هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير، 
3913 وحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ ، أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ ، عَنْ ثَابِتٍ ، عَنْ أَنَسٍ ، أَنَّ جَارًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَارِسِيًّا كَانَ طَيِّبَ الْمَرَقِ ، فَصَنَعَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ جَاءَ يَدْعُوهُ ، فَقَالَ : وَهَذِهِ ؟ لِعَائِشَةَ ، فَقَالَ : لَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا ، فَعَادَ يَدْعُوهُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَهَذِهِ ؟ ، قَالَ : لَا ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا ، ثُمَّ عَادَ يَدْعُوهُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَهَذِهِ ؟ ، قَالَ : نَعَمْ فِي الثَّالِثَةِ ، فَقَامَا يَتَدَافَعَانِ حَتَّى أَتَيَا مَنْزِلَهُ
هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير، 
3913 وحدثني زهير بن حرب ، حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس ، أن جارا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فارسيا كان طيب المرق ، فصنع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم جاء يدعوه ، فقال : وهذه ؟ لعائشة ، فقال : لا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا ، فعاد يدعوه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وهذه ؟ ، قال : لا ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا ، ثم عاد يدعوه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وهذه ؟ ، قال : نعم في الثالثة ، فقاما يتدافعان حتى أتيا منزله
هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير، 

: هذه القراءةُ حاسوبية، وما زالت قيدُ الضبطِ والتطوير، 

Anas reported that Allah's Messenger (ﷺ) had a neighbour who was Persian (by descent), and he was expert in the preparation of soup. He prepared (soup) for Allah's Messenger (ﷺ) and then came to him to invite him (to that feast). He (Allah's Messenger) said:

Here is 'A'isha also (and you should also invite her to the food). He said: No. Thereupon Allah's Messenger (ﷺ) also said: No (then I cannot join the feast). He returned inviting him, and Allah's Messenger (ﷺ) said: She is also there (i. e. 'A'isha should also be invited). He said: No. Thereupon Allah's Messenger (ﷺ) also said: No (and declined his offer). He returned again to invite him and Allah's Messenger (ﷺ) again said: She is also there. He (the host) said: Yes for the third time. Then he accepted his invitation, and both of them set out until they came to his house.

شرح الحديث من فـــتح المــــنعم

: : هذه القراءةُ حاسوبية، وما زالت قيدُ الضبطِ والتطوير،   

عن أنس رضي الله عنه أن جاراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فارسياً كان طيب المرق، فصنع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جاء يدعوه.
فقال وهذه لعائشة فقال: لا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا فعاد يدعوه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه قال: لا.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ثم عاد يدعوه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه قال: نعم.
في الثالثة.
فقاما يتدافعان حتى أتيا منزله.


المعنى العام

الأمور الجبلية من طعام وشراب ولباس ونوم، يدخل فيها كسب الإنسان واختياره، ويلحقها المدح أو الذم باتفاق جميع العقلاء، وإلا لم يكن هناك فرق بين أكل الإنسان وأكل الحيوان، ومن هذا المنطلق كانت الأمور الجبلية الاختيارية داخلة في التشريع الإسلامي، وكان فعل الرسول صلى الله عليه وسلم أو قوله أو تقريره بخصوصها تشريعاً، على سبيل الوجوب أو الندب أو الأولى أو الإباحة.

وإذا كنا مؤمنين بأن محمداً صلى الله عليه وسلم نبي ورسول، وأن الوحي كان ينزل عليه صباح مساء بحكم الله، كان من غير المعقول أن يفعل صلى الله عليه وسلم فعلاً، ليس من مراد الله تشريعه، ويستمر دون تعديل من الله طيلة حياته صلى الله عليه وسلم.

وإذا كان الوحي قد جاء بالاعتراض على عبوس وتقطيب وجهه صلى الله عليه وسلم أمام أعمى لا يراه، فنزل بقوله تعالى: { { عبس وتولى* أن جاءه الأعمى* وما يدريك لعله يزكى* أو يذكر فتنفعه الذكرى } } [عبس: 1-4] .

وإذا كان الوحي قد جاء بالاعتراض على امتناعه من أكل شيء حلال، إرضاء لأزواجه، فنزل بقوله تعالى: { { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك } } [التحريم: 1] .

وإذا كان الوحي قد جاء بالاعتراض على خلجات قلبه صلى الله عليه وسلم، فنزل قوله تعالى: { { وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه } } [الأحزاب: 37] .

إذا كان الله يعدل سلوك نبيه صلى الله عليه وسلم إلى أرقى أنواع السلوك، ليكون قدوة وأسوة لأمته، حيث أمرت بالاقتداء به: { { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } } [الأحزاب: 21] كان كل ما أقره الوحي تشريعاً من الله تعالى لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، مع مراعاة أن الظروف المحيطة بالتشريع جزء من هذا التشريع، كما سبقت الإشارة إليها في معنى الباب السابق.

وكانت محاولة البعض إخراج بعض الأمور الجبلية الاختيارية كالأكل والشرب من التشريع، محاولة تمرد على السنة النبوية، والرسالة المحمدية.

وهذه الأحاديث التي نحن بصددها أنموذج موضح لطرف من حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مطعمه ومشربه.

كان يجوع أحياناً، فلا يجد في بيته ما يقيم به صلبه، فيربط الحجر على بطنه، ويشد العصابة على جوفه، ويتلوى على الأرض من عض الجوع، وما كان ذلك هواناً من الله، فهو صاحب الوسيلة والفضيلة والشفاعة والمقام المحمود والمنزلة الرفيعة في الجنة، ولكنه كان نبراساً لفقراء الأمة المستقيمين على الشريعة الحقة، أن فقرهم لا ينقصهم عند ربهم، وأنه رب أشعث أغبر، حافي القدمين، لو أقسم على الله لأبره، ورب فقير لا يؤبه له، خير من ملء الأرض من الأغنياء الذين يرهبون وكان بعض أصحابه المقربون إليه، وزيراه اللذين كانا خليفتيه، أبو بكر وعمر، يجوعان، فيخرجهما الجوع من بيوتهما، يلتمسان سد الجوعة بطريق حلال.

وكان بعض من آتاه الله من فضله يعرف ذلك، ويسارع في إكرامهم واستضافتهم، تارة يدعوهم إلى بيته وطعامه، كما فعل الأنصاري، صاحب الغلام اللحام في الحديث الأول، وكما فعل الفارسي في الحديث الثاني، وكما فعل جابر في الحديث الخامس، وكما فعل أبو طلحة، زوج أم أنس، كما هو ظاهر في بعض الأحاديث، وكما فعل الخياط في الحديث الثاني عشر وما بعده.

وتارة يبعث الهدية والطعام، كما هو ظاهر في بعض أحاديث أنس رضي الله عنه.

وتارة كان صلى الله عليه وسلم يلجأ إلى بعض أصحابه، فيزورهم هو ومن معه، ابتغاء أن يطعموهم ويتحفوهم كأضياف، كما في الحديث الثالث.

وفي كل هذه الأحوال تدخل التشريعات الإلهية الفرعية، الضيف المدعو يتبعه ضيف لم يدع، ما موقف الضيف المدعو؟ وما موقف المضيف الداعي؟ وماذا عن المتطفل؟ الداعي يدعو واحداً، فيتمسك المدعو بأن يدعو الداعي مدعواً آخر، ما موقف الداعي؟ وما موقف المدعو من إجابة الدعوة؟ المرأة في بيتها، ما موقفها من ضيوف زوجها؟ وماذا عن كلامهم معها؟ ومراجعتها لهم؟ الفقير يدعو الكبير الشريف إلى طعام بمنزله، الحرف الوضيعة وموقف الإسلام من أصحابها، السيد يأكل مع خادمه، مناولة الأضياف بعضهم بعضاً.

وعلى رأس هذه المباحث الفقير والغني، وما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من التقلل من الدنيا، وما كان عليه الصحابة من الزهد أو التنعم، وأيهما أفضل؟ الغني الشاكر؟ أم الفقير الصابر؟.

وأبرز النقاط معجزة تكثير الطعام والشراب ببركة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه المعجزة الحسية المادية التي شهدها آلاف البشر، رأوها رؤيا العين، وأحسوها إحساس الأكل والشرب وتناقلها من الرواة ما يثبتها بالتواتر المعنوي، لكنها كانت في عصر العقل والروح، وأمام معجزة القرآن الكريم لا تكاد تذكر، لذا قد ينكرها بعض الناس.

ولم ينكرونها وقد آمنوا بالمائدة تنزل من السماء بدعوة عيسى -عليه السلام؟ وبإنزال المن والسلوى على بني إسرائيل؟ وبناقة صالح التي كان لها شرب؟ ولهم شرب يوم معلوم؟.

فاللهم آمنا بك وبرسولك، وبالكتاب الذي نزل على رسولك، وبالمعجزات التي أظهرتها على يد رسولك صلى الله عليه وسلم.

المباحث العربية

( كان رجل من الأنصار يقال له: أبو شعيب) قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على اسمه.

( وكان له غلام لحام) بتشديد الحاء، أي يبيع اللحم، أي جزار، وفي رواية للبخاري فقال لغلام له قصاب بفتح القاف وتشديد الصاد.

( فعرف في وجهه الجوع) بقرينة الحال التي كانوا فيها.

( ويحك) كلمة ترحم وتوجع، وقيل: هي بمعنى ويل، يقال: ويح له، ويحاً له، وويحه.

( اصنع لنا طعاماً لخمسة نفر) الإضافة بيانية، أي لخمسة هم نفر.

