أي امض لي فعلي فيه فلا أرده إليك واستثنه من العقد قال: ما أنا بمجيزه لك.
قال: بلى فافعل قال: ما أنا بفاعل قال أبو جندل: يا معشر المسلمين أرد إلى المشركين وقد جئت مسلما؟ ألا ترون ما قد لقيت؟ وكان قد عذب عذابا شديدا في الله، زاد ابن إسحق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا جندل اصبر واحتسب فإنا لا نغدر وإن الله جاعل لك فرجا ومخرجا وفي رواية فوثب عمر مع أبي جندل يمشي إلى جنبه ويقول: اصبر فإنما هم مشركون وإنما دم أحدهم كدم كلب وأخذ يدني قائمة سيفه من أبي جندل يلوح له أن يأخذه يقول عمر: رجوت أن يأخذه مني فيضرب به أباه فضن الرجل بأبيه وأعيد أبو جندل في أسر أبيه وجاء إلى المدينة مسلم قريشي يدعى أبا بصير فأرسلوا في طلبه رجلين فقالا: العهد الذي جعلت لنا؟ فدفعه صلى الله عليه وسلم إلى الرجلين وقال له: إن هؤلاء القوم صالحونا على ما علمت وإنا لا نغدر فالحق بقومك فقال: يا رسول الله أتردني للمشركين يفتنونني عن ديني ويعذبونني؟ قال: اصبر واحتسب فإن الله جاعل لك فرجا ومخرجا وفي رواية فقال له عمر: أنت رجل وهو رجل ومعه السيف يحرضه على قتلهما فخرجا به حتى بلغ ذا الحليفة فنزلوا يأكلون من تمر معهم فقال أبو بصير لأحد الرجلين: إني لأرى سيفك جيدا أرني أنظر إليه فأمكنه منه فضربه به حتى قتله وفر الآخر حتى أتى المدينة وجاء أبو بصير إلى النبي صلى الله عليه وسلم فعرف أنه سيرده إليهم فخرج حتى أتى سيف البحر وانفلت من مشركي مكة أبو جندل فلحق بأبي بصير فكونا عصابة من مسلمي مكة المضطهدين قيل: بلغت ثلاثمائة رجل ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها فقتلوا وأخذوا أموالهم فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم: نناشدك الله والرحم من خرج منا إليك فهو حلال لك فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بصير فقدم الكتاب وأبو بصير يموت فمات وكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده فدفنه أبو جندل مكانه وجعل عند قبره مسجدا وقدم أبو جندل وممن معه إلى المدينة.

( فأراه مكانها فمحاها وكتب: ابن عبد الله فأقام بها ثلاثة أيام) هكذا في الرواية الثالثة وفيها طي واختصار والمقصود أن هذا الكلام لم يقع في عام صلح الحديبية وإنما وقع في السنة الثانية وهي عمرة القضاء وكانوا شارطوا النبي صلى الله عليه وسلم في عام الحديبية أن يرجعوا دون دخول الحرم وأن يجيئوا العام المقبل فتترك لهم قريش مكة فيعتمرون ولا يقيمون فيها أكثر من ثلاثة أيام فجاء في العام المقبل فأقام إلى أواخر اليوم الثالث فحذف واستغنى عن ذكره بكونه معلوما وقد جاء مبينا في روايات أخرى.

( قام سهيل بن حنيف يوم صفين) أي يوم حرب صفين بين علي ومعاوية رضي الله عنهما وقال هذا القول حين ظهر من أصحاب علي رضي الله عنه كراهة التحكيم.

( فقال: يا أيها الناس اتهموا أنفسكم لقد كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية ولو نرى قتالا لقاتلنا) في الرواية السادسة أيها الناس.
اتهموا رأيكم على دينكم لقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددته يوم أبي جندل يوم الحديبية يوم الصلح وقد سبق بيانه قريبا وإنما نسبه إلى أبي جندل لأنه لم يكن في هذا اليوم على المسلمين أشد من قصته والمراد باتهام الرأي عدم الإسراع في اتخاذ القرار والتروي فيه والاتجاه به نحو الصلح بدلا من رفضه فالصلح خير ويرجى بعده الخير وإن كان ظاهره أحيانا تأنف منه النفوس الأبية كما حصل في صلح الحديبية فقد كانت نفوسنا تأباه وكان رأينا القتال.

