هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير، 
3891 وحَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ ، عَنْ عَاصِمٍ ، عَنِ الشَّعْبِيِّ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : سَقَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ زَمْزَمَ فَشَرِبَ وَهُوَ قَائِمٌ
هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير، 
3891 وحدثنا أبو كامل الجحدري ، حدثنا أبو عوانة ، عن عاصم ، عن الشعبي ، عن ابن عباس ، قال : سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من زمزم فشرب وهو قائم
هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير، 

: هذه القراءةُ حاسوبية، وما زالت قيدُ الضبطِ والتطوير، 

Ibn Abbas reported:

I served. (water of) Zamzam to Allah's Messenger (ﷺ), and he drank it while standing.

شرح الحديث من فـــتح المــــنعم

: : هذه القراءةُ حاسوبية، وما زالت قيدُ الضبطِ والتطوير،   

117

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من زمزم، فشرب وهو قائم.



المعنى العام

جاء الإسلام لخير الإنسان في دنياه وأخراه، فهو منهج حياة، كما هو منهج عبادة الله، ويخطئ من يظن أن الإسلام عبادات فقط، من صلاة وصيام وزكاة وحج، فتلك العبادات لا تمثل من تعاليم الإسلام إلا الجزء القليل، بل هي في أهدافها قد تكون وسائل لمنهج الحياة، فمن لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له { { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } } [العنكبوت: 54] من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه وليس الصيام من الأكل والشرب، إنما الصيام من اللغو والرفث.

يخطئ من يظن أن أحكام المعاملات في الإسلام وليدة بيئة، يحق مخالفتها في بيئة أخرى أو زمن آخر، فالإسلام آخر الأديان، صالح لكل زمان ومكان، على مر العصور، حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

ويخطئ من يظن أن أحاديث الأكل والشرب واللباس والنوم، مما هو من الأعمال العادية البشرية لا تخضع للثواب والعقاب، وليست من التشريع في شيء.

وقد قمت بالرد على هذه الشبهات في بحث بعنوان: السنة كلها تشريع، حققت فيه أن هذه الأمور منها الواجب الذي يثاب على فعله ويعاقب على تركه، والمحرم الذي يثاب على تركه ويعاقب على فعله، من ذلك أكل الميتة وشرب الخمر وأكل الشره، ولبس الرجال للحرير والذهب، وستر العورة ونوم الصبي والصبية في لحاف واحد، ونحو ذلك.
كيف لا تكون الأحاديث في ذلك تشريعاً؟.

وحققت فيه أن هذه الأمور منها المندوب الذي يثاب على فعله، ولا يعاقب على تركه والمكروه الذي يثاب على تركه، ولا يعاقب على فعله.

بل حققت أن المباح في الأكل والشرب واللباس والنوم ونحوها مما هو عادة في الأصل يثاب عليه، لأن التزامه بعد عن الحرام، والحرام يثاب على تركه.

وهذه الأحاديث التي سنتعرض لها في هذا الباب وما بعده، فيها صلاح الدنيا والدين، صلاح الدنيا لأنها إرشادات تحفظ على المسلم صحته وأمنه، ليحيا حياة طيبة، وصلاح الدين، لأن التزامها، والعمل بها، اتباع لأوامر الدين، وهي بهذه الصفة عبادة وطاعة لله ورسوله.

ومن المعلوم أن المصدر الثاني للتشريع بعد القرآن، أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته، ومن المعلوم أن جبريل -عليه السلام- كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي بين الحين والحين، ومن المستحيل عقلاً وديناً أن ينزل الوحي الأمين، فيسكت على حكم لا يرضاه الله، أخبر به صلى الله عليه وسلم، وطلبه من أمته، والنتيجة الحتمية أن كل أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته هي تشريع من الله، بعد أن ينزل جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم، فيقر ما قرره صلى الله عليه وسلم.

إن التعاليم التي سنعرض لها في هذا الباب منها ما هو أفضل وأولى، ومنها المندوب والمستحب، ومنها الواجب، وكلها يثاب على التزامها.

فتقديم الكبير عند الطعام والشراب اعتراف بفضله ومقامه، وتأدب من أصحابه معه، وانتفاع بخير ما عنده وما يتقدم به من سلوك، ونظام اجتماعي رفيع المستوى، لا يختلف عليه اثنان، يعبر عنه حذيفة رضي الله عنه بقوله: كنا إذا حضرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم طعاماً لم نضع أيدينا، حتى يبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيضع يده.

أدب إسلامي، ومن قبل كان أدباً عربياً، إذ يقول الشاعر:

وإن مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن
بأعجلهم إذ أجشع القوم أعجل

وذكر الله تعالى عند بداية الطعام، والاستعاذة من الشيطان الرجيم، وتسمية الله الرحمن الرحيم، استصحاب للعبادة في أشد أوقات شهوة البطن، مما يدل على أن المسلم لا يشغله شيء، عن عبادة الله، ويحصل له البركة في طعامه وشرابه، فيطيب به بدنه، وتهنأ به نفسه، وينطرد عنه الشيطان بوساوسه وكيده.

والأكل باليمين أدب إسلامي جليل، وصيانة الأكل والشرب عن الأقذار واجب إنساني صحي، واليد آلة الأكل والشرب، وفي تخصيص إحدى اليدين لمحاسن الأعمال وفضائلها وشريفها ونظيفها تكريم لما تتناوله هذه اليد، وحماية له من التلوث، وحماية للنفس من التقزز، أما اليد التي تخصص للاستنجاء، وتتعرض للقاذورات -مهما غسلت- فيصاحبها -ولو نفسياً- ما لابسها ولابسته من القاذورات، ولك أن تتخيل كوباً تستعمله في الأوساخ، وكوباً آخر من نفس النوع تستعمله في العصائر ولذيذ المشروبات، من أيهما تحب أن تشرب؟.

من هنا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالأكل باليمين والشرب باليمين والإعطاء باليمين، والأخذ باليمين، والمصافحة باليمين، وتناول كل عمل شريف باليمين، والشمال في نقيض ذلك، وقد جعل الله أصحاب السعادة أصحاب اليمين، وأصحاب الشقاء أصحاب الشمال، واليمين في اللغة خير، والشمال شؤم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب التيامن في كل شيء في سواكه ونعله ولباسه وشأنه كله.

والأكل مما يلي الآكل، في إناء يشترك فيه مع آخرين أدب اجتماعي، يحفظ لصاحبه أمامهم القناعة والوقار والخلق الجميل، ويحميه من صورة الشره والطمع والأنانية وفرط الحرص، ويحميهم من التقزز والإيذاء.

والشرب قاعداً وكذا الأكل قاعداً خير وأولى منه واقفاً، وإن كان شرب الواقف وأكله خيراً منه ماشياًً أو مضجعاً.

والشرب من فم الإناء الكبير مذموم شرعاً، منهي عنه، لما يخلف توارد الأفواه عليه من رائحة كريهة، واشمئزاز الشاربين.

والتنفس في الإناء كذلك مذموم، وإذا اجتمع قوم على طعام أو شراب قدم الأيمن فالأيمن، آداب سامية، وأحاسيس اجتماعية مرهفة، سبقت عصور التقدم والمدنية، آية على أن الإسلام دين الله الخالد، المناسب لكل زمان ومكان إلى قيام الساعة.

المباحث العربية

( لم نضع أيدينا) في الطعام، وفي الكلام مقابلة الجمع بالجمع، المقتضية للقسمة آحاداً، كأنه قال: لم يضع أحد منا يده في الطعام.

( حتى يبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيضع يده) الفاء تفسيرية، وما بعدها تفسير للبدء، والمعنى حتى يبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع الأيدي في الطعام، فيضع يده فيه، ومن باب أولى لم نأكل ولم نبدأ طعمه حتى يبدأ.

( وإنا حضرنا معه مرة طعاماً) يقصد حذيفة بالجمع في ضمير المتكلم نفسه ومن حضر معه من الصحابة، وليس الجمع لتعظيم نفسه.

( فجاءت جارية كأنها تدفع) بضم التاء وسكون الدال وفتح الفاء، مبني للمجهول، والمراد من المجيء التحرك والإنشاء، وليس الانتقال من مكان إلى مكان الطعام، والمراد من الجارية هنا الصبية الحرة، وفي ملحق الرواية كأنما تطرد بضم التاء، أي كأنما يطردها ويدفعها من الخلف إلى الأمام قوة خارجية، والمعنى ذهبت جارية مندفعة مسرعة نحو الطعام، فمدت يدها نحوه بسرعة.

( فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدها) أي فأمسك بيدها، ومنعها من الوصول إلى الطعام، وكفها عنه، يقال: أخذ كذا حصله وحازه، وأخذ بكذا، أي أمسك به، ومنه قوله تعالى { { وأخذ برأس أخيه يجره إليه } } [الأعراف: 150] .

