هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير، 
34 حَدَّثَنِي أَبُو خَيْثَمَةَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ ، عَنْ كَهْمَسٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ ، ح وحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ - وَهَذَا حَدِيثُهُ - حَدَّثَنَا أَبِي ، حَدَّثَنَا كَهْمَسٌ ، عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ ، قَالَ : كَانَ أَوَّلَ مَنْ قَالَ فِي الْقَدَرِ بِالْبَصْرَةِ مَعْبَدٌ الْجُهَنِيُّ ، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَحُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْيَرِيُّ حَاجَّيْنِ - أَوْ مُعْتَمِرَيْنِ - فَقُلْنَا : لَوْ لَقِينَا أَحَدًا مَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَسَأَلْنَاهُ عَمَّا يَقُولُ هَؤُلَاءِ فِي الْقَدَرِ ، فَوُفِّقَ لَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ دَاخِلًا الْمَسْجِدَ ، فَاكْتَنَفْتُهُ أَنَا وَصَاحِبِي أَحَدُنَا عَنْ يَمِينِهِ ، وَالْآخَرُ عَنْ شِمَالِهِ ، فَظَنَنْتُ أَنَّ صَاحِبِي سَيَكِلُ الْكَلَامَ إِلَيَّ ، فَقُلْتُ : أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِنَّهُ قَدْ ظَهَرَ قِبَلَنَا نَاسٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ ، وَيَتَقَفَّرُونَ الْعِلْمَ ، وَذَكَرَ مِنْ شَأْنِهِمْ ، وَأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنْ لَا قَدَرَ ، وَأَنَّ الْأَمْرَ أُنُفٌ ، قَالَ : فَإِذَا لَقِيتَ أُولَئِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي بَرِيءٌ مِنْهُمْ ، وَأَنَّهُمْ بُرَآءُ مِنِّي ، وَالَّذِي يَحْلِفُ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لَوْ أَنَّ لِأَحَدِهِمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا ، فَأَنْفَقَهُ مَا قَبِلَ اللَّهُ مِنْهُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ ثُمَّ قَالَ : حَدَّثَنِي أَبِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ : بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ ، إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ ، لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ ، وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ ، حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ ، وَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنِ الْإِسْلَامِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ، قَالَ : صَدَقْتَ ، قَالَ : فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ ، وَيُصَدِّقُهُ ، قَالَ : فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِيمَانِ ، قَالَ : أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ ، وَمَلَائِكَتِهِ ، وَكُتُبِهِ ، وَرُسُلِهِ ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ ، قَالَ : صَدَقْتَ ، قَالَ : فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِحْسَانِ ، قَالَ : أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ ، قَالَ : فَأَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ ، قَالَ : مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ قَالَ : فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَتِهَا ، قَالَ : أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا ، وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ ، قَالَ : ثُمَّ انْطَلَقَ فَلَبِثْتُ مَلِيًّا ، ثُمَّ قَالَ لِي : يَا عُمَرُ أَتَدْرِي مَنِ السَّائِلُ ؟ قُلْتُ : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، قَالَ : فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْغُبَرِيُّ ، وَأَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ ، وَأَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ قَالُوا : حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ ، عَنْ مَطَرٍ الْوَرَّاقِ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ ، قَالَ : لَمَّا تَكَلَّمَ مَعْبَدٌ بِمَا تَكَلَّمَ بِهِ فِي شَأْنِ الْقَدَرِ أَنْكَرْنَا ذَلِكَ ، قَالَ : فَحَجَجْتُ أَنَا وَحُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْيَرِيُّ حَجَّةً ، وَسَاقُوا الْحَدِيثَ بِمَعْنَى حَدِيثِ كَهْمَسٍ وَإِسْنَادِهِ ، وَفِيهِ بَعْضُ زِيَادَةٍ وَنُقْصَانُ أَحْرُفٍ . وحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ غِيَاثٍ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ ، وَحُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَا : لَقِينَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ ، فَذَكَرْنَا الْقَدَرَ ، وَمَا يَقُولُونَ فِيهِ ، فَاقْتَصَّ الْحَدِيثَ كَنَحْوِ حَدِيثِهِمْ ، عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَفِيهِ شَيْءٌ مِنْ زِيَادَةٍ وَقَدْ نَقَصَ مِنْهُ شَيْئًا . وحَدَّثَنِي حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، عَنْ عُمَرَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِ حَدِيثِهِمْ
هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير،  وهذا حديثه حدثنا أبي ، حدثنا كهمس ، عن ابن بريدة ، عن يحيى بن يعمر ، قال : كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني ، فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين فقلنا : لو لقينا أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر ، فوفق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب داخلا المسجد ، فاكتنفته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه ، والآخر عن شماله ، فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي ، فقلت : أبا عبد الرحمن إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرءون القرآن ، ويتقفرون العلم ، وذكر من شأنهم ، وأنهم يزعمون أن لا قدر ، وأن الأمر أنف ، قال : فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم ، وأنهم برآء مني ، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا ، فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر ثم قال : حدثني أبي عمر بن الخطاب قال : بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب ، شديد سواد الشعر ، لا يرى عليه أثر السفر ، ولا يعرفه منا أحد ، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ، ووضع كفيه على فخذيه ، وقال : يا محمد أخبرني عن الإسلام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا ، قال : صدقت ، قال : فعجبنا له يسأله ، ويصدقه ، قال : فأخبرني عن الإيمان ، قال : أن تؤمن بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، وتؤمن بالقدر خيره وشره ، قال : صدقت ، قال : فأخبرني عن الإحسان ، قال : أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ، قال : فأخبرني عن الساعة ، قال : ما المسئول عنها بأعلم من السائل قال : فأخبرني عن أمارتها ، قال : أن تلد الأمة ربتها ، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان ، قال : ثم انطلق فلبثت مليا ، ثم قال لي : يا عمر أتدري من السائل ؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم حدثني محمد بن عبيد الغبري ، وأبو كامل الجحدري ، وأحمد بن عبدة قالوا : حدثنا حماد بن زيد ، عن مطر الوراق ، عن عبد الله بن بريدة ، عن يحيى بن يعمر ، قال : لما تكلم معبد بما تكلم به في شأن القدر أنكرنا ذلك ، قال : فحججت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حجة ، وساقوا الحديث بمعنى حديث كهمس وإسناده ، وفيه بعض زيادة ونقصان أحرف . وحدثني محمد بن حاتم ، حدثنا يحيى بن سعيد القطان ، حدثنا عثمان بن غياث ، حدثنا عبد الله بن بريدة ، عن يحيى بن يعمر ، وحميد بن عبد الرحمن قالا : لقينا عبد الله بن عمر ، فذكرنا القدر ، وما يقولون فيه ، فاقتص الحديث كنحو حديثهم ، عن عمر رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وفيه شيء من زيادة وقد نقص منه شيئا . وحدثني حجاج بن الشاعر ، حدثنا يونس بن محمد ، حدثنا المعتمر ، عن أبيه ، عن يحيى بن يعمر ، عن ابن عمر ، عن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحو حديثهم
هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير، 

: هذه القراءةُ حاسوبية، وما زالت قيدُ الضبطِ والتطوير، 

It is narrated on the authority of Yahya b. Ya'mur that the first man who discussed qadr (Divine Decree) in Basra was Ma'bad al-Juhani. I along with Humaid b. 'Abdur-Rahman Himyari set out for pilgrimage or for 'Umrah and said:

Should it so happen that we come into contact with one of the Companions of the Messenger of Allah (peace be upon him) we shall ask him about what is talked about taqdir (Divine Decree). Accidentally we came across Abdullah ibn Umar ibn al-Khattab, while he was entering the mosque. My companion and I surrounded him. One of us (stood) on his right and the other stood on his left. I expected that my companion would authorize me to speak. I therefore said: Abu Abdur Rahman! There have appeared some people in our land who recite the Qur'an and pursue knowledge. And then after talking about their affairs, added: They (such people) claim that there is no such thing as Divine Decree and events are not predestined. He (Abdullah ibn Umar) said: When you happen to meet such people tell them that I have nothing to do with them and they have nothing to do with me. And verily they are in no way responsible for my (belief). Abdullah ibn Umar swore by Him (the Lord) (and said): If any one of them (who does not believe in the Divine Decree) had with him gold equal to the bulk of (the mountain) Uhud and spent it (in the way of Allah), Allah would not accept it unless he affirmed his faith in Divine Decree. He further said: My father, Umar ibn al-Khattab, told me: One day we were sitting in the company of Allah's Apostle (peace be upon him) when there appeared before us a man dressed in pure white clothes, his hair extraordinarily black. There were no signs of travel on him. None amongst us recognized him. At last he sat with the Apostle (peace be upon him) He knelt before him placed his palms on his thighs and said: Muhammad, inform me about al-Islam. The Messenger of Allah (peace be upon him) said: Al-Islam implies that you testify that there is no god but Allah and that Muhammad is the messenger of Allah, and you establish prayer, pay Zakat, observe the fast of Ramadan, and perform pilgrimage to the (House) if you are solvent enough (to bear the expense of) the journey. He (the inquirer) said: You have told the truth. He (Umar ibn al-Khattab) said: It amazed us that he would put the question and then he would himself verify the truth. He (the inquirer) said: Inform me about Iman (faith). He (the Holy Prophet) replied: That you affirm your faith in Allah, in His angels, in His Books, in His Apostles, in the Day of Judgment, and you affirm your faith in the Divine Decree about good and evil. He (the inquirer) said: You have told the truth. He (the inquirer) again said: Inform me about al-Ihsan (performance of good deeds). He (the Holy Prophet) said: That you worship Allah as if you are seeing Him, for though you don't see Him, He, verily, sees you. He (the enquirer) again said: Inform me about the hour (of the Doom). He (the Holy Prophet) remarked: One who is asked knows no more than the one who is inquiring (about it). He (the inquirer) said: Tell me some of its indications. He (the Holy Prophet) said: That the slave-girl will give birth to her mistress and master, that you will find barefooted, destitute goat-herds vying with one another in the construction of magnificent buildings. He (the narrator, Umar ibn al-Khattab) said: Then he (the inquirer) went on his way but I stayed with him (the Holy Prophet) for a long while. He then, said to me: Umar, do you know who this inquirer was? I replied: Allah and His Apostle knows best. He (the Holy Prophet) remarked: He was Gabriel (the angel). He came to you in order to instruct you in matters of religion.

