هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير، 
3780 وحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَرْحٍ ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ ، أَنَّ قَتَادَةَ بْنَ دِعَامَةَ حَدَّثَهُ ، أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ ، يَقُولُ : إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يُخْلَطَ التَّمْرُ وَالزَّهْوُ ، ثُمَّ يُشْرَبَ ، وَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ عَامَّةَ خُمُورِهِمْ يَوْمَ حُرِّمَتِ الْخَمْرُ
هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير، 
3780 وحدثني أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن سرح ، أخبرنا عبد الله بن وهب ، أخبرني عمرو بن الحارث ، أن قتادة بن دعامة حدثه ، أنه سمع أنس بن مالك ، يقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يخلط التمر والزهو ، ثم يشرب ، وإن ذلك كان عامة خمورهم يوم حرمت الخمر
هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير، 

: هذه القراءةُ حاسوبية، وما زالت قيدُ الضبطِ والتطوير، 

Anas b. Malik is reported to have said that Allah's Messenger (ﷺ) had forbidden to mixture fresh dates and unripe dates and then drinking (the wine prepared out of it), and that was their common intoxicant when liquor was prohibited.

شرح الحديث من فـــتح المــــنعم

: : هذه القراءةُ حاسوبية، وما زالت قيدُ الضبطِ والتطوير،   

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يخلط التمر والزهو ثم يشرب.
وإن ذلك كان عامة خمورهم، يوم حرمت الخمر.


المعنى العام

خلق الله الإنسان، وكرمه على كثير من مخلوقاته، وميزه بالعقل، ليكون خليفته في الأرض، وجعلها له ذلولاً، وسخر له ما فيها، ليديرها، ويصرفها، وينتفع بما حوله مما خلق له، ذلك العقل وتلك الجوهرة، هو الفارق بين الإنسان والحيوان، هو الفارق بين السوي الحكيم وبين المجنون، هذا الجهاز الصغير الدقيق المعجز هو صندوق المعلومات وخازنها، منذ كان الإنسان في بطن أمه، وجعل له ربه السمع والبصر والحواس والفؤاد، هذا الجهاز هو قائد الجوارح كلها، وأمير الجسم والأعضاء، لا يتحرك جفن عين لعاقل إلا بإشارته، ولا يصدر عمل من الأعمال إلا عن أمره، إذا اختل ضاعت الحكمة، وإذا غشي وعمي عليه توقفت الأعضاء عن الحركة، بل عن الحس والشعور، ولقد خلق الله في الأرض ما ينفع الإنسان وما يضره، ليميز بعقله بين ما ينفع فيقبل عليه، ويفيد منه، وبين ما يضر، فيبتعد عنه، ويحذره، ويتحاشاه، نوع من أنواع الابتلاء والاختبار، ليميز الله الخبيث من الطيب، خلق الطعام والشراب اللذيذ النافع، وخلق السم القاتل، وكلما ارتقى الإنسان في الإنسانية بعد عما يضر، واستكثر مما ينفع، وفي الحياة الدنيا هموم ومشاكل وأحزان ومصائب، يقف العاقل حيالها موقف المعالج الخبير الصابر الحكيم، ويقف العاجز حيالها بالضعف والتخاذل ومحاولة الهروب منها، وكيف يهرب منها وهي في داخله؟ وفي سويداء عقله؟ إنه يحاول تغطية العقل، وتغطية الشعور، وتغطية الأحاسيس، بما عرفه من خمر أو حشيشة، وهو في ذلك لا يحل المشكلة، ولا يبعدها عن نفسه، ولا يخفف همومها، وآلامها، بل كل ما يفعله أنه يهرب من الإحساس بها بعض الوقت، ليضم إليها هموماً أخرى وأحزاناً أخرى بعد أن يفيق من السكر.

فهذا حمزة بن عبد المطلب، عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كانت الخمرة مباحة، والسكر مباحاً، يجتمع مع بعض الشباب من أقرانه، في بيت من بيوت أحدهم، فيستأجرون مغنية تغنيهم، على شرابهم، وتأخذ الخمرة برءوسهم، فيتمايل بعضهم على بعض، ويصيح بعضهم ببعض، ويعبث بعضهم بوجوه بعض، وتثيره المغنية بأبيات من شعر، مضمونها: يا حمزة يا بطل الأبطال، يا من اشتهر بالكرم، يا ابن الأكرمين، بالباب ناقتان سمينتان، نشتهي أن نأكل -مع شرابنا- من سنامهما وأكبادهما، فأين سيفك؟ وأين شهامتك؟ وأين جودك؟ فيخرج بسيفه، فيجتز سنامي الناقتين، ويبقر بطنهما، ويرجع للقوم بأكبادهما وسناميهما، ويرجع صاحب الناقتين، علي بن أبي طالب، الذي لا يملك غيرهما، ويرجوهما عوناً له على رزقه، يحملان الحطب الذي يجمعه ليبيعه، ليستعين به على وليمة زواجه بفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم، يرجع بعد أن جمع الحطب ليأخذ ناقتيه، لتحملاه، فيجد الدماء تملأ مربطهما، وتقع عيناه على منظرهما الفظيع وقد بقرت بطونهما، فلا يملك دمعه الذي سال على خديه، ويسأل من تجمع من الناس حولهما: من فعل هذا؟ فيحكون له ما حصل، فيجري نحو بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فزعاً، شاحب اللون، مرتعش البدن، فيقول له صلى الله عليه وسلم: ما لك؟ ماذا بك يا علي؟ فيقول حصل كذا وكذا.
الناقة التي أصابتني من غنائم بدر، والناقة التي ساعدتني بها من الفيء والخمس، فعل بهما حمزة كذا وكذا.
فقال صلى الله عليه وسلم: وأين حمزة الآن؟ قال في بيت يشرب الخمر مع الشاربين فأسرع صلى الله عليه وسلم إلى ردائه فلبسه، ثم خرج مع علي معهما زيد بن حارثة، حتى وصلوا إلى البيت الذي به حمزة، فاستأذن، فأذن له، فدخل متغيظاً يلوم حمزة ويعنفه، ظاناً أنه يعي، فيصلح ما أفسد، لكن حمزة كان بعيداً عن الوعي، التفت حمزة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يعرفه، لأنه نظر إلى ساقه، ثم صعد النظر إلى ركبتيه صلى الله عليه وسلم، وهو يهز رأسه، كأنه يقول: من هذا الذي يعنفني؟ ثم صعد النظر إلى سرته صلى الله عليه وسلم، ثم صعد النظر فنظر إلى وجهه صلى الله عليه وسلم، ولم يعرفه، ورأى حوله علياً وزيداً ولم يعرفهما، فأخذ يترنح وهو يقول: ما أنتم إلا عبيد لأبي -أبي عبد المطلب- وأنتم عبيد عبد المطلب.

وذهل رسول الله صلى الله عليه وسلم من منظره، إنه غائب عن الوجود، إنه لا يدرك ما يقول، إنه لا يدرك ما يفعل، إنه قد يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه بسيفه، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهره مسرعاً.

هذه الحادثة كانت وحدها كافية لنزول آية تحريم الخمر، لكن غيرها من أمثالها قد وقع كثيراً وكان القرآن الكريم قد هيأ الأمة لتلقي حكم التحريم، لأن الخمر كانت في دمها، والأمة العربية كانت مدمنة، لا يخلو شرابها على الطعام وفي السهرات من خمر، خمر عنب يستوردونه من خارج منطقتهم، لا يجيدون صناعته، وخمر تمر وبسر وزبيب وشعير وذرة وحنطة يجيدون صناعتها، كان القرآن قد نزل بقوله تعالى { { يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما } } [البقرة: 219] فخشي كرماء الناس إثمها، فامتنعوا عنها، أو قللوا من شربها.

ثم نزل قوله تعالى: { { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون } } [النساء: 43] فامتنع المسلمون من شربها قريباً من أوقات الصلاة، وحصروا شربها في الأوقات التي تمكنهم من الإفاقة منها قبل وقت الصلاة.