( ثم جاء أعرابي كأنما يدفع، فأخذ بيده) في الكلام طي، معلوم مما قبله، أي جاء أعرابي كأنما يدفعه دافع خارجي إلى الأمام، فذهب ليضع يده في الطعام، فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، وذكر الصبية والأعرابي بهذا الوصف اعتذار عنهما، وإشارة إلى سر مخالفتهما هذا الأدب، وفي ملحق الرواية تقدم الأعرابي على الجارية، قال النووي: ووجه الجمع بينهما أن المراد بقوله في الثانية قدم مجيء الأعرابي أنه قدمه في اللفظ، بغير قصد ترتيب، فذكره بالواو، فقال: جاء أعرابي وجاءت جارية، والواو لا تقتضي ترتيباً، وأما الرواية الأولى فصريحة في الترتيب، وتقديم الجارية، لأنه قال: ثم جاء أعرابي وثم للترتيب، فيتعين حمل الثانية على الأولى، ويبعد حمله على واقعتين.
اهـ

أقول: نعم يبعد حمله على واقعتين، لكن التوجيه الذي ذكره النووي -رحمه الله- لا يستقيم مع رواية أبي داود، ولفظها عن حذيفة وإنا حضرنا معه طعاماً، فجاء أعرابي، كأنما يدفع، فذهب ليضع يده في الطعام، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، ثم جاءت جارية، كأنما تدفع، فذهبت لتضع يدها في الطعام، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدها... فاللفظ بحرف الترتيب ثم ومن المعلوم أن الترتيب قد يكون زمنياً، وقد يكون رتبياً، وقد يكون لفظياً، أي لمجرد الذكر واللفظ، ولا يقصد المتكلم ترتيباً زمنياً ولا رتبياً، ومنه قول الشاعر:

أنا من ساد، ثم ساد أبوه...

فسيادة الأب لم تكن مرتبة على سيادة الابن، لا زمناً، ولا رتبة، ويمكن حمل الروايتين هنا على هذا، ويكون هدف الراوي الإشعار بتسابق وتسرع المخالفين، حتى كأن هذا يسبق ذاك، وذاك يسبق هذا.
ولعل هذا هو السر في أن المخالف الثاني لم يستفد ولم يتعظ برد الأول ومنعه.

( إن الشيطان يستحل الطعام ألا يذكر اسم الله عليه) ألا بفتح الهمزة وتشديد اللام، وهي أن المصدرية، ولا النافية، أي يستحل الطعام غير المذكور اسم الله عليه، والمراد من يستحل يتمكن، يقال: حل المكان، وحل بالمكان يحل ويحل بكسر الحاء وضمها إذا نزل به، ومنه قوله تعالى: { { أو تحل قريبا من دارهم } } [الرعد: 31] والسين والتاء للصيرورة، أو للتكلف، فالمعنى إن الشيطان يصير متمكناً من الطعام الذي لم يذكر اسم الله عليه، وأكثر العلماء على أن المراد من الشيطان شيطان الجن، وأن المراد من تمكنه من الطعام تناوله وأكله، وقال بعضهم: تمكنه من الطعام تحسينه في نظر الآكلين، وغرس الشره فيهم، ورفع البركة منه، وهذا ما أميل إليه، لأن التخويف بأكله من الطعام لا يخيف، لقلة ما يأكل، ولأنه متمكن من ذلك الطعام منذ إعداده وغرفه.

( وأنه جاء بهذه الجارية ليستحل بها، فأخذت بيدها) أي أوحي إليها، ووسوس لها، ودفعها إلى أن تمد يدها إلى الطعام، دون تسمية الله، ليتمكن منه عن طريق افتتاحها له دون تسمية، ولعل الله أراد وشاء ألا يمكن الشيطان من نزع البركة من الطعام، إلا إذا افتتح دون تسمية الله.

وظاهر هذا أن أخذه صلى الله عليه وسلم بيدها كان لعدم تسميتها، لا لأن يدها سبقت يده، صلى الله عليه وسلم، كما هو المقصود من صدر الحديث، ويمكن أن يجاب بأنه صلى الله عليه وسلم بهذا نبه على أدبين، أدب أن لا يبدأ الصغير قبل الكبير، وذلك بإمساك يدها ومنعها من البدء والتقدم، وهذا واضح الارتباط بصدر الحديث، وزاد الأدب الثاني وهو التسمية على الطعام، ولا شك أنها حتى لو قالت بسم الله الرحمن الرحيم لا تكون تسميتها في بركة تسمية الكبير، فضلاً عن تسمية رسول الله صلى الله عليه وسلم.

( والذي نفسي بيده، إن يده في يدي مع يدها) أي إن يد الشيطان كانت في يدي حين أمسكت يدها، قال النووي: هكذا هو في معظم الأصول يده في يدي مع يدها وفي بعضها يده في يدي مع يدهما بالتثنية، وهي تعود إلى الجارية والأعرابي، ورواية الإفراد أيضاً مستقيمة، فإن إثبات يدها لا ينفي يد الأعرابي، وإذا صحت الرواية بالإفراد وجب قبولها، وتأويلها على ما ذكرناه.
اهـ

وهل المراد من هذا التعبير حقيقته؟ أو هو كناية عن التلازم والتعاون؟ كما يقول أحد المتعاونين على حل مشكلة فكرية: يدي في يدك؟ احتمالان.

( ثم ذكر اسم الله وأكل) أي بعد أن قال عن الجارية والأعرابي ما قال، بدأ صلى الله عليه وسلم يمد يده إلى الطعام وبدأ الأكل، فبدأنا بعده.

( إذا دخل الرجل بيته، فذكر الله عند دخوله وعند طعامه) ذكر الرجل ليس للاحتراز، فكذلك المرأة، وإضافة بيته للملك أو الاختصاص، والمراد من ذكر الله التسمية وفي الكلام طي، وفيه أيضاً مجاز المشارفة، والتقدير: إذا أشرف الرجل على دخول بيته، فسمى الله تعالى عند دخوله، وإذا أشرف على طعامه فسمى الله تعالى عند مد يده إليه.

( قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء) بفتح العين، طعام الليل، أي قال لأصحابه وأعوانه من الشياطين، وهذا القول حقيقة؟ أو كناية عن إعلان التمكن؟ احتمالان، والتفصيل في وإذا دخل فلم يذكر الله عند دخوله، قال الشيطان: أدركتم المبيت، وإذا لم يذكر الله عند طعامه، قال: أدركتم المبيت والعشاء يدل على أن ذكر الله عند الدخول يمنع الشيطان من الدخول، فيمنعه من المبيت في البيت من باب أولى، ويمنعه من الاشتراك في الطعام في داخل البيت من باب أولى، وعدم التسمية عند الدخول، مع عدم التسمية عند الطعام تشرك الشيطان صاحب البيت في المبيت والطعام، وعدم التسمية عند الدخول مع التسمية عند الطعام تمكن الشيطان من المبيت ولا تمكنه من الطعام، فإذا قيل: ما فائدة التسمية عند الطعام لمن سمى عند الدخول؟ قلنا: إنها لمنع الشياطين الموجودين في البيت قبل الدخول، وإذا قيل: ما فائدة التسمية عند الدخول مادام البيت قبله مشتملاً على شياطين؟ قلنا: إنه من قبيل تضييق دائرة الفساد والإفساد.
والله أعلم.

( لا تأكلوا بالشمال) أي باليد الشمال.

( فإن الشيطان يأكل بالشمال) في الرواية الرابعة إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه، وإذا شرب فليشرب بيمينه، فإن الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بشماله أي بشمال نفسه ففيه أن من فعل ذلك تشبه بالشيطان، وأبعد وتعسف من أعاد الضمير في شماله على الآكل، وفي الرواية الخامسة لا يأكلن أحد منكم بشماله، ولا يشربن بها، فإن الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بها.

وقد نقل الطيبي أن معنى قوله إن الشيطان يأكل بشماله أي يحمل أولياءه من الإنس على ذلك.
قال الحافظ ابن حجر: وفي هذا المعنى عدول عن الظاهر، والأولى عمل الخبر على ظاهره، وأن الشيطان يأكل حقيقة، لأن العقل لا يحيل ذلك، وقد ثبت الخبر به، فلا يحتاج إلى تأويله، وحكى القرطبي في ذلك الاحتمالين، ثم قال: والقدرة صالحة.

( أن رجلاً أكل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بشماله) قال النووي: هذا الرجل هو بسر، بضم الباء وسكون السين، ابن راعي العير، بفتح العين، الأشجعي، وهو صحابي مشهور.

( لا أستطيع) مفعوله محذوف، أي لا أستطيع الأكل باليمين.

( قال: لا استطعت) دعاء عليه بأن لا يستطيع الأكل باليمين حقيقة، حيث ادعى عدم الاستطاعة كذباً.

( ما منعه إلا الكبر) أي ما منعه من الأكل باليمين ابتداء إلا الكبر، ليس المانع عذراً شرعياً.

( فما رفعها إلى فيه) أي فأجيب الدعاء عليه، فلم يستطع بعد الدعاء عليه أن يرفعها إلى فمه بطعام أو شراب.