( والله ما وضعنا سيوفنا على عواتقنا إلى أمر قط إلا أسهلن بنا إلى أمر نعرفه إلا أمركم هذا) وضع السيوف على العواتق كناية عن حملها وهي عادة تتدلى من علاقة معلقة بالكتف والمعنى ما حملنا سيوفنا لمعركة ما إلا كنا نعرف هدفنا ونتبين طريقنا إلا هذا الأمر الذي نحن فيه فقد عمى علينا الحق واختلط بالباطل فلم نعد ندري هل القتال حق أو لا؟ أسهلن بفتح الهمزة وسكون السين وفتح الهاء وسكون اللام ونون النسوة أي يسرن وكشفن وأدت بنا إلى أمر واضح فاالضمير للسيوف مجازا.

وفي ملحق الرواية السادسة ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحذف جواب لو المذكور في أصل الرواية وحذف جواب لو للعلم به كثير ومنه قوله تعالى { { ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت } } [الأنعام: 93] .

( ما فتحنا منه في خصم إلا انفجر علينا منه خصم) قال النووي: الضمير في منه عائد إلى قوله اتهموا رأيكم ومعناه ما أصلحنا من رأيكم وأمركم هذا ناحية إلا انفتحت أخرى ولا يصح عود الضمير إلى غير ما ذكرناه وأما قوله ما فتحنا منه خصما فكذا هو في مسلم قال القاضي وهو غلط أو تغيير وصوابه: ما سددنا منه خصما وكذا هو في رواية البخاري ما سددنا وبه يستقيم المعنى ويتقابل سددنا بقوله إلا انفجر وأما الخصم فبضم الخاء وخصم كل شيء طرفه وناحيته وشبهه بخصم الراوية وانفجار الماء من طرفها أو بخصم الغرارة والخرج وانصباب ما فيه بانفجاره.
اهـ.

وفي ملحق الرواية السادسة إلى أمر يفظعنا أي يشق علينا ونخافه.

( ففيم نعطي الدنية في ديننا؟) الدنية بفتح الدال وكسر النون وتشديد الياء المفتوحة النقيصة والحالة الناقصة.

( فنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفتح) أي بسورة الفتح أي صدرها.

( فأقرأه إياه) يقال: أقرأ فلانا السورة أي جعله يقرؤها والمعنى قرأها عليه وسمعها منه والضمير في إياه للقرآن ويطلق على جزئه وكله.

والمراد بالفتح في السورة صلح الحديبية.

( أو فتح هو؟) الهمزة للاستفهام والواو عاطفة على محذوف والتقدير: أنسعد بالصلح؟ وفتح هو؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم أي لما فيه من الفوائد التي سنتعرض لها.

( وهم يخالطهم الحزم والكآبة وقد نحر الهدي بالحديبية) يقال: كئب كآبة تغيرت نفسه وانكسرت من شدة الهم والحزن وحديث البخاري يرسم هذه الصورة فيقول قال عمر لأبي بكر: أليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى فأخبرك أنك تأتيه العام؟ قال: قلت: لا.
قال: فإنك آتيه ومطوف به فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قضية الكتاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: قوموا فانحروا ثم احلقوا قال: فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس.

وفي رواية ابن إسحق فقال لها: ألا ترين إلى الناس؟ إني آمرهم بالأمر فلا يفعلونه؟ هلك المسلمون أمرتهم أن يحلقوا وينحروا فلم يفعلوا فقالت: يا رسول الله إنهم قد دخلهم أمر عظيم مما أدخلت على نفسك من المشقة في أمر الصلح ورجوعهم بغير فتح ثم قالت: يا نبي الله أتحب ذلك؟ اخرج ثم لا تكلم أحدا منهم كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك فخرج فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك.
نحر بدنه ودعا حالقه فحلقه فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما وعند ابن إسحق ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلا حتى إذا كان بين مكة والمدينة نزلت سورة الفتح.