وأخيراً نزل القرار القاطع المحرم لقليلها وكثيرها، فقال تعالى: { { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون* إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون } } [المائدة: 90، 91]؟

وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم منادياً ينادي في شوارع المدينة: أيها المسلمون، إن الخمر قد حرمها الله.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبلغكم أن الخمر منذ الآن حرام.
وسمع المنادي الشاربون فأمسكوا عن الشرب، وراحوا يريقون ما عندهم منها على الأرض وفي شوارع المدينة، حتى جرت بها شوارع المدينة.

وهكذا حفظ الله للمسلمين جوهرة عقولهم، وحماها من العبث والتغطية والفساد والإفساد، وصان إنسانيتهم من التدهور والهبوط إلى عالم الحيوانات.

المباحث العربية

( كتاب الأشربة) أي ما يحرم منها، وما يحل، وما يتعلق بالشرب من الآداب.

( باب الخمر) ويقال لها الخمرة، بفتح الخاء، وهي تذكر وتؤنث، فيقال: هذا خمر، وهذه خمر، والخمر مأخوذة من التغطية والستر، يقال: خمر الإناء، بفتح الميم، يخمره بضمها، خمراً، أي ستره وكتمه، قيل: سميت الخمر خمرة؛ لأنها تغطي العقل وتخالطه، أو لأنها هي تخمر، وتغطي، حتى تغلي، أو لأنها تختمر، أي تدرك الهدف الجديد منها، وتستر الهدف السابق منها، كما يقال للعجين: اختمر.
أما المراد من الخمر شرعاً فسيأتي في فقه الحديث.

( أصبت شارفاً) أي ناقة مسنة، وجمعها شرف بضم الراء وإسكانها، وفي الرواية الثانية كانت لي شارف من نصيبي من المغنم يوم بدر.

( وأعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم شارفاً أخرى) في الرواية الثانية وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاني شارفاً من الخمس يومئذ وكان هذا الإعطاء مساعدة له، باعتباره على أبواب الزواج.

( وأنا أريد أن أحمل عليهما إذخراً لأبيعه) أي أريد أن أجمع الإذخر من الصحراء، وأحمله عليهما إلى الأسواق، وأماكن بيعه، والإذخر، بكسر الهمزة وسكون الذال، نوع من الحشائش ذات السيقان الطويلة، كسيقان القمح، لكنها أدق، يستعمل وقوداً، ويخلط بالطين للبناء.

( ومعي صائغ من بني قينقاع) بضم النون وكسرها وفتحها، وهم طائفة من يهود المدينة، فيجوز صرفه، على إرادة الحي، وترك صرفه، على إرادة القبيلة أو الطائفة، أي للعلمية والتأنيث، وفي الرواية الثانية واعدت رجلاً صواغاً من بني قينقاع، يرتحل معي أي لنجمع الإذخر فنأتي بإذخر، أردت أن أبيعه من الصواغين قال النووي: هكذا هو في جميع نسخ مسلم، وفي بعض الأبواب من البخاري من الصواغين ففيه دليل لصحة استعمال الفقهاء في قولهم: بعته منه ثوباً، -أي بعته، وزوجت منه -أي زوجته- ووهبت منه جارية -أي وهبته جارية، وشبه ذلك، والفصيح حذف من فإن الفعل متعد بنفسه، ولكن استعمال من في هذا صحيح، وقد كثر ذلك في كلام العرب، وتكون من زائدة على مذهب الأخفش ومن وافقه في زيادتها في الواجب غير النفي.
والصواغون جمع صائغ، وهو من حرفته صناعة الحلي من ذهب وفضة وغيرهما.

( فأستعين به على وليمة فاطمة) أي فأستعين بثمنه، وفي الرواية الثانية فأستعين به في وليمة عرسي أي بفاطمة.

( فبينا أنا أجمع لشارفي متاعاً من الأقتاب والغرائر والحبال) شارفي بتشديد الياء، مثنى شارف، والأقتاب جمع قتب، وهو الرحل الصغير على قدر سنام البعير، والغرائر جمع غرارة، وهي وعاء من الخيش ونحوه، يوضع فيه القمح ونحوه، أشبه بما يعرف عند العامة بالشوال بكسر الشين وضمها، وعربيته جوالق بكسر الجيم وضمها.

( وشارفاي مناختان) قال النووي: في معظم النسخ مناخان وفي بعضها مناختان وكذلك اختلف فيه نسخ البخاري، وهما صحيحان، التأنيث باعتبار المعنى، والتذكير باعتبار اللفظ.

( وجمعت حين جمعت ما جمعت) قال النووي: هكذا هو في بعض نسخ بلادنا، ونقله القاضي عن أكثر نسخهم، وسقطت لفظة وجمعت الأولى من أكثر نسخ بلادنا، ووقع في بعض النسخ حتى جمعت مكان حين جمعت.

( فإذا شارفاي قد اجتبت أسنمتهما) قال النووي: هو في معظم النسخ فإذا شارفي وفي بعضها فإذا شارفاي وهذا هو الصواب، إلا أن يقرأ فإذا شارفي بتخفيف الياء، على لفظ الإفراد، ويكون المراد جنس الشارف، فيدخل فيه الشارفان.
اهـ ومعنى اجتبت بضم التاء وتشديد الباء المفتوحة، مبني للمجهول، أي قطعت، والجب بفتح الجيم القطع، وفي الرواية الأولى فثار إليهما حمزة بالسيف، فجب أسنمتهما والمعنى: في الوقت الذي كنت أعد لشارفي الغرائر والرحال والحبال، وأجهز لهما عدة الحمل والعمل كان شارفاي قد قطعت أسنمتهما.
وجمع أسنمة مع التثنية كثير، كقوله تعالى: { { إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما } } [التحريم: 4].

( وبقر خواصرهما) يقال: بقر البطن بفتح الباء والقاف، يبقرها بضم القاف، أي شقها، والخواصر جمع خاصرة، والخصر من الإنسان والحيوان وسطه، وهو المستدق، فوق الوركين.

( وأخذ من أكبادهما) من تبعيضية، أي أخذ بعض أكبادهما.

( فلم أملك عيني حين رأيت ذلك المنظر منهما) قال النووي: سبب هذا البكاء والحزن ما خافه من تقصير في حق فاطمة -رضي الله عنها- وجهازها، والاهتمام بأمرها، وتقصيره أيضاً بذلك في حق النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن لمجرد الشارفين، من حيث هما من متاع الدنيا، بل لما قدمناه.
اهـ

أقول: كان علي رضي الله عنه يعلم يقيناً أنه سيعوض عن الشارفين، إما من الجاني، وإما من النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن يخاف من ضياعهما تقصيراً في حق فاطمة -رضي الله عنها- وإنما بكى، أو دمعت عينيه لفظاعة المنظر، وهوله، كما قال في الرواية الأولى فنظرت إلى منظر أفظعني فدموعه -رضي الله عنه- كانت شفقة ورقة قلب.

( قلت: من فعل هذا؟ قالوا: فعله حمزة بن عبد المطلب، وهو في هذا البيت، في شرب من الأنصار) والشرب بفتح الشين وسكون الراء الجماعة الشاربون.

( غنته قينة وأصحابه) القينة الأمة، صانعة، أو غير صانعة، وغلب على المغنية، وهو المراد هنا.

( فقالت في غنائها: ألا يا حمز للشرف النواء) حمز منادي مرخم، بني على الضم، على لغة من لا ينتظر، في محل نصب، والشرف بضم الشين، وضم الراء أو سكونها، جمع شارف والنواء بكسر النون وتخفيف الواو، وبالمد أي السمان، قال النووي: هذا الذي ذكرناه في النواء، أنها بكسر النون، وبالمد، هو الصواب المشهور في الروايات في الصحيحين وغيرهما، ويقع في بعض النسخ النوي وهو تحريف وقال الخطابي: رواه ابن جرير ذا الشرف النوي بفتح الشين والراء، وبفتح النون، مقصوراً، قال: وفسره بالبعد، وقال الخطابي: وكذا رواه أكثر المحققين، قال: وهو غلط في الرواية والتفسير، وقد جاء في غير مسلم تمام هذا الشعر:

ألا يا حمز للشرف النواء
وهن معقلات بالفناء

ضع السكين في اللبات منها
وضرجهن حمزة بالدماء

وعجل من أطايبها لشرب
قديداً من طبيخ أو شواء

والفناء الجانب، أي جانب الدار التي كانوا فيها، والقديد اللحم المطبوخ، والتضريج التلطيخ.
وأريد بهذا الشعر إثارة همة حمزة، وتهييجه على نحر الناقتين، ليأكلوا من لحمها، وقد عرف عنه الكرم، فخرج على الفور، وفعل ما فعل، وهو مخمور.