( عن عمر بن أبي سلمة) رضي الله عنه، ابن عبد الأسد بن هلال المخزومي، واسم أبي سلمة عبد الله، وأمه أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، لذا يوصف بأنه ربيب النبي صلى الله عليه وسلم.

( كنت في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم) بفتح الحاء وسكون الجيم، أي في تربيته، وتحت نظره، وأنه يربيه في حضنه تربية الولد، قال عياض: الحجر يطلق على الحضن، وعلى الثوب، فيجوز فيه الفتح والكسر، وإذا أريد به معنى الحضانة فالفتح لا غير، فإن أريد به المنع من التصرف فبالفتح في المصدر، وبالكسر في الاسم، لا غير.

( وكانت يدي تطيش في الصحفة) أي عند أكلي معه صلى الله عليه وسلم في يوم من الأيام، ومعنى تطيش تتحرك وتميل إلى نواحي القصعة، ولا تقتصر على موضع واحد، قال الطيبي: والأصل أطيش بيدي، فأسند الطيش إلى اليد مبالغة، وقال غيره: معنى تطيش تخف وتسرع، وفي الرواية الثامنة فجعلت آخذ من لحم حول الصحفة أي من جوانبها، وعند البخاري أكلت مع النبي صلى الله عليه وسلم طعاماً، فجعلت آكل من نواحي الصحفة.

والصحفة إناء يشبع الخمسة، وقيل: الصحفة كالقصعة، وجمعها صحاف، وعند الترمذي، عن عمر بن أبي سلمة، أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنده طعام، فقال: ادن يا بني....
وعند البخاري أتي النبي صلى الله عليه وسلم بطعام، وعنده ربيبه ويجمع بينهما أن مجيء الطعام وافق دخوله.

( فقال لي: يا غلام) يقال للصبي من حين يولد إلى أن يبلغ الحلم غلام، وقد ذكر ابن عبد البر أن عمر رضي الله عنه ولد في السنة الثانية من الهجرة، ولد بأرض الحبشة، قال الحافظ ابن حجر: والصواب أنه ولد قبل ذلك: فقد صح في حديث عبد الله بن الزبير أنه قال كنت أنا وعمر بن أبي سلمة مع النسوة يوم الخندق، وكان أكبر مني بسنتين، ومولد ابن الزبير في السنة الأولى على الصحيح، فيكون مولد عمر قبل الهجرة بسنتين.

( سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك) الأمر بالشيء إنما يصدر عند من لا يلتزمه غالباً، فالأمر بالأكل مما يلي واضح، أما الأمر بالتسمية، وبالأكل باليمين، فليس في الحديث إشارة إلى أن عمر رضي الله عنه كان مقصراً فيهما، فيتحمل أن الأمر بهما إرشاد عام، ويحتمل أنه كان مقصراً فيهما أيضاًً، ولم يذكرهما في التقصير اكتفاء بذكر التقصير الأكبر، وقد جاء عند البخاري زيادة قول عمر: فما زالت تلك طعمتي بعد بكسر الطاء وسكون العين، أي فما زالت تلك الأوامر ملتزمة في صفة أكلي بعد ذلك، وصارت عادة لي.

( نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اختناث الأسقية) فسره في الرواية العاشرة بقوله أن يُشرب من أفواهها وفسره في ملحقها بقوله واختناثها أن يقلب رأسها، ثم يشرب منه وفسره في رواية البخاري بقوله يعني أن تكسر أفواهها، فيشرب منها وهذا التفسير مدرج، ويحمل التفسير المطلق، وهو الشرب من أفواهها، على المقيد بكسر فمها، أو قلب رأسها.

والاختناث في الأصل التكسر والانطواء، ومنه سمي الرجل المتشبه بالنساء في طبعه وكلامه وحركاته مخنثاً، والأفواه جمع فم، وهو على سبيل الرد إلى الأصل في الفم، وأنه فوه، بضم الفاء، ومنه فاه بالقول، وتفوه به، نقصت منه الهاء، لاستثقال هاءين عند الضمير، لو قيل: فوهه، فلما لم يحتمل حرف الواو بعد حذف الهاء، الإعراب، لسكونها، عوضت ميماً، فقيل: فم، وهذا إذا أفرد، ويجوز أن يقتصر على الفاء إذا أضيف، لكن تزاد حركة مشبعة، يختلف إعرابها بالحروف.

( زجر عن الشرب قائماً) في الرواية الثانية عشرة نهى أن يشرب الرجل قائماً وذكر الرجل ليس للاحتراز، بل كذلك المرأة.

( قال قتادة: فقلنا: فالأكل؟ فقال: ذاك أشر أو أخبث) فالأكل الفاء فصيحة، وما بعدها جواب شرط محذوف، والأكل خبر لمبتدأ محذوف، أي إذا كان الشرب قائماً منهياً عنه فما حكم الأكل قائماً؟.

قال النووي: هكذا وقع في الأصول أشر بالألف، والمعروف في العربية شر بغير ألف، وكذلك خير، قال تعالى: { { أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً } } [الفرقان: 24] وقال تعالى: { { فسيعلمون من هو شر مكاناً } } [مريم: 75] ولكن هذه اللفظة أشر أو أخبث وقعت هنا على الشك، فشك قتادة في أن أنساً قال: أشر أو قال أخبث فلا يثبت عن أنس بهذه الرواية أشر فإن جاءت هذه اللفظة من غير شك، وثبتت عن أنس، فهي لغة وإن كانت قليلة الاستعمال، لأنه عربي فصيح، ولهذا نظائر مما لا يكون معروفاً عن النحويين، ومما لا يكون جارياً على قواعدهم، وقد صحت به الأحاديث، فلا ينبغي رده إذا ثبت، بل يقال: هذه لغة قليلة الاستعمال، ونحو هذا من العبارات، وسببه أن النحويين لم يحيطوا إحاطة كاملة قطعية بجميع كلام العرب، ولهذا يمنع بعضهم ما ينقله غيره عن العرب، كما هو معروف.
اهـ

( سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من زمزم، فشرب وهو قائم) في الرواية السابعة عشرة شرب من زمزم من دلو منها وهو قائم وفي الرواية التاسعة عشرة سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من زمزم، فشرب قائماً، واستسقى وهو عند البيت أي طلب أن يشرب، وهو عند الكعبة، وفي ملحقها فأتيته بدلو.

وعند البخاري وابن ماجه عن عاصم عن الشعبي أن ابن عباس -رضي الله عنهما- حدثه، قال: سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من زمزم، فشرب وهو قائم.
قال عاصم: فذكرت ذلك لعكرمة، فحلف بالله ما فعل -أي ما شرب قائماً- ما كان يومئذ إلا على بعير قال ابن العربي: لا حجة في هذا على الشرب قائماً، لأن الراكب على البعير قاعد، غير قائم، وقيل: إن عكرمة قال: إن مراد ابن عباس بقوله: إنه شرب قائماً، إنما أراد به وهو راكب، والراكب يشبه القائم من حيث كونه سائراً، ويشبه القاعد، من حيث كونه مستقراً على الدابة، قال الحافظ ابن حجر: لكن عند أبي داود عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم أناخ، فصلى ركعتين، فلعل شربه من زمزم كان بعد ذلك، ولعل عكرمة إنما أنكر شربه قائماً لنهيه عنه.
اهـ

( نهى أن يتنفس في الإناء) في الرواية الواحدة والعشرين كان يتنفس في الإناء ثلاثاًً وفي الرواية الثانية والعشرين كان يتنفس في الشرب ثلاثاً والرواية المتممة للعشرين صريحة في النهي عن التنفس في الإناء، والرواية الواحدة والعشرون صريحة في التنفس في الإناء، فبين ظاهرها التعارض، فحملهما العلماء على حالتين: حالة التنفس بالفعل على من تنفس خارج الإناء، وحالة النهي عن التنفس داخل الإناء، قال الإسماعيلي: المعنى أنه كان يتنفس: أي على الشراب، لا فيه داخل الإناء.
قال: وإن لم يحمل على هذا صار الحديثان مختلفين، وكان أحدهما منسوخاً لا محالة، والأصل عدم النسخ، والجمع مهما أمكن أولى، ثم أشار إلى حديث أبي سعيد عن الترمذي وصححه الحاكم أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النفخ في الشراب، فقال رجل: القذاة أراها في الإناء؟ قال: أهرقها.
قال: فإني لا أروى من نفس واحد؟ قال: فأبن القدح إذن عن فيك وعند ابن ماجه إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في الإناء، فإذا أراد أن يعود فلينح الإناء، ثم ليعد، إن كان يريد وسيأتي مزيد للمسألة في فقه الحديث.