( خامس خمسة) يقال: خامس أربعة، وخامس خمسة بمعنى، قال تعالى: { { ثاني اثنين } } [التوبة: 40] ومعنى خامس أربعة أي زائد عليهم، ومصير الأربعة خمسة، ومعنى خامس خمسة أي أحدهم، والأجود نصب خامس على الحال، ويجوز الرفع، بتقدير مبتدأ محذوف، أي وهو خامس خمسة، والجملة حينئذ حالية.

( فدعاه خامس خمسة) في رواية فدعاه وجلساءه الذين معه وكأنهم كانوا أربعة، وهو خامسهم.

( واتبعهم رجل) بتشديد التاء، وفي رواية للبخاري فتبعهم رجل وهما بمعنى، وذكرها الداودي بهمزة قطع، وتكلف ابن التين في توجيهها، وفي رواية فجاء معهم رجل.

( فلما بلغ الباب) أي باب دار الأنصاري، وفاعل بلغ ضمير الرسول صلى الله عليه وسلم.

( إن هذا اتبعنا) في رواية للبخاري إنك دعوتنا خامس خمسة، وهذا رجل قد تبعنا وفي رواية وهذا رجل لم يكن معنا حين دعوتنا.

( فإن شئت أن تأذن له، وإن شئت رجع) في رواية للبخاري فإن شئت أذنت له، وإن شئت تركته وفي رواية وإن شئت أن يرجع رجع وفي رواية فإن أذنت له دخل.

( قال: لا.
بل آذن له يا رسول الله)
لا أي لا يرجع، وفي رواية لا.
فقد أذنا له، فليدخل.

( أن جاراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فارسياً كان طيب المرق) أي يجيد طعم مرق اللحوم، بما يختار من نوعها، وما يضيفه من أملاح وتوابل وبهار.

( فصنع لرسول الله صلى الله عليه وسلم) المفعول محذوف، أي صنع مرقاً، أي ولحم.

( فقال: وهذه؟ لعائشة -فقال: لا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا) وهذه الواو عاطفة على جملة محذوفة، وهذه مبتدأ محذوف الخبر، والكلام على الاستفهام، والتقدير: هل أنا مدعو؟ وهذه مدعوة معي؟ فقال: لا.
أي ليست مدعوة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا، أي لست قابلاً للدعوة، ولست مجيباً لها.

والطاهر أن رفض الرجل لدعوة عائشة سببه أن الطعام كان قليلاً، لا يكفي إلا واحداً، فخشي إن أذن لعائشة أن لا يكفي النبي صلى الله عليه وسلم، والظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم علم حاجة عائشة لذلك الطعام بعينه، أو أحب أن تأكل معه منه، لأنه كان موصوفاً بالجودة، فأراد أن تتعلمه لتصنعه، أو للإشارة إلى أنه ينبغي للداعي أن يدعو خواص المدعو معه، وبخاصة من حضر منهم الدعوة.

( فقاما يتدافعان، حتى أتيا منزله) أي أخذا يمشيان ويسرعان، يمشي كل واحد منهما في إثر صاحبه، يسابقه المشي، كأنه يدفعه إلى الوراء بتقدمه عليه.

( خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم أو ليلة فإذا هو بأبي بكر وعمر) أي خرج من بيته، على غير جهة، والفاء زائدة، وإذا للمفاجأة، ظرف زمان أو ظرف مكان، وتدخل على جملة اسمية، وعاملها عند الجمهور الخبر، أي استقر عنده أبو بكر وعمر وقت أو مكان خروجه.
وقيل: عاملها معنى المفاجأة، أي فاجأه أبو بكر وعمر وقت أو مكان خروجه.
وفي الرواية الرابعة بينا أبو بكر قاعد، وعمر معه إذ أتاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا للمفاجأة، أي فاجأهما إتيانه صلى الله عليه وسلم بين أوقات قعودهما.

( ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة؟) بيوتكما قال النووي: بضم الباء وكسرها، لغتان، قرئ بهما في السبع، وجمع بيوت جائز، كالتثنية والإفراد.

( الجوع) بالرفع، فاعل لفعل محذوف، أي أخرجنا الجوع، قال النووي: معناه أنهما لما كانا عليه من مراقبة الله تعالى، ولزوم طاعته، والاشتغال به، فعرض لهما هذا الجوع الذي يزعجهما ويقلقهما، ويمنعهما من كمال النشاط للعبادة، وتمام التلذذ بها، سعياً في إزالته بالخروج في طلب سبب مباح، يدفعانه به، وهذا من أكمل الطاعات، وأبلغ أنواع المراقبات، وقد نهي عن الصلاة مع مدافعة الأخبثين، وبحضرة طعام تتوق النفس إليه.
اهـ

( قال: وأنا) قال النووي: هكذا هو في بعض النسخ وأنا بالواو، وفي بعضها فأنا بالفاء.

( قوموا.
فقاموا معه)
قال النووي: هكذا هو في الأصول بضمير الجمع، وهو جائز بلا خلاف -على اعتبار أن الجمع ما فوق الواحد -لكن الجمهور يقولون: إطلاقه على الاثنين مجاز، وآخرون يقولون: حقيقة.

( فأتى رجلاً من الأنصار) هو أبو الهيثم -مالك بن التيهان- بفتح التاء وتشديد الياء.

( مرحباً وأهلاً) كلمتان معروفتان للعرب، أي صادفت رحباً وسعة، وأهلاً تأنس بهم، مفعولان لفعلين محذوفين.

( أين فلان؟) اللفظ الذي نطق به رسول الله صلى الله عليه وسلم هو اسم الرجل، أبو الهيثم مالك، وفلان تعبير من الراوي، كناية عن الاسم.

( ذهب يستعذب لنا من الماء) أي ذهب يطلب لنا العذب الطيب من الماء، ليحضره لنا.

( إذ جاء الأنصاري) إذ ظرف لقالت، وجملة جاء الأنصاري مضاف لإذ، أي قالت كذا وقت مجيء الأنصاري.

( فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه) نظرة فرح وسرور وترحيب.

( ما أحد اليوم أكرم أضيافاً مني) المقصود من النفي نفي الانبغاء، أي ما ينبغي وما يصح أن يكون أحد أكرم أضيافاً مني اليوم، وأكرم خبر ما منصوب عند الحجازيين، لأنهم يعملونها عمل ليس، وأضيافاً معمول لأكرم.

( فجاءهم بعذق، فيه بسر وتمر ورطب) العذق بكسر العين وسكون الذال، وهو غصن النخل ذو الفروع الحاملة للثمرة، والبسر ثمر النخل قبل أن يرطب، والعذق يذكر ويؤنث، وعليه قال كلوا من هذه وإنما أتى بهذا العذق الملون ليكون أطرف، وليجمعوا بين أكل الأنواع، فقد يطيب لبعضهم هذا، ولبعضهم هذا، أما العذق بفتح العين فهو النخلة، كلها، وليس مراداً هنا.

( وأخذ المدية) بضم الميم وكسرها، وهي السكين، والظاهر أن سكين الذبح كانت مميزة عندهم عن السكين التي تستعمل في أغراض أخرى، حتى فهموا من أخذها أنه يقصد الذبح.

( إياك والحلوب) أي ذات اللبن، فعول بمعنى مفعول، أي أحذرك من ذبح الحلوب، للانتفاع بلبنها، فإياك مفعول به لفعل محذوف.

( فلما أن شبعوا ورووا) بضم الواو، يقال: روي -بكسر الواو وفتح الياء- من الماء ونحوه، يروى بفتح الواو، رياً، بكسر الراء وفتحها مع تشديد الياء، وروي بكسر الراء وفتح الواو، مقصور، إذا شرب وشبع.

( لتسألن عن هذا النعيم) سؤال امتنان، فيقال لكم مثلاً، ألم أطعمكم من جوع؟.

( لما حفر الخندق) أي لما بدئ بحفر الخندق، وأثناء حفره.

( رأيت برسول الله صلى الله عليه وسلم خمصاً) بفتح الخاء وفتح الميم، أي ضموراً في البطن من الجوع، يقال: خمص البطن، بفتح الميم، يخمص بضمها، خمصاً بسكونها، وخموصاً، ومخمصة، خلا وضمر، وخمص الجوع فلاناً، أضعفه، وأدخل بطنه في جوفه، فهو خميص، والجمع خماص بكسر الخاء، وهي خميصة، والجمع خماص وخمائص، وخمص بطنه، بكسر الميم، يخمص بفتحها، خمصاً بفتح الخاء والميم، كخمص بفتح الخاء والميم، فهو خمصان بفتح الخاء وسكون الميم، وهي خمصانة، ويقال خمص البطن بضم الميم، يخمص بضمها، خمصاً بضم الخاء وسكون الميم.

( فانكفأت إلى امرأتي، فقلت لها...) أي انقلبت ورجعت، قال النووي: ووقع في نسخ فانكفيت وهو خلاف المعروف في اللغة، بل الصواب: انكفأت.
بالهمز.

( فأخرجت لي جراباً) بكسر الجيم وفتحها والكسر أشهر، وهو وعاء من جلد معروف.

( ولنا بهيمة داجن) بضم الباء، تصغير بهيمة، وتطلق على الذكر والأنثى، والمراد هنا صغيرة من أولاد الضأن شاة، أو سلخة بنت المعز، والداجن ما ألف البيوت، وكان أغلب أكله وتربيته في البيوت، وليس في المراعي.

( وطحنت) بفتح النون، والفاعل ضمير يعود على امرأته.

( ففرغت إلى فراغي) أي ضمت فراغها إلى فراغي، أي لتساعدني فيما أعمل لنفرغ.

( فقطعتها في برمتها) بتشديد الطاء، والضمير يعود على البهيمة الداجن، بمعونة المقام، وفي برمتها متعلق بمحذوف حال، أي قطعتها واضعاً قطعها في برمتها، والبرمة القدر من الحجارة.