فقه الحديث

اشتملت رواياتنا على بندين فقط من بنود صلح الحديبية البند الأول أن يرجع المسلمون هذا العام بدون عمرة وأن يرخص لهم بالعمرة في العام القادم لمدة ثلاثة أيام بدون سلاح ونص هذا البند عن ابن إسحق:

ترجع عنا عامك هذا فلا تدخل مكة علينا وإنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك -أي خرجنا نحن من مكة إلى الجبال وتركناها لك- فدخلتها بأصحابك فأقمت بها ثلاثا معك سلاح الراكب -أي المسافر وليس المحارب- السيوف في القرب.

البند الثاني: من أوى إلى المسلمين من أهل مكة يرده المسلمون إلى الكفار ومن أوى إلى الكفار من المسلمين لا يرده الكفار للمسلمين وقريب منه ما جاء في روايتنا الثالثة بلفظ ولا يخرج بأحد معه من أهلها ولا يمنع أحدا يمكث بها ممن كان معه ولفظه عند البخاري أن لا يأتيك منا أحد -وإن كان على دينك- إلا رددته إلينا وخليت بيننا وبينه وفي لفظ للبخاري وعلى أنه لا يأتيك منا رجل -وإن كان على دينك- إلا رددته إلينا ولفظه عند ابن إسحق أنه من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم ومن جاء قريشا ممن يتبع محمدا لم يردوه عليه.

واختلف العلماء: هل كان هذا البند يشمل النساء؟ أو لا يشمل النساء؟ فظاهر بعض الروايات يعم الرجال والنساء وبعضها خصه بالرجال.

وقد روى البخاري عن المسور بن مخرمة قال: وجاءت المؤمنات مهاجرات أي بعد الصلح وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ -وهي عاتق- أي شابة لم تدرك وقيل شابة أدركت ولم تتزوج بعد -فجاء أهلها يسألون النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجعها إليهم فلم يرجعها إليهم لما أنزل الله فيهن { { إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار } } [الممتحنة: 10] فمن قال: إن البند لا يشمل النساء فالآية توضيح لنص الصلح وتحديد للمراد من النص العام أحد ومن واعتماد لقيد رجل في بعض الروايات ومن قال إن النص يشمل النساء قال: إن الآية ناسخة لشق البند المذكور.

واختلف العلماء كذلك هل يجوز الصلح مع المشركين على أن يرد إليهم من جاء مسلما ممن عندهم إلى بلاد المسلمين أم لا؟ فقيل: نعم على ما دلت عليه قصة أبي جندل وأبي بصير وقيل: لا وأن الذي وقع في القصة منسوخ وأن ناسخه حديث أنا بريء من مسلم بين مشركين وهو قول الحنفية وعند الشافعية تفصيل بين العاقل والمجنون والصبي فلا يردان وقال بعض الشافعية: ضابط جواز الرد أن يكون المسلم بحيث لا تجب عليه الهجرة من دار الحرب.

وهناك بنود أخرى في الصلح لم تتناولها رواياتنا منها:

1- ما جاء في رواية ابن إسحق من أن الصلح نص على أن توضع الحرب بينهما عشر سنين.
وفي مغازي ابن عائذ أنه كان سنتين.
قال الحافظ ابن حجر: ويجمع بينهما بأن الذي قاله ابن إسحق هي المدة التي وقع الصلح عليها والذي ذكره ابن عائذ وغيره هي المدة التي انتهى إليها أمر الصلح فيها حتى وقع نقضه على يد قريش ثم قال الحافظ ابن حجر: وأما الذي وقع في كامل ابن عدي ومستدرك الحاكم والأوسط للطبراني من حديث ابن عمر من أن مدة الصلح كانت أربع سنين فهو مع ضعف إسناده منكر مخالف للصحيح.

قال: وقد اختلف العلماء في المدة التي تجوز المهادنة فيها مع المشركين فقيل: لا تجاوز أربع سنين وقيل: ثلاثا وقيل سنتين والأول هو الراجح.
والله أعلم.

2- وأن يأمن الناس بعضهم بعضا في نفوسهم وأموالهم سرا وجهرا وفي رواية ابن إسحق وعلى أن بيننا عيبة مكفوفة أي أمرا مطويا في صدور سليمة وهو إشارة إلى ترك المؤاخذة عما تقدم بينهم من أسباب الحرب وغيرها والمحافظة على العهد الذي وقع بينهم وفي رواية ابن إسحق أيضا وأنه لا إسلال ولا إغلال أي لا سرقة ولا خيانة.

3- وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد صلى الله عليه وسلم وعهده دخل فيه ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه.

وكان هذا البند هو الذي نقضته قريش بمعاونتهم بني بكر الداخلين في عهدهم على خزاعة الذين دخلوا في عهد محمد صلى الله عليه وسلم وكان السبب المباشر لفتح مكة كما سبق في الباب الذي قبله.

موقف الصحابة من هذا الصلح: نكاد نقول: إنه لم يكن أحد من الصحابة يرضى بهذا الصلح والرواية السادسة توضح الموقف وتبرز مشاعر سهل بن حنيف رضي الله عنه بقوله ولو أني أستطيع أن أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددته.

وكان أبرزهم نفورا من الصلح عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد روى البخاري أن عمر رضي الله عنه أتى نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال له: ألست نبي الله حقا؟ قال: بلى قال: ألسنا على الحق؟ وعدونا على الباطل؟ قال: بلى قال: فلم نعطي الدنية في ديننا إذن؟ قال: إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري قال: أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: بلى فأخبرتك أنا نأتيه العام؟ قال عمر: لا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنك آتيه ومطوف به وذهب إلى أبي بكر فقال له مثل ما قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع منه مثل ما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وعند البزار قال عمر: لقد رأيتني أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برأي وما ألوت عن الحق قال: فرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبيت حتى قال لي: يا عمر: تراني رضيت وتأبى؟ ولم يكن موقف عمر شكا في رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي حكمه وقراره بل طلبا لكشف ما خفي عليه وحثا على إذلال الكفار وظهور الإسلام كما عرف من خلقه رضي الله عنه وقوته في نصرة الدين وإذلال المبطلين وكان أكثرهم استسلاما للصلح -وليس رضى به- أبو بكر رضي الله عنه فمع قوة إيمانه وزيادة تصديقه وإذعانه لم ينفذ أمر الحلق والنحر.

وسبب هذا الموقف من الصحابة ما قاله ابن إسحق بلفظ كان الصحابة لا يشكون في الفتح لرؤيا رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأوا الصلح دخلهم من ذلك أمر عظيم حتى كادوا يهلكون وعند الواقدي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان رأى في منامه أن يعتمر وأنه دخل هو أصحابه البيت فلما رأوا تأخير ذلك شق عليهم ويقول الحافظ ابن حجر: وقد وقع التصريح في الحديث الصحيح بأن المسلمين استنكروا الصلح المذكور وكانوا على رأي عمر في ذلك والظاهر أن الصديق لم يكن في ذلك موافقا لهم بل كان قلبه على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
اهـ.