( إنه أروى، وأبرأ، وأمرأ) إنه أي إن التنفس في الشرب ثلاثاً أكثر رياً، يقال: روى من الماء ونحوه، بفتح الراء وكسر الواو وفتح الياء، يروى بفتح الواو، رياً بفتح الراء وكسرها، وروي بفتح الواو مقصوراًَ، إذا شرب وشبع، فهو ريان، وهي رياً، وريانة، والمعنى أن قليل الماء مع تجزئته في الشرب على نفسين أو ثلاثة يشعر الشارب بالشبع، وهو أيضاً أبرأ يقال: برئ المريض، بكسر الراء، يبرأ بفتحها، برءاً، بفتح فسكون، وبرءاً، بضم فسكون، شفي، وتخلص مما به، فالمعنى أن التنفس عند الشرب أكثر تخلصاً من ألم العطش، وقيل: أكثر وقاية من الأمراض، أو أكثر وقاية من الأذى الذي يحصل بسبب الشرب في نفس واحد، وهو أيضاً أمرأ أي أكثر انسياباً وانسياغاً في المريء، الذي هو مجرى الطعام والشراب من الحلقوم إلى المعدة، أي فهو أهنأ، حميد العاقبة، قال تعالى: { { فكلوه هنيئاً مريئاً } } [النساء: 4] .

( أتي بلبن قد شيب بماء) يقال: شاب الشيء بالشيء، يشوبه، شوباً بفتح الشين، إذا خلطه به، وفي القرآن الكريم { { ثم إن لهم عليها لشوباً من حميم } } [الصافات: 67] وفي الرواية الرابعة والعشرين يقول أنس فدخل علينا دارناً، فحلبنا له من شاة داجن -أي أليفة، أغلب تربيتها وعلفها في البيت، قليلة الخروج للرعي، وهذا الوصف يشير إلى حسن مرعاها، وطيب لبنها -وشيب له من بئر في الدار أي وخلط لبنها بماء من بئر في دارنا، وتبين الرواية الخامسة والعشرون شخص الذي شاب اللبن، وأنه أنس، ففيها أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم في دارنا، فاستسقى -أي عطش، فطلب الشرب- فحلبنا له شاة، ثم شبته -بضم الشين، والضمير يرجع إلى اللبن، المفهوم من الحلب- من ماء بئري هذه وتبين رواية البخاري أن أنساً هو الذي باشر حلب الشاة، ولفظها فحلبت شاة.

( وعن يمينه أعرابي، وعن يساره أبو بكر) في الرواية الخامسة والعشرين وأبو بكر عن يساره، وعمر وجاهه، وأعرابي عن يمينه يقال: وجاهه، بكسر الواو وضمها لغتان ويقال تجاهه، أي تلقاء وجهه.

( فشرب، ثم أعطى الأعرابي) في الرواية الرابعة والعشرين فشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له عمر: يا رسول الله، أبا بكر -أي أعط أبا بكر- فأعطاه أعرابياً عن يمينه وفي الرواية الخامسة والعشرين فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من شربه، قال عمر: هذا أبو بكر يا رسول الله -يريد إياه- أي يريد أن يعطي القدح إياه- فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم الأعرابي، وترك أبا بكر وعمر وفي رواية للبخاري فقال عمر -وخاف أن يعطيه الأعرابي- أعط أبا بكر فإشارة عمر بناها على مشاهدته ميل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقدح نحو الأعرابي، وقصد بها التذكير، لا التعديل خوفاً من النسيان، وإعلاماً للأعرابي وغيره بجلالة أبي بكر، وفي رواية البخاري فأعطى الأعرابي فضله أي اللبن الذي فضل منه بعد شربه، وحكى ابن التين أن الأعرابي خالد بن الوليد، وتعقب بأن مثله لا يقال له: أعرابي قال الحافظ ابن حجر: وكأن الحامل لصاحب هذا القول على ذلك أنه رأى في حديث ابن عباس الآتي قريباً ذكر خالد، فظن أن القصة واحدة، وليس كذلك، فإن قصة ابن عباس في بيت ميمونة، وقصة أنس في دار أنس، فافترقا.

( وكن أمهاتي يحثثنني على خدمته) هذا على لغة: أكلوني البراغيث، أي الجمع بين الضمير الفاعل والاسم الظاهر، والأصل وكانت أمهاتي، يقصد أمه -أم سليم وخالته أم حرام وغيرهما من محارمه، وأطلق لفظ الأم عليهن من قبيل استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، وهذا على مذهب يجيزه، كالشافعي والباقلاني وغيرهما.
والحث على خدمة النبي صلى الله عليه وسلم في بيت أنس كان تمهيداً لتعيينه خادماً له صلى الله عليه وسلم.

( الأيمنون.
الأيمنون.
الأيمنون)
بالرفع، خبر مبتدأ محذوف، أي الأحق الأيمنون، أو مبتدأ، خبره محذوف، وفي الرواية الرابعة والعشرين الأيمن فالأيمن وقد ضبط بالنصب والرفع، وهما صحيحان فالنصب على أنه مفعول لفعل محذوف، أي أعطوا -أو قدموا- الأيمن فالأيمن، والرفع كما سبق، وعند البخاري الأيمن والأيمن بالواو، وفي رواية له ألا فيمنوا.

( وعن يمينه غلام، وعن يساره أشياخ) في رواية للبخاري وعن يمينه غلام هو أحدث القوم وفي رواية له هو أصغر القوم وقد حكى ابن بطال أن الغلام كان الفضل بن عباس، وحكى ابن التين أنه أخوه عبد الله، قال الحافظ ابن حجر: وهو الصواب، وقد روى ابن أبي حازم عن أبيه في حديث سهل بن سعد ذكر أبي بكر الصديق، فيمن كان عن يساره صلى الله عليه وسلم، ذكره ابن عبد البر، وخطأه، وقد أخرج الترمذي عن ابن عباس قال: دخلت أنا وخالد بن الوليد على ميمونة، فجاءتنا بإناء من لبن، فشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا على يمينه، وخالد على شماله، فقال لي: الشربة لك، فإن شئت آثرت بها خالداً؟ فقلت: ما كنت أوثر على سؤرك أحداً فصح أن يعد خالد من الأشياخ، وليس في حديث ابن عباس ما يمنع أن يكون مع خالد في بيت ميمونة غيره.

( فقال للغلام: أتأذن لي أن أعطي هؤلاء) الأشياخ؟ قال ابن الجوزي: إنما استأذن الغلام، ولم يستأذن الأعرابي -في روايتنا الثالثة والعشرين والرابعة والعشرين والخامسة والعشرين- لأن الأعرابي لم يكن له علم بالشريعة، فاستألفه، بترك استئذانه، بخلاف الغلام، وقال النووي: السبب فيه أن الغلام كان ابن عمه، فكان له عليه إدلال، وكان من على اليسار أقارب الغلام أيضاً، وطيب نفسه مع ذلك بالاستئذان لبيان الحكم، وأن السنة تقديم الأيمن ولو كان مفضولاً بالنسبة إلى من على اليسار، وجاء في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم تلطف به، حيث قال له: الشربة لك، وإن شئت آثرت بها خالداً؟ وفي لفظ لأحمد وإن شئت آثرت بها عمك وإنما أطلق عليه عمه لكونه أسن منه، ولعل سنة كان قريباً من سن العباس، وإن كان من جهة أخرى من أقرانه، لكونه ابن خالته، وكان خالد مع رياسته في الجاهلية وشرف في قومه قد تأخر إسلامه، فلذلك استأذن له، بخلاف أبي بكر، فإن رسوخ قدمه في الإسلام وسبقه يقتضي طمأنينته بجميع ما يقع من النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يتأثر لشيء من ذلك، ولهذا لم يستأذن الأعرابي له، ولعله خشي من استئذانه أن يتوهم إرادة صرفه إلى بقية الحاضرين بعد أبي بكر، دونه، فربما سبق إلى قلبه، من أجل قرب عهده بالإسلام شيء، فجرى صلى الله عليه وسلم على عادته في تأليف من هذا سبيله، وليس ببعيد أنه كان من كبراء قومه، ولهذا جلس عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم، وأقره على ذلك.
اهـ

( فتله رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده) تله بفتح التاء وتشديد اللام المفتوحة، أي وضعه، وفي ملحق الرواية فأعطاه إياه وقال الخطابي: تله وضعه بعنف؛ وأصله من الرمي على التل، وهو المكان العالي المرتفع، ثم استعمل في كل شيء يرمى به وفي كل إلقاء، وقيل: هو من التلتل، بلام ساكنة بين التاءين المفتوحتين، وهو العنق، ومنه قوله تعالى: { { وتله للجبين } } [الصافات: 103] أي صرعه، والتفسير الأول أليق بمعنى الحديث.

فقه الحديث

ثمانية من آداب الطعام والشراب تتعرض لها هذه الأحاديث:

تقديم الكبير، والتسمية، والأكل والشرب باليمين، والأكل مما يلي الآكل، وعدم اختناث الأسقية، وعدم الشرب قائماً، وعدم التنفس في الإناء، وإدارة الشراب على يمين المبتدئ.
وإليك تفصيل الأحكام:

1- أما تقديم الكبير في الطعام والشراب ليبدأ قبل أن يبدأ الآخرون، فيقول عنه حذيفة رضي الله عنه في الرواية الأولى كنا إذا حضرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم طعاماً لم نضع أيدينا حتى يبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيضع يده ثم يحكي قصة الجارية التي حاولت أن تضع يدها في الطعام متسرعة قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدها، ومنعها، وقصة الأعرابي الذي حاول أن يضع يده في الطعام قبل كبار الحاضرين، فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، ومنعه، وسيأتي تفصيل القول إذا تعارض تقديم الكبير مع التقديم لأسباب أخرى، كالأيمن، سيأتي هذا التفصيل في أدب إدارة الشراب على يمين المبتدئ.