( ثم وليت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت....
)
في وليت مجاز المشارفة، أي ثم قصدت الذهاب، وأشرفت عليه، ولبست ثيابي له، فقالت....

( لا تفضحني برسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه) أي أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بحقيقة طعامنا ومقداره، حتى لا نفضح بحضور من لا يجد طعاماً عندنا.

( فجئته، فساررته، فقلت..) الفاء في فقلت تفسيرية، فالقول هو المسارة.

( وطحنت صاعاً من شعير) بفتح النون، والضمير لامرأته، بدلالة المقام.

( فتعال أنت في نفر معك) التنوين في نفر للتقليل، والنفر من الثلاثة إلى العشر من الرجال.

( إن جابراً قد صنع لكم سوراً) بضم السين وسكون الواو غير مهموز، وهو الطعام الذي يدعى إليه، وقيل: هو الطعام سلقاً، وهي لفظة فارسية.

( فحيهلا بكم) قال النووي: حي هلا بتنوين هلا وقيل: بلا تنوين، على وزن علا، ويقال: حي هلا، ومعناه عليك بكذا، وقيل: معناه أعجل به، وقيل: معناه هات وعجل به.
اهـ وللعرب كلمات، نحتوها من جمل، كالبسملة من بسم الله الرحمن الرحيم، من الحمد لله، والحيعلة من حي على الصلاة وحي على الفلاح، والحيهلة، والمعنى أقبلوا وأهلاً بكم.

( لا تنزلن برمتكم) عن النار، حين ترجع إليها، وعبر بنون التوكيد الثقيلة للالتزام والاهتمام، والتاء في تنزلن مضمومة.

( ولا تخبزن عجينتكم حتى أجيء) تخبزن بفتح التاء وسكون الخاء وكسر الباء وضم الزاي بعدها نون التوكيد، والخطاب لجابر وأهله، وحتى أجيء يحتمل أن تكون غاية لعدم إنزال البرمة وعدم الخبز، ويحتمل أن تكون غاية لعدم الخبز فقط، وهو الأولى، لأن الخبز بدأ بعد مجيئه، أما عدم إنزال البرمة فاستمر بعد مجيئه.

( فجئت، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم الناس، حتى جئت امرأتي فقالت: بك، وبك) في الكلام تقديم وتأخير، والمراد من جئت الأولى رجعت، أن بدأت الرجوع والمراد من جئت الثانية الوصول ونهاية الرجوع، وأصل الترتيب فبدأت الرجوع من عند النبي صلى الله عليه وسلم من الخندق، سابقاً على مجيء النبي صلى الله عليه وسلم، حتى وصلت إلى امرأتي، فأخبرتها بما حصل من النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الخندق، فقالت: بك، وبك -أي بك تلحق الفضيحة، وبك يتعلق الذم، وقيل: بك أي برأيك وقع ما وقع، وبسوء نظرك وتصرفك حصل ما حصل، ويحتمل أنه دعاء عليه بأن يقع به سوء ويقع به آخر، غير قاصدة وقوع المدعو به، كما يحصل عند الغضب والفزع، وبعد ذلك جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم قومه.

( فقلت: قد فعلت الذي قلت لي) أطلق الفعل على القول، أي قلت الذي قلت لي، أو فعلت الإسرار بالذي قلت لي، وأخبرته صلى الله عليه وسلم بالذي عندنا.

( فأخرجت له عجينتنا) تاء الفاعل لجابر، أي أخرجها من حجرتها إليه صلى الله عليه وسلم، أو كشف غطاءها عنها، بعد أن جاء يحملها، فهي قدر صاع.

( فبصق فيها، وبارك) قال النووي: هكذا هو في أكثر الأصول فبصق وفي بعضها فبسق وهي لغة قليلة، والمشهور بصق وبزق.
اهـ

( ثم عمد إلى برمتنا، فبصق فيها وبارك) عمد بفتح الميم، أي قصد واتجه نحو البرمة، وهي على النار.

( ثم قال) لامرأتي.

( ادعي خابزة فلتخبز معك) قال النووي: ادعي هذه اللفظة وقعت في بعض الأصول هكذا، بعين ثم ياء، وهو الصحيح الظاهر، لأنه خطاب للمرأة، ولهذا قال: فلتخبز معك وفي بعضها ادعوني بواو ونون، وفي بعضها ادعني وهما أيضاً صحيحان، وتقديره: اطلبوا واطلب لي خابزة.
اهـ

( واقدحي من برمتكم، ولا تنزلوها، أي واغرفي من برمتكم، ولا تنزليها أنت ولا أحد من الموجودين) يقال: قدحت المرق أقدحه، بفتح الدال، أي غرفته.

( وهم ألف) جملة مستأنفة استئنافاً بيانياً، أو حالية من فاعل لأكلوا داخلة في جواب القسم.

( حتى تركوه، وانحرفوا) أي حتى تركوا الطعام شبعا، وانصرفوا عنه عدم رغبة فيه.

( وإن برمتنا لتغط كما هي) الجملة حالية، وتغط بكسر الغين، وتشديد الطاء، أي تغلي، ويسمع غليانها، ومنه غطيط النائم، وهو صوت نفسه حين يتردد في خياشيمه، والمعنى أن البرمة كانت تغلي بما فيها، كما كانت قبل الغرف منها.

( وإن عجينتنا لتخبز كما هو) كان الأصل أن يقول: كما هي، ليعود الضمير على العجينة باعتبار لفظها، ولكنه أعاد الضمير عليها مذكراً باعتبارها عجيناً.

( عن أنس بن مالك قال: قال أبو طلحة لأم سليم) أبو طلحة هو زيد بن سهل الأنصاري، وأم سليم من السابقين إلى الإسلام من الأنصار، وكانت زوجة لمالك بن النضر في الجاهلية، وولدت له أنساً قبل أن تسلم، ولما أسلمت غضب زوجها مالك، فخرج إلى الشام، ومات بها، فخطبها أبو طلحة، فقالت له: ما مثلك يرد يا أبا طلحة، ولكنك امرؤ كافر، وأنا مسلمة، لا تحل لي، فإن تسلم فذلك مهري، فأسلم، فكان ذلك مهرها، وكان أبو طلحة يرمي بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد، ويقول له: نحري دون نحرك يا رسول الله، وتوفي سنة أربع وثلاثين.

وكانت أم سليم تغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان صلى الله عليه وسلم يزورها، فتتحفه بالشيء تصنعه له، وكان أنس ابنها ربيب أبي طلحة خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم لعشر سنين، طلبت أمه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو له، فدعا له بالزيادة في ماله وولده، فيروى عنه أنه كان يقول: دفنت من صلبي مائة وخمسة وعشرين، وإن أرضي لتثمر في السنة مرتين، أقام بعد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وشهد الفتوح، وقطن البصرة، ومات بها سنة تسعين، وهو آخر الصحابة موتاً -رضي الله عنهم أجمعين.

قال الحافظ ابن حجر: وقد اتفقت الطرق على أن الحديث المذكور من مسند أنس، وقد وافقه على ذلك أخوه لأمه عبد الله بن أبي طلحة، فرواه مطولاً عن أبيه، أخرجه أبو يعلى بإسناد حسن، وأوله عن أبي طلحة، قال: دخلت المسجد، فعرفت في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع... الحديث.

( قد سمعت صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعيفاً، أعرف فيه الجوع) هكذا في الرواية السادسة، وبقيتها فهل عندك من شيء؟ فقالت: نعم، فأخرجت أقراصاً من شعير، ثم أخذت خماراً لها -أي الطرحة التي كانت تغطي وجهها وصدرها بها -فلفت الخبز ببعضه- أي ولفته بالخمار - ثم دسته تحت ثوبي، وردتني ببعضه -أي وردت ثوبي علي- وعند البخاري ولاثتني ببعضه أي لفتني به، أي لفت بعضه على رأسه، وبعضه على إبطه، يقال: لاث العمامة على رأسه، أي عصبها.
ثم أرسلتني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فذهبت به، فوجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً في المسجد، ومعه الناس، فقمت عليهم -أي وقفت أمامهم- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرسلك أبو طلحة؟ قال: فقلت: نعم.
فقال: ألطعام؟ فقلت: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن معه: قوموا.....

وفي الرواية السابعة عن أنس قال: بعثني أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأدعوه، وقد جعل طعاماً، قال: فأقبلت، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مع الناس، فنظر إلي، فاستحييت، فقلت: أجب أبا طلحة.
فقال للناس: قوموا....

وفي الرواية الثامنة أمر أبو طلحة أم سليم أن تصنع للنبي صلى الله عليه وسلم، طعاماً لنفسه خاصة، ثم أرسلني إليه...الحديث كالسابق.

وفي الرواية العاشرة عن أنس قال: رأى أبو طلحة رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجعاً في المسجد، يتقلب ظهراً لبطن، فأتى أم سليم، فقال: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجعاً في المسجد، يتقلب ظهراً لبطن، وأظنه جائعاً...الحديث كالسابق.

وفي الرواية الحادية عشرة عن أنس بن مالك قال: جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً، فوجدته جالساً مع أصحابه، يحدثهم، وقد عصب بطنه بعصابة على حجر....
فذهبت إلى أبي طلحة، فقلت: يا أبتاه... فدخل أبو طلحة على أمي، فقال: هل عندك شيء؟ فقالت: نعم.
عندي كسر من خبز، وتمرات.....