شرح الحديث من شرح النووى على مسلم

: : هذه القراءةُ حاسوبية، وما زالت قيدُ الضبطِ والتطوير،    باب بَيَانِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَالْإِحْسَانِ وَوُجُوبِ الْإِيمَانِ بِإِثْبَاتِ قَدَرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَبَيَانِ الدَّلِيلِ عَلَى التَّبَرِّي مِمَّنْ لَا يُؤْمِنُ بِالْقَدَرِ وَإِغْلَاظِ الْقَوْلِ فِي حَقّهِ قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ الْقُشَيْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِعَوْنِ اللَّهِ نَبْتَدِئُ وَإِيَّاهُ نَسْتَكْفِي وَمَا تَوْفِيقُنَا إِلَّا بِاللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ
[ سـ :34 ... بـ :8]
حَدَّثَنِي أَبُو خَيْثَمَةَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ كَهْمَسٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ ح وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ وَهَذَا حَدِيثُهُ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا كَهْمَسٌ عَنْ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ قَالَ كَانَ أَوَّلَ مَنْ قَالَ فِي الْقَدَرِ بِالْبَصْرَةِ مَعْبَدٌ الْجُهَنِيُّ فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَحُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْيَرِيُّ حَاجَّيْنِ أَوْ مُعْتَمِرَيْنِ فَقُلْنَا لَوْ لَقِينَا أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلْنَاهُ عَمَّا يَقُولُ هَؤُلَاءِ فِي الْقَدَرِ فَوُفِّقَ لَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ دَاخِلًا الْمَسْجِدَ فَاكْتَنَفْتُهُ أَنَا وَصَاحِبِي أَحَدُنَا عَنْ يَمِينِهِ وَالْآخَرُ عَنْ شِمَالِهِ فَظَنَنْتُ أَنَّ صَاحِبِي سَيَكِلُ الْكَلَامَ إِلَيَّ فَقُلْتُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِنَّهُ قَدْ ظَهَرَ قِبَلَنَا نَاسٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَيَتَقَفَّرُونَ الْعِلْمَ وَذَكَرَ مِنْ شَأْنِهِمْ وَأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنْ لَا قَدَرَ وَأَنَّ الْأَمْرَ أُنُفٌ قَالَ فَإِذَا لَقِيتَ أُولَئِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي بَرِيءٌ مِنْهُمْ وَأَنَّهُمْ بُرَآءُ مِنِّي وَالَّذِي يَحْلِفُ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لَوْ أَنَّ لِأَحَدِهِمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا فَأَنْفَقَهُ مَا قَبِلَ اللَّهُ مِنْهُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ ثُمَّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ وَقَالَ يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنْ الْإِسْلَامِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنْ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا قَالَ صَدَقْتَ قَالَ فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ قَالَ فَأَخْبِرْنِي عَنْ الْإِيمَانِ قَالَ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ قَالَ صَدَقْتَ قَالَ فَأَخْبِرْنِي عَنْ الْإِحْسَانِ قَالَ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ قَالَ فَأَخْبِرْنِي عَنْ السَّاعَةِ قَالَ مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنْ السَّائِلِ قَالَ فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَتِهَا قَالَ أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ قَالَ ثُمَّ انْطَلَقَ فَلَبِثْتُ مَلِيًّا ثُمَّ قَالَ لِي يَا عُمَرُ أَتَدْرِي مَنْ السَّائِلُ قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْغُبَرِيُّ وَأَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ قَالُوا حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ مَطَرٍ الْوَرَّاقِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ قَالَ لَمَّا تَكَلَّمَ مَعْبَدٌ بِمَا تَكَلَّمَ بِهِ فِي شَأْنِ الْقَدَرِ أَنْكَرْنَا ذَلِكَ قَالَ فَحَجَجْتُ أَنَا وَحُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْيَرِيُّ حَجَّةً وَسَاقُوا الْحَدِيثَ بِمَعْنَى حَدِيثِ كَهْمَسٍ وَإِسْنَادِهِ وَفِيهِ بَعْضُ زِيَادَةٍ وَنُقْصَانُ أَحْرُفٍ وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ وَحُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَا لَقِينَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ فَذَكَرْنَا الْقَدَرَ وَمَا يَقُولُونَ فِيهِ فَاقْتَصَّ الْحَدِيثَ كَنَحْوِ حَدِيثِهِمْ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيهِ شَيْءٌ مِنْ زِيَادَةٍ وَقَدْ نَقَصَ مِنْهُ شَيْئًا وَحَدَّثَنِي حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِ حَدِيثِهِمْ



[ ( بَابُ بَيَانِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَالْإِحْسَانِ وَوُجُوبِ الْإِيمَانِ بِإِثْبَاتِ قَدَرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى )

( وَبَيَانُ الدَّلِيلِ عَلَى التَّبَرِّي مِمَّنْ لَا يُؤْمِنُ بِالْقَدْرِ وَإِغْلَاظِ الْقَوْلِ فِي حَقِّهِ ) ]


أَهَمُّ مَا يُذْكَرُ فِي الْبَابِ اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِي الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ ، وَعُمُومِهِمَا ، وَخُصُوصِهِمَا ، وَأَنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ أَمْ لَا ؟ وَأَنَّ الْأَعْمَالَ مِنَ الْإِيمَانِ أَمْ لَا ؟ وَقَدْ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ الْقَوْلَ فِي كُلِّ مَا ذَكَرْنَاهُ .


وَأَنَا أَقْتَصِرُ عَلَى نَقْلِ أَطْرَافٍ مِنْ مُتَفَرِّقَاتِ كَلَامِهِمْ يَحْصُلُ مِنْهَا مَقْصُودُ مَا ذَكَرْتُهُ مَعَ زِيَادَاتٍ كَثِيرَةٍ .


قَالَ الْإِمَامُ أَبُو سُلَيْمَانَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَطَّابِيُّ الْبُسْتِيُّ الْفَقِيهُ الْأَدِيبُ الشَّافِعِيُّ الْمُحَقِّقُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِهِ مَعَالِمُ السُّنَنِ : مَا أَكْثَرَ مَا يَغْلَطُ النَّاسُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ .


فَأَمَّا الزُّهْرِيُّ فَقَالَ : الْإِسْلَامُ الْكَلِمَةُ ، وَالْإِيمَانُ الْعَمَلُ ، وَاحْتَجَّ بِالْآيَةِ يَعْنِي قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَذَهَبَ غَيْرُهُ إِلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ شَيْءٌ وَاحِدٌ .
وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَالَ الْخَطَّابِيُّ : وَقَدْ تَكَلَّمَ فِي هَذَا الْبَابِ رَجُلَانِ مِنْ كُبَرَاءِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى قَوْلٍ مِنْ هَذَيْنِ .
وَرَدَّ الْآخَرُ مِنْهُمَا عَلَى الْمُتَقَدِّمِ ، وَصَنَّفَ عَلَيْهِ كِتَابًا يَبْلُغُ عَدَدُ أَوْرَاقِهِ الْمِئِينَ .


قَالَ الْخَطَّابِيُّ : وَالصَّحِيحُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُقَيَّدَ الْكَلَامُ فِي هَذَا ، وَلَا يُطْلَقَ ; وَذَلِكَ أَنَّ الْمُسْلِمَ قَدْ يَكُونُ مُؤْمِنًا فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ ، وَلَا يَكُونُ مُؤْمِنًا فِي بَعْضِهَا .
وَالْمُؤْمِنُ مُسْلِمٌ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ ; فَكُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ وَلَيْسَ كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا .
وَإِذَا حَمَلْتَ الْأَمْرَ عَلَى هَذَا اسْتَقَامَ لَكَ تَأْوِيلُ الْآيَاتِ ، وَاعْتَدَلَ الْقَوْلُ فِيهَا ، وَلَمْ يَخْتَلِفْ شَيْءٌ مِنْهَا .


وَأَصْلُ الْإِيمَانِ : التَّصْدِيقُ ، وَأَصْلُ الْإِسْلَامِ : الِاسْتِسْلَامُ وَالِانْقِيَادُ ; فَقَدْ يَكُونُ الْمَرْءُ مُسْتَسْلِمًا فِي الظَّاهِرِ ، غَيْرَ مُنْقَادٍ فِي الْبَاطِنِ ، وَقَدْ يَكُونُ صَادِقًا فِي الْبَاطِنِ غَيْرَ مُنْقَادٍ فِي الظَّاهِرِ .
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ أَيْضًا فِي قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانٌ أَنَّ الْإِيمَانَ الشَّرْعِيَّ اسْمٌ لِمَعْنًى ذِي شُعَبٍ وَأَجْزَاءٍ لَهُ أَدْنَى وَأَعْلَى ، وَالِاسْمُ يَتَعَلَّقُ بِبَعْضِهَا ، كَمَا يَتَعَلَّقُ بِكُلِّهَا ، وَالْحَقِيقَةُ تَقْتَضِي جَمِيعَ شُعَبِهِ ، وَتَسْتَوْفِي جُمْلَةَ أَجْزَائِهِ ; كَالصَّلَاةِ الشَّرْعِيَّةِ لَهَا شُعَبٌ وَأَجْزَاءٌ ، وَالِاسْمُ يَتَعَلَّقُ بِبَعْضِهَا ، وَالْحَقِيقَةُ تَقْتَضِي جَمِيعَ أَجْزَائِهَا وَتَسْتَوْفِيهَا .
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : الْحَيَاءُ شُعْبَةً مِنَ الْإِيمَانِ .
وَفِيهِ : إِثْبَاتُ التَّفَاضُلِ فِي الْإِيمَانِ ، وَتَبَايُنُ الْمُؤْمِنِينَ فِي دَرَجَاتِهِ .
هَذَا آخِرُ كَلَامِ الْخَطَّابِيِّ .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْحُسَيْنُ بْنُ مَسْعُودٍ الْبَغَوِيُّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي حَدِيثِ سُؤَالِ جِبْرِيلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَجَوَابِهِ ، قَالَ : جَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْإِسْلَامَ اسْمًا لِمَا ظَهَرَ مِنَ الْأَعْمَالِ ، وَجَعَلَ الْإِيمَانَ اسْمًا لِمَا بَطَنَ مِنَ الِاعْتِقَادِ ; وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ لَيْسَتْ مِنَ الْإِيمَانِ ، وَالتَّصْدِيقَ بِالْقَلْبِ لَيْسَ مِنَ الْإِسْلَامِ ; بَلْ ذَلِكَ تَفْصِيلٌ لِجُمْلَةٍ هِيَ كُلُّهَا شَيْءٌ وَاحِدٌ ، وَجِمَاعُهَا الدِّينُ ، وَلِذَلِكَ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : ذَاكَ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ وَالتَّصْدِيقُ وَالْعَمَلُ يَتَنَاوَلُهُمَا اسْمُ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ جَمِيعًا ; يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا وَ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ الدِّينَ الَّذِي رَضِيَهُ وَيَقْبَلُهُ مِنْ عِبَادِهِ هُوَ الْإِسْلَامُ ، وَلَا يَكُونُ الدِّينُ فِي مَحَلِّ الْقَبُولِ وَالرِّضَا إِلَّا بِانْضِمَامِ التَّصْدِيقِ إِلَى الْعَمَلِ .
هَذَا كَلَامُ الْبَغَوِيِّ .


وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ التَّمِيمِيُّ الْأَصْبَهَانِيُّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِهِ التَّحْرِيرُ فِي شَرْحِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ : الْإِيمَانُ فِي اللُّغَةِ هُوَ التَّصْدِيقُ فَإِنْ عَنَى بِهِ ذَلِكَ فَلَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ ; لِأَنَّ التَّصْدِيقَ لَيْسَ شَيْئًا يَتَجَزَّأُ حَتَّى يُتَصَوَّرَ كَمَالُهُ مَرَّةً وَنَقْصُهُ أُخْرَى .
وَالْإِيمَانُ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ هُوَ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ وَالْعَمَلُ بِالْأَرْكَانِ .
وَإِذَا فُسِّرَ بِهَذَا تَطَرَّقَ إِلَيْهِ الزِّيَادَةُ وَالنَّقْصُ .
وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ ، قَالَ : فَالْخِلَافُ فِي هَذَا عَلَى التَّحْقِيقِ إِنَّمَا هُوَ أَنَّ الْمُصَدِّقَ بِقَلْبِهِ إِذَا لَمْ يَجْمَعْ إِلَى تَصْدِيقِهِ الْعَمَلَ الْإِيمَانَ هَلْ يُسَمَّى مُؤْمِنًا مُطْلَقًا أَمْ لَا ؟ وَالْمُخْتَارُ عِنْدنَا أَنَّهُ لَا يُسَمَّى بِهِ .
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ بِمُوجِبِ الْإِيمَانِ فَيَسْتَحِقَّ هَذَا الْإِطْلَاقَ .
هَذَا آخِرُ كَلَامِ صَاحِبِ التَّحْرِيرِ .


وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ خَلَفِ بْنِ بَطَّالٍ الْمَالِكِيُّ الْمَغْرِبِيُّ فِي شَرْحِ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ : مَذْهَبُ جَمَاعَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَخَلَفِهَا : أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ ، وَالْحُجَّةُ عَلَى زِيَادَتِهِ وَنُقْصَانِهِ : مَا أَوْرَدَهُ الْبُخَارِيُّ مِنَ الْآيَاتِ ، يَعْنِي قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ : لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَقَوْلُهُ تَعَالَى : وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ وَقَوْلُهُ تَعَالَى : وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَقَوْلُهُ تَعَالَى : أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَقَوْلُهُ تَعَالَى : فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَوْلُهُ تَعَالَى : وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ : فَإِيمَانُ مَنْ لَمْ تَحْصُلْ لَهُ الزِّيَادَةُ نَاقِصٌ ، قَالَ : فَإِنْ قِيلَ : الْإِيمَانُ فِي اللُّغَةِ التَّصْدِيقُ ، فَالْجَوَابُ : أَنَّ التَّصْدِيقَ يَكْمُلُ بِالطَّاعَاتِ كُلِّهَا ، فَمَا ازْدَادَ الْمُؤْمِنُ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ كَانَ إِيمَانُهُ أَكْمَلَ ، وَبِهَذِهِ الْجُمْلَةِ يَزِيدُ الْإِيمَانُ وَبِنُقْصَانِهَا يَنْقُصُ ، فَمَتَى نَقَصَتْ أَعْمَالُ الْبِرِّ نَقَصَ كَمَالُ الْإِيمَانِ ، وَمَتَى زَادَتْ زَادَ الْإِيمَانُ كَمَالًا .
هَذَا تَوَسُّطُ الْقَوْلِ فِي الْإِيمَانِ .
وَأَمَّا التَّصْدِيقُ بِاللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : فَلَا يَنْقُصُ وَلِذَلِكَ تَوَقَّفَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنِ الْقَوْلِ بِالنُّقْصَانِ ; إِذْ لَا يَجُوزُ نُقْصَانُ التَّصْدِيقِ ; لِأَنَّهُ إِذَا نَقَصَ صَارَ شَكًّا ، وَخَرَجَ عَنِ اسْمِ الْإِيمَانِ .


وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إِنَّمَا تَوَقَّفَ مَالِكٌ عَنِ الْقَوْلِ بِنُقْصَانِ الْإِيمَانِ خَشْيَةَ أَنْ يُتَأَوَّلَ عَلَيْهِ مُوَافَقَةُ الْخَوَارِجِ الَّذِينَ يُكَفِّرُونَ أَهْلَ الْمَعَاصِي مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِالذُّنُوبِ ، وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ بِنُقْصَانِ الْإِيمَانِ مِثْلَ قَوْلِ جَمَاعَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ .
قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ : سَمِعْتُ مَنْ أَدْرَكْتُ مِنْ شُيُوخِنَا وَأَصْحَابِنَا سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ وَمَالِكَ بْنَ أَنَسٍ ، وَعُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ ، وَالْأَوْزَاعِيَّ ، وَمَعْمَرَ بْنَ رَاشِدٍ وَابْنَ جُرَيْجٍ ، وَسُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ ، يَقُولُونَ : الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَحُذَيْفَةَ وَالنَّخَعِيِّ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ ، وَعَطَاءٍ ، وَطَاوُسٍ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ .
فَالْمَعْنَى الَّذِي يَسْتَحِقُّ بِهِ الْعَبْدُ الْمَدْحَ وَالْوِلَايَةَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ هُوَ إِتْيَانُهُ بِهَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ : التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ ، وَالْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ ، وَالْعَمَلُ بِالْجَوَارِحِ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْجَمِيعِ : أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ وَعَمِلَ عَلَى غَيْرِ عِلْمٍ مِنْهُ وَمَعْرِفَةٍ بِرَبِّهِ ، لَا يَسْتَحِقُّ اسْمَ مُؤْمِنٍ .
وَلَوْ عَرَفَهُ ، وَعَمِلَ ، وَجَحَدَ بِلِسَانِهِ ، وَكَذَبَ مَا عَرَفَ مِنَ التَّوْحِيدِ ، لَا يَسْتَحِقُّ اسْمَ مُؤْمِنٍ ، وَكَذَلِكَ إِذَا أَقَرَّ بِاللَّهِ تَعَالَى وَبِرُسُلِهِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - وَلَمْ يَعْمَلْ بِالْفَرَائِضِ ، لَا يُسَمَّى مُؤْمِنًا بِالْإِطْلَاقِ وَإِنْ كَانَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ يُسَمَّى مُؤْمِنًا بِالتَّصْدِيقِ فَذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى ; لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا فَأَخْبَرَنَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : أَنَّ الْمُؤْمِنَ مَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَتَهُ .


وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ فِي بَابِ مَنْ قَالَ الْإِيمَانُ هُوَ الْعَمَلُ : فَإِنْ قِيلَ : قَدْ قَدَّمْتُمْ أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ قِيلَ : التَّصْدِيقُ هُوَ أَوَّلُ مَنَازِلِ الْإِيمَانِ ، وَيُوجِبُ لِلْمُصَدِّقِ الدُّخُولَ فِيهِ ، وَلَا يُوجِبُ لَهُ اسْتِكْمَالَ مَنَازِلِهِ ، وَلَا يُسَمَّى مُؤْمِنًا مُطْلَقًا .
هَذَا مَذْهَبُ جَمَاعَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ : أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ .


قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَرْبَابِ الْعِلْمِ وَالسُّنَّةِ الَّذِينَ كَانُوا مَصَابِيحَ الْهُدَى وَأَئِمَّةَ الدِّينِ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ وَالشَّامِ وَغَيْرِهِمْ .


قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ : وَهَذَا الْمَعْنَى أَرَادَ الْبُخَارِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إِثْبَاتَهُ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ وَعَلَيْهِ بَوَّبَ أَبْوَابَهُ كُلَّهَا .
فَقَالَ : بَابُ أُمُورِ الْإِيمَانِ ، وَبَابُ الصَّلَاةُ مِنَ الْإِيمَانِ ، وَبَابُ الزَّكَاةُ مِنَ الْإِيمَانِ ، وَبَابُ الْجِهَادُ مِنَ الْإِيمَانِ ، وَسَائِرُ أَبْوَابِهِ ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الرَّدَّ عَلَى الْمُرْجِئَةِ فِي قَوْلِهِمْ : إِنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ بِلَا عَمَلٍ وَتَبْيِينَ غَلَطِهِمْ ، وَسُوءَ اعْتِقَادِهِمْ وَمُخَالَفَتِهِمْ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ ثُمَّ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ فِي بَابٍ آخَرَ : قَالَ الْمُهَلَّبُ : الْإِسْلَامُ عَلَى الْحَقِيقَةِ هُوَ الْإِيمَانُ الَّذِي هُوَ عَقْدُ الْقَلْبِ الْمُصَدِّقِ لِإِقْرَارِ اللِّسَانِ الَّذِي لَا يَنْفَعُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُهُ .


وَقَالَتِ الْكَرَّامِيَّةُ وَبَعْضُ الْمُرْجِئَةُ : الْإِيمَانُ هُوَ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ دُونَ عَقْدِ الْقَلْبِ ، وَمِنْ أَقْوَى مَا يُرَدُّ بِهِ عَلَيْهِمْ إِجْمَاعُ الْأُمَّةِ عَلَى إِكْفَارِ الْمُنَافِقِينَ وَإِنْ كَانُوا قَدْ أَظْهَرُوا الشَّهَادَتَيْنِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ...إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ هَذَا آخِرُ كَلَامِ ابْنِ بَطَّالٍ .


وَقَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : الْإِسْلَامُ : أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ، وَالْإِيمَانُ : أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ ، وَكُتُبِهِ ، وَرُسُلِهِ ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ قَالَ : هَذَا بَيَانٌ لِأَصْلِ الْإِيمَانِ ، وَهُوَ التَّصْدِيقُ الْبَاطِنُ ، وَبَيَانٌ لِأَصْلِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ الِاسْتِسْلَامُ وَالِانْقِيَادُ الظَّاهِرُ ، وَحُكْمُ الْإِسْلَامِ فِي الظَّاهِرِ ثَبَتَ بِالشَّهَادَتَيْنِ ، وَإِنَّمَا أَضَافَ إِلَيْهِمَا الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ ، وَالْحَجَّ ، وَالصَّوْمَ ، لِكَوْنِهَا أَظْهَرَ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ وَأَعْظَمَهَا وَبِقِيَامِهِ بِهَا يَتِمُّ اسْتِسْلَامُهُ ، وَتَرْكُهُ لَهَا يُشْعِرُ بِانْحِلَالِ قَيْدِ انْقِيَادِهِ أَوِ اخْتِلَالِهِ ، ثُمَّ إِنَّ اسْمَ الْإِيمَانِ يَتَنَاوَلُ مَا فُسِّرَ بِهِ الْإِسْلَامُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَسَائِرِ الطَّاعَاتِ لِأَنَّهَا ثَمَرَاتٌ لِلتَّصْدِيقِ الْبَاطِنِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْإِيمَانِ ، وَمُقَوِّيَاتٌ وَمُتَمِّمَاتٌ وَحَافِظَاتٌ لَهُ ، وَلِهَذَا فَسَّرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْإِيمَانُ فِي حَدِيثِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ وَإِعْطَاءِ الْخُمُسِ مِنَ الْمَغْنَمِ .
وَلِهَذَا لَا يَقَعُ اسْمُ الْمُؤْمِنِ الْمُطْلَقِ عَلَى مَنِ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً ، أَوْ بَدَّلَ فَرِيضَةً ، لِأَنَّ اسْمَ الشَّيْءِ مُطْلَقًا يَقَعُ عَلَى الْكَامِلِ مِنْهُ ، وَلَا يُسْتَعْمَلُ فِي النَّاقِصِ ظَاهِرًا إِلَّا بِقَيْدٍ ; وَلِذَلِكَ جَازَ إِطْلَاقُ نَفْيِهِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَاسْمُ الْإِسْلَامِ يَتَنَاوَلُ أَيْضًا مَا هُوَ أَصْلُ الْإِيمَانِ وَهُوَ التَّصْدِيقُ الْبَاطِنُ ، وَيَتَنَاوَلُ أَصْلَ الطَّاعَاتِ ; فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ اسْتِسْلَامٌ .
قَالَ : فَخَرَجَ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ وَحَقَقْنَا أَنَّ الْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ يَجْتَمِعَانِ وَيَفْتَرِقَانِ ، وَأَنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ وَلَيْسَ كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا .
قَالَ : وَهَذَا تَحْقِيقٌ وَافِرٌ بِالتَّوْفِيقِ بَيْنَ مُتَفَرِّقَاتِ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْوَارِدَةِ فِي الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ الَّتِي طَالَمَا غَلِطَ فِيهَا الْخَائِضُونَ .
وَمَا حَقَّقْنَاهُ مِنْ ذَلِكَ مُوَافِقٌ لِجَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمْ .
هَذَا آخِرُ كَلَامِ الشَّيْخِ أَبِي عَمْرِو بْنِ الصَّلَاحِ ، فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ مَذَاهِبِ السَّلَفِ ، وَأَئِمَّةِ الْخَلَفِ ، فَهِيَ مُتَظَاهِرَةٌ مُتَطَابِقَةٌ عَلَى كَوْنِ الْإِيمَانِ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ .
وَهَذَا مَذْهَبُ السَّلَفِ وَالْمُحَدِّثِينَ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ .


وَأَنْكَرَ أَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ زِيَادَتَهُ وَنُقْصَانَهُ ، وَقَالُوا : مَتَى قَبِلَ الزِّيَادَةَ كَانَ شَكًّا وَكُفْرًا قَالَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا الْمُتَكَلِّمِينَ : نَفْسُ التَّصْدِيقِ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ .
وَالْإِيمَانُ الشَّرْعِيُّ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ بِزِيَادَةِ ثَمَرَاتِهِ ، وَهِيَ الْأَعْمَالُ وَنُقْصَانِهَا قَالُوا : وَفِي هَذَا تَوْفِيقٌ بَيْنَ ظَوَاهِرِ النُّصُوصِ الَّتِي جَاءَتْ بِالزِّيَادَةِ وَأَقَاوِيلِ السَّلَفِ ، وَبَيْنَ أَصْلِ وَضْعِهِ فِي اللُّغَةِ وَمَا عَلَيْهِ الْمُتَكَلِّمُونَ ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ هَؤُلَاءِ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا حَسَنًا فَالْأَظْهَرُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ نَفْسَ التَّصْدِيقِ يَزِيدُ بِكَثْرَةِ النَّظَرِ وَتَظَاهُرِ الْأَدِلَّةِ وَلِهَذَا يَكُونُ إِيمَانُ الصِّدِّيقِينَ أَقْوَى مِنْ إِيمَانِ غَيْرِهِمْ بِحَيْثُ لَا تَعْتَرِيهِمُ الشُّبَهُ ، وَلَا يَتَزَلْزَلُ إِيمَانُهُمْ بِعَارِضٍ ، بَلْ لَا تَزَالُ قُلُوبُهُمْ مُنْشَرِحَةً نَيِّرَةً وَإِنِ اخْتَلَفَتْ عَلَيْهِمُ الْأَحْوَالُ .
وَأَمَّا غَيْرُهُمْ مِنَ الْمُؤَلَّفَةِ وَمَنْ قَارَبَهُمْ وَنَحْوِهِمْ فَلَيْسُوا كَذَلِكَ فَهَذَا مِمَّا لَا يُمْكِنُ إِنْكَارُهُ .