2- الأدب الثاني التسمية عند بدء الطعام والشراب، وعند الدخول، وعند البدء في أي أمر مهم، وفي ذلك تقول الرواية الأولى إن الشيطان يستحل الطعام، أن لا يذكر اسم الله عليه وتقول الرواية الثانية إذا دخل الرجل بيته، فذكر الله عند دخوله، وعند طعامه، قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء، وإذا دخل فلم يذكر الله عند دخوله، قال الشيطان: أدركتم المبيت، وإذا لم يذكر الله عند طعامه قال: أدركتم المبيت والعشاء وأخرج أبو داود والترمذي إذا أكل أحدكم طعاماً فليقل: بسم الله، فإن نسي في أوله فليقل: بسم الله في أوله وآخره.

قال النووي: في هذا الحديث استحباب التسمية في ابتداء الطعام، وهذا مجمع عليه، قال الحافظ ابن حجر: وفي نقل الإجماع على الاستحباب نظر، إلا إن أريد بالاستحباب رجحان الفعل، وإلا فقد ذهب جماعة إلى وجوب ذلك.
ثم قال النووي: وكذا يستحب حمد الله في آخره، وكذا تستحب التسمية في أول الشراب، بل في أول كل أمر ذي بال، قال العلماء: ويستحب أن يجهر بالتسمية، ليسمع غيره، وينبهه عليها، ولو ترك التسمية في أول الطعام، عامداً أو ناسياً أو جاهلاً أو مكرهاً أو عاجزاًَ أو لعارض آخر، ثم تمكن منها في أثناء أكله، يستحب أن يسمي، ويقول: بسم الله أوله وآخره.

ثم قال: والتسمية في شرب الماء واللبن والعسل والمرق والدواء وسائر المشروبات كالتسمية على الطعام في كل ما ذكرناه.

وتحصل التسمية بقول: بسم الله، فإن قال: بسم الله الرحمن الرحيم كان حسناً.

وسواء في استحباب التسمية الجنب والحائض وغيرهما.

وينبغي أن يسمي كل واحد من الآكلين، فإن سمى واحد منهم حصل أصل السنة، نص عليه الشافعي رضي الله عنه، ويستدل له بأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الشيطان إنما يتمكن من الطعام إذا لم يذكر اسم الله عليه، ولأن المقصود يحصل بواحد، ويؤيده أيضاً حديث الذكر عند دخول البيت.

ثم قال: والصواب الذي عليه جماهير العلماء من السلف والخلف، من المحدثين والفقهاء والمتكلمين أن هذا الحديث وشبهه، من الأحاديث الواردة في أكل الشيطان محمولة على ظاهرها، وإن الشيطان يأكل حقيقة، إذ العقل لا يحيله، والشرع لم ينكره، بل أثبته، فوجب قبوله واعتقاده.
اهـ

قال الحافظ ابن حجر: وأما قول النووي في أدب الأكل والشرب، من الأذكار: والأفضل أن يقول بسم الله الرحمن الرحيم، فإن قال: بسم الله كفاه، وحصلت السنة فلم أر لما ادعاه من الأفضلية دليلاً خاصاً.
اهـ ولكن الدليل العام بأفضلية بسم الله الرحمن الرحيم بجعل الحق مع النووي رحمه الله.
ثم قال الحافظ ابن حجر: وأما ما ذكره الغزالي في آداب الأكل، من الإحياء أنه لو قال في كل لقمة: بسم الله.
كان حسناً، وأنه يستحب أن يقول مع الأولى: بسم الله، ومع الثانية بسم الله الرحمن، ومع الثالثة، بسم الله الرحمن الرحيم.
فلم أر لاستحباب ذلك دليلاً، والتكرار قد بين هو وجهه، بقوله: حتى لا يشغله الأكل عن ذكر الله.
اهـ

3- وأما الأكل والشرب باليمين فعنه تقول الرواية الثالثة لا تأكلوا بالشمال، فإن الشيطان يأكل بالشمال وتقول الرواية الرابعة إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه، وإذا شرب فليشرب بيمينه، فإن الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بشماله وتقول الرواية الخامسة لا يأكلن أحدكم بشماله، ولا يشربن بها وفي ملحقها ولا يأخذ بها، ولا يعطي بها وفي الرواية السادسة أن رجلاًَ أكل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بشماله، فقال: كل بيمينك، قال: لا أستطيع.
قال: لا استطعت -ما منعه إلا الكبر- قال: فما رفعها إلى فيه وفي الرواية السابعة والثامنة في قصة عمر بن أبي سلمة كل بيمينك.

قال النووي: في هذه الأحاديث استحباب الأكل والشرب باليمين، وكراهة ذلك بالشمال، وكذلك كل أخذ وعطاء، وهذا إذا لم يكن عذر، من مرض أو جراحة، فإن كان فلا كراهة.
اهـ

وقال القرطبي: هذا الأمر على جهة الندب، لأنه من باب تشريف اليمين على الشمال، لأنها أقوى في الغالب، وأسبق للأعمال، وأمكن في الأشغال، وهي مشتقة من اليمن، وقد شرف الله أصحاب الجنة، إذ نسبهم إلى اليمين، وعكسه في أصحاب الشمال، قال: وعلى الجملة فاليمين وما نسب إليها وما اشتق منها محمود لغة وشرعاً وديناً، والشمال على نقيض ذلك، وإذا تقرر ذلك فمن الآداب المناسبة لمكارم الأخلاق والسيرة الحسنة عند الفضلاء اختصاص اليمين بالأعمال الشريفة والأحوال النظيفة، وقال أيضاً: كل هذه الأوامر من المحاسن المكملة، والمكارم المستحسنة، والأصل فيما كان من هذا الترغيب والندب.
اهـ

وذهب جماعة من العلماء أن الأكل باليمين واجب، نص الشافعي عليه في الرسالة وفي الأم، قال الحافظ ابن حجر: ويدل على وجوب الأكل باليمين ورود الوعيد في الأكل بالشمال، واستدل بالرجل الذي دعا عليه صلى الله عليه وسلم، روايتنا السادسة، ولا يدعى على من ترك مندوباً قال: وثبت النهي عن الأكل بالشمال، وأنه من عمل الشيطان، من حديث ابن عمر ومن حديث جابر عند مسلم -روايتنا الخامسة والرابعة والثالثة- وقد صرح ابن العربي بإثم من أكل بشماله، واحتج بأن كل فعل ينسب إلى الشيطان حرام، ويؤيد القول بالوجوب قوله في الرواية السادسة ما منعه إلا الكبر والكبر معصية.

4- وأما الأكل مما يلي فقد أمر به في روايتنا السابعة والثامنة، قال النووي: لأن الأكل من موضع يد صاحبه سوء عشرة، وترك مروءة، فقد يتقذره صاحبه، لاسيما في الأمراق وشبهها.
اهـ

وقد ترجم البخاري بباب من تتبع حوالي القصعة مع صاحبه إذا لم يعرف منه كراهية، فذكر حديث أنس أن خياطاً دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لطعام صنعه، قال أنس: فذهبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأيته يتبع الدباء من حوالي القصعة وسيأتي في مسلم هذا الحديث بعد أبواب، تحت باب جواز أكل المرق، واستحباب أكل اليقطين، وإيثار أهل المائدة بعضهم بعضاً، وإن كانوا ضيفاناً، إذا لم يكره ذلك صاحب الطعام.