( ومن السنام؟ قال: قد جب أسنمتهما، فذهب بها) ومن السنام؟ معطوف على ثم أخذ من أكبادهما فكأن الراوي يسأل: أخذ بعض أكبادهما، وأخذ بعض أسنمتهما؟ فأجابه بأنه أخذ أسنمتهما كلها.

( فانطلقت، حتى أدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم) الأصل أن يقول حتى دخلت ولكنه عبر عن الماضي بصيغة المضارع استحضاراً للصورة.

( في وجهي الذي لقيت) أي دخلت عليه في وجه غاضب مفزع من هول ما رأيت، أي بنفس الوجه الذي رأيت فيه وبه شارفي.

( فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بردائه، فارتداه) قال النووي: هكذا هو في النسخ كلها فارتداه.

( فدخل على حمزة، فتغيظ عليه) أي أظهر غيظه عليه، والغيظ تغير يلحق الإنسان من مكروه يصيبه وفي الرواية الثانية فطفق رسول الله يلوم حمزة فيما فعل أي جعل يلومه، وطفق بكسر الفاء وفتحها، والمشهور الكسر.

( فرفع حمزة بصره) في الرواية الثانية فإذا حمزة محمرة عيناه، فنظر حمزة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صعد النظر إلى ركبتيه، ثم صعد النظر، فنظر إلى سرته، ثم صعد النظر فنظر إلى وجهه أي كان حمزة جالساً ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقفاً فنظر حمزة في مستوى النظر إلى ساق الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم رفع بصره قليلاً فكان إلى ركبتيه، ثم صعد، ثم صعد، حتى نظر إلى وجهه صلى الله عليه وسلم.

( فقال: هل أنتم إلا عبيد لآبائي؟) وفي الرواية الثانية وهل أنتم إلا عبيد لأبي؟ قيل: أراد أن أباه عبد المطلب جد للنبي صلى الله عليه وسلم ولعلي أيضاً، والجد يدعى سيداً، وحاصله أن حمزة أراد الافتخار عليهم بأنه أقرب إلى عبد المطلب منهم.

( فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ثمل) بفتح الثاء، وكسر الميم، أي سكران.

( فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقهقر) في الرواية الثانية فنكص رسول الله صلى الله عليه وسلم على عقبيه القهقري قال جمهور أهل اللغة: القهقري الرجوع إلى وراء ووجهه إليك، إذا ذهب عنك، وقال أبو عمر: هو الإسراع في الرجوع، والأول هو المشهور المعروف.

قال النووي: وإنما رجع القهقرى خوفاً من أن يبدو من حمزة رضي الله عنه أمر يكرهه، لو ولاه ظهره، لكونه مغلوباً بالسكر.

( كنت ساقي القوم) ذكر من القوم أبو طلحة، زوج أم أنس، أم سليم، وهو زيد بن سهل، وفي الرواية الرابعة أبو أيوب، وفي الرواية السابعة أبو دجانة ومعاذ بن جبل، وفي ملحقها سهل بن بيضاء، وفي الرواية التاسعة أبو عبيدة بن الجراح، وأبي بن كعب، فهؤلاء سبعة، وقد وقع عند عبد الرزاق أن القوم كانوا أحد عشر رجلاً.
قال الحافظ ابن حجر: ومن المستغربات ما أورده ابن مردويه في تفسيره، عن أنس أن أبا بكر وعمر كانا فيهم، قال: وهو منكر، مع نظافة سنده، وما أظنه إلا غلطاً، فعند أبي نعيم من حديث عائشة قالت: حرم أبو بكر الخمر على نفسه، فلم يشربها في جاهلية ولا إسلام قال: ويحتمل إن كان محفوظاً أن يكون أبو بكر وعمر زارا أبا طلحة في ذلك اليوم، ولم يشربا معهم.
اهـ وكانت الحادثة في بيت أبي طلحة، بيت أنس بن مالك.

وفي الرواية الخامسة إني لقائم على الحي، على عمومتي فأطلق عليهم عمومتي لأنهم كانوا أسن منه، ولأن أكثرهم كانوا من الأنصار.

( يوم حرمت الخمر) قال الحافظ ابن حجر: والذي يظهر أن تحريمها كان عام الفتح، سنة ثمان، قبل الفتح، لما روى أحمد من طريق عبد الرحمن بن وعلة قال: سألت ابن عباس عن بيع الخمر؟ فقال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم صديق من ثقيف، فلقيه يوم الفتح براوية خمر، يهديها إليه، فقال: يا فلان.
أما علمت أن الله حرمها؟ فأقبل الرجل على غلامه، فقال: بعها، فقال صلى الله عليه وسلم: إن الذي حرم شربها حرم بيعها وقال الحافظ في مكان آخر: ثم رأيت الدمياطي في سيرته جزم بأن تحريم الخمر كان سنة الحديبية، والحديبية كانت سنة ست، وذكر ابن إسحاق أنه كان في واقعة بني النضير، وهي بعد وقعة أحد، وذلك سنة أربع على الراجح.
قال الحافظ: وفيه نظر، لأن أنساً كما سيأتي كان الساقي يوم حرمت، وأنه لما سمع المنادي بتحريمها بادر فأراقها، فلو كان ذلك سنة أربع لكان أنس يصغر عن ذلك.
اهـ وما استبعده الحافظ ليس ببعيد، بل هو أقرب الأقوال لواقع الروايتين الأولى والثانية فأنس رضي الله عنه سنة أربع كان ابن أربع عشرة، وهو سن يليق بذلك، ولا يصغر عن ذلك، وحادثة حمزة رضي الله عنه كانت عقب بدر، وقبل أحد بكل تأكيد، لأن حمزة استشهد بأحد، وقد سيقت الحادثة على أنها من مفاسد الخمر، ومن أسباب نزول آية تحريمها، ومن المستبعد أن تشيع هذه المفاسد وتبقى الخمر مباحة إلى سنة ثمان، وما استدل به من حديث أحمد لا يصلح دليلاً، فكون الرجل الثقفي لم يعلم بتحريم الخمر إلا عام الفتح لا يدل على أنها لم تحرم قبل عام الفتح.
والله أعلم.

وروى أصحاب السنن عن عمر رضي الله عنه أنه قال: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت الآية التي في البقرة { { يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما } } [البقرة: 219] فقرئت عليه، فقال: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت التي في المائدة { { إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه } } [المائدة: 90] صححه الترمذي.

وأخرج أحمد عن أبي هريرة نحوه، وقال عند نزول آية البقرة: فقال الناس: ما حرم علينا، فكانوا يشربون، حتى أم رجل أصحابه في المغرب، فخلط في قراءته، فنزلت الآية التي في النساء { { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون } } [النساء: 43] فكانوا يشربون، ولا يقرب الرجل الصلاة حتى يفيق، ثم نزلت آية المائدة، فقالوا: يا رسول الله، ناس قتلوا في سبيل الله وناس ماتوا على فرشهم، وكانوا يشربونها -وفي رواية ماتوا وهي في بطونهم؟ فأنزل الله تعالى { { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات } } [المائدة: 93] فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو حرم عليهم لتركوه.