قال الإمام النووي: اعلم أن أنساً رضي الله عنه روى هنا حديثين: الأول من طريق، والثاني من طريق، وهما قضيتان، جرت فيهما هاتان المعجزتان -تكثير الطعام القليل، وعلمه صلى الله عليه وسلم بأن الطعام القليل سيكثر -ففي الحديث الأول أن أبا طلحة وأم سليم -رضي الله عنهما- أرسلا أنساً رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأقراص شعير....
إلى آخر ما ذكر في الرواية السادسة، وأما الحديث الآخر ففيه أن أنساً قال: بعثني أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأدعوه... ثم ساق روايتنا السابعة.
ثم قال: وهذا الحديث قضية أخرى بلا شك، وفيها ما سبق في الحديث الأول وزيادة.
اهـ

وكذلك يميل الحافظ ابن حجر: إلى تعدد القصة، فيقول بعد أن ذكر روايات مسلم، وزاد عليها رواية أحمد إن أبا طلحة رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم طاوياً ورواية أبي يعلى إن أبا طلحة بلغه أنه ليس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم طعام، فذهب، فأجر نفسه بصاع من شعير، ثم جاء به ورواية أبي نعيم جاء أبو طلحة إلى أم سليم، فقال: أعندك شيء، فإني مررت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يقرئ أصحاب الصفة سورة النساء، وقد ربط على بطنه حجراً من الجوع يقول: ولا منافاة بين ذلك، لاحتمال أن تكون القصة تعددت، ويدل على التعدد ما بين العصيدة [الواردة في البخاري، بلفظ أن أم سليم عمدت إلى مد من شعير، جشته -أي جعلته جشيشاً، دقيقاً غير ناعم- وجعلت منه خطيفة -وهي العصيدة، وزناً ومعنى- وعصرت عكة عندها....
الحديث]
والخبز المفتوت، الملتوت بالسمن، من المغايرة.
اهـ

وفي النفس من تعدد القصة شيء، فالمسجد الوارد في الرواية السادسة وفي الرواية العاشرة المراد به الموضع الذي أعده النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة فيه، حين محاصرة الأحزاب للمدينة في غزوة الخندق، كما يقول الحافظ ابن حجر.

وكون القوم ثمانين، ودخلوا عشرة عشرة، دون اختلاف في ملابسات وصولهم يبعد التعدد.

ثم إن الجمع ممكن وسهل، فكون الرائي لأعراض الجوع أبا طلحة أو أنساً لا يلزمه التنافي، فقد يكون كل منهما قد رأى، وكل منهما قد أخبر.

وكون أنس ذهب بكسر الخبز، وعاد به لا ينافي ما حصل بعد وصول النبي صلى الله عليه وسلم من فته، ولته بالسمن.

وكون أم سليم قدمت خبزاً مفتوتاً، أو عصيدة، فيمكن أن تكون قد جمعت بينهما، وأن الخبز الكسر المرسل مع أنس هو الذي فت، وأنها لما رأت الناس طحنت الدشيش وطبخته عصيدة.
والتشابه في الأحداث يرجح عدم التعدد.
والله أعلم.

( فقمت عليهم) سياق الكلام أن أبا طلحة وأم سليم أرسلا الخبز مع أنس، ليأخذه النبي صلى الله عليه وسلم، فيأكله، فلما وصل أنس، ورأى كثرة الناس حول النبي صلى الله عليه وسلم استحيا، وظهر له أن يدعو النبي صلى الله عليه وسلم، ليقوم معه وحده إلى المنزل، فيحصل مقصودهم من إطعامه، ويحتمل أن يكون ذلك تخطيطاً ممن أرسله، وأنهما قالا له: إن رأيت كثرة الناس فادع النبي صلى الله عليه وسلم وحده، خشية أن لا يكفيهم الخبز الذي يحمله، وقد عرفوا إيثار النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه لا يأكل وحده، فلما رأى كثرة الناس دعاه.

( آرسلك أبو طلحة؟) بهمزة ممدودة للاستفهام.

( فانطلق، وانطلقت بين أيديهم، حتى جئت أبا طلحة، فأخبرته) في رواية فقال للقوم: انطلقوا.
فانطلقوا، وهم ثمانون رجلاً وفي أخرى فلما قلت له: إن أبي يدعوك، قال لأصحابه: يا هؤلاء.
تعالوا، ثم أخذ يدي، فشدها، ثم أقبل بأصحابه، حتى إذا دنوا -أي من منزل أبي طلحة- أرسل يدي، فدخلت، وأنا حزين، لكثرة من جاء معه.

( فقالت: الله ورسوله أعلم) كأنها عرفت أنه فعل ذلك عمداً، ليظهر الكرامة في تكثير ذلك الطعام، أي إنه عرف الطعام ومقداره، فهو أعلم بالمصلحة، فلو لم يعلمها في مجيء الجمع العظيم لم يفعلها فلا تحزن يا أبا طلحة.

( فانطلق أبو طلحة حتى لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي فانطلق إلى خارج الدار، ليتلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه، وفي رواية فاستقبله أبو طلحة، فقال: يا رسول الله، ما عندنا إلا قرص، عملته أم سليم وفي رواية إنما صنعت لك شيئاً وفي روايتنا التاسعة يا رسول الله إنما كان شيء يسير وفي رواية فقال أبو طلحة: يا رسول الله، إنما أرسلت أنساً يدعوك وحدك، ولم يكن عندنا ما يشبع من أرى.
يا رسول الله.
إنما هو قرص؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ادخل، فإن الله سيبارك فيما عندك.

( هلمي ما عندك يا أم سليم) في بعض الروايات هلم وهو في لغة الحجاز لا يؤنث، ولا يثنى، ولا يجمع، أي هات ما عندك.

( وعصرت عليه أم سليم عكة لها) العكة بضم العين وتشديد الكاف، إناء من جلد، مستدير، يجعل فيه السمن غالباً، وفي رواية فقال: هل من سمن؟ فقال أبو طلحة: قد كان في العكة سمن، فجاء بها، فجعلا يعصرانها، حتى خرج، ثم مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم به سبابته، ثم مسح القرص، فانتفخ.

( فأدمته) بمد الهمزة وقصرها، لغتان، وضمير الفاعل لأم سليم، أي جعلت فيه إداماً.

( ثم قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقول) في الرواية السابعة فمسها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعا فيها بالبركة وفي رواية ثم قال: بسم الله.
اللهم أعظم فيها البركة.

( ثم قال: ائذن لعشرة) ظاهره أنه صلى الله عليه وسلم دخل منزل أبي طلحة وحده، وهو كذلك، وقد صرح به في رواية، ولفظها فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الباب قال لهم: اقعدوا، ودخل.

( وإنما أذن لعشرة عشرة فقط) لأن لا يتصور أن يتحلق حول القصعة أكثر من هذا العدد، فكان بهذا أرفق بهم، لئلا يبعد بعضهم عن القصعة.

( ثم هيأها، فإذا هي مثلها حين أكلوا منها) أي حين بدءوا الأكل منها، ومعنى هيأها أي هيأ القصعة، وجمع ما على جدرانها من طعام، وفي ملحق الرواية السابعة ثم أخذ ما بقي، فجمعه، ثم دعا فيه بالبركة، فعاد كما كان، فقال -لأبي طلحة وأم سليم وأنس- دونكم هذا أي خذوا هذا، فكلوا.

( ثم أكل النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك وأهل البيت وتركوا سؤراً) أي بقية، وفي ملحق الرواية التاسعة ثم أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكل أهل البيت، وأفضلوا ما أبلغوا جيرانهم وفي الرواية العاشرة ثم أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو طلحة وأم سليم وأنس بن مالك، وفضلت فضلة، فأهديناه لجيراننا.

( إن خياطاً) في رواية أنه كان غلام النبي صلى الله عليه وسلم، ولفظها عن أنس إن مولى لي خياطاً دعاه.

( دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لطعام صنعه) فكان الطعام -كما في الرواية- خبزاً من شعير، ومرقاً فيه دباء وقديد والدباء بضم الدال وتشديد الباء ممدودة، ويجوز القصر وأنكره القرطبي، وهو القرع -وقيل: خاص بالمستدير منه، وهو اليقطين أيضاً، واحده دباة ودبة ودباءة.

( فذهبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك الطعام) عند ابن ماجه بسند صحيح عن أنس رضي الله عنه قال: بعثت معي أم سليم بمكتل، فيه رطب، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم أجده، وخرج قريباً إلى مولى له دعاه، فصنع له طعاماً، فأتيته وهو يأكل، فدعاني، فأكلت معه، قال: وصنع له ثريدة بلحم وقرع، فإذا هو يعجبه القرع، فجعلت أجمعه، فأدنيه منه قال الحافظ ابن حجر: ويجمع بين قوله في هذه الرواية فلم أجده وبين حديث الباب ذهبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه أطلق المعية باعتبار ما آل إليه الحال، ويحتمل تعدد القصة على بعد.

( فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبع الدباء من حوالي الصحفة) حوالي بفتح اللام وسكون الياء، أي جوانب، يقال: رأيت الناس حوله وحوليه وحواليه، واللام مفتوحة في الجميع، ولا يجوز كسرها.

فقه الحديث

يمكن حصر فقه الحديث في هذا الباب في أربع نقاط:

1- الضيف يتبعه شخص لم يدع، ماذا على الضيف؟ وماذا على الداعي؟ صاحب الطعام؟.

2- ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم من ضيق الحال، والكرم.

3- تكثير الطعام، كمعجزة حسية لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

4- ما يؤخذ من الأحاديث من الأحكام والحكم.