ومن هنا حمل بعضهم حديث الأمر بالأكل مما يلي على ما إذا لم يعلم رضا صاحبه بتحرك يده، وأجاز بحديث الخياط إذا علم رضا من يأكل معه.
قال النووي: والذي ينبغي تعميم النهي، حملاً للنهي على عمومه، حتى يثبت دليل مخصص، ومال إلى حمل حديث الخياط على الخصوصية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إنما نهي عن ذلك لئلا يتقذره جليسه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتقذره أحد، بل يتبركون بآثاره صلى الله عليه وسلم، مما هو معروف من عظيم اعتنائهم بآثاره صلى الله عليه وسلم، التي يخالفه فيها غيره.
اهـ ومال مالك إلى ما ذهب إليه البخاري فقد نقل ابن بطال عنه قوله: إن المؤاكل لأهله وخدمه يباح له أن يتتبع شهوته حيث رآها، إذا علم أن ذلك لا يكره منه، فإذا علم كراهتهم لذلك لم يأكل إلا مما يليه، وقال أيضاً: إنما جالت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطعام لأنه علم أن من معه لا يتكره ذلك منه، ولا يتقذره، بل كانوا يتبركون بريقه ومماسة يده، فكذلك من لم يتقذر من مؤاكلته، يجوز له أن تجول يده في الصحفة.
اهـ والنووي يحكي اختلاف العلماء في جواز تحريك الأيدي، وبعدها عما يلي إذا كان على المائدة أصناف متعددة، فيقول: فإن كان تمراً أو أجناساً فقد نقلوا إباحة اختلاف الأيدي في الطبق ونحوه، لكنه يميل إلى التعميم فيقول: والذي ينبغي تعميم النهي حملاً للنهي على عمومه، حتى يثبت دليل مخصص.
اهـ

والذين يخصصون يستندون إلى ما رواه الترمذي عن عكراش رضي الله عنه قال بعثني بنو مرة بصدقات أموالهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدمت المدينة، فوجدته جالساً بين المهاجرين والأنصار، قال: ثم أخذ بيدي، فانطلق بي إلى بيت أم سلمة، فقال: هل من طعام؟ فأتتنا بجفنه كثيرة الثريد والودك -الدسم- فأقبلنا نأكل منها، فخبطت بيدي في نواحيها، وأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين يديه، فقبض بيده اليسرى على يدي اليمين، ثم قال: يا عكراش، كل من موضع واحد، ثم أتتنا بطبق فيه ألوان التمر، فجعلت آكل من بين يدي، وجالت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطبق، قال: يا عكراش، كل من حيث شئت، فإنه غير لون واحد والذي ترتاح إليه النفس أن يقال: إن كان الطعام الجاف أنواعاً متعددة، سواء أكانت في إناء واحد، أو في أوان متعددة جاز التنقل، وإن كان الأولى تركه، لأن الأدب يتطلب عدم مد الأيدي إلى البعيد، لما في ذلك من مظاهر الشره والحرص والأنانية، وإن كان نوعاً واحداً فلا يجوز، أما حديث الترمذي فهو محمول على ما إذا علم رضا من يأكل معه، على أنه ضعيف، قال الترمذي عنه: هذا حديث غريب، وقال ابن حبان في راويه: منكر الحديث، وقال أبو حاتم: مجهول.

نعم الكراهة في الأطعمة السائلة أشد منها في الأطعمة الجافة، للفرق بين التقزز في كل.
والله أعلم.

5- وأما النهي عن اختناث الأسقية فقد قال عنه النووي: اتفقوا على أن النهي عن اختناث الأسقية نهي تنزيه، لا تحريم، ويؤيده أحاديث الرخصة في ذلك، ومنها ما رواه الترمذي وغيره عن كبشة بنت ثابت، أخت حسان بن ثابت -رضي الله عنهما- قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشرب من قربة معلقة قائماً، فقمت إلى فيها، فقطعته، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وقطعها لفم القربة فعلته لوجهين، أحدهما: أن تصون موضعاً أصابه فم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أن يبتذل، ويمسه كل أحد، والثاني أن تحفظه للتبرك به والاستسقاء، قال النووي: فهذا الحديث يدل على أن النهي ليس للتحريم.
اهـ

وقد ورد لعلة النهي أمور منها:

( أ) أنه لا يؤمن دخول شيء من الهوام مع الماء في جوف السقاء، فيدخل فم الشارب، وهو لا يشعر، فعند ابن ماجه أن رجلاً قام من الليل بعد النهي إلى سقاء، فاختنثه، فخرجت عليه منه حية.

قال الحافظ ابن حجر: وهذا يقتضي أنه لو ملأ السقاء، وهو يشاهد الماء يدخل فيه، ثم ربطه ربطاً محكماً، ثم أراد أن يشرب حله، فشرب منه، لا يتناوله النهي.

( ب) ومنها ما أخرجه الحاكم من حديث عائشة بسند قوي، بلفظ نهى أن يشرب من في السقاء، لأن ذلك ينتنه قال الحافظ ابن حجر: وهذا يقتضي أن يكون النهي خاصاً بمن يشرب، فيتنفس داخل الإناء، أو باشر بفمه باطن السقاء، أما من صب من القربة داخل فمه، من غير مماسة، فلا.

( ج) ومنها أن الذي يشرب من فم السقاء قد يغلبه الماء، فينصب منه أكثر من حاجته، فلا يأمن أن يشرق به، أو تبتل ثيابه.

قال ابن العربي: واحدة من الثلاثة تكفي في ثبوت الكراهة، وبمجموعها تقوى الكراهة جداً، وقال ابن أبي جمرة: اختلف في علة النهي، فقيل: يخشى أن يكون في الوعاء حيوان، أو ينصب بقوة، فيشرق به، وقيل: لما قد يعلق بفم السقاء، من بخار النفس، أو بما يخالط الماء من ريق الشارب، فيتقذره غيره، أو لأن الوعاء يفسد بذلك في العادة، فيكون من إضاعة المال، قال: والذي يقتضيه الفقه أنه لا يبعد أن يكون النهي لمجموع هذه الأمور، وفيها ما يقتضي الكراهة، وفيها ما يقتضي التحريم، والقاعدة في مثل ذلك ترجيح القول بالتحريم.

وقد جزم ابن حزم بالتحريم، لثبوت النهي، وحمل أحاديث الرخصة على أصل الإباحة، وأطلق أبو بكر الأثرم، صاحب أحمد، أن أحاديث النهي ناسخة للإباحة، لأنهم كانوا يفعلون ذلك، حتى وقع دخول الحية في بطن الذي شرب من فم السقاء، فنسخ الجواز.

وجمع الحافظ ابن حجر بين أحاديث النهي وأحاديث الرخصة بقوله: لم أر في شيء من الأحاديث المرفوعة ما يدل على الجواز، إلا من فعله صلى الله عليه وسلم، وأحاديث النهي كلها من قوله، فهي أرجح، إذا نظرنا إلى علة النهي عن ذلك، فإن جميع ما ذكره العلماء في علة النهي يقتضي أنه صلى الله عليه وسلم مأمون منها: أما أولاً فلعصمته، ولطيب نكهته، وأما ثانياًً فلرفقه في صب الماء.

وقال شارح الترمذي: لو فرق بين ما يكون لعذر، كأن تكون القربة معلقة، ولم يجد المحتاج إلى الشرب إناء متيسراً، ولم يتمكن من التناول بكفه، فلا كراهة حينئذ، وعلى ذلك تحمل أحاديث الرخصة، وبين ما يكون لغير عذر، فتحمل عليه أحاديث النهي.
قال الحافظ ابن حجر: ويؤيد هذا الجمع أن أحاديث الجواز كلها، فيها أن القربة كانت معلقة، والشرب من القربة المعلقة أخص من الشرب من مطلق القربة، ولا دلالة في أخبار الجواز على الرخصة مطلقاً، بل على تلك الصورة وحدها، وحملها على حال الضرورة، جمعاً بين الخبرين أولى من حملها على النسخ، وقد سبق ابن العربي بهذا التوجيه، فقال: يحتمل أن يكون شربه صلى الله عليه وسلم في حال ضرورة، إما عند الحرب، وإما عند عدم الإناء، أو مع وجوده لكن لم يتمكن من التفريغ من السقاء في الإناء، لشغله.

هذا.
وقد نقل ابن التين وغيره عن مالك أنه أجاز الشرب من أفواه القرب، وقال: لم يبلغني فيه نهي، وبالغ ابن بطال في رد هذا القول، والحجة قائمة على من بلغه النهي.
والله أعلم.

6- الأدب السادس عدم الشرب قائماً، وعنه تقول الرواية الحادية عشرة والثالثة عشرة أن النبي صلى الله عليه وسلم زجر عن الشرب قائماً وتقول الرواية الثانية عشرة نهى أن يشرب الرجل قائماً وقال أنس عن الأكل: ذاك أشر أو أخبث وتقول الرواية الخامسة عشرة لا يشربن أحد منكم قائماً، فمن نسي فليستقئ وتثبت الروايات السادسة عشرة والسابعة عشرة والثامنة عشرة والتاسعة عشرة أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب قائماً، وفي البخاري أتى علي رضي الله عنه على باب الرحبة بماء، فشرب قائماً، فقال: إن ناساً يكره أحدهم أن يشرب وهو قائم، وإني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فعل كما رأيتموني فعلت وفي رواية أخرى له عن علي رضي الله عنه أنه صلى الظهر، ثم قعد في حوائج الناس في رحبة الكوفة، حتى حضرت صلاة العصر، ثم أتي بماء، فشرب، وغسل وجهه ويديه، وذكر رأسه ورجليه، ثم قام، فشرب فضله، وهو قائم، ثم قال: إن ناساً يكرهون الشرب قائماً، وإن النبي صلى الله عليه وسلم صنع مثل ما صنعت وقد ترجم البخاري لهذه الأحاديث بباب الشرب قائماً، ولم يخرج أحاديث النهي عن الشرب قائماً، وكأنه أشار بذلك إلى أنه لم يصح عنده الأحاديث الواردة في كراهة الشرب قائماً، كذا قال ابن بطال، وتعقبه الحافظ ابن حجر، فقال: وليس بجيد، بل الذي يشبه صنيعه أنه إذا تعارضت عنده الأحاديث لا يثبت الحكم.
اهـ والجيد كلام ابن بطال، وكلام الحافظ ابن حجر، وإنما يتوجه لو أن البخاري ذكر أحاديث النهي وأحاديث الإثبات وترجم بدون إثبات الحكم لتعارض الأحاديث عنده، أما أنه لم يخرج أحاديث النهي فالوجه ما قاله ابن بطال.