أما النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كان يتحرك في هذا الأمر بوحي الله يبدو هذا جليا من قوله لعمر رضي الله عنه: إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري فقبوله هذه النصوص عن أمر الله تعالى وليس عن اجتهاد أو مقدمات تسوق إلى نتائج فالمقدمات كلها لا تتفق مع هذا الصلح حتى الرجوع لا يتفق مع قوتهم وعزتهم وقد جاءوا معتمرين فكيف يقبلون الصد عن البيت الحرام؟ ثم النصوص غير متكافئة وتكاد كلها تنطق بعقد الإذعان نعم عدم كتابة رسول الله والرحمن الرحيم كان لمصلحة إتمام الصلح وليس في تركها مفسدة أما البسملة وباسمك اللهم فمعناهما واحد وكذا قوله محمد بن عبد الله هو أيضا رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس في ترك وصف الله سبحانه وتعالى في هذا الموضع بالرحمن الرحيم ما ينفي ذلك ولا في ترك وصفه أيضا صلى الله عليه وسلم هنا بالرسالة ما ينفيها فلا مفسدة فيما طلبوه وإنما كانت المفسدة تكون لو طلبوا أن يكتب مالا يحل من تعظيم آلهتهم ونحو ذلك وأما بقية الشروط ففيها من حيث الظاهر إجحاف بالمسلمين ومن الصعب على أصحاب العزة والنفوس الأبية قبولها لهذا دخلهم من الهم والغم ما دخلهم أما عدم انصياعهم لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنحر والحلق فلم يكن ردا لأمره صلى الله عليه وسلم ولكنه كان توقفا على أمل أن ينزل وحي يغير الموقف وقد تكرر نحو هذا في قوله تعالى: { { إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة } } إذ نزل بعدها { { أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } } [المجادلة: 12 ، 13] قال الحافظ ابن حجر عند شرحه لجملة فوالله ما قام منهم رجل قيل: كأنهم توقفوا لاحتمال أن يكون الأمر بذلك للندب أو لرجاء نزول الوحي بإبطال الصلح المذكور أو تخصيصه بالإذن بدخولهم مكة ذلك العام لإتمام نسكهم وسوغ ذلك لهم أنه كان زمن وقوع النسخ ويحتمل أنهم انشغلوا بالفكر لما لحقهم من الذل عند أنفسهم مع ظهور قوتهم واقتدارهم في اعتقادهم على بلوغ غرضهم وقضاء نسكهم بالقهر والغلبة أو أخروا الامتثال لاعتقادهم أن الأمر المطلق لا يقتضي الفور ويحتمل مجموع هذه الأمور لمجموعهم وليس فيه حجة لمن أثبت أن الأمر للفور ولا لمن نفاه ولا لمن قال: إن الأمر للوجوب لا للندب لما يتطرق القصة من الاحتمال.
اهـ.

نعم كان الغيب يحتفظ لهذه النصوص نتائج عظيمة فيها خير كبير للإسلام والمسلمين { { وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم } } [البقرة: 216] .

فشرط رد من جاء منهم وعدم رد من جاءهم -وإن شرح النبي صلى الله عليه وسلم وجهة نظره فيه بقوله من ذهب منا إليهم فأبعده الله ومن جاءنا منهم سيجعل الله له فرجا ومخرجا كانت نتيجته شوكة في ظهر مشركي مكة آلمتهم وأوجعتهم حتى أرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يتنازلون عن هذا الشرط ويرجونه أن يضم إليه من آوى إليه من المسلمين أمثال أبي بصير وأبي جندل وأما شرط الرجوع دون نسك فقد عوض في العام القابل بضعف عدد ما كان في ذلك العام.
قال النووي: قال العلماء والمصلحة المترتبة على هذا الصلح ظهرت من ثمراته الباهرة وفوائدة المتظاهرة التي كانت عاقبتها فتح مكة وإسلام أهلها كلهم ودخول الناس في دين الله أفواجا وذلك أنهم قبل الصلح لم يكونوا يختلطون بالمسلمين ولا تتظاهر عندهم أمور النبي صلى الله عليه وسلم كما هي ولا يلتقون بمن يعلمهم بها مفصلة فلما حصل صلح الحديبية اختلطوا بالمسلمين وجاءوا إلى المدينة وذهب المسلمون إلى مكة ونزلوا على أهلهم وأصدقائهم وغيرهم ممن يستنصحونهم وسمعوا منهم أحوال النبي صلى الله عليه وسلم مفصلة بجزئياتها ومعجزاته الظاهرة وأعلام ثبوته المتظاهرة وحسن سيرته وجميل طريقته وعاينوا بأنفسهم كثيرا من ذلك فبادر خلق كثير إلى الإسلام قبل فتح مكة -ولقد دخل الإسلام في هاتين السنتين أكثر ممن أسلم قبلهما وليس أدل على ذلك من أنهم كانوا في الحديبية ألفا وأربعمائة مسلم وكانوا في فتح مكة عشرة آلاف مسلم وازداد أهل مكة ميلا إلى الإسلام فلما كان يوم الفتح أسلموا كلهم لما كان قد تمهد لهم من الميل وكانت العرب من غير قريش في البوادي ينتظرون إسلام قريش ليسلموا فلما أسلمت قريش أسلمت العرب في البوادي قال تعالى: { { إذا جاء نصر الله والفتح* ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا* فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا } } ولذلك يقول الزهري فيما ذكره ابن إسحق: لم يكن في الإسلام فتح قبل فتح الحديبية أعظم منه وروى البخاري عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: تعدون أنتم الفتح فتح مكة -وقد كان فتح مكة فتحا- ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية.