وَلَا يَتَشَكَّكُ عَاقِلٌ فِي أَنَّ نَفْسَ تَصْدِيقِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا يُسَاوِيهِ تَصْدِيقُ آحَادِ النَّاسِ ; وَلِهَذَا قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ : قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ : أَدْرَكْتُ ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ ، مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَقُولُ إِنَّهُ عَلَى إِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ .
وَاللَّهُ أَعْلَمُ .


وَأَمَّا إِطْلَاقُ اسْمِ الْإِيمَانِ عَلَى الْأَعْمَالِ فَمُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ .
وَدَلَائِلُهُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ وَأَشْهَرُ مِنْ أَنْ تُشْهَرَ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ صَلَاتَكُمْ .


وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ فَسَتَمُرُّ بِكَ فِي هَذَا الْكِتَابِ مِنْهَا جُمَلٌ مُسْتَكْثَرَاتٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .


وَاتَّفَقَ أَهْلُ السُّنَّةِ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ الَّذِي يُحْكَمُ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ وَلَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ لَا يَكُونُ إِلَّا مَنِ اعْتَقَدَ بِقَلْبِهِ دِينَ الْإِسْلَامِ اعْتِقَادًا جَازِمًا خَالِيًا مِنَ الشُّكُوكِ ، وَنَطَقَ بِالشَّهَادَتَيْنِ ، فَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى إِحْدَاهُمَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ أَصْلًا إِلَّا إِذَا عَجَزَ عَنِ النُّطْقِ لِخَلَلٍ فِي لِسَانِهِ أَوْ لِعَدَمِ التَّمَكُّنِ مِنْهُ لِمُعَاجَلَةِ الْمَنِيَّةِ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُؤْمِنًا .
أَمَّا إِذَا أَتَى بِالشَّهَادَتَيْنِ فَلَا يُشْتَرَطُ مَعَهُمَا أَنْ يَقُولَ وَأَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ دِينٍ خَالَفَ الْإِسْلَامَ إِلَّا إِذَا كَانَ مِنَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ اخْتِصَاصَ رِسَالَةِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْعَرَبِ فَإِنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ إِلَّا بِأَنْ يَتَبَرَّأَ ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ مَنْ شَرَطَ أَنْ يَتَبَرَّأَ مُطْلَقًا ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ : أَمَّا إِذَا اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، وَلَمْ يَقُلْ : مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ : فَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِنَا وَمَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُسْلِمًا .
وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ : يَكُونُ مُسْلِمًا وَيُطَالَبُ بِالشَّهَادَةِ الْأُخْرَى ، فَإِنْ أَبَى جُعِلَ مُرْتَدًّا .
وَيُحْتَجُّ لِهَذَا الْقَوْلِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، فَإِذَا قَالُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَهَذَا مَحْمُولٌ عِنْدَ الْجَمَاهِيرِ عَلَى قَوْلِ الشَّهَادَتَيْنِ ، وَاسْتَغْنَى بِذِكْرِ إِحْدَاهُمَا عَنِ الْأُخْرَى لِارْتِبَاطِهِمَا وَشُهْرَتِهِمَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ .


أَمَّا إِذَا أَقَرَّ بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ أَوِ الصَّوْمِ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ عَلَى خِلَافِ مِلَّتِهِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا فَهَلْ يُجْعَلُ بِذَلِكَ مُسْلِمًا ؟ فِيهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا ، فَمَنْ جَعَلَهُ مُسْلِمًا قَالَ : كُلُّ مَا يَكْفُرُ الْمُسْلِمُ بِإِنْكَارِهِ يَصِيرُ الْكَافِرُ بِالْإِقْرَارِ بِهِ مُسْلِمًا .
أَمَّا إِذَا أَقَرَّ بِالشَّهَادَتَيْنِ بِالْعَجَمِيَّةِ وَهُوَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ فَهَلْ يُجْعَلُ بِذَلِكَ مُسْلِمًا ؟ فِيهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا : الصَّحِيحُ مِنْهُمَا أَنَّهُ يَصِيرُ مُسْلِمًا لِوُجُودِ الْإِقْرَارِ ، وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الْحَقُّ وَلَا يَظْهَرُ لِلْآخَرِ وَجْهٌ وَقَدْ بَيَّنْتُ ذَلِكَ مُسْتَقْصًى فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .


وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ مِنَ السَّلَفِ وَغَيْرِهِمْ فِي إِطْلَاقِ الْإِنْسَانِ قَوْلَهُ : ( أَنَا مُؤْمِنٌ ) فَقَالَتْ طَائِفَةٌ : لَا يَقُولُ أَنَا مُؤْمِنٌ مُقْتَصِرًا عَلَيْهِ بَلْ يَقُولُ : أَنَا مُؤْمِنٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ .
وَحَكَى هَذَا الْمَذْهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا الْمُتَكَلِّمِينَ ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى جَوَازِ الْإِطْلَاقِ وَأَنَّهُ لَا يَقُولُ : ( إِنْ شَاءَ اللَّهُ ) .
وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ ، وَقَوْلُ أَهْلِ التَّحْقِيقِ .
وَذَهَبَ الْأَوْزَاعِيُّ وَغَيْرُهُ إِلَى جَوَازِ الْأَمْرَيْنِ .
وَالْكُلُّ صَحِيحٌ بِاعْتِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ فَمَنْ أَطْلَقَ نَظَرَ إِلَى الْحَالِ وَأَحْكَامُ الْإِيمَانِ جَارِيَةٌ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ ، وَمَنْ قَالَ : إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَقَالُوا فِيهِ : هُوَ إِمَّا لِلتَّبَرُّكِ ، وَإِمَّا لِاعْتِبَارِ الْعَاقِبَةِ وَمَا قَدَّرَ اللَّهُ تَعَالَى ; فَلَا يَدْرِي أَيَثْبُتُ عَلَى الْإِيمَانِ أَمْ يُصْرَفُ عَنْهُ ، وَالْقَوْلُ بِالتَّخْيِيرِ حَسَنٌ صَحِيحٌ نَظَرًا إِلَى مَأْخَذِ الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ وَرَفْعًا لِحَقِيقَةِ الْخِلَافِ وَأَمَّا الْكَافِرُ فَفِيهِ خِلَافٌ غَرِيبٌ لِأَصْحَابِنَا ، مِنْهُمْ مَنْ قَالَ : يُقَالُ : هُوَ كَافِرٌ ، وَلَا يَقُولُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : هُوَ فِي التَّقْيِيدِ كَالْمُسْلِمِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فَيُقَالُ عَلَى قَوْلِ التَّقْيِيدِ : هُوَ كَافِرٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ نَظَرًا إِلَى الْخَاتِمَةِ وَأَنَّهَا مَجْهُولَةٌ ، وَهَذَا الْقَوْلُ اخْتَارَهُ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .


وَاعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ الْحَقِّ : أَنَّهُ لَا يُكَفَّرُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَنْبٍ وَلَا يُكَفَّرُ أَهْلُ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ ، وَأَنَّ مَنْ جَحَدَ مَا يُعْلَمُ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ ضَرُورَةً حُكِمَ بِرِدَّتِهِ وَكُفْرِهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَرِيبَ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ أَوْ نَشَأَ بِبَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ وَنَحْوِهِ مِمَّنْ يَخْفَى عَلَيْهِ فَيُعَرَّفُ ذَلِكَ ; فَإِنِ اسْتَمَرَّ حُكِمَ بِكُفْرِهِ ، وَكَذَا حُكْمُ مَنِ اسْتَحَلَّ الزِّنَا أَوِ الْخَمْرَ أَوِ الْقَتْلَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي يُعْلَمُ تَحْرِيمُهَا ضَرُورَةً .
فَهَذِهِ جُمَلٌ مِنَ الْمَسَائِلِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْإِيمَانِ قَدَّمْتُهَا فِي صَدْرِ الْكِتَابِ تَمْهِيدًا لِكَوْنِهَا مِمَّا يَكْثُرُ الِاحْتِيَاجُ إِلَيْهِ وَلِكَثْرَةِ تَكَرُّرِهَا وَتَرْدَادِهَا فِي الْأَحَادِيثِ ، فَقَدَّمْتُهَا لَأُحِيلَ عَلَيْهَا إِذَا مَرَرْتُ بِمَا يُخَرَّجُ عَلَيْهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
وَلَهُ الْحَمْدُ وَالنِّعْمَةُ وَبِهِ التَّوْفِيقُ وَالْعِصْمَةُ .


قَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْحُسَيْنِ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : ( حَدَّثَنِي أَبُو خَيْثَمَةَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ كَهْمَسٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ ح وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ وَهَذَا حَدِيثُهُ ثنا أَبِي ثنا كَهْمَسٌ عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ قَالَ : كَانَ أَوَّلَ مَنْ قَالَ فِي الْقَدَرِ بِالْبَصْرَةِ مَعْبَدٌ الْجُهَنِيُّ إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ ) اعْلَمْ أَنَّ مُسْلِمًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - سَلَكَ فِي هَذَا الْكِتَابِ طَرِيقَةً فِي الْإِتْقَانِ وَالِاحْتِيَاطِ وَالتَّدْقِيقِ وَالتَّحْقِيقِ مَعَ الِاخْتِصَارِ الْبَلِيغِ وَالْإِيجَازِ التَّامِّ فِي نِهَايَةٍ مِنَ الْحُسْنِ مُصَرِّحَةً بِغَزَارَةِ عُلُومِهِ وَدِقَّةِ نَظَرِهِ وَحِذْقِهِ ، وَذَلِكَ يَظْهَرُ فِي الْإِسْنَادِ تَارَةً وَفِي الْمَتْنِ تَارَةً وَفِيهِمَا تَارَةً ، فَيَنْبَغِي لِلنَّاظِرِ فِي كِتَابِهِ أَنْ يَتَنَبَّهَ لِمَا ذَكَرْتُهُ فَإِنَّهُ يَجِدُ عَجَائِبَ مِنَ النَّفَائِسِ وَالدَّقَائِقِ تَقَرُّ بِآحَادِ أَفْرَادِهَا عَيْنُهُ ، وَيَنْشَرِحُ لَهَا صَدْرُهُ ، وَتُنَشِّطُهُ لِلِاشْتِغَالِ بِهَذَا الْعِلْمِ .
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ أَحَدٌ شَارَكَ مُسْلِمًا فِي هَذِهِ النَّفَائِسِ الَّتِي يُشِيرُ إِلَيْهَا مِنْ دَقَائِقِ عِلْمِ الْإِسْنَادِ .
وَكِتَابُ الْبُخَارِيِّ وَإِنْ كَانَ أَصَحَّ وَأَجَلَّ وَأَكْثَرَ فَوَائِدَ فِي الْأَحْكَامِ وَالْمَعَانِي ، فَكِتَابُ مُسْلِمٍ يَمْتَازُ بِزَوَائِدَ مِنْ صَنْعَةِ الْإِسْنَادِ ، وَسَتَرَى مِمَّا أُنَبِّهُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ مَا يَنْشَرِحُ لَهُ صَدْرُكَ ، وَيَزْدَادُ بِهِ الْكِتَابُ وَمُصَنِّفُهُ فِي قَلْبِكَ جَلَالَةً إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا قُلْتُهُ فَفِي هَذِهِ الْأَحْرُفِ الَّتِي ذَكَرَهَا مِنَ الْإِسْنَادِ أَنْوَاعٌ مِمَّا ذَكَرْتُهُ ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ أَوَّلًا : حَدَّثَنِي أَبُو خَيْثَمَةَ ، ثُمَّ قَالَ فِي الطَّرِيقِ الْآخَرِ : وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ ، فَفَرَّقَ بَيْنَ حَدَّثَنِي وَحَدَّثَنَا .
وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى الْقَاعِدَةِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَ أَهْلِ الصَّنْعَةِ وَهِيَ أَنَّهُ يَقُولُ فِيمَا سَمِعَهُ وَحْدَهُ مِنْ لَفْظِ الشَّيْخِ : حَدَّثَنِي ، وَفِيمَا سَمِعَهُ مَعَ غَيْرِهِ مِنْ لَفْظِ الشَّيْخِ : حَدَّثَنَا ، وَفِيمَا قَرَأَهُ وَحْدَهُ عَلَى الشَّيْخِ : أَخْبَرَنِي ، وَفِيمَا قُرِئَ بِحَضْرَتِهِ فِي جَمَاعَةٍ عَلَى الشَّيْخِ : أَخْبَرَنَا ، وَهَذَا اصْطِلَاحٌ مَعْرُوفٌ عِنْدَهُمْ ، وَهُوَ مُسْتَحَبٌّ عِنْدَهُمْ ، وَلَوْ تَرَكَهُ وَأَبْدَلَ حَرْفًا مِنْ ذَلِكَ بِآخَرَ صَحَّ السَّمَاعُ وَلَكِنْ تَرَكَ الْأَوْلَى .
وَاللَّهُ أَعْلَمُ .


وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ فِي الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ : ( حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ كَهْمَسٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ ) ثُمَّ فِي الطَّرِيقِ الثَّانِي أَعَادَ الرِّوَايَةَ ( عَنْ كَهْمَسٍ عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ يَحْيَى ) فَقَدْ يُقَالُ : هَذَا تَطْوِيلٌ لَا يَلِيقُ بِإِتْقَانِ مُسْلِمٍ وَاخْتِصَارِهِ ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقِفَ بِالطَّرِيقِ الْأَوَّلِ عَلَى وَكِيعٍ ، وَيَجْتَمِعُ مُعَاذٌ وَوَكِيعٌ فِي الرِّوَايَةِ عَنْ كَهْمَسٍ عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ فَاسِدٌ لَا يَصْدُرُ إِلَّا مِنْ شَدِيدِ الْجَهَالَةِ بِهَذَا الْفَنِّ .
فَإِنَّ مُسْلِمًا رَحِمَهُ اللَّهُ يَسْلُكُ الِاخْتِصَارَ لَكِنْ بِحَيْثُ لَا يَحْصُلُ خَلَلٌ ، وَلَا يَفُوتُ بِهِ مَقْصُودٌ ، وَهَذَا الْمَوْضِعُ يَحْصُلُ فِي الِاخْتِصَارِ فِيهِ خَلَلٌ ، وَيَفُوتُ بِهِ مَقْصُودٌ ; وَذَلِكَ لِأَنَّ وَكِيعًا قَالَ : عَنْ كَهْمَسٍ ، وَمُعَاذٌ قَالَ : حَدَّثَنَا كَهْمَسٌ .
وَقَدْ عُلِمَ بِمَا قَدَّمْنَاهُ فِي بَابِ الْمُعَنْعَنِ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الِاحْتِجَاجِ وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي الْمُتَّصِلِ ، فَأَتَى مُسْلِمٌ بِالرِّوَايَتَيْنِ كَمَا سُمِعَتَا لِيُعْرَفَ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ مِنَ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ وَلِيَكُونَ رَاوِيًا بِاللَّفْظِ الَّذِي سَمِعَهُ .
وَلِهَذَا نَظَائِرُ فِي مُسْلِمٍ سَتَرَاهَا مَعَ التَّنْبِيهِ عَلَيْهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِنْ كَانَ مِثْلُ هَذَا ظَاهِرًا لِمَنْ لَهُ أَدْنَى اعْتِنَاءٍ بِهَذَا الْفَنِّ إِلَّا أَنِّي أُنَبِّهُ عَلَيْهِ لِغَيْرِهِمْ وَلِبَعْضِهِمْ مِمَّنْ قَدْ يَغْفُلُ ، وَلِكُلِّهِمْ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى وَهُوَ أَنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُمُ النَّظَرُ وَتَحْرِيرُ عِبَارَةٍ عَنِ الْمَقْصُودِ .
وَهُنَا مَقْصُودٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ فِي رِوَايَةِ وَكِيعٍ قَالَ : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ ، وَفِي رِوَايَةِ مُعَاذٍ قَالَ : عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ ، فَلَوْ أَتَى بِأَحَدِ اللَّفْظَيْنِ حَصَلَ خَلَلٌ فَإِنَّهُ إِنْ قَالَ : ابْنُ بُرَيْدَةَ لَمْ نَدْرِ مَا اسْمُهُ ، وَهَلْ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ هَذَا ، أَوْ أَخُوهُ سُلَيْمَانُ بْنُ بُرَيْدَةَ ؟ وَإِنْ قَالَ : عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ كَانَ كَاذِبًا عَلَى مُعَاذٍ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي رِوَايَتِهِ عَبْدُ اللَّهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .


وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى ( عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ ) فَلَا يَظْهَرُ لِذِكْرِهِ أَوَّلًا فَائِدَةٌ ، وَعَادَةُ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ فِي مِثْلِ هَذَا أَنْ لَا يَذْكُرُوا يَحْيَى بْنَ يَعْمَرَ لِأَنَّ الطَّرِيقَيْنِ اجْتَمَعَتَا فِي ابْنِ بُرَيْدَةَ وَلَفْظُهُمَا عَنْهُ بِصِيغَةٍ وَاحِدَةٍ إِلَّا أَنِّي رَأَيْتُ فِي بَعْضِ النُّسَخِ فِي الطَّرِيقِ الْأُولَى عَنْ يَحْيَى فَحَسْبُ ، وَلَيْسَ فِيهَا ابْنُ يَعْمَرَ ، فَإِنْ صَحَّ هَذَا فَهُوَ مُزِيلٌ لِلْإِنْكَارِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ ; فَإِنَّهُ يَكُونُ فِيهِ فَائِدَةٌ كَمَا قَرَّرْنَاهُ فِي ابْنِ بُرَيْدَةَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ : ( وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ وَهَذَا حَدِيثُهُ ) ، فَهَذِهِ عَادَةٌ لِمُسْلِمٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَدْ أَكْثَرَ مِنْهَا وَقَدِ اسْتَعْمَلَهَا غَيْرُهُ قَلِيلًا وَهِيَ مُصَرِّحَةٌ بِمَا ذَكَرْتُهُ مِنْ تَحْقِيقِهِ وَوَرَعِهِ وَاحْتِيَاطِهِ وَمَقْصُودُهُ أَنَّ الرَّاوِيَيْنِ اتَّفَقَا فِي الْمَعْنَى وَاخْتَلَفَا فِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ وَهَذَا لَفْظُ فُلَانٍ وَالْآخَرُ بِمَعْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .


وَأَمَّا قَوْلُهُ ( ح ) بَعْدَ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى فَهِيَ حَاءُ التَّحْوِيلِ مِنْ إِسْنَادٍ إِلَى إِسْنَادٍ فَيَقُولُ الْقَارِئُ إِذَا انْتَهَى إِلَيْهَا : ح قَالَ وَحَدَّثَنَا فُلَانٌ هَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ ، وَقَدْ قَدَّمْتُ فِي الْفُصُولِ السَّابِقَةِ بَيَانَهَا وَالْخِلَافَ فِيهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
فَهَذَا مَا حَضَرَنِي فِي الْحَالِ فِي التَّنْبِيهِ عَلَى دَقَائِقِ هَذَا الْإِسْنَادِ وَهُوَ تَنْبِيهٌ عَلَى مَا سِوَاهُ ، وَأَرْجُو أَنْ يُتَفَطَّنَ بِهِ لِمَا عَدَاهُ وَلَا يَنْبَغِي لِلنَّاظِرِ فِي هَذَا الشَّرْحِ أَنْ يَسْأَمَ مِنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ يَجِدُهُ مَبْسُوطًا وَاضِحًا فَإِنِّي إِنَّمَا أَقْصِدُ بِذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ الْكَرِيمُ الْإِيضَاحَ وَالتَّيْسِيرَ وَالنَّصِيحَةَ لِمُطَالِعِهِ وَإِعَانَتَهُ وَإِغْنَاءَهُ مِنْ مُرَاجَعَةِ غَيْرِهِ فِي بَيَانِهِ ، وَهَذَا مَقْصُودُ الشُّرُوحِ .
فَمَنِ اسْتَطَالَ شَيْئًا مِنْ هَذَا وَشِبْهِهِ فَهُوَ بَعِيدٌ مِنَ الْإِتْقَانِ ، مُبَاعِدٌ لِلْفَلَاحِ فِي هَذَا الشَّأْنِ ، فَلْيُعَزِّ نَفْسَهُ لِسُوءِ حَالِهِ ، وَلْيَرْجِعْ عَمَّا ارْتَكَبَهُ مِنْ قَبِيحِ فِعَالِهِ .
وَلَا يَنْبَغِي لِطَالِبِ التَّحْقِيقِ وَالتَّنْقِيحِ وَالْإِتْقَانِ وَالتَّدْقِيقِ أَنْ يَلْتَفِتَ إِلَى كَرَاهَةِ أَوْ سَآمَةِ ذَوِي الْبَطَالَةِ ، وَأَصْحَابِ الْغَبَاوَةِ وَالْمَهَانَةِ وَالْمَلَالَةِ ، بَلْ يَفْرَحُ بِمَا يَجِدُهُ مِنَ الْعِلْمِ مَبْسُوطًا ، وَمَا يُصَادِفهُ مِنَ الْقَوَاعِدِ وَالْمُشْكِلَاتِ وَاضِحًا مَضْبُوطًا ، وَيَحْمَدُ اللَّهَ الْكَرِيمَ عَلَى تَيْسِيرِهِ ، وَيَدْعُو لِجَامِعِهِ السَّاعِي فِي تَنْقِيحِهِ وَإِيضَاحِهِ وَتَقْرِيرِهِ .
وَفَّقَنَا اللَّهُ الْكَرِيمُ لِمَعَالِي الْأُمُورِ ، وَجَنَّبَنَا بِفَضْلِهِ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الشُّرُورِ ، وَجَمَعَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ أَحْبَابِنَا فِي دَارِ الْحُبُورِ وَالسُّرُورِ .
وَاللَّهُ أَعْلَمُ .


وَأَمَّا ضَبْطُ أَسْمَاءِ الْمَذْكُورِينَ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ : فَخَيْثَمَةُ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَإِسْكَانِ الْمُثَنَّاةِ تَحْتُ وَبَعْدَهَا مُثَلَّثَةٌ .


وَأَمَّا ( كَهْمَسٌ ) فَبِفَتْحِ الْكَافِ وَإِسْكَانِ الْهَاءِ وَفَتْحِ الْمِيمِ وَبِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَهُوَ كَهْمَسُ بْنُ الْحَسَنِ أَبُو الْحَسَنِ التَّمِيمِيُّ الْبَصْرِيُّ .


وَأَمَّا ( يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ ) فَبِفَتْحِ الْمِيمِ وَيُقَالُ : بِضَمِّهَا ، وَهُوَ غَيْرُ مَصْرُوفٍ لِوَزْنِ الْفِعْلِ .
كُنْيَةُ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ أَبُو سُلَيْمَانَ ، وَيُقَالُ : أَبُو سَعِيدٍ ، وَيُقَالُ : أَبُو عَدِيٍّ الْبَصْرِيُّ ثُمَّ الْمَرْوَزِيُّ قَاضِيهَا مِنْ بَنِي عَوْفِ بْنِ بَكْرِ بْنِ أَسَدٍ قَالَ الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي تَارِيخِ نَيْسَابُورَ : يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ فَفِيهِ أَدِيبٌ نَحْوِيٌّ مُبَرَّزٌ .
أَخَذَ النَّحْوَ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ نَفَاهُ الْحَجَّاجُ إِلَى خُرَاسَانَ فَقَبِلَهُ قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ وَوَلَّاهُ قَضَاءَ خُرَاسَانَ .