( وما شرابهم إلا الفضيخ -البسر والتمر) الفضيخ بفتح الفاء وكسر الضاد، آخرها خاء، على وزن عظيم، اسم للبسر إذا شدخ ونبذ، والبسر تمر الفسخ قبل أن يصير رطباً، قال إبراهيم الحربي: الفضيخ أن يفضخ البسر -أي يشق- ويصب عليه الماء، ويترك حتى يغلي.
اهـ أي حتى يتخمر ويطفو زبده وقال أبو عبيد: هو ما فضخ من البسر، من غير أن تمسه النار، فإن كان معه تمر فهو خليط.
وفي الرواية الخامسة أسقيهم من فضيخ لهم.
قلت لأنس: ما هو [الفضيخ أو الشراب]؟ قال: بسر ورطب وفي الرواية السابعة وإنها لخليط البسر والتمر وفي ملحقها وكانت عامة خمورهم يومئذ خليط البسر والتمر وفي الملحق الآخر من مزادة فيها خليط بسر وتمر وفي الرواية الثامنة نهي أن يخلط التمر والزهو، ثم يشرب والزهو بفتح الزاي وسكون الهاء، بعدها واو، وهو البسر الذي يحمر أو يصفر قبل أن يترطب، وقد يطلق الفضيخ على خليط البسر والرطب، كما يطلق على خليط البسر والتمر، وكما يطلق على البسر وحده، وعلى التمر وحده، وعليه قوله في الرواية التاسعة شراباً من فضيخ وتمر.

( فإذا مناد ينادي، فقال: اخرج فانظر، فخرجت، فإذا مناد ينادي: ألا إن الخمر قد حرمت.
قال: فجرت في سكك المدينة، فقال لي أبو طلحة: اخرج فأهرقها)
في الرواية الرابعة إذ جاء رجل، فقال: هل بلغكم الخبر؟ قلنا: لا.
قال: فإن الخمر حرمت، فقال: يا أنس، أرق هذه القلال ونحو ذلك في الرواية الخامسة والسابعة والتاسعة.
قال الحافظ ابن حجر: ظاهر هذه الأخبار التعارض، وقد نقل ابن التين عن الداودي أنه قال: لا اختلاف بين الروايتين، لأن الآتي أخبر أنساً، وأنس أخبر القوم، وتعقبه ابن التين بأن نص الرواية أن الآتي أخبر القوم مشافهة بذلك، قال الحافظ: فيمكن الجمع بوجه آخر، هو أن المنادي غير الذي أخبرهم، أو أن أنساً لما أخبرهم عن المنادي جاء المنادي أيضاً في إثره، فشافههم.

( فجرت في سكك المدينة) الظاهر أن هذه العبارة مقدمة من تأخير، وأنها بعد أن أهرقها أنس.
وسكك المدينة طرقاتها، وفي ذلك إشارة إلى سرعة تنفيذ الصحابة للأمر، وإراقتهم لما كان عندهم منها.

( فقالوا -أو قال بعضهم: قتل فلان.
قتل فلان، وهي في بطونهم)
وفي رواية البخاري فقال بعض القوم: قتل قوم، وهي في بطونهم، فأنزل الله { { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا } } [المائدة: 93] قال الحافظ ابن حجر: وروى النسائي والبيهقي فقال ناس من المتكلفين: هي رجس، وهي في بطن فلان، وقد قتل بأحد، فنزلت { { ليس على الذين آمنوا... } } وروى البزار أن الذين قالوا ذلك كانوا من اليهود.

( قال: فلا أدري.
هو من حديث أنس؟)
أصل الإسناد: حدثنا حماد بن زيد.
حدثنا ثابت عن أنس.
فالقائل: لا أدري إلخ هو حماد، والعبارة المشكوك في رواية أنس لها هي فقالوا، أو قال بعضهم...إلى آخر الحديث، أي قال حماد: لا أدري هذه العبارة في حديث أنس؟ أو هي قول لثابت؟ فتكون مرسلة؟.

( فقمت إلى مهراس لنا، فضربتها بأسفله، حتى تكسرت) المهراس -بكسر الميم وسكون الهاء- حجر منقور، أو هو إناء يتخذ من صخر، وينقر، وقد يكون كبيراً كالحوض، وقد يكون صغيراً، كالهاون، بحيث يتأتى الكسر به.

فقه الحديث

ظاهر أحاديث الباب أن الخمر عند العرب وفي الإسلام كانت حلالاً، لا مؤاخذة ولا لوم على من يشربها، بل كانت شراباً محبباً شائعاً، يجتمعون على شربها، ويتحف صاحب البيت ضيفه بها، يشربها العظيم والحقير، ولا يتجنبها إلا من يخاف عواقبها، من ذوي المروءات العليا، لذا لم نجد لوماً من رسول الله صلى الله عليه وسلم للشاربين الذين كانوا مع حمزة رضي الله عنه، وقول أنس في رواياته يوم حرمت الخمر صريح في أنها كانت جلالاً، وقد بينا في المباحث العربية أقوال العلماء في وقت التحريم.

وظاهر الرواية الأولى والثانية أن حادثة حمزة كانت سبباً مقتضياً لتحريمها، فإنه ما فعل ما فعل إلا بتأثير الشرب، وقد روى النسائي والبيهقي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- بسند صحيح، قال: نزل تحريم الخمر في ناس شربوا وفي رواية في قبيلتين من الأنصار شربوا، فلما ثمل القوم عبث بعضهم ببعض، فلما صحوا جعل الرجل يرى في وجهه ورأسه الأثر، فيقول: صنع هذا أخي فلان، وكانوا إخوة، ليس في قلوبهم ضغائن، فيقول: والله لو كان بي رحيماً ما صنع بي هذا، حتى وقعت في قلوبهم الضغائن، فأنزل الله عز وجل هذه الآية: { { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر... } } إلى قوله { { منتهون } } وأخرج أحمد ومسلم في سبب نزول آية تحريم الخمر، عن سعد بن أبي وقاص، قال صنع رجل من الأنصار طعاماً، فدعانا، فشربنا الخمر، قبل أن تحرم، حتى سكرنا، فتفاخرنا، فنزلت { { إنما الخمر والميسر....
}
}
ومن المعلوم في أسباب النزول أن الأسباب قد تتعدد لنزول آية واحدة، فلا تعارض.
وقد اختلف العلماء في مدلول لفظ الخمر، وفي المراد به في قوله تعالى: { { إنما الخمر والميسر } }

( أ) قال ابن عبد البر: قال الكوفيون: إن الخمر من العنب لقوله تعالى: { { إني أراني أعصر خمراً } } [يوسف: 36] قال: فدل على أن الخمر هو ما يعتصر، لا ما ينتبذ.
قال: ولا دليل فيه على الحصر.
اهـ فكل ما يدل عليه أن ما يعصره يسمى خمراً، لا أن غيره لا يسمى خمراً.

( ب) قالوا: واتفقت الأمة على أن عصير العنب إذا اشتد وغلى، وقذف بالزبد، فهو خمر، وأن مستحله كافر، ولم يكفروا مستحل نبيذ التمر، فثبت أنه لا يدخل في الخمر غير المتخذ من عصير العنب.

ورد بأنه لا يلزم من اختلاف الحكم بين أمرين اختلافهما في اللفظ والاسم، فالزنا مثلاً يصدق على من وطئ أجنبية، وعلى من وطئ امرأة جاره، وعلى من وطئ محرماً له، وكلها مختلف في الحكم، واسم الزنا مع ذلك شامل للثلاثة.