وأخرج أحمد عن علي رضي الله عنه أنه شرب قائماً، فرأى الناس كأنهم أنكروه، فقال: ما تنظرون أن أشرب قائماً؟ فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب قائماً، وإن شربت قاعداً فقد رأيته يشرب قاعداً وصحح الترمذي من حديث ابن عمر كنا نأكل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن نمشي، ونشرب، ونحن قيام وفي الموطأ أن عمر وعثمان وعلياً كانوا يشربون قياماً، وكان سعد وعائشة لا يرون بذلك بأساً.

أمام هذا سلك العلماء مسالك:

المسلك الأول: مسلك الترجيح، واعتماد أحاديث الجواز، وتضعيف أحاديث النهي، وهذه طريقة أبي بكر الأثرم، فقال: حديث أنس -يعني في النهي- روايتنا الحادية عشرة والثانية عشرة- جيد الإسناد، ولكن قد جاء عنه خلافه، يعني في الجواز، قال: ولا يلزم من كون الطريق إليه في النهي أثبت من الطريق إليه في الجواز، أن لا يكون الذي يقابله أقوى، ثم أسند أنس عن أبي هريرة قال: لا بأس بالشرب قائماً قال الأثرم: فدل على أن الرواية عنه في النهي ليست ثابتة، وإلا لما قال: لا بأس به، قال: ويدل على وهاء أحاديث النهي أيضاً اتفاق العلماء على أنه ليس على أحد شرب قائماً أن يستقئ.
اهـ

وقال عياض: لم يخرج مالك ولا البخاري أحاديث النهي، وأخرجها مسلم من رواية قتادة عن أنس، ومن روايته عن أبي عيسى عن أبي سعيد، وهو معنعن، وكان شعبة يتقي من حديث قتادة ما لا يصرح فيه بالتحديث، وأبو عيسى غير مشهور، واضطراب قتادة فيه مما يعله، مع مخالفة الأحاديث الأخرى والأئمة له، وأما حديث أبي هريرة ففي سنده عمر بن حمزة، ولا يحتمل منه مثل هذا لمخالفة غيره له، والصحيح أنه موقوف، وأكد القاضي عياض تضعيف أحاديث النهي بقوله: ولا خلاف بين أهل العلم في أن من شرب قائماً، ليس عليه أن يتقيأ.
اهـ

وقد حمل النووي على هذا القول وعلى قائليه حملة عنيفة، لكنه لم يتشاغل بالجواب عن وجهات النظر، وتعرض لها الحافظ ابن حجر، فقال: إن الإشارة إلى تضعيف حديث أنس بكون قتادة مدلساً، وقد عنعنه، فيجاب عنه بأنه خرج في نفس السند بما يقتضي سماعه له من أنس، فإن فيه قلنا لأنس: فالأكل....
[انظر روايتنا الثانية عشرة] وأما تضعيفه حديث أبي سعيد بأن أبا عيسى غير مشهور فهو قول سبق إليه ابن المديني، لأنه لم يرو عنه إلا قتادة، لكن وثقه الطبري وابن حبان، ومثل هذا يخرج في الشواهد، ودعواه اضطرابه مردودة، لأن لقتادة فيه إسنادين، وهو حافظ، وأما تضعيفه لحديث أبي هريرة بعمر بن حمزة فهو مختلف في توثيقه، ومثله يخرج له مسلم في المتابعات، وقد تابعه الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة، كما أشرت إليه عند أحمد وابن حبان، فالحديث بجميع طرقه صحيح.
اهـ

ومن الواضح أن دفاع الحافظ ابن حجر في حاجة إلى دفاع.
والله أعلم.

المسلك الثاني: دعوى النسخ، وإليها جنح الأثرم وابن شاهين، فقررا أن أحاديث النهي -على تقدير ثبوتها- منسوخة بأحاديث الجواز، بقرينة عمل الخلفاء الراشدين ومعظم الصحابة والتابعين بالجواز، وقد عكس ذلك ابن حزم، فادعى نسخ أحاديث الجواز بأحاديث النهي، متمسكاً بأن الجواز على وفق الأصل، وأحاديث النهي مقررة لحكم الشرع، فمن ادعى الجواز بعد النهي فعليه البيان، فإن النسخ لا يثبت بالاحتمال، وأجاب بعضهم عن إشكال ابن حزم بأن أحاديث الجواز متأخرة، لما وقع منه صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع [انظر روايتنا السادسة عشرة والسابعة عشرة والثامنة عشرة والتاسعة عشرة] وإذا كان ذلك الأخير من فعله صلى الله عليه وسلم دل على الجواز، ويتأيد بفعل الخلفاء الراشدين بعده.

وقد حمل النووي على هذا القول مع سابقه، فقال: اعلم أن هذه الأحاديث أشكل معناها على بعض العلماء، حتى قال فيها أقوالاً باطلة، وزاد حتى تجاسر، ورام أن يضعف بعضها، وادعى فيها دعاوي باطلة، لا غرض لنا في ذكرها، وليس في الأحاديث إشكال، ولا فيها ضعيف، بل الصواب أن النهي فيها محمول على التنزيه، وشربه قائماً لبيان الجواز، وأما من زعم نسخاً أو غيره فقد غلط، فإن النسخ لا يصار إليه مع إمكان الجمع لو ثبت التاريخ، وأما قول عياض: لا خلاف بين أهل العلم في أن من شرب قائماً ليس عليه أن يتقيأ، وأشار به إلى تضعيف الحديث، فلا يلتفت إلى إشارته، وكون أهل العلم لم يوجبوا الاستقاءة لا يمنع من استحبابه، فمن ادعى منع الاستحباب بالإجماع فهو مجازف، وكيف تترك السنة الصحيحة بالتوهمات والدعاوي والترهات؟.

المسلك الثالث: الجمع بين الخبرين بضرب من التأويل:

( أ) قال أبو الفرج الثقفي: المراد بالقيام في أحاديث النهي المشي، يقال: قام في الأمر إذا مشي فيه، وقمت في حاجتي إذا سعيت فيها وقضيتها، ومنه قوله تعالى: { { إلا ما دمت عليه قائماً } } [آل عمران: 75] أي مواظباً بالمشي.

( ب) وجنح الطحاوي إلى تأويل آخر، وهو حمل النهي على من لم يسم عند شربه، وهذا إن سلم له في بعض ألفاظ الحديث لم يسلم له في بقيتها.

( ج) وسلك آخرون في الجمع مسلكاً جيداً، بحمل أحاديث النهي على كراهة التنزيه، وأحاديث الجواز على بيانه، وهي طريقة الخطابي وابن بطال والنووي وآخرين، وهذا أحسن المسالك، وأسلمها، وأبعدها من الاعتراض، وقد أشار الأثرم أخيراً إلى ذلك، فقال: إن ثبتت الكراهة حملت على الإرشاد والتأديب، لا على التحريم، وبذلك جزم الطبري، وأيده بأنه لو كان جائزاً ثم حرمه، أو كان حراماً ثم جوزه لبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بياناً واضحاً، فلما تعارضت الأخبار بذلك جمعنا بينها بهذا.
والله أعلم.

الأدب السابع: عدم التنفس في إناء الشراب، والكلام فيه على حالتين:

الحالة الأولى عدم إخراج الشارب نفسه في داخل الإناء، لأنه ربما حصل للإناء، أو للسائل فيه تغير من ريح النفس، إما لكون المتنفس متغير الفم بمأكول ونحوه، أو لبعد عهده بالسواك والمضمضة، أو لأن النفس يصعد ببخار المعدة وريحها، والنفخ في هذه الأحوال كلها أشد من التنفس، فالنهي عنه آكد من باب أولى، فقد يزيد النفخ خروج رذاذ من الريق، مما يتقذر غالباً، وقد ورد النهي عن النفخ في الطعام والشراب في أحاديث كثيرة، فعند أبي داود والترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يتنفس في الإناء، وأن ينفخ فيه قال المهلب: النهي عن التنفس في الشرب كالنهي عن النفخ في الطعام والشراب، من أجل أنه قد يقع فيه شيء من الريق، فيعافه الشارب ويتقذره، إذا كان التقذر في مثل ذلك عادة غالبة على طباع أكثر الناس، ومحل هذا إذا أكل أو شرب مع غيره، وأما لو أكل وحده أو مع أهله، أو مع من يعلم أنه لا يتقذر فلا بأس.
قال الحافظ ابن حجر: والأولى تعميم المنع، لأنه لا يؤمن مع ذلك أن تفضل فضلة، أو يحصل التقذر من الإناء، أو نحو ذلك، قال ابن العربي: قال علماؤنا: هو من مكارم الأخلاق.