وهذا هو التفصيل:

1- أما النقطة الأولى فقال النووي: إن المدعو إذا تبعه رجل، بغير استدعاء، ينبغي له أن لا يأذن له، وينهاه، وإذا بلغ باب دار صاحب الطعام أعلمه به، ليأذن له، أو يمنعه، وأن صاحب الطعام يستحب له أن يأذن له، إن لم يترتب على حضوره مفسدة، بأن يؤذي الحاضرين، أو يشيع عنهم ما يكرهونه، أو يكون جلوسه معهم مزرياً بهم، فإن خيف من حضوره شيء من هذا لم يأذن له، وينبغي أن يتلطف في رده، ولو أعطاه شيئاً من الطعام كان حسناً، إن كان يليق به، ليكون رداً جميلاً.
اهـ

وهذه قضية الرواية الأولى، وقد أخذ منها الحافظ ابن حجر: أن من تطفل في الدعوة كان لصاحب الدعوة الاختيار في حرمانه، فإن دخل بغير إذنه كان له إخراجه.

كما أخذ منها أن من قصد التطفيل لم يمنع ابتداء، لأن الرجل تبع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرده، لاحتمال أن تطيب نفس صاحب الدعوة بالإذن له.

قال: وينبغي أن يكون هذا الحديث أصلاً في جواز التطفيل، لكن يقيد بمن احتاج إليه، وقد جمع الخطيب في أخبار الطفيليين جزءاً، فيه عدة فوائد، منها أن الطفيلي منسوب إلى رجل يقال له: طفل، من بني عبد الله بن غطفان، كثر منه الإتيان إلى الولائم بغير دعوة، فسمي طفيل العرائس، فسمي من اتصف بعد بصفته طفيلياً.

ثم قال الحافظ: واستدل به على منع استتباع المدعو غيره -أي عدم دعوة المدعو لغيره ليصحبه- إلا إذا علم من الداعي الرضا بذلك.
اهـ وهذا المأخذ غير واضح من الحديث، فإن الرواية الأولى ليس فيها استتباع، ولا منع استتباع، ولا يؤخذ من عدم الفعل المنع لكن قد يؤخذ من الرواية الثانية إذ منع صلى الله عليه وسلم من الاستتباع، فأقره والتزم به، على أن قصة جابر وأبي طلحة والخياط لا تؤيد هذا المأخذ، إلا أن يقال: إن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لغيره في هذه الأحاديث كانت دعوة لما صار حقاً له، واستدل به على أن الطفيلي يأكل حراماً، وقد روي عن ابن عمر مرفوعاً من دخل بغير دعوة دخل سارقاً، وخرج مغيراً وهو حديث ضعيف، رواه أبو داود، وقال الشافعية: لا يجوز التطفيل، إلا لمن كان بينه وبين صاحب الدار انبساط.
اهـ وينبغي أن يقيد بما إذا قبله صاحب الدار بقبول حسن.

أما الرواية الثانية ففيها أن الداعي لم يأذن لمن أراد المدعو استصحابه، وهذا حقه فقد لا يكفي طعامه غير المدعو، فيحرج، وقد يتكره صاحب الدار دخوله، استثقالاً له، أو لأمر ما، ولم يستخدم جابر وطلحة هذا الحق، إما لأنهما علما بركة النبي صلى الله عليه وسلم ورجواها، وإما لأن بينهما وبين النبي صلى الله عليه وسلم من المودة والإجلال له ما يمنعهما من ذلك، لكن هل من حق المدعو لوليمة أن يمتنع من الإجابة، إذا امتنع الداعي من الإذن لمن أراده المدعو؟ ظاهر الحديث أن له ذلك، لكن الحافظ ابن حجر يقول: ليس له أن يمتنع، ويجيب عن هذه الرواية بأن الدعوة لم تكن لوليمة، وإنما صنع الفارسي طعاماً، قال: ويستحب للداعي أن يدعو خواص المدعو، كما في قصة اللحام، بخلاف الفارسي، فلذلك امتنع من الإجابة إلا أن يدعوها.

2- أما عن النقطة الثانية -ما كان عليه صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الضيق في الرزق- فإن الرواية الثالثة ظاهرة في ذلك، وأنهم ابتلوا بالجوع وضيق العيش في أوقات، قال النووي: وقد زعم بعض الناس أن هذا كان قبل فتح الفتوح والقرى عليهم، وهذا زعم باطل، فإن راوي الحديث أبو هريرة، ومعلوم أنه أسلم بعد فتح خيبر.

فإن قيل: لا يلزم من كونه رواه أن يكون أدرك القضية، فلعله سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره؟ فالجواب أن هذا خلاف الظاهر، ولا ضرورة إليه، بل الصواب خلافه، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزل يتقلب في اليسار والقلة حتى توفي صلى الله عليه وسلم، فتارة يوسر، وتارة ينفد ما عنده، كما ثبت في الصحيح عن أبي هريرة خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدنيا، ولم يشبع من خبز الشعير وعن عائشة ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم منذ قدم المدينة من طعام ثلاث ليال تباعاً، حتى قبض و توفي صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة على شعير، استدانه لأهله وغير ذلك مما هو معروف، فكان النبي صلى الله عليه وسلم في وقت يوسر، ثم بعد قليل ينفد ما عنده، لإخراجه في طاعة الله من وجوه البر، وإيثار المحتاجين، وضيافة الطارقين، وتجهيز السرايا، وغير ذلك.
وهكذا كان خلق صاحبيه -رضي الله عنهما- بل أكثر أصحابه، وكان أهل اليسار من المهاجرين والأنصار -رضي الله عنهم- مع برهم له صلى الله عليه وسلم، وإكرامهم إياه، وإتحافهم له بالطرف وغيرها، ربما لم يعرفوا حاجته في بعض الأحيان، لكونهم لا يعرفون فراغ ما كان عنده من القوت، بإيثاره به غيره، ومن علم ذلك منهم ربما كان ضيق الحال مثله، في ذلك الوقت، كما جرى لصاحبيه، ولا يعلم أحد من الصحابة، علم حاجة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو متمكن من إزالتها إلا بادر إلى إزالتها، لكن كان صلى الله عليه وسلم يكتمها عنهم، إيثاراً لتحمل المشاق، وحملا عنهم، وأشباه هذا كثير في الصحيح مشهور.
اهـ

ومن هذا الصحيح المشهور كان فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم من أدم -جلد مدبوغ- حشوه ليف وروايتنا الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والعاشرة والحادية عشرة، وعند البخاري عن أنس لم يأكل النبي صلى الله عليه وسلم على خوان حتى مات، وما أكل خبزاً مرققاً حتى مات وعند البيهقي ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام متوالية، ولو شئنا لشبعنا، ولكنه كان يؤثر على نفسه.

وادعى ابن حبان أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يجوع، واحتج بحديث أبيت يطعمني ربي ويسقيني وتعقب بالحمل على تعدد الحال، فكان يجوع أحياناً، ليتأسى به أصحابه، ولاسيما من لا يجد مدداً، ويتألم ويصبر، ويحتسب، فيضاعف له الأجر.

والحق أن هذا الزهد من النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان لدفع طيبات الدنيا اختياراً لطيبات الحياة الدائمة، قال ابن بطال: المال يرغب فيه للاستعانة به على الآخرة، فلم يحتج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المال من هذا الوجه، فزهده صلى الله عليه وسلم لا يدل على تفضيل الفقر على الغنى، بل يدل على فضل القناعة والكفاف وعدم التبسط في ملاذ الدنيا.
اهـ

نعم جاء في الصحيحين أنه كان صلى الله عليه وسلم إذا جاءه ما فتح الله به عليه من خيبر وغيرها، من تمر وغيره، يدخر قوت أهله سنة، ثم يجعل ما بقي عنده عدة في سبيل الله تعالى ثم كان مع ذلك يطرأ عليه الطارئ، فربما أدى ذلك إلى نفاد ما عند أهله.

وقد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم آل بيته وأزواجه بهذه السياسة، فعند البخاري عن عائشة رضي الله عنها، قالت: لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما في رفي من شيء يأكله ذو كبد -أي حيوان- إلا شطر شعير، في رف لي، فأكلت منه، حتى طال علي، فكلته، ففني.

وعنها رضي الله عنها كان يأتي علينا الشهر، ما نوقد فيه ناراً، إنما هو التمر والماء، إلا أن نؤتى باللحيم وفي رواية لها إلا أنه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار، كان لهم منائح، وكانوا يمنحون رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبياتهم، فيسقيناه.