( ج) قالوا: أطبق أهل اللغة على تخصيص الخمر بالعنب، ولهذا اشتهر استعمالها فيه.
ورد عليهم بأنه قد ثبت النقل عن بعض أهل اللغة بأن غير المتخذ من العنب يسمى خمراً، وقال الخطابي: زعم أن العرب لا تعرف الخمر إلا من العنب، فيقال لهم: إن الصحابة الذين سموا غير المتخذ من العنب خمراً عرب فصحاء، فلو لم يكن هذا الاسم صحيحاً لما أطلقوه، وقال ابن عبد البر: إن القرآن لما نزل بتحريم الخمر فهم الصحابة -وهم أهل اللسان- أن كل شيء يسمى خمراً يدخل في النهي، فأراقوا المتخذ من التمر والرطب، ولم يخصوا ذلك بالمتخذ من العنب.
وقال القرطبي: الأحاديث الواردة عن أنس وغيره -على صحتها وكثرتها- تبطل مذهب الكوفيين القائلين بأن الخمر لا يكون إلا من العنب، وما كان من غيره لا يسمى خمراً، ولا يتناوله اسم الخمر، وهو قول مخالف للغة العرب، وللسنة الصحيحة وللصحابة، لأنهم لما نزل تحريم الخمر فهموا من الأمر باجتناب الخمر تحريم كل مسكر، ولم يفرقوا بين ما يتخذ من العنب وبين ما يتخذ من غيره، بل سووا بينهما، وحرموا كل ما يسكر نوعه، ولم يتوقفوا، ولم يستفصلوا، ولم يشكل عليهم شيء من ذلك، بل بادروا إلى إتلاف ما كان من غير عصير العنب، وهم أهل اللسان، وبلغتهم نزل القرآن، فلو كان عندهم فيه تردد لتوقفوا عن الإراقة، حتى يستكشفوا، ويستفصلوا، ويتحققوا التحريم، لما تقرر عندهم النهي عن إضاعة المال، فلما لم يفعلوا ذلك، وبادروا إلى الإتلاف علمنا أنهم فهموا التحريم نصاً، فصار القائل بالتفريق بين عصير العنب وغيره سالكاً غير سبيلهم.
اهـ

وذهب بعض الشافعية إلى موافقة الكوفيين في دعواهم: أن اسم الخمر خاص بما يتخذ من العنب، لكنهم يخالفونهم في الحكم، إذ لم يفرقوا بين عصير العنب وغيره، فقالوا بتحريم قليل ما أسكر كثيره من كل شراب.

قال الحافظ ابن حجر: ويمكن الجمع، بأن من أطلق على غير المتخذ من العنب حقيقة الخمر، أراد الحقيقة الشرعية، ومن نفى أراد الحقيقة اللغوية، قال ابن عبد البر: والحكم إنما يتعلق بالاسم الشرعي، دون اللغوي.

ثم قال الحافظ: ويلزم من قال بقول أهل الكوفة: إن الخمر حقيقة في ماء العنب، مجاز في غيره، يلزمهم أن يقولوا بجواز إطلاق اللفظ الواحد على حقيقته ومجازه، لأن الصحابة لما بلغهم تحريم الخمر، أراقوا كل ما كان يطلق عليه لفظ الخمر حقيقة أو مجازاً، وإذا لم يجوزوا ذلك صح أن الكل خمر حقيقة، ولا انفكاك لهم عن ذلك.
اهـ

ونتيجة لوجهات النظر هذه نجمل الأحكام في نقاط:

الأولى: أن عصير العنب النيئ، الذي لم يطبخ على النار، إذا غلي واشتد، وقذف بالزبد، وأسكر كثيره، حرم قليله وكثيره، وحد شاربه، باتفاق، أسكر فعلاً أو لم يسكر.
ولا يعتد بما حكاه ابن قتيبة عن قوم من مجان أهل الكلام أن النهي عن هذا للكراهة.
فهو قول مهجور، لا يلتفت إليه.

الثانية: أن مطبوخ خمر العنب فيه خلاف، فقد كانوا يأتون إلى عصير العنب، إذا اشتد، وغلي، وأسكر، فيطبخونه على النار، حتى يذهب منه ثلثا حجمه، ويبقى الثلث، ويتمطط إذا وضع الإصبع فيه ورفع، كالعسل الغليظ، أو كالطلاء الذي كانت تطلى به الإبل، ويسمونه الباذق بفتح الذال وبكسرها، ويقال له: المثلث أيضاً: إشارة إلى أنه ذهب منه بالطبخ ثلثاه، كما يقال لنوع منه: المنصف، إشارة إلى أنه ذهب نصفه، ويسمونه الطلاء أيضاً، لشبهه بطلاء الإبل.

هذا المشروب -أو المأكول- قال البخاري عنه: رأى عمر وأبو عبيدة ومعاذ جواز شرب الطلاء على الثلث، قال الحافظ ابن حجر: وقد وافق عمر ومن ذكر معه على الحكم المذكور أبو موسى وأبو الدرداء وعلي وأبو أمامة وخالد بن الوليد وغيرهم، ومن التابعين ابن المسيب والحسن وعكرمة، ومن الفقهاء الثوري والليث ومالك في رواية عنه وأحمد والجمهور، وشرط تناوله عندهم ما لم يسكر بالفعل، وكرهه طائفة من هؤلاء المجيزيين له، تورعاً.

وقال أبو حنيفة: المطبوخ من عصير العنب، حتى يذهب ثلثاه، ويبقى ثلثه لا يمتنع مطلقاً، ولو قذف بالزبد وغلي بعد الطبخ.

وقال مالك والشافعي والجمهور: يمتنع -إذا صار مسكراً- شرب قليله وكثيره، سواء غلي، أم لم يغل، لأنه يجوز أن يبلغ حد الإسكار بأن يغلي ثم يسكن غليانه بعد ذلك.

وقال أبو الليث السمرقندي: شارب المطبوخ -إذا كان يسكر- أعظم ذنباً من شارب الخمر، لأن شارب الخمر يشربها وهو يعلم أنه عاص بشربها، وشارب المطبوخ يشرب المسكر ويراه حلالاً، أي فهو يستحل ما حرم الله.

وقد روي عن ابن عباس: إن النار لا تحل شيئاً ولا تحرمه.

وقال ابن حزم: إنه شاهد من العصير ما لو طبخ إلى الثلث ينعقد ولا يصير مسكراً أصلاً، ومنه ما لو طبخ إلى النصف لا يصير مسكراً كذلك، ومنه ما لو طبخ إلى الربع كذلك، ثم قال: غير أنه شاهد منه ما لا ينفك عن السكر ولو لم يبق منه إلا الربع.
اهـ

والتحقيق في هذه المسألة أن نطبق عليها قاعدة ما أسكر كثيره حرم قليله وكثيره مادام هذا العصير تختلف أحواله من حيث نوعه، ومن حيث درجة ونوع طبخه.
والله أعلم.

الثالثة: السكر الفعلي من غير عصير العنب حرام باتفاق، لكن حرمته كحرمة السكر من عصير العنب عند الجمهور، فيحد شاربه، وحرمته ليست كحرمة السكر من عصير العنب، فلا يحد شاربه عند الحنفية والكوفيين.

الرابعة: عصير العنب، ومنقوع البسر والتمر والزبيب، إذا لم يغل، ولم يشتد، ولم يقذف بالزبد، ولم يسكر كثيره حلال باتفاق.

ولكن إلى أي مدة يبقى نبيذاً حلالاً؟ وإلى أي طعم؟ وإلى أية درجة في تغير طعمه يبقى حلالاً؟ سيأتي في الباب رقم 557.

وأما العقوبة الأخروية لشارب الخمر فستأتي في الباب رقم 556.

وفي أي إناء ينبذ؟ وفي أي إناء لا ينبذ؟ سيأتي في الباب رقم 555.

وهل خلط الأصناف المتعددة مما ينبذ حلال؟ سيأتي في الباب رقم 554.

وهل الخمر إذا تخللت، وتحولت إلى خل لا يسكر، يحل شربها؟ أو لا؟ وهل يحل التداوي بالخمر؟ أو لا؟ سيأتي في الباب رقم 551.
أما الباب رقم 552 فقد دخل معنا في هذا الباب.

الخامسة: وهي صلب الموضوع ولبه، وموطن الصراع فيه، فهي حكم شرب القليل من غير عصير العنب، مما يسكر كثيره، إذا لم يسكر هذا القليل.

فالكوفيون لم يحرموا سوى ماء العنب، أما غيره فلم يحرموا منه إلا القدر المسكر خاصة، إذا أسكر بالفعل فعن أبي حنيفة: الخمر -وهي عصير العنب خاصة- حرام، قليلها وكثيرها، والسكر من غيرها حرام.
وعن أبي يوسف: لا بأس بالنقيع من كل شيء، وإن غلي، إلا الزبيب والتمر، وكذا حكاه محمد عن أبي حنيفة.

وعن محمد: ما أسكر كثيره أي من غير عصير العنب -فأحب أن لا أشربه، ولا أحرمه.