وَأَمَّا ( مَعْبَدٌ الْجُهَنِيُّ ) فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَنْصُورٍ السَّمْعَانِيُّ التَّمِيمِيُّ الْمَرْوَزِيُّ فِي كِتَابِهِ الْأَنْسَابُ : الْجُهَنِيُّ بِضَمِّ الْجِيمِ نِسْبَةً إِلَى جُهَيْنَةَ قَبِيلَةٌ مِنْ قُضَاعَةَ ، وَاسْمُهُ زَيْدُ بْنُ لَيْثِ بْنِ سَوْدِ بْنِ أَسْلَمَ بْنِ الْحَافِّ بْنِ قُضَاعَةَ .
نَزَلَتِ الْكُوفَةَ وَبِهَا مَحِلَّةٌ تُنْسَبُ إِلَيْهِمْ ، وَبَقِيَّتُهُمْ نَزَلَتِ الْبَصْرَةَ .
قَالَ : وَمِمَّنْ نَزَلَ جُهَيْنَةَ فَنُسِبَ إِلَيْهِمْ مَعْبَدُ بْنُ خَالِدٍ الْجُهَنِيُّ كَانَ يُجَالِسُ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الْبَصْرَةِ بِالْقَدَرِ ، فَسَلَكَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ بَعْدَهُ مَسْلَكَهُ لَمَّا رَأَوْا عَمْرَو بْنَ عُبَيْدٍ يَنْتَحِلُهُ .
قَتَلَهُ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ صَبْرًا .
وَقِيلَ : إِنَّهُ مَعْبَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُوَيْمِرٍ هَذَا آخِرُ كَلَامِ السَّمْعَانِيِّ وَأَمَّا ( الْبَصْرَةُ ) فَبِفَتْحِ الْبَاءِ وَضَمِّهَا وَكَسْرِهَا ثَلَاثُ لُغَاتٍ حَكَاهَا الْأَزْهَرِيُّ ، وَالْمَشْهُورُ الْفَتْحُ ، وَيُقَالُ لَهَا الْبُصَيْرَةُ .
بِالتَّصْغِيرِ .
قَالَ صَاحِبُ الْمَطَالِعِ : وَيُقَالُ لَهَا : تَدْمُرَ ، وَيُقَالُ لَهَا : الْمُؤْتَفِكَةُ لِأَنَّهَا ائْتَفَكَتْ بِأَهْلِهَا فِي أَوَّلِ الدَّهْرِ .
وَالنَّسَبُ إِلَيْهَا بَصْرِيُّ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَكَسْرِهَا وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ .
قَالَ السَّمْعَانِيُّ يُقَالُ الْبَصْرَةُ قُبَّةُ الْإِسْلَامِ ، وَخِزَانَةُ الْعَرَبِ ، بَنَاهَا عُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ، بَنَاهَا سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ مِنَ الْهِجْرَةِ ، وَسَكَنَهَا النَّاسُ سَنَةَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ ، وَلَمْ يُعْبَدَ الصَّنَمُ قَطُّ عَلَى أَرْضِهَا ، هَكَذَا كَانَ يَقُولُ لِي أَبُو الْفَضْلِ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْوَاعِظُ بِالْبَصْرَةِ .
قَالَ أَصْحَابُنَا : وَالْبَصْرَةُ دَاخِلَةٌ فِي أَرْضِ سَوَادِ الْعِرَاقِ وَلَيْسَ لَهَا حُكْمُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .


وَأَمَّا قَوْلُهُ أَوَّلَ مَنْ قَالَ فِي الْقَدَرِ فَمَعْنَاهُ أَوَّلُ مَنْ قَالَ بِنَفْيِ الْقَدَرِ فَابْتَدَعَ وَخَالَفَ الصَّوَابَ الَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ الْحَقِّ .
وَيُقَالُ الْقَدَرُ وَالْقَدْرُ بِفَتْحِ الدَّالِ وَإِسْكَانِهَا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ وَحَكَاهُمَا ابْنُ قُتَيْبَةَ عَنِ الْكِسَائِيِّ وَقَالَهُمَا غَيْرُهُ .
وَاعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ الْحَقِّ إِثْبَاتُ الْقَدَرِ وَمَعْنَاهُ : أَنَّ اللَّهَ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - قَدَّرَ الْأَشْيَاءَ فِي الْقِدَمِ ، وَعَلِمَ - سُبْحَانَهُ - أَنَّهَا سَتَقَعُ فِي أَوْقَاتٍ مَعْلُومَةٍ عِنْدَهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وَعَلَى صِفَاتٍ مَخْصُوصَةٍ فَهِيَ تَقَعُ عَلَى حَسَبِ مَا قَدَّرَهَا سُبْحَانُهُ وَتَعَالَى .


وَأَنْكَرَتِ الْقَدَرِيَّةُ هَذَا وَزَعَمَتْ أَنَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - لَمْ يُقَدِّرْهَا وَلَمْ يَتَقَدَّمْ عِلْمُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِهَا وَأَنَّهَا مُسْتَأْنَفَةُ الْعِلْمِ أَيْ إِنَّمَا يَعْلَمُهَا سُبْحَانَهُ بَعْدَ وُقُوعِهَا وَكَذَبُوا عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَجَلَّ عَنْ أَقْوَالِهِمُ الْبَاطِلَةَ عُلُوًّا كَبِيرًا .
وَسُمِّيَتْ هَذِهِ الْفِرْقَةُ قَدَرِيَّةً لِإِنْكَارِهِمُ الْقَدَرَ .
قَالَ أَصْحَابُ الْمَقَالَاتِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ : وَقَدِ انْقَرَضَتِ الْقَدَرِيَّةُ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ الشَّنِيعِ الْبَاطِلِ ، وَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ عَلَيْهِ ، وَصَارَتِ الْقَدَرِيَّةُ فِي الْأَزْمَانِ الْمُتَأَخِّرَةِ تَعْتَقِدُ إِثْبَاتَ الْقَدَرِ ; وَلَكِنْ يَقُولُونَ : الْخَيْرُ مِنَ اللَّهِ وَالشَّرُّ مِنْ غَيْرِهِ ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ قَوْلِهِمْ .


وَقَدْ حَكَى أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ قُتَيْبَةَ فِي كِتَابِهِ غَرِيبُ الْحَدِيثِ وَأَبُو الْمَعَالِي إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي كِتَابِهِ الْإِرْشَادُ فِي أُصُولِ الدِّينِ أَنَّ بَعْضَ الْقَدَرِيَّةِ قَالَ : لَسْنَا بِقَدَرِيَّةٍ بَلْ أَنْتُمُ الْقَدَرِيَّةَ لِاعْتِقَادِكُمْ إِثْبَاتَ الْقَدَرِ .
قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَالْإِمَامُ : هَذَا تَمْوِيهٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الْجَهَلَةِ وَمُبَاهَتَةٌ ; فَإِنَّ أَهْلَ الْحَقِّ يُفَوِّضُونَ أُمُورَكُمْ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَيُضِيفُونَ الْقَدَرَ وَالْأَفْعَالَ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، وَهَؤُلَاءِ الْجَهَلَةُ يُضِيفُونَهُ إِلَى أَنْفُسِهِمْ ، وَمُدَّعِي الشَّيْءِ لِنَفْسِهِ وَمُضِيفُهُ إِلَيْهَا أَوْلَى بِأَنْ يُنْسَبَ إِلَيْهِ مِمَّنْ يَعْتَقِدُهُ لِغَيْرِهِ ، وَيَنْفِيهِ عَنْ نَفْسِهِ .
قَالَ الْإِمَامُ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : الْقَدَرِيَّةُ مَجُوسُ هَذِهِ الْأُمَّةِ شَبَّهَهُمْ بِهِمْ لِتَقْسِيمِهِمُ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ فِي حُكْمِ الْإِرَادَةِ كَمَا قَسَّمَتِ الْمَجُوسُ فَصَرَفَتِ الْخَيْرَ إِلَى يَزْدَانَ وَالشَّرَّ إِلَى أَهْرَمْنَ وَلَا خَفَاءَ بِاخْتِصَاصِ هَذَا الْحَدِيثِ بِالْقَدَرِيَّةِ هَذَا كَلَامُ الْإِمَامِ وَابْنِ قُتَيْبَةَ .
وَحَدِيثُ الْقَدَرِيَّةِ مَجُوسُ هَذِهِ الْأُمَّةِ رَوَاهُ أَبُو حَازِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .
أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ ، وَالْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ ، وَقَالَ : صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ إِنْ صَحَّ سَمَاعُ أَبِي حَازِمٍ مِنِ ابْنِ عُمَرَ ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ : إِنَّمَا جَعَلَهُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَجُوسًا لِمُضَاهَاةِ مَذْهَبِهِمْ مَذْهَبَ الْمَجُوسَ فِي قَوْلِهِمْ بِالْأَصْلَيْنِ النُّورِ وَالظُّلْمَةِ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْخَيْرَ مِنْ فِعْلِ النُّورِ ، وَالشَّرَّ مِنْ فِعْلِ الظُّلْمَةِ ، فَصَارُوا ثَنَوِيَّةً .
وَكَذَلِكَ الْقَدَرِيَّةُ يُضِيفُونَ الْخَيْرَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالشَّرَّ إِلَى غَيْرِهِ ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَالِقُ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ جَمِيعًا لَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْهُمَا إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ فَهُمَا مُضَافَانِ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَلْقًا وَإِيجَادًا وَإِلَى الْفَاعِلَيْنِ لَهُمَا مِنْ عِبَادِهِ فِعْلًا وَاكْتِسَابًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ .


وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ : وَقَدْ يَحْسَبُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ أَنَّ مَعْنَى الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ إِجْبَارُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْعَبْدَ وَقَهْرُهُ عَلَى مَا قَدَّرَهُ وَقَضَاهُ ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا يَتَوَهَّمُونَهُ وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ : الْإِخْبَارُ عَنْ تَقَدُّمِ عِلْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِمَا يَكُونُ مِنَ اكْتِسَابِ الْعَبْدِ وَصُدُورِهَا عَنْ تَقْدِيرٍ مِنْهُ وَخَلَقَ لَهَا خَيْرَهَا وَشَرَّهَا .
قَالَ : وَالْقَدَرُ اسْمٌ لِمَا صَدَرَ مُقَدَّرًا عَنْ فِعْلِ الْقَادِرِ ، يُقَالُ قَدَرْتُ الشَّيْءَ وَقَدَّرْتُهُ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّثْقِيلِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ ، وَالْقَضَاءُ فِي هَذَا مَعْنَاهُ الْخَلْقُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ أَيْ خَلَقَهُنَّ ، قُلْتُ : وَقَدْ تَظَاهَرَتِ الْأَدِلَّةُ الْقَطْعِيَّاتُ مِنَ الْكِتَابِ وِالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَأَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ عَلَى إِثْبَاتِ قَدَرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى .
وَقَدْ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءُ مِنَ التَّصْنِيفِ فِيهِ وَمِنْ أَحْسَنِ الْمُصَنَّفَاتِ فِيهِ وَأَكْثَرِهَا فَوَائِدَ كِتَابُ الْحَافِظِ الْفَقِيهِ أَبِي بَكْرٍ الْبَيْهَقِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَدْ قَرَّرَ أَئِمَّتُنَا مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ ذَلِكَ أَحْسَنَ تَقْرِيرٍ بِدَلَائِلِهِمُ الْقَطْعِيَّةِ السَّمْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ .
وَاللَّهُ أَعْلَمُ .


قَوْلُهُ : ( فَوُفِّقَ لَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ ) هُوَ بِضَمِّ الْوَاوِ وَكَسْرِ الْفَاءِ الْمُشَدَّدَةِ ، قَالَ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ مَعْنَاهُ جُعِلَ وَفْقًا لَنَا وَهُوَ مِنَ الْمُوَافَقَةِ الَّتِي هِيَ كَالِالْتِحَامِ يُقَالُ أَتَانَا لِتِيفَاقِ الْهِلَالِ وَمِيفَاقِهِ أَيْ حِينَ أَهَلَّ ، لَا قَبْلَهُ ، وَلَا بَعْدَهُ ، وَهِيَ لَفْظَةٌ تَدُلُّ عَلَى صِدْقِ الِاجْتِمَاعِ وَالِالْتِئَامِ وَفِي مُسْنَدِ أَبِي يَعْلَى الْمَوْصِلِيِّ ( فَوَافَقَ لَنَا ) بِزِيَادَةِ أَلِفٍ وَالْمُوَافَقَةُ : الْمُصَادَفَةُ .


قَوْلُهُ : ( فَاكْتَنَفْتُهُ أَنَا وَصَاحِبِي ) يَعْنِي صِرْنَا فِي نَاحِيَتَيْهِ .
ثُمَّ فَسَّرَهُ فَقَالَ : أَحَدُنَا عَنْ يَمِينِهِ وَالْآخَرُ عَنْ شِمَالِهِ .
وَكَنَفَا الطَّائِرِ جَنَاحَاهُ وَفِي هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَدَبِ الْجَمَاعَةِ فِي مَشْيهِمْ مَعَ فَاضِلِهِمْ ، وَهُوَ أَنَّهُمْ يَكْتَنِفُونَهُ وَيَحُفُّونَ بِهِ .