أما أصحابه رضي الله عنهم فقد سمعوا منه قوله تعالى: { { إنما أموالكم وأولادكم فتنة } } [التغابن: 15] أي تشغل البال عن الطاعة والقيام بحق الله، وقوله تعالى: { { ومنهم من عاهد الله لئن ءاتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين* فلما ءاتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون* فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون } } [التوبة: 75 وما بعدها] وقوله تعالى { { زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب } } [آل عمران: 14] وقوله تعالى { { من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون } } [هود: 15] وقوله تعالى { { ألهاكم التكاثر* حتى زرتم المقابر } } [التكاثر: 1، 2] وقوله تعالى: { { كلا إن الإنسان ليطغى* أن رآه استغنى } } [العلق: 6-7] وقوله تعالى { { أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين* نسارع لهم في الخيرات } } [المؤمنون: 55، 56] أي أيظنون أن المال الذي نرزقهم إياه، لكرامتهم علينا، إن ظنوا ذلك أخطئوا، بل هو استدراج { { ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً } } [آل عمران: 178] وسمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط لم يرض يدعو صلى الله عليه وسلم على الجامع للمال، القائم على حفظه، المتكالب على الاستيلاء عليه من حله ومن غير حله، المستميت في السعي وراءه، الخادم له، كأنه عنده، يدعو صلى الله عليه وسلم على من هذه حاله بالتعاسة، نقيضاً لقصده، وقوله صلى الله عليه وسلم إن لكل أمة فتنة، وفتنة أمتي المال وقوله صلى الله عليه وسلم إن الأكثرين هم المقلون يوم القيامة، إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا، عن يمينه وعن شماله ومن خلفه، وقليل ما هم وقوله صلى الله عليه وسلم ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس وقوله لأبي ذر: يا أبا ذر، أترى كثرة المال هو الغنى؟ قلت: نعم.
قال: وترى قلة المال هو الفقر؟ قلت: نعم يا رسول الله، قال: إنما الغنى غنى القلب، والفقر فقر القلب: أي ليس الغنى حقيقة كثرة المال، لأن كثيراً ممن وسع الله عليهم في المال لا يقنعون بما أوتوا، فهم يجتهدون في الاستزادة، ولا يبالون من أين يأتيهم، فكأنهم فقراء، لشدة حرصهم، وإنما حقيقة الغنى غنى النفس، وهو الذي استغنى بما أوتي، وهو الذي قنع ورضي، ولم يلح في الطلب، فكأنه غني، وإن الغنى النافع العظيم الممدوح هو غنى النفس، فإن الإنسان إذا استغنت نفسه عظم في داخله أكثر من الغني الذي هو فقير النفس، فإن فقر نفسه يورطه في كثير من رذائل الأمور، يبيع آخرته بدنياه، بل بدنيا غيره، فيكثر من يذمه من الناس، ويصغر قدره عندهم، فيكون أحقر من كل حقير، وهو يملك المال، وأذل من كل ذليل وإن امتلأت خزائنه.

ومن ينفق الساعات في جمع ماله
مخافة الفقر فالذي فعل الفقر

أي الذي فعله هو الفقر.

وسمعوا قوله صلى الله عليه وسلم اطلعت في الجنة، فرأيت أكثر أهلها الفقراء؟ وذلك لأن كثيراً.
من الأغنياء يصابون بالشح، فيمسكون عن الإنفاق في وجوه البر، ويخافون الفقر، فيكثرون من المال، ويقلون من ثواب الآخرة، فكان أغنياء الدنيا قلة في الجنة.

سمع الصحابة كل هذه النصوص، ففهمها بعضهم على أنها ذم للمال وللغنى، وأنها إنذار بخطر التكالب على الدنيا وزينتها، فآثر الزهد والتقشف وشظف العيش، من هؤلاء مصعب بن عمير، استشهد يوم أحد، ولم يكن له إلا نمرة مرقعة، إذا غطوا بها رأسه بدت رجلاه، وإذا غطوا بها رجليه بدت رأسه، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يغطوا بها رأسه، وأن يجعلوا على رجليه الإذخر، هذا الفتى كان من أنعم فتيان مكة، غنى ونعومة ومتعة وهناء، آثر الإسلام وترك كل هذا النعيم، يقول علي رضي الله عنه: بينما نحن في المسجد إذ دخل علينا مصعب بن عمير، وما عليه إلا بردة له، مرقوعة بفروة، فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رآه، للذي كان فيه من النعيم، والذي هو فيه اليوم أخرجه الترمذي.

وربما كان كثير من الصحابة زاهدين بالضرورة وواقع الأمر قبل الفتوح، فقراء لا عن قدرة على الغنى، لكن بعضهم بعد الفتوح، وبعد اتساع الأرزاق وسهولتها آثر الزهد على الغنى، طواعية، وأعرض عن المال وادخاره، وإن جاءه أنفقه في وجوه الخير من أمامه وعن يمينه وشماله ومن خلفه، فهذه عائشة -رضي الله عنها- جاءها عطاء عمر رضي الله عنه في غرارة، عشرة آلاف، فقالت ما هذا؟ قالوا: عطاؤك، بعث لك به عمر، قالت: نقود في غرارة كالتمر؟ قالوا: نعم.
قالت لجاريتها: صبيه على الأرض، وأخذت تقبض بيدها القبضة وتبعث بها إلى آل فلان، والقبضة إلى فلانة، حتى لم يبق منه شيء، فقالت لها جاريتها: ما أبقيت لنا ما نفطر به ونحن صائمتان؟ قالت: لو ذكرتني لفعلت.

ومن هؤلاء الزاهدين اختيار عمر رضي الله عنه، وزهده وهو خليفة المسلمين يضرب به المثل، وأبو ذر رضي الله عنه ورأيه في كنز المال مشهور، وقصته مع معاوية معروفة، ومن هؤلاء أيضاً كثير من أهل الصفة.

الفريق الثاني من الصحابة فهم من هذه النصوص التحذير من خطر جمع المال من غير حله، والتحذير من خطر إنفاقه في غير وجهه، واستشعر قوله تعالى: { { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق } } [الأعراف: 32] ؟ فتبسط في بعض المباحات، من كثرة النساء والسراري والخدم والملابس والمساكن والأطعمة والضياع، مع القيام بحق الله تعالى فيها، وعدم التغالي في الانشغال بها، كابن عمر رضي الله عنه، ومنهم من استكثر من المال بالتجارة وغيرها، مع القيام بالحقوق الواجبة والمندوبة كعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص -رضي الله عنهم.

أمام هذه النصوص، وأمام اختلاف وجهات النظر في فهمها، وأمام سلوكيات الصحابة والتابعين والسلف الصالح بخصوصها عقد العلماء -وعلى رأسهم البخاري- بابا في الفقر والغنى، أيهما أفضل؟ وأطالوا القول بما لا يتسع له المقام.

والخلاصة في نقاط:

الأولى: أن نعيم الدنيا محسوب يوم القيامة، فالله تعالى يقول للكافرين آنذاك { { أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها } } [الأحقاف: 20] وفي البخاري عن خباب رضي الله عنه قال: هاجرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فوقع أجرنا على الله تعالى، فمنا من مضى -أي مات قبل الفتوح- لم يأخذ من أجره شيئاً، ومنا من أينعت له ثمرته، فهو يهدبها أي ومنا من عاش حتى ظهر الغنى وقطفه، أي فالأولون أجرهم كله مدخر لهم يوم القيامة، والآخرون أخذوا من أجورهم الأخروية بقدر ما تنعموا في الدنيا، وأصرح من هذا في المسألة ما رواه مسلم ما من غازية تغزو، فتغنم وتسلم إلا تعجلوا ثلثي أجرهم وقد سبق شرح هذا الحديث في الجهاد، وعند ابن أبي الدنيا، بسند جيد لا يصيب عبد من الدنيا شيئاً إلا نقص من درجاته، وإن كان عند الله كريماً.

الثانية: أن نعيم الدنيا مسئول عنه يوم القيامة، مصداقاً لقوله تعالى: { { ثم لتسألن يومئذ عن النعيم } } [التكاثر: 8] وقوله صلى الله عليه وسلم في روايتنا الثالثة والذي نفسي بيده لتسألن عن هذا النعيم وحديث لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن ماله، من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه فصاحب الدرهم أخف حساباً ومساءلة يوم القيامة من صاحب الدرهمين.

الثالثة: أن الحرص على الدنيا، والانشغال بها، والتكالب على جمعها، بما يقلل من الاهتمام بالآخرة، أو بما يضحي بعزة المؤمن وكرامته في سبيلها، ففي الحديث اطلبوا الرزق بعزة النفس، فإن الأمور تجري بالمقادير أو بما يدفع إلى التقصير في إنفاقها من الشح والبخل والظلم، أو بما يدفع إلى الطغيان والكبر والخيلاء والغرور.
كل ذلك مذموم، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأبقيت ورحم الله الشاعر إذ يقول:

نصيبك مما تجمع الدهر كله
رداءان تطوى فيهما وحنوط

الرابعة: أن السعي في الرزق، والعمل باليد، وعمارة الأرض إلى أقصى حدود العمارة والحضارة مطلوب شرعاً بدرجة الوجوب، بشرط التوقي من الأخطار المشار إليها سابقاً، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعيذ من الفقر والدين وغلبة الرجال والعجز والكسل، وعمر رضي الله عنه كان يقول: اللهم إنا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زينته لنا، اللهم قنا شره، وارزقنا أن ننفقه في حقك، وقال الفقراء لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، ذهب المكثرون بالأجر، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضل أموال يتصدقون به، فيؤجرون، ولا نتصدق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلا أدلكم على شيء، إذا فعلتموه لم يسبقكم إلا من فعل فعلكم؟ تسبحون وتحمدون وتكبرون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، فذهبوا، ففعلوا، فرجعوا، فقالوا: يا رسول الله.
سمع إخواننا الأغنياء بما أمرتنا، ففعلوا مثل ما فعلنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

الثالثة: من نقاط فقه الحديث تكثير الطعام والشراب، كمعجزة حسية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعنها يقول النووي: في الحديث الدليل الظاهر، والعلم الباهر من أعلام نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد تظاهرت أحاديث آحاد بمثل هذا، حتى زاد مجموعها على التواتر، وحصل العلم القطعي بالمعنى الذي اشتركت فيه هذه الآحاد، وهو انخراق العادة بما أتى به صلى الله عليه وسلم من تكثير الطعام القليل، الكثرة الظاهرة، ونبع الماء، وتكثيره، وتسبيح الطعام، وحنين الجذع، وغير ذلك مما هو معروف، وقد جمع ذلك العلماء في كتب دلائل النبوة، كالدلائل للقفال الشاشي وصاحبه أبي عبد الله الحليمي، وأبي بكر البيهقي الإمام الحافظ، وغيرهم بما هو مشهور، وأحسنها كتاب البيهقي.