وقال الثوري: أكره نقيع التمر، ونقيع الزبيب إذا غلي، ونقيع العسل لا بأس به.

أما الشافعية والمالكية والحنابلة والجماهير فقالوا: ما أسكر كثيره من أي شيء حرم قليله، وإن لم يسكر.

ووجهة نظر الحنفية والكوفيين تتمثل فيما يأتي:

1- حديث ابن عباس، رفعه حرمت الخمر، قليلها وكثيرها، والسكر من كل شراب قال الحافظ ابن حجر: وهو حديث أخرجه النسائي، ورجاله ثقات، إلا أنه اختلف في وصله وانقطاعه، وفي رفعه ووقفه، وعلى تقدير صحته فقد رجح الإمام أحمد وغيره أن الرواية فيه والمسكر بضم الميم وسكون السين، لا السكر بضم السين وسكون الكاف، أو أن الرواية فيه بفتح السين والكاف، وهو المسكر، ومنه قوله تعالى: { { ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً } } [النحل: 67] قال: وعلى تقدير ثبوتها فهو حديث فرد، ولفظه محتمل، فلا يعارض عموم الأحاديث الكثيرة الصحيحة.
اهـ وسنورد هذه الأحاديث عند ذكر أدلة الجمهور.

2- أخرج البيهقي عن سعيد بن ذي لعوة، أنه شرب من سطيحة لعمر -السطيحة مزادة من جلد- فسكر، فجلده عمر، فقال: إنما شربت من سطيحتك؟ قال: أضربك على السكر ورد هذا بما قاله البخاري وغيره، عن سعيد هذا، بأنه لا يعرف.

3- أخرج النسائي عن أبي مسعود قال: عطس النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يطوف، فأتى بنبيذ من السقاية، فقطب، فقيل: أهو حرام؟ قال: لا.
علي بذنوب من ماء زمزم، فصب عليه، وشرب.

ورد عليهم بضعف هذا الحديث، ذكر ذلك الحافظ ابن حجر، وعلى فرض صحته قال الأشرم: احتج به الكوفيون لمذهبهم، ولا حجة لهم فيه، لأنهم متفقون على أن النبيذ إذا اشتد وغلي أو زبد لا يحل شربه، فإن زعموا أن الذي شربه النبي صلى الله عليه وسلم كان من هذا القبيل، فقد نسبوا إليه أنه شرب المسكر، ومعاذ الله من ذلك، وإن زعموا أنه قطب من حموضته لم يكن لهم فيه حجة، لأن النقيع ما لم يشتد ويغلي فكثيره وقليله حلال بالاتفاق.

وقال أبو المظفر السمعاني -وكان حنفياً فتحول شافعياً- من ظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شرب مسكراً، فقد دخل في أمر عظيم، وباء بإثم كبير، وإنما الذي شربه كان حلواً، ولم يكن مسكراً.

4- أخرج البيهقي عن همام بن الحارث أن عمر كان في سفر، فأتي بنبيذ، فشرب منه، فقطب، ثم قال: إن نبيذ الطائف له عرام -بضم العين وتخفيف الراء، أي شدة -ثم دعا بماء، فصبه عليه، ثم شرب قال الحافظ ابن حجر: وسنده قوي، وهو أصح شيء ورد في ذلك، لكنه ليس نصاً في أنه بلغ حد الإسكار، فلو كان بلغ حد الإسكار، لم يكن صب الماء عليه مزيلاً للتحريم، وقد اعترف الطحاوي -الحنفي- بذلك، فقال: لو كان بلغ التحريم لكان لا يحل، ولو ذهبت شدته بصب الماء عليه، فثبت أنه قبل أن يصب الماء عليه كان غير حرام، فدل على أن تقطيبه لأمر غير الإسكار.

قال البيهقي: حمل هذه الأشربة على أنهم خشوا أن تتغير فتشتد، فجوزوا صب الماء فيها، ليمنع الاشتداد أولى من حملها على أنها كانت قد بلغت حد الإسكار، فكان صب الماء عليها لذلك، لأن مزجها بالماء لا يمنع إسكارها، إذا كانت قد بلغت حد الإسكار.

وقال نافع: والله ما قطب عمر لأجل الإسكار، حين ذاقه، ولكنه كان تخلل -أي حمض- وعن عتبة بن فرقد: كان النبيذ الذي شربه عمر قد تخلل، وقيل: كسره بالماء لشدة حلاوته، قال الحافظ ابن حجر: ويمكن الجمع بحمل الأمرين على حالتين.

5- أخرج ابن أبي شيبة من طريق أبي وائل، قال: كنا ندخل على ابن مسعود، فيسقينا نبيذاً شديداً ومن طريق علقمة أكلت مع ابن مسعود، فأتانا بنبيذ شديد، نبذته سيرين، فشربوا منه قال الحافظ ابن حجر: فالجواب عنه من ثلاثة أوجه: أحدها: لو حمل على ظاهره لم يكن معارضاً للأحاديث الثابتة في تحريم كل مسكر -أي لأنه لا نص فيه على أنه قد بلغ حد الإسكار- ثانيها أنه ثبت عن ابن مسعود تحريم المسكر، قليله وكثيره، فإذا اختلف النقل عنه كان قوله الموافق لقول إخوانه من الصحابة، مع موافقة الحديث المرفوع أولى.
ثالثها: يحتمل أن يكون المراد بالشدة شدة الحلاوة، أو شدة الحموضة، فلا يكون فيه حجة أصلاً.

6- قال الطحاوي: اختلف الصحابة في ذلك [يشير إلى الروايات التي عرضناها، والروايات التي سنعرضها أدلة للجمهور، وحديث عمر الخمر من خمسة أشياء، وحديث أبي هريرة الخمر من هاتين الشجرتين، ووجدنا اتفاق الأمة على أن عصير العنب، إذا اشتد، وغلي، وقذف بالزبد، فهو حرام، وأن مستحله كافر، فدل ذلك على أنهم لم يعملوا بحديث أبي هريرة، إذ لو عملوا به لكفروا مستحل نبيذ التمر [حديث أبي هريرة الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنبة وسيأتي في الباب الثالث] فثبت أنه لم يدخل في الخمر غير المتخذ من عصير العنب.
اهـ

ورد هذا الاستدلال بأنه لا يلزم من أنهم لم يكفروا مستحل نبيذ التمر أن يمنعوا تسميته خمراً، فقد يشترك الشيئان في التسمية، ويفترقان في بعض الأوصاف، وفي الحكم والغلظ، كالزنا مثلاًً، فإنه يصدق على من وطئ أجنبية، وعلى من وطئ امرأة جاره، والثاني أغلظ من الأول، وعلى من وطئ محرماً له، وهو أغلظ، واسم الزنا مع ذلك شامل للثلاثة، فلا يلزم من تكفير مستحل خمر العنب وعدم تكفير مستحل خمر التمر أن لا يشتركا في حرمة شرب القليل من كل منهما.

7- حكى أبو جعفر النحاس عن قوم أن الحرام ما أجمعوا عليه، وما اختلفوا فيه ليس بحرام.
قال الحافظ ابن حجر: وهذا عظيم من القول، يلزم منه القول بحل كل شيء اختلف في تحريمه، ولو كان مستند الخلاف واهياً.

أما أدلة الجمهور فكثير من النصوص، ثم القياس الجلي، فمن النصوص:

1- ما رواه البخاري عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: خطب عمر على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنه قد نزل تحريم الخمر، وهي من خمسة أشياء: العنب والتمر والحنطة والشعير والعسل، والخمر ما خامر العقل وفي رواية له الخمر تصنع من خمسة: من الزبيب والتمر والحنطة والشعير والعسل.

فهذا الحديث له حكم الرفع، لأنه خبر صحابي، شهد التنزيل، أخبر عن سبب نزول آية تحريم الخمر، وقد خطب به عمر على المنبر، وهو ممن جعل الله الحق على لسانه وقلبه، وسمعه الصحابة وغيرهم، فلم ينقل عن أحد منهم إنكار ذلك، وإذا ثبت أن كل ذلك يسمى خمراً لزم تحريم قليله وكثيره.