الحالة الثانية: التنفس خارج الإناء، أثناء الشرب، بأن يشرب على نفسين أو ثلاثة أو أكثر، وروايتنا الواحدة والعشرون والثانية والعشرون تصرحان بأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتنفس في الشرب ثلاثاً، وعند البخاري كان أنس يتنفس في الإناء مرتين أو ثلاثاً.

وجواز الشرب بنفس واحد ورد به الأمر عند الحاكم، وهو محمول على الجواز، وأخرج الترمذي بسند ضعيف عن ابن عباس رفعه لا تشربوا واحدة، كما يشرب البعير، ولكن اشربوا مثنى وثلاث قال الحافظ ابن حجر: فالنهي عن الشرب في نفس واحد للتنزيه.

الأدب الثامن: إدارة الشراب على يمين المبتدئ، وفي روايتنا الثالثة والعشرين والرابعة والعشرين والخامسة والعشرين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى الأعرابي الذي على يمينه قبل أبي بكر وعمر، وقال: الأيمن فالأيمن، وفي الرواية السادسة والعشرين استأذن الغلام الذي عن يمينه ليعطي الأشياخ الذين هم عن شماله، فلما لم يتنازل الغلام لهم أعطاه.

قال الخطابي: كانت العادة جارية لملوك الجاهلية ورؤسائهم بتقديم الأيمن في الشرب، حتى قال عمرو بن كلثوم، في قصيدة له:

وكان الكأس مجراها اليمينا....

فبين النبي صلى الله عليه وسلم بفعله أن تلك العادة لم تغيرها السنة، وأنها مستمرة، وأن الأيمن يقدم على الأفضل في ذلك، ولا يلزم من ذلك حط رتبة الأفضل، وكان ذلك لفضل اليمين على اليسار، وقال الحافظ ابن حجر: إن تقديم الذي على اليمين ليس لمعنى فيه، بل لمعنى في جهة اليمين، وهو فضلها على جهة اليسار، فيؤخذ منه أن ذلك ليس ترجيحاً لمن هو على اليمين، بل هو ترجيح لجهته.

وقد يتعارض ظاهر هذا مع الأمر بتقديم الأفضل، وهو المسألة الأولى التي تعرضنا لها في أول فقه الحديث، فعند البخاري في القسامة حين تكلم الصغير بحضور الكبير قال له صلى الله عليه وسلم الكبر الكبر وفي رواية كبر.
كبر وفي رواية يبدأ الأكبر وفي الطهارة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمناولة السواك الأكبر، وأخرج أبو يعلى بسند قوي، عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سقى قال: ابدءوا بالكبير ويجمع بأنه محمول على الحالة التي يجلسون فيها متساويين، إما بين يدي الكبير، أو عن يساره كلهم، أو خلفه، فتخص هذه الصورة من عموم الأيمن، أو يحمل على أن الابتداء يكون بالأكبر، كرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحاديث الأيمن في إدارة الشراب بعد الأكبر.

ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم

1- من الرواية الأولى، من قوله والذي نفسي بيده جواز الحلف من غير استحلاف.

2- من قوله إن يده في يدي مع يدها ومن قوله في الرواية الثالثة فإن الشيطان يأكل بالشمال أن للشيطان يدين.

3- وأنه ينبغي اجتناب الأفعال التي تشبه أفعال الشياطين والكفار.

4- وأن الشيطان يأكل ويشرب.

5- ومن الرواية السادسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل حال، حتى في حال الأكل.

6- جواز الدعاء على من خالف الحكم الشرعي بلا عذر.

7- ذم الكبر، وما يترتب عليه.

8- استحباب تعليم الآكل آداب الأكل، إذا خالفها.

9- ومن الرواية السابعة والثامنة تدريب الصبيان وتعليمهم آداب الطعام.

10- وفيها منقبة لعمر بن أبي سلمة، وحرصه على اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما ورد عند البخاري، من قوله فما زالت تلك طعمتي بعد.

11- استنبط بعضهم من قوله الأيمن فالأيمن في الرواية الثالثة والعشرين أن السنة إعطاء من على اليمين، ثم الذي يليه، وهلم جرا.

12- ومن الرواية الثالثة والعشرين وما بعدها أن من سبق إلى مجلس علم، أو مجلس رئيس لا ينحى منه لمن هو أولى منه بالجلوس في الموضع المذكور، بل يجلس الآتي حيث انتهى به المجلس، لكن إن آثره السابق جاز.

13- وأن من استحق شيئاً لم يدفع عنه إلا بإذنه، كبيراً كان أو صغيراً، إذا كان ممن يجوز إذنه.

14- وأنه إذا تعارضت فضيلة شخص مع فضيلة وظيفة آخر قدمت فضيلة الوظيفة، فيقدم رئيس العمل على من هو أفضل منه من العاملين معه لوظيفته، كما قدم الأعرابي لوظيفة اليمين على أبي بكر مع سابق وآكد فضله.

15- وأن الجلساء شركاء فيما يقرب إليهم، على سبيل الفضل، لا اللزوم، للإجماع على أن المطالبة بذلك لا تجب، قاله ابن عبد البر.
قال الحافظ ابن حجر: ومحله إذا لم يكن فيهم الإمام أو من يقوم مقامه، فإن كان فالتصرف في ذلك له.

16- ومن الرواية الرابعة والعشرين والخامسة والعشرين دخول الكبير بيت خادمه وصاحبه، ولو كان صغير السن.

17- وتناوله مما عنده من طعام وشراب، من غير بحث، بل وطلبه منه طعاماً أو شراباً.

18- وجواز شرب اللبن مشوباً بالماء، قال ابن المنير: وذلك لا يدخل في النهي عن الخليطين، فإنه مقيد بالمسكر، أي إنما ينهى عن الخليطين إذا كان كل واحد منهما من جنس ما يسكر، وإنما كانوا يمزجون اللبن بالماء لأن اللبن عند الحلب يكون حاراً، وتلك البلاد في الغالب حارة، فكانوا يكسرون حر اللبن بالماء البارد.

19- ومن الرواية السادسة والعشرين، استنبط بعضهم جواز استئذان صاحب الحق في أن يتنازل عن حقه.

20- وأنه يجوز إعطاء ما ليس بحق إذا أذن صاحب الحق، فمن الواضح أنه لو أذن الغلام لأعطي الأشياخ.

21- وأنه يجوز الإيثار في مثل ذلك، إذ لو لم يجز لم يستأذن، قال الحافظ ابن حجر: وهو مشكل على ما اشتهر من أنه لا إيثار بالقرب، وعبارة إمام الحرمين في هذا: لا يجوز التبرع في العبادات، ويجوز في غيرها، وقد يقال: إن القرب أعم من العبادة، وقد أورد على هذه القاعدة تجويز جذب واحد من الصف الأول، ليصلي معه، ليخرج الجاذب عن أن يكون مصليا خلف الصف وحده، لثبوت الزجر عن ذلك، ففي مساعدة المجذوب للجاذب إيثار بقربة كانت له، وهي تحصيل فضيلة الصف الأول، ليحصل فضيلة تحصل للجاذب، وهي الخروج من الخلاف في بطلان صلاته، قال: ويمكن الجواب بأنه لا إيثار، إذ حقيقة الإيثار إعطاء ما استحقه لغيره، وهذا لم يعط الجاذب شيئاً، وإنما رجح مصلحته على مصلحته، لأن مساعدة الجاذب على تحصيل مقصوده ليس فيه إعطاؤه ما كان يحصل للمجذوب لو لم يوافقه.
اهـ وتفسير الحافظ -رحمه الله- للإيثار بما فسره اصطلاح مضيق، إذ تقديم مصلحة الغير على مصلحة نفسه إيثار، والقاعدة التي ذكرها غير متفق عليها، فقد أجازوا تنازل الأحق بالإمامة لمن هو دونه في الأحقية، وهو إيثار بالقرب.
والله أعلم.

22- واستدل بالحديث على جواز هبة الواحد للجماعة شيئاً على سبيل المشاع.

23- قال بعضهم: وفي الحديث أنه يجوز هبة الشيء المملوك مشاعاً لجماعة، وهو قول الجمهور، خلافاً لأبي حنيفة في هبة ما يقبل القسمة، قال: والحديث ظاهر في ذلك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم سأل الغلام أن يهب نصيبه للأشياخ، وكان نصيبه منه مشاعاً غير متميز، فدل على صحة هبة المشاع.
كذا قال الحافظ ابن حجر، مؤيداً بذلك ابن بطال، والتحقيق أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأل الغلام هبة نصيبه من اللبن، فنصيبه من اللبن مشاعاً باق له، وإنما سأله التنازل عن حق الترتيب، وعن حق اتصال شربه بسؤر النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك كان اعتذاره رفض التنازل عن هذا الحق لا أوثر بنصيبي منك أحداً فليس في الحديث هبة المملوك مشاعاً لآخرين، لكن فيه هبة المملوك على التعيين، نعم فيه هبة صاحب اللبن لبنه لجماعة على سبيل المشاع.

والله أعلم