قَوْلُهُ : ( فَظَنَنْتُ أَنَّ صَاحِبِي سَيَكِلُ الْكَلَامَ إِلَيَّ ) مَعْنَاهُ : يَسْكُتُ وَيُفَوِّضُهُ إِلَيَّ لِإِقْدَامِي وَجُرْأَتِي وَبَسْطَةِ لِسَانِي ، فَقَدْ جَاءَ عَنْهُ فِي رِوَايَةٍ : لِأَنِّي كُنْتُ أَبْسَطَ لِسَانًا .


قَوْلُهُ : ( ظَهَرَ قِبَلَنَا نَاسٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَيَتَقَفَّرُونَ الْعِلْمَ ) هُوَ بِتَقْدِيمِ الْقَافِ عَلَى الْفَاءِ ، وَمَعْنَاهُ : يَطْلُبُونَهُ وَيَتَتَبَّعُونَهُ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ ، وَقِيلَ : مَعْنَاهُ : يَجْمَعُونَهُ ، وَرَوَاهُ بَعْضُ شُيُوخِ الْمَغَارِبَةِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ مَاهَانَ ( يَتَفَقَّرُونَ ) بِتَقْدِيمِ الْفَاءِ ، وَهُوَ صَحِيحٌ وَهُوَ أَيْضًا مَعْنَاهُ : يَبْحَثُونَ عَنْ غَامِضِهِ وَيَسْتَخْرِجُونَ خَفِيَّهُ .
وَرُوِيَ فِي غَيْرِ مُسْلِمٍ يَتَقَفَّوْنَ بِتَقْدِيمِ الْقَافِ وَحَذْفِ الرَّاءِ وَهُوَ صَحِيحٌ أَيْضًا وَمَعْنَاهُ أَيْضًا : يَتَتَبَّعُونَ .
قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ : وَرَأَيْتُ بَعْضَهُمْ قَالَ فِيهِ ( يَتَقَعَّرُونَ ) بِالْعَيْنِ ، وَفَسَّرَهُ بِأَنَّهُمْ يَطْلُبُونَ قَعْرَهُ أَيْ غَامِضَهُ وَخَفِيَّهُ .
وَمِنْهُ تَقَعَّرَ فِي كَلَامِهِ إِذَا جَاءَ بِالْغَرِيبِ مِنْهُ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي يَعْلَى الْمَوْصِلِيِّ يَتَفَقَّهُونَ بِزِيَادَةِ الْهَاءِ وَهُوَ ظَاهِرٌ .


قَوْلُهُ : ( وَذَكَرَ مِنْ شَأْنِهِمْ ) هَذَا الْكَلَامُ مِنْ كَلَامِ بَعْضِ الرُّوَاةِ الَّذِينَ دُونَ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ الرَّاوِي عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ يَعْنِي وَذَكَرَ ابْنَ يَعْمَرَ مِنْ حَالِ هَؤُلَاءِ وَوَصْفِهِمْ بِالْفَضِيلَةِ فِي الْعِلْمِ وَالِاجْتِهَادِ فِي تَحْصِيلِهِ وَالِاعْتِنَاءِ بِهِ .


قَوْلُهُ : ( يَزْعُمُونَ أَنْ لَا قَدَرَ وَأَنَّ الْأَمْرَ أُنُفٌ ) هُوَ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَالنُّونِ أَيْ : مُسْتَأْنَفٌ لَمْ يَسْبِقْ بِهِ قَدَرٌ وَلَا عِلْمٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَإِنَّمَا يَعْلَمُهُ بَعْدَ وُقُوعِهِ كَمَا قَدَّمْنَا حِكَايَتَهُ عَنْ مَذْهَبِهِمُ الْبَاطِلِ ، وَهَذَا الْقَوْلُ قَوْلُ غُلَاتِهِمْ وَلَيْسَ قَوْلُ جَمِيعِ الْقَدَرِيَّةِ ، وَكَذَبَ قَائِلُهُ وَضَلَّ وَافْتَرَى .
عَافَانَا اللَّهُ وَسَائِرَ الْمُسْلِمِينَ .


قَوْلُهُ : ( قَالَ يَعْنِي ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَإِذَا لَقِيتَ أُولَئِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي بَرِيءٌ مِنْهُمْ وَأَنَّهُمْ بُرَآءُ مِنِّي ، وَالَّذِي يَحْلِفُ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لَوْ أَنَّ لِأَحَدِهِمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا فَأَنْفَقَهُ مَا قَبِلَ اللَّهُ مِنْهُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ ) هَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ظَاهِرٌ فِي تَكْفِيرِهِ الْقَدَرِيَّةَ .
قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : هَذَا فِي الْقَدَرِيَّةِ الْأُوَلِ الَّذِينَ نَفَوْا تَقَدُّمَ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْكَائِنَاتِ ، قَالَ : وَالْقَائِلُ بِهَذَا كَافِرٌ بِلَا خِلَافٍ ، وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ الْقَدَرَ هُمُ الْفَلَاسِفَةُ فِي الْحَقِيقَةِ ، قَالَ غَيْرُهُ : وَيَجُوزُ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهَذَا الْكَلَامَ التَّكْفِيرَ الْمُخْرِجَ مِنَ الْمِلَّةِ فَيَكُونُ مِنْ قَبِيلِ كُفْرَانِ النِّعَمِ .
إِلَّا أَنَّ قَوْلَهُ : مَا قَبِلَهُ اللَّهُ مِنْهُ ، ظَاهِرٌ فِي التَّفْكِيرِ ; فَإِنَّ إِحْبَاطَ الْأَعْمَالِ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْكُفْرِ إِلَّا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي الْمُسْلِمِ لَا يُقْبَلُ عَمَلُهُ لِمَعْصِيَتِهِ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا ، كَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ صَحِيحَةٌ غَيْرُ مُحْوِجَةٍ إِلَى الْقَضَاءِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ بَلْ بِإِجْمَاعِ السَّلَفِ وَهِيَ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ فَلَا ثَوَابَ فِيهَا عَلَى الْمُخْتَارِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَوْلُهُ : فَأَنْفَقَهُ ، يَعْنِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى ، أَيْ طَاعَتِهِ كَمَا جَاءَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى .
قَالَ نِفْطَوَيْهِ : سُمِّيَ الذَّهَبُ ذَهَبًا لِأَنَّهُ يَذْهَبُ وَلَا يَبْقَى .


قَوْلُهُ : ( لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ ) ضَبَطْنَاهُ بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتُ الْمَضْمُومَةِ .
وَكَذَلِكَ ضَبَطْنَاهُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِ .
وَضَبَطَهُ الْحَافِظُأَبُو حَازِمٍ الْعَدَوِيُّ هُنَا ( نَرَى ) بِالنُّونِ الْمَفْتُوحَةِ ، وَكَذَا هُوَ فِي مُسْنَدِ أَبِي يَعْلَى الْمَوْصِلِيِّ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ .


قَوْلُهُ : ( وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ ) مَعْنَاهُ أَنَّ الرَّجُلَ الدَّاخِلَ وَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْ نَفْسِهِ وَجَلَسَ عَلَى هَيْئَةِ الْمُتَعَلِّمِ .
وَاللَّهُ أَعْلَمُ .


قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : ( الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ .
وَالْإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ ...إِلَى آخِرِهِ )
هَذَا قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَإِيضَاحُهُ بِمَا يُغْنِي عَنْ إِعَادَتِهِ .


قَوْلُهُ : ( فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ ) سَبَبُ تَعَجُّبِهِمْ أَنَّ هَذَا خِلَافُ عَادَةِ السَّائِلِ الْجَاهِلِ ، إِنَّمَا هَذَا كَلَامُ خَبِيرٍ بِالْمَسْئُولِ عَنْهُ ، وَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مَنْ يَعْلَمُ هَذَا غَيْرُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .


قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : ( الْإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ ) هَذَا مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ الَّتِي أُوتِيَهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّا لَوْ قَدَّرْنَا أَنَّ أَحَدَنَا قَامَ فِي عِبَادَةٍ وَهُوَ يُعَايِنُ رَبَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا مِمَّا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنَ الْخُضُوعِ وَالْخُشُوعِ وَحُسْنِ السَّمْتِ وَاجْتِمَاعِهِ بِظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ عَلَى الِاعْتِنَاءِ بِتَتْمِيمِهَا عَلَى أَحْسَنِ وُجُوهِهَا إِلَّا أَتَى بِهِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : اعْبُدِ اللَّهَ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِكَ كَعِبَادَتِكَ فِي حَالِ الْعِيَانِ فَإِنَّ التَّتْمِيمَ الْمَذْكُورَ فِي حَالِ الْعِيَانِ إِنَّمَا كَانَ لِعِلْمِ الْعَبْدِ بِاطِّلَاعِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَيْهِ فَلَا يُقْدِمُ الْعَبْدُ عَلَى تَقْصِيرٍ فِي هَذَا الْحَالِ لِلِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ مَعَ عَدَمِ رُؤْيَةِ الْعَبْدِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْمَلَ بِمُقْتَضَاهُ ، فَمَقْصُودُ الْكَلَامِ الْحَثُّ عَلَى الْإِخْلَاصِ فِي الْعِبَادَةِ وَمُرَاقَبَةِ الْعَبْدِ رَبَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، فِي إِتْمَامِ الْخُشُوعِ وَالْخُضُوعِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ .
وَقَدْ نَدَبَ أَهْلُ الْحَقَائِقِ إِلَى مُجَالَسَةِ الصَّالِحِينَ لِيَكُونَ ذَلِكَ مَانِعًا مِنْ تَلَبُّسِهِ بِشَيْءٍ مِنَ النَّقَائِصِ احْتِرَامًا لَهُمْ وَاسْتِحْيَاءً مِنْهُمْ فَكَيْفَ بِمَنْ لَا يَزَالُ اللَّهُ تَعَالَى مُطَّلِعًا عَلَيْهِ فِي سِرِّهِ وَعَلَانِيَتِهِ ؟ .


قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدِ اشْتَمَلَ عَلَى شَرْحِ جَمِيعِ وَظَائِفِ الْعِبَادَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ مِنْ عُقُودِ الْإِيمَانِ وَأَعْمَالِ الْجَوَارِحِ وَإِخْلَاصِ السَّرَائِرِ وَالتَّحَفُّظِ مِنْ آفَاتِ الْأَعْمَالِ حَتَّى إِنَّ عُلُومَ الشَّرِيعَةِ كُلَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَيْهِ وَمُتَشَبِّعَةٌ مِنْهُ قَالَ : وَعَلَى هَذَا الْحَدِيثِ وَأَقْسَامِهِ الثَّلَاثَةِ أَلَّفْنَا كِتَابَنَا الَّذِي سَمَّيْنَاهُ بِالْمَقَاصِدِ الْحِسَانِ فِيمَا يَلْزَمُ الْإِنْسَانَ إِذْ لَا يَشِذُّ شَيْءٌ مِنَ الْوَاجِبَاتِ وَالسُّنَنِ وَالرَّغَائِبِ وَالْمَحْظُورَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ عَنْ أَقْسَامِهِ الثَّلَاثَةِ .
وَاللَّهُ أَعْلَمُ .


قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : ( مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ ) فِيهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْعَالِمِ وَالْمُفْتِي وَغَيْرِهِمَا إِذَا سُئِلَ عَمَّا لَا يَعْلَمُ أَنْ يَقُولَ : لَا أَعْلَمُ ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَنْقُصُهُ بَلْ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى وَرَعِهِ وَتَقْوَاهُ وَوُفُورِ عِلْمِهِ .
وَقَدْ بَسَطْتُ هَذَا بِدَلَائِلِهِ وَشَوَاهِدِهِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي مُقَدِّمَةِ شَرْحِ الْمُهَذَّبِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنَ الْخَيْرِ لَا بُدَّ لِطَالِبِ الْعِلْمِ مِنْ مَعْرِفَةِ مِثْلِهَا وَإِدَامَةِ النَّظَرِ فِيهِ .
وَاللَّهُ أَعْلَمُ .


قَوْلُهُ : ( فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَاتِهَا ) هُوَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْأَمَارَةُ وَالْأَمَارُ بِإِثْبَاتِ الْهَاءِ وَحَذْفِهَا هِيَ الْعَلَامَةُ .


قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : ( أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا ) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى : رَبَّهَا عَلَى التَّذْكِيرِ ، وَفِي الْأُخْرَى : بَعْلَهَا وَقَالَ يَعْنِي السَّرَارِيَّ .
وَمَعْنَى رَبَّهَا وَرَبَّتَهَا .
سَيِّدَهَا وَمَالِكَهَا وَسَيِّدَتَهَا وَمَالِكَتَهَا قَالَ الْأَكْثَرُونَ مِنَ الْعُلَمَاءِ هُوَ إِخْبَارٌ عَنْ كَثْرَةِ السَّرَارِيِّ وَأَوْلَادِهِنَّ ; فَإِنَّ وَلَدَهَا مِنْ سَيِّدِهَا بِمَنْزِلَةِ سَيِّدِهَا ; لِأَنَّ مَالَ الْإِنْسَانِ صَائِرٌ إِلَى وَلَدِهِ ، وَقَدْ يَتَصَرَّفُ فِيهِ فِي الْحَالِ تَصَرُّفَ الْمَالِكِينَ ، إِمَّا بِتَصْرِيحِ أَبِيهِ لَهُ بِالْإِذْنِ ، وَإِمَّا بِمَا يَعْلَمُهُ بِقَرِينَةِ الْحَالِ أَوْ عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ .
وَقِيلَ : مَعْنَاهُ أَنَّ الْإِمَاءَ يَلِدْنَ الْمُلُوكَ فَتَكُونُ أُمُّهُ مِنْ جُمْلَةِ رَعِيَّتِهِ وَهُوَ سَيِّدُهَا وَسَيِّدُ غَيْرِهَا مِنْ رَعِيَّتِهِ ، وَهَذَا قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ ، وَقِيلَ : مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَفْسُدُ أَحْوَالُ النَّاسِ فَيَكْثُرُ بَيْعُ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ فَيَكْثُرُ تَرْدَادُهَا فِي أَيْدِي الْمُشْتَرِينَ حَتَّى يَشْتَرِيَهَا ابْنُهَا وَلَا يَدْرِي ، وَيُحْتَمَلُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَنْ لَا يَخْتَصَّ هَذَا بِأُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ فَإِنَّهُ مُتَصَوَّرٌ فِي غَيْرِهِنَّ ; فَإِنَّ الْأَمَةَ تَلِدُ وَلَدًا حُرًّا مِنْ غَيْرِ سَيِّدِهَا بِشُبْهَةٍ ، أَوْ وَلَدًا رَقِيقًا بِنِكَاحٍ أَوْ زِنًا ثُمَّ تُبَاعُ الْأَمَةُ فِي الصُّورَتَيْنِ بَيْعًا صَحِيحًا ، وَتَدُورُ فِي الْأَيْدِي حَتَّى يَشْتَرِيَهَا وَلَدُهَا وَهَذَا أَكْثَرُ وَأَعَمُّ مِنْ تَقْدِيرِهِ فِي أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ .
وَقِيلَ فِي مَعْنَاهُ غَيْرُ مَا ذَكَرْنَاهُ .
وَلَكِنَّهَا أَقْوَالٌ ضَعِيفَةٌ جِدًّا أَوْ فَاسِدَةٌ فَتَرَكْتُهَا .


وَأَمَّا بَعْلُهَا فَالصَّحِيحُ فِي مَعْنَاهُ أَنَّ الْبَعْلَ هُوَ الْمَالِكُ أَوِ السَّيِّدُ فَيَكُونُ بِمَعْنَى رَبِّهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ .
قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ : بَعْلُ الشَّيْءِ رَبُّهُ وَمَالِكُهُ .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَالْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْلِهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَتَدْعُونَ بَعْلًا أَيْ : رَبًّا .
وَقِيلَ : الْمُرَادُ بِالْبَعْلِ فِي الْحَدِيثِ : الزَّوْجُ وَمَعْنَاهُ نَحْوُ مَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ يَكْثُرُ بَيْعُ السَّرَارِيِّ حَتَّى يَتَزَوَّجَ الْإِنْسَانُ أُمَّهُ وَهُوَ لَا يَدْرِي .
وَهَذَا أَيْضًا مَعْنًى صَحِيحٌ إِلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ أَظْهَرُ ; لِأَنَّهُ إِذَا أَمْكَنَ حَمْلُ الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْقَضِيَّةِ الْوَاحِدَةِ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ كَانَ أَوْلَى .
وَاللَّهُ أَعْلَمُ .


وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى إِبَاحَةِ بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ ، وَلَا مَنْعِ بَيْعِهِنَّ .
وَقَدِ اسْتَدَلَّ إِمَامَانِ مِنْ كِبَارِ الْعُلَمَاءِ بِهِ عَلَى ذَلِكَ ، فَاسْتَدَلَّ أَحَدُهُمَا عَلَى الْإِبَاحَةِ وَالْآخَرُ عَلَى الْمَنْعِ وَذَلِكَ عَجَبٌ مِنْهُمَا .
وَقَدْ أُنْكِرَ عَلَيْهِمَا فَإِنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَا أَخْبَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكَوْنِهِ مِنْ عَلَامَاتِ السَّاعَةِ يَكُونُ مُحَرَّمًا أَوْ مَذْمُومًا ، فَإِنَّ تَطَاوُلَ الرِّعَاءِ فِي الْبُنْيَانِ .
وَفُشُوَّ الْمَالِ ، وَكَوْنَ خَمْسِينَ امْرَأَةً لَهُنَّ قَيِّمٌ وَاحِدٌ لَيْسَ بِحَرَامٍ بِلَا شَكٍّ ، وَإِنَّمَا هَذِهِ عَلَامَاتٌ وَالْعَلَامَةُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ; بَلْ تَكُونُ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالْمُبَاحِ وَالْمُحَرَّمِ وَالْوَاجِبِ وَغَيْرِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .


قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : ( وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ ) أَمَّا ( الْعَالَةُ ) فَهُمُ الْفُقَرَاءُ ، وَالْعَائِلُ الْفَقِيرُ ، وَالْعَيْلَةُ الْفَقْرُ ، وَعَالَ الرَّجُلُ يَعِيلُ عَيْلَةً أَيِ افْتَقَرَ .
وَالرِّعَاءُ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَبِالْمَدِّ ، وَيُقَالُ فِيهِمْ ( رُعَاةٌ ) بِضَمِّ الرَّاءِ وَزِيَادَةِ الْهَاءِ بِلَا مَدٍّ وَمَعْنَاهُ أَنَّ أَهْلَ الْبَادِيَةِ وَأَشْبَاهَهَمْ مِنْ أَهْلِ الْحَاجَةِ وَالْفَاقَةِ تُبْسَطُ لَهُمُ الدُّنْيَا حَتَّى يَتَبَاهَوْنَ فِي الْبُنْيَانِ .
وَاللَّهُ أَعْلَمُ .


قَوْلُهُ ( فَلَبِثَ مَلِيًّا ) هَكَذَا ضَبَطْنَاهُ لَبِثَ آخِرَهُ ثَاءٌ مُثَلَّثَةٌ مِنْ غَيْرِ تَاءٍ .
وَفِي كَثِيرٍ مِنَ الْأُصُولِ الْمُحَقَّقَةِ ( لَبِثْتُ ) بِزِيَادَةِ تَاءِ الْمُتَكَلِّمِ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ .
وَأَمَّا ( مَلِيًّا ) بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ فَمَعْنَاهُ وَقْتًا طَوِيلًا .
وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ ثَلَاثٍ .
وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ لِلْبَغَوِيِّ ( بَعْدَ ثَالِثَةٍ ) وَظَاهِرُ هَذَا : أَنَّهُ بَعْدَ ثَلَاثِ لَيَالٍ .
وَفِي ظَاهِرِ هَذَا مُخَالَفَةٌ لِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بَعْدَ هَذَا ثُمَّ أَدْبَرَ الرَّجُلُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : رُدُّوا عَلَيَّ الرَّجُلَ ، فَأَخَذُوا لِيَرُدُّوهُ فَلَمْ يَرَوْا شَيْئًا ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : هَذَا جِبْرِيلُ ، فَيَحْتَمِلُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمْ يَحْضُرَ قَوْلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُمْ فِي الْحَالِ بَلْ كَانَ قَدْ قَامَ مِنَ الْمَجْلِسِ ، فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَاضِرِينَ فِي الْحَالِ ، وَأُخْبِرَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَعْدَ ثَلَاثٍ إِذْ لَمْ يَكُنْ حَاضِرًا وَقْتَ إِخْبَارِ الْبَاقِينَ .
وَاللَّهُ أَعْلَمُ .


قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( هَذَا جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ ) فِيهِ أَنَّ الْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ وَالْإِحْسَانَ تُسَمَّى كُلُّهَا دِينًا .
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يَجْمَعُ أَنْوَاعًا مِنَ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ وَالْآدَابِ وَاللَّطَائِفِ بَلْ هُوَ أَصْلُ الْإِسْلَامِ كَمَا حُكِينَاهُ عَنِ الْقَاضِي عِيَاضٍ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي ضِمْنِ الْكَلَامِ فِيهِ جُمَلٌ مِنْ فَوَائِدِهِ وَمِمَّا لَمْ نَذْكُرُهُ مِنْ فَوَائِدِهِ أَنَّ فِيهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِمَنْ حَضَرَ مَجْلِسَ الْعَالِمِ إِذَا عَلِمَ بِأَهْلِ الْمَجْلِسِ حَاجَةً ، إِلَى مَسْأَلَةٍ لَا يَسْأَلُونَ عَنْهَا أَنْ يَسْأَلَ هُوَ عَنْهَا لِيَحْصُلَ الْجَوَابُ لِلْجَمِيعِ .
وَفِيهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ يَرْفُقَ بِالسَّائِلِ ، وَيُدْنِيَهُ مِنْهُ ، لِيَتَمَكَّنَ مِنْ سُؤَالِهِ غَيْرَ هَائِبٍ وَلَا مُنْقَبِضٍ .
وَأَنَّهُ يَنْبَغِي لِلسَّائِلِ أَنْ يَرْفُقَ فِي سُؤَالِهِ .
وَاللَّهُ أَعْلَمُ .


قَوْلُهُ : ( حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْغُبَرِيُّ وَأَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ ) أَمَّا ( الْغُبَرِيُّ ) فَبِضَمِّ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَاضِحًا فِي أَوَّلِ مُقَدِّمَةِ الْكِتَابِ ، وَ ( الْجَحْدَرِيُّ ) اسْمُهُ الْفُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ وَهُوَ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَبَعْدَهَا حَاءٌ سَاكِنَةٌ ، وَتَقَدَّمَ أَيْضًا بَيَانُهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ ، وَ ( عَبْدَةَ ) بِإِسْكَانِ الْبَاءِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْفُصُولِ بَيَانُ عَبْدَةَ وَعُبَيْدَةَ .
وَفِي هَذَا الْإِسْنَادِ ( مَطَرٌ الْوَرَّاقُ ) هُوَ مَطَرُ بْنُ طَهْمَانَ أَبُو رَجَاءٍ الْخُرَسَانِيُّ سَكَنَ الْبَصْرَةَ كَانَ يَكْتُبُ الْمَصَاحِفَ فَقِيلَ لَهُ الْوَرَّاقُ .


قَوْلُهُ : ( فَحَجَجْنَا حِجَّةً ) هِيَ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَفَتْحِهَا لُغَتَانِ فَالْكَسْرُ هُوَ الْمَسْمُوعُ مِنَ الْعَرَبِ ، وَالْفَتْحُ هُوَ الْقِيَاسُ ، كَالضَّرْبَةِ وَشِبْهِهَا كَذَا قَالَهُ أَهْلُ اللُّغَةِ .


قَوْلُهُ : ( عُثْمَانُ بْنُ غِيَاثٍ ) هُوَ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ .


وَ ( حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ ) هُوَ حَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ حَجَّاجٍ الثَّقَفِيُّ أَبُو مُحَمَّدٍ الْبَغْدَادِيُّ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ الْكِتَابِ بَيَانُهُ وَاتِّفَاقُهُ مَعَ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ الْوَالِي الظَّالِمِ الْمَعْرُوفِ وَافْتِرَاقُهُ .


وَفِي الْإِسْنَادِ يُونُسُ وَقَدَّ تَقَدَّمَ فِيهِ سِتُّ لُغَاتٍ ضَمُّ النُّونِ وَكَسْرِهَا وَفَتْحِهَا مَعَ الْهَمْزِ فِيهِنَّ وَتَرْكِهِ .