2- جاء هذا الذي قاله عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم صريحاً، فعند أصحاب السنن الأربعة أن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الخمر من العصير والزبيب والتمر والحنطة والشعير والذرة، وإني أنهاكم عن كل مسكر وصححه ابن حبان.

3- أخرج أبو داود عن النعمان بن بشير من وجه آخر بلفظ إن من العنب خمراً، وإن من التمر خمراً، وإن من العسل خمراً، وإن من البر خمراً، وإن من الشعير خمراً.

4- أخرج أحمد من حديث أنس، بسند صحيح عنه، قال: الخمر من العنب والتمر والعسل.

5- أخرج أبو يعلى عن أنس، بسند صحيح عنه، قال: الخمر من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير والذرة.

6- روى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الخمر من هاتين الشجرتين: الكرمة والنخلة ففيه أن الخمر شرعاً لا تختص بالمتخذ من العنب، وليس المراد منه الحصر في هاتين الشجرتين، فقد ثبت أن الخمر تتخذ من غيرهما في حديث عمر وغيره.

7- في الباب السادس الآتي، روى مسلم عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البتع، فقال: كل شراب أسكر فهو حرام وفي رواية كل شراب مسكر فهو حرام.

8- وعن أبي موسى قال: قلت: يا رسول الله، أفتنا في شرابين، كنا نصنعهما باليمن، البتع وهو من العسل، ينبذ حتى يشتد، والمزر وهو من الذرة والشعير، ينبذ حتى يشتد؟ فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنهي عن كل مسكر أسكر عن الصلاة وفي رواية كل مسكر حرام.

9- وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام وستأتي هذه الأحاديث في باب بيان أن كل مسكر خمر.

10- وفي البخاري عن ابن عمر قال: نزل تحريم الخمر وإن بالمدينة يومئذ لخمسة أشربة، ما فيها شراب العنب قال الحافظ ابن حجر: وهو محمول على ما كان يصنع بها، لا ما كان يجلب إليها.

11- وفي البخاري عن أنس قال: حرمت علينا الخمر حين حرمت، وعامة خمرنا البسر والتمر.

12- وعند أبي داود عن أبي موسى قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شراب من العسل؟ فقال: ذاك البتع.
قلت: ومن الشعير والذرة؟ قال: ذاك المزر، ثم قال: أخبر قومك أن كل مسكر حرام.

13- عند أبي داود والنسائي وصححه ابن حبان من حديث جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أسكر كثيره فقليله حرام.

14- وعن أبي داود عن عائشة مرفوعاً كل مسكر حرام، وما أسكر منه الفرق -إناء يتوضأ منه- فملء الكف منه حرام.

15- وعند ابن حبان والطحاوي أنهاكم عن قليل ما أسكر كثيره.

وعن ابن أبي شيبة، عن طلق بن علي، بلفظ يا أيها السائل عن المسكر.
لا تشربه، ولا تسقه أحداً من المسلمين.

وفي الباب أيضاً عن علي، عند الدارقطني، وعن خوات بن جبير عند الدارقطني والحاكم والطبراني، وعن زيد بن ثابت عند الطبراني.
ولئن كان في بعض أسانيدها مقال، لكنها تزيد الأحاديث التي قبلها قوة وشهرة.

قال أبو المظفر السمعاني بعد أن ساق كثيراً من هذه الأحاديث: والأخبار في ذلك كثيرة، ولا مساغ لأحد في العدول عنها، والقول بخلافها، فإنها حجج قواطع، قال: وقد زل الكوفيون في هذا الباب، وأوردوا أخباراً معلولة، لا تعارض هذه الأخبار بحال.

وقال الإمام أحمد: إن أحاديث تحريم كل مسكر جاءت عن عشرين صحابياً، وأورد كثيراً منها في كتاب الأشربة المفرد، ذكر منها حديث علي بلفظ اجتنبوا ما أسكر وحديث ابن مسعود عند ابن ماجه بلفظ حديث عمر، وبلفظ حديث علي، وحديث أبي سعيد بلفظ عمر، وحديث ديلم الحميري عند أبي داود، وفيه قال: هل يسكر؟ قال: نعم.
قال: فاجتنبوه وحديث ميمونة أخرجه أحمد بلفظ وكل شراب أسكر فهو حرام وحديث ابن عباس أخرجه أبو داود بلفظ عمر، وحديث معاوية أخرجه ابن ماجه بلفظ عمر، وحديث وائل بن حجر، أخرجه ابن أبي عاصم، وحديث قرة بن إياس المزني، أخرجه البزار، بلفظ عمر، وحديث عبد الله بن مغفل أخرجه أحمد، بلفظ اجتنبوا المسكر وعن زيد بن الخطاب، أخرجه الطبراني، بلفظ اجتنبوا كل مسكر وعن الرسيم، أخرجه أحمد، بلفظ اشربوا فيما شئتم، ولا تشربوا مسكراً.

قال الحافظ ابن حجر: فإذا انضمت هذه الأحاديث إلى أحاديث ابن عمر وعائشة وأبي موسى زادت على الثلاثين صحابياً، وأكثر الأحاديث عنهم جياد، ومضمونها أن المسكر لا يحل تناوله، بل يجب اجتنابه، وقد رد أنس كل احتمال، فيما رواه أحمد عن المختار بن فلفل، قال: سألت أنساً، فقال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزفت، وقال: كل مسكر حرام، قال: فقلت صدقت.
المسكر حرام.
فالشربة والشربتان على الطعام؟ فقال: ما أسكر كثيره، فقليله حرام قال الحافظ ابن حجر: وهذا سند صحيح على شرط مسلم، والصحابي أعرف بالمراد وممن تأخر بعده.
اهـ

وأخيراً قال الشافعي: قال لي بعض الناس: الخمر حرام، والسكر من كل شراب حرام، ولا يحرم المسكر منه حتى يسكر، ولا يحد شاربها، فقلت: كيف خالفت ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ ثم عن عمر؟ ثم عن علي؟ ولم يقل أحد من الصحابة خلافه؟.

ويحاول الحنفية أن يوجهوا قوله كل مسكر خمر على معنى كل ما أسكر بالفعل كان كالخمر، فالتحريم خاص بوقوع الإسكار، لا بصلاحيته للإسكار، قالوا: فإن القاتل لا يسمى قاتلاً إلا إذا وقع منه الفعل، ولا يسمى قاتلاً لمجرد صلاحيته واستعداده للقتل، وهم في ذلك محجوجون بعصير العنب.

وأقوى رد عليهم أن الصحابة في أحاديث أنس في بابنا، وفي غيرها، لما نزل تحريم الخمر فهموا من الأمر باجتناب الخمر تحريم كل مسكر، ولم يفرقوا بين ما يتخذ من العنب، وبين ما يتخذ من غيره، بل سووا بينهما، وحرموا كل ما يسكر نوعه، ولم يتوقفوا، ولم يستفصلوا، ولم يشكل عليهم شيء من ذلك، وقول الحنفية: إنهم كانوا قد سكروا بالفعل، فحرم لسكرهم، هذا القول لا ينفعهم، لأنه لو كان الأمر كذلك ما أراقوه، بل احتفظوا به ليشربوا منه قليلاً قليلاً، لكنهم لما فهموا التحريم نصاً لقليله وكثيره، أسكر أم لم يسكر بادروا إلى إتلاف ما كان من غير عصير العنب، وهم أهل اللسان، وبلغتهم نزل القرآن، فلو كان عندهم أدنى تردد لتوقفوا عن الإراقة، حتى يستكشفوا، ويستفصلوا، ويتحققوا التحريم، لما كان مقرراً عندهم من النهي عن إضاعة المال، وعلم الرسول صلى الله عليه وسلم بإراقة خمورهم التي هي من غير عصير العنب، وجريانها في سكك المدينة فأقر ذلك، وأكد هذا المعنى بما ذكرنا من الأحاديث.

ومن أقوى ما يرد على الحنفية القياس، وهم أهل القياس، والمكثرون من اعتماده، والقياس هنا من أرفع أنواع القياس -كما يقول القرطبي- لمساواة الفرع فيه للأصل في جميع أوصافه، هذا على التسليم جدلاً بأن المسكر من غير عصير العنب ليس خمراً حقيقة، ولا يدخل في آية التحريم نصاً وأصلاً، والقياس إلحاق فرع بأصل في حكم لعلة مشتركة بينهما.