الرابعة: ما يؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم:

1- من الرواية الأولى، من قوله وكان له غلام لحام جواز الاكتساب بمهنة الجزارة وأن تعاطي مثل تلك الحرفة لا يضع قدر من يتوقى فيها ما يكره، ولا تسقط بمجرد تعاطيها شهادته.
قاله الحافظ ابن حجر، وهذا مسلم، لكن في أخذه من الحديث نظر، فإن كونه عبداً وخادماً لا يفيد أن مثل تلك الحرفة لا تضع قدر من يمتهنها.

2- واستعمال العبد فيما يطيق من الصنائع.

3- وانتفاع السيد بكسب عبده من تلك الصنائع.

4- وأكل الإمام والشريف والكبير من طعام الحرفة غير الرفيعة.

5- ومن قوله فعرف في وجهه الجوع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجوع أحياناً.

6- وفيه الحكم بالقرينة.

7- وأن الصحابة كانوا يديمون النظر إلى وجهه، تبركاً به، وكان منهم من لا يطيل النظر في وجهه حياء منه صلى الله عليه وسلم.

8- وفي دعوة الأنصاري أن من صنع طعاماً لغيره فهو بالخيار بين أن يرسله إليه، أو يدعوه إلى منزله، قاله الحافظ ابن حجر، وفي أخذه من هذا الحديث نظر، نعم فيه صنع الطعام للغير، ودعوته إليه في منزله، أما ما ذكره الحافظ فيمكن أخذه من الرواية السادسة.

9- وفي إجابته صلى الله عليه وسلم دعوة الأنصاري إجابة الإمام والشريف والكبير دعوة من دونهم.

10- وفي فعل الأنصاري وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم أن من دعا عدداً معيناً أعد ما يكفيهم، ولا يستند إلى حديث طعام الواحد يكفي الاثنين فقد أعد الأنصاري ما يكفي الخمسة وزيادة.

11- ومن استئذان الرسول صلى الله عليه وسلم للتابع أن من دعا قوماً متصفين بصفة، ثم طرأ عليهم من لم يكن معهم حينئذ، أنه لا يدخل في عموم الدعوة، وإن قال قوم: إنه يدخل في الهدية، على أساس أن جلساء المرء شركاء له فيما يهدى إليه بصفة، إذا كانوا متصفين بهذه الصفة.

12- ومن قوله إن هذا اتبعنا وفي رواية لم يكن معنا حين دعوتنا أنه لو كان معهم حالة الدعوة لم يحتج إلى الاستئذان عليه، فيؤخذ منه أن الداعي لو قال لرسوله: ادع فلاناً وجلساءه، جاز لكل من كان جليساً له أن يحضر معه، وإن كان ذلك لا يستحب، أو لا يجب.

13- استدل القاضي عياض بإذن الأنصاري للتابع بالدخول معهم على أنه لا ينبغي أن يظهر الداعي الإجابة، وفي نفسه الكراهة لئلا يطعم من تكرهه نفسه، ولئلا يجمع بين الرياء والبخل وصفة ذي الوجهين.
[ظن القاضي عياض أن الأنصاري كان محباً لدخول التابع، ولم يكن إذنه له عن حرج] وتعقب بأنه ليس في الحديث ما يدل على ذلك، بل فيه مطلق الاستئذان والإذن، ولم يكلف أن يطلع على رضاه بقلبه، قال في شرح الترمذي: وعلى تقدير أن يكون الداعي يكره ذلك، في نفسه، فينبغي له مجاهدة نفسه على دفع تلك الكراهة.

14- وفي قوله إن هذا اتبعنا بتعيينه بالإشارة، مع إبهام اسمه نوع من الرفق به، لأن تعيينه قد يكسر خاطره.

15- وأن المدعو لا يمتنع من الإجابة إذا امتنع الداعي من الإذن لبعض من صحبه.

16- استنبط بعضهم من الحديث أن القوم الذين على مائدة لا يجوز لهم أن يناولوا من مائدة إلى مائدة أخرى، ولكن يناول بعضهم بعضاً في تلك المائدة، أو يتركوا المناولة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم استأذن الداعي في الرجل الطارئ، وأن الذين دعوا صار لهم بالدعوة عموم إذن بالتصرف في الطعام المدعو إليه، بخلاف من لم يدع، فيتنزل من وضع بين يديه الشيء منزلة من دعي له، أو ينزل الشيء الذي وضع بين يدي غيره منزلة من لم يدع إليه.

17- وفي الحديث مشروعية الضيافة، وتأكد استحبابها لمن غلبت حاجته لذلك.

18- وفيه ما كان عليه الصحابة -رضي الله عنهم- من الاعتناء بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم.

19- ومن الرواية الثانية، من قوله كان طيب المرق جواز أكل المرق.

20- ومن عدم إذن الفارسي أنه يجوز للداعي أن يرفض دعوة بعض أصحاب المدعو.

21- وأن المدعو حينئذ له أن يمتنع عن إجابة الدعوة، إذا كان في دعوة بعض أصحابه مصلحة.

22- وأنه يستحب للداعي أن يدعو بعض خواص المدعو معه، كما فعل الأنصاري، سيد اللحام.

23- وفي تمسك الرسول صلى الله عليه وسلم بدعوة عائشة حسن عشرة، وإظهار مودة.

24- ومراجعة الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاثاً، وكان لا يراجع بعد ثلاث.

25- ومن الرواية الثالثة من خروجهم بسبب الجوع ابتلاء الأنبياء وكبار الصحابة، واختبارهم بالجوع وغيره من المشاق، ليصبروا، فيعظم أجرهم، وترتفع منازلهم.

26- ومنه أيضاً الخروج في طلب سبب مباح لدفع الجوع، قال النووي: وهذا من أكمل الطاعات، وأبلغ أنواع المراقبات.

27- استنبط منها القاضي عياض النهي عن القضاء في حالة الغضب والجوع والهم وشدة الفرح وغير ذلك مما يشغل القلب، ويمنع كمال الفكر.

28- ومن قوله وأنا والذي نفسي بيده جواز ذكر الإنسان ما يناله من ألم ونحوه، لا على سبيل التشكي وعدم الرضا، بل للتسلية والتصبر، أو التماس دعاء أو مساعدة على إزالة ذلك العارض، فهذا كله ليس بمذموم، وإنما يذم ما كان تشكياً وتسخطاً وتجزعاً.

29- وفيه جواز الحلف من غير استحلاف.

30- وفي إتيانهم رجلاً من الأنصار جواز الإدلال على الصاحب الذي يوثق به.

31- واستتباع جماعة إلى بيته.

32- وفيه منقبة للأنصاري، أبي الهيثم، إذ جعله النبي صلى الله عليه وسلم أهلاً لذلك، وكفى بذلك شرفاً.

33- ومن قول الزوجة: مرحباً وأهلاً.
استحباب إكرام الضيف بهذا القول وشبهه، وإظهار السرور بقدومه.

34- ومن سؤالها عن زوجها وإجابتها، جواز سماع كلام الأجنبية، ومراجعتها الكلام للحاجة.

35- وفيه جواز إذن المرأة في دخول منزل زوجها، لمن علمت علماً محققاً أنه لا يكرهه، بشرط أن لا يخلو بها الخلوة المحرمة.

36- ومن قولها ذهب يستعذب لنا من الماء جواز استطابة الماء بالتبريد ونحوه.

37- ومن قول الأنصاري الحمد لله.
ما أحد اليوم أكرم أضيافاً مني استحباب حمد الله تعالى عند حصول نعمة ظاهرة، وكذا يستحب عند اندفاع نقمة متوقعة، وفي غير ذلك من الأحوال.

38- واستحباب إظهار البشر والفرح بالضيف والثناء عليه في وجهه، وهو يسمع، إن لم يخف عليه فتنة، فإن خاف لم يثن عليه في وجهه، وهذا طريق الجمع بين الأحاديث الواردة في منع الثناء في المواجهة والأحاديث الواردة في جواز ذلك.

39- وفيه دليل على كمال فضل هذا الأنصاري، وبلاغته، وعظيم معرفته، لأنه أتى بكلام مختصر، بديع في الحسن في هذا الموطن رضي الله عنه.

40- ومن تقديم العزق استحباب تقديم الفاكهة على الخبز واللحم وغيرهما، كذا قال النووي، لكنها واقعة حال، وتقديم الفاكهة هنا حتى يتيسر اللحم والخبز.

41- وفيه استحباب الإسراع بتقديم ما تيسر للجائع حتى يعد الطعام المناسب.

42- ومن ذبحه لهم استحباب إكرام الضيف بأشهى الطعام، وقد كره جماعة من السلف التكلف للضيف، وهو محمول على ما يشق على صاحب البيت مشقة ظاهرة، لأن ذلك يمنعه من الإخلاص وكمال السرور بالضيف، وربما ظهر عليه شيء من ذلك، فيتأذى به الضيف، وقد يحضر شيئاً يعرف الضيف من حاله أنه يشق عليه، وأنه يتكلفه له، فيتأذى الضيف، لشفقته عليه، وكل هذا مخالف لقوله صلى الله عليه وسلم من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه لأن أكمل إكرامه إراحة خاطره، وإظهار السرور به، وأما فعل الأنصاري، وذبحه الشاة فليس مما يشق عليه، بل لو ذبح أغناماً وإبلاً وأنفق أموالاً في ضيافة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه -رضي الله عنهما- كان مسروراً بذلك، مغبوطاً فيه وسيأتي باب خاص لإكرام الضيف في آخر كتاب الأطعمة والأشربة.

43- ومن النهي عن ذبح الحلوب كراهة ذبحها، إذا وجد غيرها، ولم تكن هناك حاجة لها، لأن في ذبحها حرماناً لأهل البيت من رزق اللبن.