ولم يختلف أحد في أن المراد بالفتح في قوله تعالى: { { إنا فتحنا لك فتحا مبينا } } هو الحديبية فقد نزلت هذه الآيات على رسول الله صلى الله عليه وسلم منصرفه من الحديبية -كما هو صريح روايتنا السابعة فأرسل صلى الله عليه وسلم إلى عمر فقال له: لقد أنزلت على الليلة آيات هي خير من الدنيا وما فيها ثم أقرأه الآيات فقال: يا رسول الله أو فتح هو؟ قال: نعم فطابت نفسه رضي الله عنه.

ومن الحكمة في قبول هذا الصلح أن الصحابة لو دخلوا مكة على هذه الصورة وصدهم قريش عن ذلك لوقع بينهم قتال يفضي إلى سفك الدماء ونهب الأموال وكان بمكة آنذاك جمع كثير مؤمنون مستضعفون من الرجال والنساء والولدان فلو طرق الصحابة مكة لما أمن أن يصاب ناس منهم بغير عمد وإلى هذا يشير القرآن الكريم بقوله: { { وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم } } [الفتح: 24] .

وبقوله: { { هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما } } [الفتح: 25] .

ويؤخذ من أحاديثنا فوق ما تقدم

1- قال القاضي عياض: احتج بعض الناس بقوله في الرواية الثالثة أرني مكانها فأراه مكانها فمحاها وكتب: ابن عبد الله على أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب ذلك بيده على ظاهر اللفظ وعلى ظاهر لفظ البخاري في رواية ففيها أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب فكتب وفي رواية ولا يحسن أن يكتب فكتب قال أصحاب هذا المذهب: إن الله تعالى أجرى ذلك على يده إما بأن كتب القلم بيده ذلك وهو غير عالم بما يكتب أو أن الله تعالى علمه ذلك حينئذ حتى كتب وجعل هذا زيادة في معجزاته.

وهذا لا يقدح في كونه أميا فقد علمه ما لم يكن يعلم من العلم وجعله يقرأ ما لم يكن يقرأ ويتلو ما لم يكن يتلو كذلك علمه أن يكتب ما لم يكن يكتب ويخط ما لم يكن يخط.

واحتجوا بآثار جاءت في هذا المعنى عن الشعبي وبعض السلف وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى كتب قال القاضي: وإلى جواز هذا ذهب الباجي وحكاه عن السمعاني وأبي ذر وغيره.
وذهب الأكثرون إلى منع هذا كله قالوا: وهذا الذي زعمه الذاهبون إلى القول الأول يبطله وصف الله تعالى إياه بالنبي الأمي صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى: { { وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك } } [العنكبوت: 48] وقوله صلى الله عليه وسلم إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب قالوا: وقوله في هذا الحديث كتب معناه أمر بالكتابة كما يقال: رجم ماعزا وقطع السارق وجلد الشارب أي أمر بذلك واحتجوا بالرواية الرابعة وفيها فقال لعلي رضي الله عنه اكتب من محمد بن عبد الله قال القاضي: وأجاب الأولون عن قوله تعالى: { { وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك } } أي لم يتل ولم يخط أي من قبل تعليمه فكما جاز أن يتلو جاز أن يكتب ولا يقدح هذا في كونه أميا إذ ليست المعجزة مجرد كونه أميا فإن المعجزة حاصلة بكونه صلى الله عليه وسلم كان أولا كذلك ثم جاء بالقرآن وبعلوم لا يعلمها الأميون قال القاضي: وهذا الذي قالوه ظاهر.
قال: وقوله في الرواية التي ذكرناها عن البخاري ولا يحسن أن يكتب فكتب كالنص أنه كتب بنفسه.
قال: والعدول إلى غير ذلك مجاز ولا ضرورة إليه.
قال: وقد طال كلام كل فرقة في هذه المسألة وشنعت كل فرقة على الأخرى في هذا.
والله أعلم.