قال أبو المظفر السمعاني: قياس النبيذ على الخمر بعلة الإسكار والاضطراب من أجل الأقيسة وأوضحها، والمفاسد التي توجد في الخمر توجد في النبيذ، ومن ذلك أن علة الإسكار في الخمر لكون قليله يدعو إلى كثيره موجودة في النبيذ، لأن السكر مطلوب على العموم، والنبيذ عندهم عند عدم الخمر يقوم مقام الخمر، لأن حصول الفرح والطرب موجود في كل منهما، وإن كان في النبيذ غلظ وكدرة، وفي الخمر رقة وصفاء، لكن الطبع يحتمل ذلك في النبيذ، لحصول السكر، كما تحتمل المرارة في الخمر، لطلب السكر، قال: وعلى الجملة فالنصوص المصرحة بتحريم كل مسكر، قل أو كثر، مغنية عن القياس.
اهـ وعلى الجملة فالنصوص أن علة التحريم الإسكار، فاقتضى ذلك أن كل شراب وجد فيه الإسكار حرم تناوله قليله وكثيره، وقال الحافظ ابن حجر: اتفق الإجماع على أن الخمر المتخذ من العنب يحرم قليله وكثيره، وعلى أن العلة في تحريم قليله كونه يدعو إلى تناول كثيره، لكن الحنفية فرقوا بينهما بدعوى المغايرة في الاسم، مع اتحاد العلة فيهما.
اهـ

أما بعد، فإن العمل بمذهب الجمهور فيه حيطة، وبعد عن الشبهات، إن لم يكن بعداً عن المحرمات، فالعمل به إن لم ينفع لا يضر، فكثيراً ما يجتنب المسلم مباحات، دون أن يلحقه ضرر، أما العمل بمذهب الحنفية فأقل ما فيه التعرض لاحتمال الخطر، واحتمال الخطأ، والوقوع فيما حرم الله، فهو إن لم يضر لا ينفع.
والله أعلم.

ويؤخذ من أحاديث الباب فوق ما تقدم:

1- من الرواية الأولى، ومن استعانة علي على وليمة فاطمة مشروعية اتخاذ الوليمة للعرس، سواء في ذلك من له مال كثير، ومن لا مال له.

2- ومن استعانته بصائغ من بني قينقاع جواز الاستعانة باليهودي في الأعمال والاكتساب.

3- وفي جمعه الإذخر لبيعه جواز الاحتشاش للتكسب، وأنه لا ينقص المروءة.

4- وفيه جواز بيع الوقود للصواغين اليهود ومعاملتهم.

5- ومن حال الشاربين مع حمزة، وعدم تعنيف النبي صلى الله عليه وسلم لهم أن أصل الشرب والسكر كان مباحاً لكن هل كان مباحاً بالأصل؟ أو بالشرع ثم نسخ؟ قولان للعلماء، والراجح الأول، قال النووي: وأما ما قد يقوله بعض من لا تحصيل له: أن السكر لم يزل محرماً، فباطل، لا أصل له، ولا يعرف أصلاً.

6- واستدل بعدم تعنيف حمزة على ما فعله، وما قاله للنبي صلى الله عليه وسلم على أن حال عدم التكليف لا إثم فيها، فمن شرب دواء لحاجة فزال به عقله، أو شرب شيئاً يظنه خلا، فكان خمراً، أو أكره على شرب الخمر، فشربها، وسكر، فهو في حال السكر غير مكلف، ولا إثم عليه فيما يقع منه في تلك الحالة بلا خلاف.
قاله النووي.

7- فهم بعضهم من عدم ذكر إلزام حمزة بتعويض ما أتلفه أن ذلك لم يقع، ولكن عدم الذكر لا يدل على عدم الوقوع، فقد جاء في كتاب عمر بن شيبة أن النبي صلى الله عليه وسلم غرم حمزة الناقتين.
قال النووي: وقد أجمع العلماء أن ما أتلفه السكران من الأموال يلزم ضمانه، كالمجنون، فإن الضمان لا يشترط فيه التكليف، ولهذا أوجب الله تعالى في كتابه، في قتل الخطأ الدية والكفارة، فغرامة حمزة لما أتلفه تجب في ماله، فلعل علياً رضي الله عنه أبرأه من ذلك، بعد معرفته بقيمة ما أتلفه، أو أنه أداه إليه حمزة بعد ذلك، أو أن النبي صلى الله عليه وسلم أداه عنه، لحرمته عنده، وكمال حقه عليه، ومحبته إياه وقرابته منه.

8- أثار قطع السنامين وأكلهما، وهما مقطوعتان من حي سؤالاً عن صحة أكلهما، فقال النووي: وأما هذا السنام المقطوع، فإن لم يكن تقدم نحر الناقتين فهو حرام بإجماع المسلمين، لأن ما أبين من حي فهو ميت، ويحتمل أنه ذكاهما، ويدل عليه الشعر الذي قدمناه، فإن كان ذكاهما فلحمهما حلال باتفاق العلماء، إلا ما حكي عن عكرمة وإسحق وداود أنه لا يحل ما ذبحه سارق أو غاصب أو متعد، والصواب الذي عليه الجمهور حله.
وإن لم يكن ذكاهما، وثبت أنه أكل منهما فهو آكل في حالة السكر، ولا إثم عليه.
اهـ أقول: ويحتمل أن الحادثة كانت قبل تشريع ما قطع من حي فهو ميت، فلا مؤاخذة على أكله دون ذكاة.

9- ومن رجوع النبي صلى الله عليه وسلم بظهره ( القهقرى) حرص المرء وحذره، وعدم التعرض للأمر المكروه المتوقع حصوله.

10- وفي ارتدائه صلى الله عليه وسلم رداءه جواز لبس الرداء.

11- وفيه أن الكبير إذا خرج من منزله تجمل بثيابه، ولا يقتصر على ما يكون عليه في خلوته، في بيته، وهذا من المروءات والآداب المحبوبة.

12- وفي أحاديث أنس، وإراقتهم الخمر بسماع المنادي العمل بخبر الواحد، وأن هذا كان معروفاً عندهم.

13- قال النووي عن كسر إناء الخمر: هذا الكسر محمول على أنهم ظنوا أنه يجب كسرها وإتلافها، كما يجب إتلاف الخمر، وإن لم يكن في نفس الأمر هذا واجباً، فلما ظنوه كسروها، ولهذا لم ينكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، وعذرهم لعدم معرفتهم الحكم، وهو غسلها من غير كسر، وهكذا الحكم اليوم في أواني الخمر وجميع ظروفه، سواء الفخار والزجاج والنحاس والحديد والخشب والجلود، فكلها تطهر بالغسل، ولا يجوز كسرها.
اهـ

أقول: كان أنس آنذاك دون البلوغ، لم يكن مكلفاً، حتى يظن وجوب الكسر أو عدم وجوبه، والظاهر أن عامتهم لم يكسر آنية الخمر، بل أراقوا الخمر منها حتى جرى في سكك المدينة، وكان أمر أبي طلحة لأنس أن يريقها من الإناء، لا أن يكسر الإناء، وإنما كسره أنس حقداً عليها، وتشفياً فيها، وإظهاراً للشماتة فيها، وتعبيراً عن ذهاب دون إياب، ورحيل دون عودة.
والله أعلم.

14- قال الحافظ ابن حجر: واستدل بمطلق قوله كل مسكر حرام على تحريم ما يسكر، ولو لم يكن شراباً، فيدخل في ذلك الحشيشة وغيرها، وقد جزم النووي وغيره بأنها مسكرة، وجزم آخرون بأنها مخدرة، وهو مكابرة، لأنها تحدث -بالمشاهدة- ما يحدث الخمر من الطرب والنشوة والمداومة عليها والانهماك فيها، وعلى تقدير تسليم أنها ليست بمسكرة فقد ثبت في أبي داود النهي عن كل مسكر ومفتر.

والله أعلم