44- ومن قوله فلما أن شبعوا جواز الشبع، وأما ما جاء في كراهة الشبع فمحمول على المداومة عليه، لأنه يقسي القلب، وينسي أمر المحتاجين، قال القرطبي: وما جاء من النهي عن الشبع محمول على الشبع الذي يثقل المعدة، ويثبط صاحبه عن القيام للعبادة، ويفضي إلى البطر والأشر والنوم والكسل، وقد تنتهي كراهته إلى التحريم، بحسب ما يترتب عليه من المفسدة وذكر الكرماني تبعاً لابن المنير أن الشبع المذكور محمول على شبعهم المعتاد منهم، وهو أن الثلث للطعام، والثلث للشراب، والثلث للنفس.
قال الحافظ: ويحتاج في دعوى أن تلك كانت عادتهم إلى نقل خاص، وإنما ذلك ورد في حديث حسن، أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه، وصححه الحاكم من حديث المقدام بن معد يكرب، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما ملأ آدمي وعاء شراً من بطنه، حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن غلب الآدمي نفسه فثلث للطعام، وثلث للشراب، وثلث للنفس قال الحافظ ابن حجر: وهل المراد بالثلث التساوي على ظاهر الخبر؟ أو التقسيم إلى ثلاثة أقسام متقاربة؟ محل احتمال.

قال الغزالي في الإحياء، واختلف في حد الجوع على رأيين.
أحدهما أن يشتهي الخبز وحده، فمتى طلب الأدم فليس بجائع، ثانيهما أنه إذا وقع ريقه على الأرض لم يقع عليه الذباب، وذكر أن مراتب الشبع تنحصر في سبعة: الأول ما تقوم به الحياة، الثاني أن يزيد حتى يصوم ويصلي عن قيام، وهذان واجبان، الثالث أن يزيد حتى يقوى على أداء النوافل، الرابع أن يزيد حتى يقدر على التكسب، وهذان مندوبان، الخامس أن يملأ الثلث، وهذا جائز، السادس أن يزيد على ذلك، وبه يثقل البدن، ويكثر النوم، وهذا مكروه، السابع أن يزيد حتى يتضرر، وهي البطنة المنهي عنها، وهذا حرام.
اهـ

45- ومن قوله لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة قال القاضي عياض: المراد السؤال عن القيام بحق شكره، قال النووي: والذي نعتقده أن السؤال هنا سؤال تعداد النعم، وإعلام الامتنان بها، وإظهار الكرامة بإسباغها، لا سؤال توبيخ وتقريع ومحاسبة.
اهـ ولا منافاة بين القولين.

46- ومن الرواية الخامسة انخراق العادة وتكثير الطعام القليل.

47- ومن قوله فجئته فساررته جواز المساررة بالحاجة بحضرة الجماعة، قال النووي: وإنما نهي أن يتناجى اثنان دون الثالث خشية أن يحزن الثالث، ويظن سوءاً.

48- ومن دعائه صلى الله عليه وسلم أهل الخندق علمه صلى الله عليه وسلم بأن هذا الطعام القليل، الذي يكفي في العادة خمسة أنفس أو نحوهم سيكثر، فيكفي ألفاً وزيادة، فدعا له الألف قبل أن يصل إليه، وقد علم أنه صاع شعير وبهيمة.

49- ومن قوله وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أحياناً يتقدم الناس وأحياناً يمشي آخرهم، وأحياناً يتوسطهم، لأهداف ومصالح، قال النووي: إنما فعل هذا هنا لأنه صلى الله عليه وسلم دعاهم، فجاءوا تبعاً له، كصاحب الطعام، إذا دعا طائفة يمشي قدامهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير هذا الحال لا يتقدمهم، ولا يمكنهم من وطء عقبيه، وفعله هنا لهذه المصلحة.
اهـ لكن قوله لا يمكنهم من وطء قدميه غير مسلم، فليس هذا هدفاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم في وقت من الأوقات.

50- وفي قول امرأة جابر له بك وبك ما كانت عليه المرأة الأنصارية من الجرأة على زوجها.

51- وفي قول جابر قد فعلت الذي قلت: ما كان عليه جابر من الحلم وحسن معاملة النساء.

52- وفي أحاديث أنس وأبي طلحة وأم أنس -روايتنا السادسة والسابعة والثامنة والتاسعة والعاشرة والحادية عشرة تكثير الطعام.

53- وعلمه صلى الله عليه وسلم بأن هذا القليل سيكثره الله تعالى، فيكفي الخلق الكثير.

54- وفي قوله صلى الله عليه وسلم لأنس: أرسلك أبو طلحة؟...ألطعام؟ علم من أعلام النبوة.

55- وفي الحديث استحباب بعث الهدية، وإن كانت قليلة بالنسبة إلى مرتبة المبعوث إليه، لأنها وإن قلت خير من العدم.

56- ومن الرواية السادسة، واستنباط أبي طلحة من ضعف صوت النبي صلى الله عليه وسلم أنه جائع يؤخذ العمل بالقرائن.

57- ومن وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً في المسجد ومعه الناس جلوس العالم لأصحابه، يفيدهم ويؤدبهم.

58- واستحباب ذلك في المسجد.

59- وفيه منقبة لأم سليم، رضي الله عنها، ودلالة على عظيم فقهها، ورجحان عقلها، لقولها الله ورسوله أعلم إذ معناه أنه قد عرف الطعام، فهو أعلم بالمصلحة، فلو لم يعلمها في مجيء الجمع العظيم لم يفعلها.

60- وما كان عليه الصحابة -رضي الله عنهم- من الاعتناء بأحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

61- ومن انطلاق أبي طلحة لتلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم خروج صاحب البيت لتلقي الضيفان.

62- ومن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بفت الخبز استحباب فت الطعام، واختيار الثريد على الغمس باللقم.
كذا قال النووي، لكنها واقعة حال، لا يستدل منها على ما ذكر، ثم إن الفت هنا كان الهدف التكثير، وليس لفضل الثريد على الغمس.

63- ومن الإذن لعشرة عشرة استحباب الاجتماع على الطعام.

64- ومن قوله في الرواية السابعة وأخرج لهم شيئاً من بين أصابعه علم من أعلام النبوة.

65- وفي أكله صلى الله عليه وسلم وآل البيت بعد الناس أنه يستحب لصاحب الطعام وأهله أن يكون أكلهم بعد فراغ الضيفان.
كذا قال النووي.
لكن ينبغي أن يقيد بحالة قلة الطعام.

66- ومن روايتنا الثانية عشرة إجابة الدعوة.

67- وإباحة كسب الخياط.

68- وإباحة المرق.

69- وفضيلة أكل الدباء.
كذا قال النووي، وهو غير واضح، ولو قال: حب الرسول صلى الله عليه وسلم لأكل الدباء لكان خيراً.

70- وأنه يستحب أن يحب الدباء، وكذلك كل شيء كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه، وأنه يحرص على تحصيل ذلك.
كذا قال النووي، وليس بمسلم.

71- ومن فعل أنس أنه يستحب لأهل المائدة إيثار بعضهم بعضاً، إذا لم يكرهه صاحب الطعام، قال النووي: وأما تتبع الدباء من حوالي الصحفة فيحتمل وجهين: أحدهما من حوالي جانبه وناحيته من الصحفة، لا من حوالي جميع جوانبها، فقد أمر بالأكل مما يلي الإنسان، والثاني أن يكون من جميع جوانبها، وإنما نهي عن ذلك لئلا يتقذره جليسه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتقذره أحد، بل كانوا يتبركون بآثاره.

72- وجواز أكل الشريف طعام من دونه، من محترف وغيره.

73- وإجابة دعوته.

74- ومؤاكلة الخادم.

75- وبيان ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من التواضع واللطف بأصحابه، وتعاهدهم بالمجيء إلى منازلهم.

76- وفيه الإجابة إلى الطعام، ولو كان قليلاً.

77- ومناولة الضيفان بعضهم بعضاً مما وضع بين أيديهم، على المائدة، لقوله في الرواية الثالثة عشرة جعلت ألقيه إليه ولا أطعمه قال الحافظ ابن حجر: فإنه لا فرق بين أن يناوله من إناء، أو يضم ذلك إليه في نفس الإناء الذي يأكل منه، وقال ابن بطال: إنما جاز أن يناول بعضهم بعضاً في مائدة واحدة، لأن ذلك الطعام قدم لهم بأعيانهم، فلهم أن يأكلوه كله، وهم فيه شركاء، وقد تقدم الأمر بأكل كل واحد مما يليه، فمن ناول صاحبه مما بين يديه فكأنه آثره بنصيبه، مع ما له فيه معه من المشاركة، وهذا بخلاف من كان على مائدة أخرى، فإنه وإن كان للمناول حق فيما بين يديه، لكن لا حق للآخر في تناوله منه، إذ لا شركة له فيه، وتعقب هذا المأخذ من قصة الخياط، لأنه طعام اتخذ للنبي صلى الله عليه وسلم، وقصد به صلى الله عليه وسلم والذي جمع له الدباء خادمه، فلا يحتج بذلك على جواز مناولة الضيفان بعضهم بعضاً مطلقاً.

78- وفيه جواز ترك المضيف الأكل مع الضيف، ويحتمل أن الطعام كان قليلاًً، فآثرهم به، ويحتمل أنه كان شبعان، أو كان صائماً.

79- ومن قول أنس فلم أزل أحب الدباء منذ يومئذ الحرص على التشبه بأهل الخير، والاقتداء بهم في المطاعم وغيرها.

80- وفيه فضيلة ظاهرة لأنس رضي الله عنه لاقتفائه أثر النبي صلى الله عليه وسلم، حتى في الأشياء الجبلية.

والله أعلم