2- عن قوله هذا ما كاتب عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال النووي: فيه دليل على أنه يجوز أن يكتب في أول الوثائق وكتب الأملاك والصداق والعتق والوقف والوصية ونحوها: هذا ما اشترى فلان أو هذا ما أصدق أو وقف أو أعتق ونحوه.
وهذا هو الصواب الذي عليه الجمهور من العلماء وعليه عمل المسلمين في جميع الأزمان والبلدان من غير إنكار.

3- قال القاضي: وفيه دليل على أنه يكتفى في العقود بذكر الاسم واسم الأب بالنسبة للشخص المشهور -عن غير زيادة خلافا لمن قال: لا بد من أربعة أسماء المذكور وأبيه وجده ونسبه.

4- وفي الأحاديث أن للإمام أن يعقد الصلح على ما رآه مصلحة للمسلمين وإن كان لا يظهر ذلك لبعض الناس في بادئ الرأي.
قاله النووي وفيه نظر فما حصل من النبي صلى الله عليه وسلم كان بأمر ربه الذي يعلم الغيب ولذلك ضرب صفحا عن رأي الآخرين والاقتداء به في هذا يفسد الحكم ويضر الرعية.

5- وفيها احتمال المفسدة اليسيرة لدفع أعظم منها أو لتحصيل مصلحة أعظم منها إذ لم يمكن ذلك إلا بذلك.

6- جواز تجريد المسلم من سلاحه أو تخفيفه عند الأعداء للمصلحة قال النووي: وإنما شرط الكفار ذلك لوجهين الأول أن لا يظهر من دخول المسلمين مكة مسلحين أنهم دخلوها دخول الغالبين القاهرين الثاني أنه إن عرضت فتنة أو نحوها يكون في استخدام السلاح صعوبة.

7- استدل بشرط الإقامة بمكة ثلاثا أن الثلاث ليس لها حكم الإقامة وأما ما فوقها فله حكم الإقامة قال النووي: وقد رتب الفقهاء على هذا قصر الصلاة فيمن نوى إقامة في بلد في طريقه وقاسوا على هذا الأصل مسائل كثيرة.

8- وفي موقف أبي بكر ورده على عمر رضي الله عنهما دلائل ظاهرة على عظيم فضله وبارع علمه وزيادة عرفانه ورسوخه في كل ذلك وزيادته فيه كله على غيره رضي الله عنه.

9- ومن إرسال النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمر وإقرائه ما نزل إعلام الإمام والعالم كبار أصحابه بما يقع له من الأمور المهمة والبعث إليهم لإعلامهم بذلك.

10- وفي الأحاديث دليل على جواز مصالحة الكفار إذا كان فيها مصلحة وهو مجمع عليه عند الحاجة قال النووي: ومذهبنا أن مدتها لا تزيد على عشر سنين إذا لم يكن الإمام مستظهرا عليهم وإن كان مستظهرا لم يزد على أربعة أشهر وفي قول: يجوز دون سنة وقال مالك: لا حد لذلك بل يجوز ذلك قل أم كثر بحسب رأي الإمام.

11- أدب علي رضي الله عنه في توقفه عن محو كلمة رسول الله وهو من الأدب المستحب لأنه لم يفهم من النبي صلى الله عليه وسلم تحتيم محو الكلمة بنفسه ولهذا لم ينكر عليه موقفه ولو حتم محوه بنفسه لم يجز لعلي تركه ولما أقره النبي صلى الله عليه وسلم.

12- ومن مراجعة عمر رضي الله عنه جواز المراجعة في العلم والبحث فيه حتى يظهر المعنى.

13- وأن الكلام يحمل على عمومه وإطلاقه حتى تظهر إرادة التخصيص والتقييد.

14- ومن رد الرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر على عمر بأنه صلى الله عليه وسلم لم يحدد عام دخول مكة أخذ بعضهم أن من حلف على فعل شيء ولم يذكر مدة معينة لم يحنث حتى تنقضي أيام حياته.

15- وفي الأحاديث التزام الصحابة بالصلح وعدم رده ومدى ما كانوا عليه من تنفيذ أوامره صلى الله عليه وسلم وإن خفيت عليهم حكمة القرار.

16- وفيه حكم الإحصار عن العمرة وأنه يتحلل بالحلق وينحر الهدي في مكانه وقد سبق شرحه في كتاب الحج.

والله أعلم.