بَابُ تَجَنُّبِ الْإِفْضَاءِ إِلَى الْأَحْبَابِ مَخَافَةَ الْمَلَلِ وَالْإِعْرَاضِ
587 أَنْشَدَنِي الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ الْوَصِيفِيُّ : يَارَبِّ إِنِّي مُحِبٌّ مُوجَعٌ كَمِدُ وَلَيْسَ لِي جَلَدٌ يَارَبِّ إِذْ صَبَرُوا يَارَبِّ فَاجْعَلْ لَنَا مِمَّا تَرَى فَرَجًا فَقَدْ بُلِيتُ وَقَدْ أَخْنَتْنِيَ الْفِكَرُ فَهَذِهِ قِصَّتِي فِيمَنْ بُلِيتُ بِهِ وَلَيْسَ لِلْحُبِّ فِيمَا عِنْدَهُ أَثَرُ |
588 حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ الرَّقِّيُّ , عَنِ الْفَضْلِ بْنِ بُهْلُولٍ , عَنْ هِشَامِ بْنِ الْكَلْبِيِّ , أَنَّهُ رَأَى أَعْرَابِيَّةً فِي الْمَوْقِفِ مِنْ عَرَفَاتٍ تَقُولُ : أَمَا لِفَتَاةٍ فَرَّقَ الْهَجْرُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الَّذِي تَهْوَاهُ يَارَبِّ مِنْ فَضْلٍ حَجَجْتُ وَلَمْ أَحْجُجْ لِسُوءٍ عَمِلْتُهُ وَلَكِنْ لِتَعْذِيبٍ عَلَى قَاطِعِ الْحَبْلِ فَهِمْتُ بِعَقْلِي فِي هَوَاهُ صَغِيرَةً وَقَدْ كَبُرَتْ سِنِّي فَرُدَّ بِهِ عَقْلِي وَإِلَّا فَسَوِّ الْحُبَّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ فَإِنَّكَ يَا مَوْلَايَ تُوصَفُ بِالْعَدْلِ فَقُلْتُ : يَا هَذِهِ , لَقَدْ قُلْتِ كَلَامًا ذَمِيمًا , وَاحْتَمَلْتِ إِثْمًا عَظِيمًا فِي مِثْلِ هَذِهِ الْعَشِيَّةِ . فَقَالَتْ : يَا هَذَا , لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَى مَا بَيْنَ الْجَوَانِحِ وَالْحَشَا لَرَحِمْتَ مَنْ عَذَلْتَ وَلَعَذَرْتَهُ فِي هَذَا الدُّعَاءِ , فَوَاللَّهِ مَا نَطَقْتُ إِلَّا مِنْ غَلِيلٍ , لَوْ لَفَحَ حَجَرًا لَأَذَابَهُ |
589 أَنْشَدَنِي عِمْرَانُ بْنُ مُوسَى لِأَبِي الذُّمَيْنَةِ : دَعَوْتُ إِلَهَ النَّاسِ عِشْرِينَ حَجَّةً نَهَارًا وَلَيْلًا فِي الْجَمِيعِ وَخَالِيَا فَلَمْ يَسْتَجِبْ لِيَ اللَّهُ فِيهَا وَلَمْ يَزَلْ هَوَايَ وَلَكِنْ زَادَ حَتَّى بَرَانِيَا فَيَارَبِّ حَبَّبْنِي إِلَيْهَا وَأَشْفِنِي بِهَا أَوْ أَرِحْ مِمَّا يُقَاسِي فُؤَادِيَا |
590 حَدَّثَنَا أَبُو يُوسُفَ الزُّهْرِيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ قَالَ : حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ : حَدَّثَنَا بَعْضُ , جُلَسَاءِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ : كُنَّا عِنْدَ سُفْيَانَ يَوْمًا فَمَرَّ ابْنُ جَامِعٍ السَّهْمِيُّ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ , وَقَدْ قَدِمَ مِنَ الْعِرَاقِ مِنْ عِنْدِ هَارُونَ الرَّشِيدِ وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ تَبْدُو مِنْ تَحْتِ ثِيَابِهِ , فَقَالَ سُفْيَانُ : مَنْ هَذَا الَّذِي يَخْدَعُ هَؤُلَاءِ بِمَا يَقُولُ ؟ لَيْتَنِي سَمِعْتُ مَا يَقُولُ , فَقَالَ لَهُ بَعْضُ جُلَسَائِهِ : إِنَّمَا يَقُولُ لَهُمُ الشِّعْرَ , وَلَكِنَّهُ يُحَسِّنُهُ مِثْلَ أَيِّ شَيْءٍ قَالَ : يَقُولُ : وَأَسْهَرُ بِاللَّيْلِ بَيْنَ التِّيَامِ وَأَتْلُو مِنَ الْمُحْكَمِ الْمُنْزَلِ قَالَ سُفْيَانُ : حَسَنٌ قَالَ , وَيَقُولُ : وَأَصْحَبُ بِاللَّيْلِ أَهْلَ الطَّوَافِ وَأَرْفَعُ مِنْ مِئْزَرِي الْمُسْبَلِ قَالَ سُفْيَانُ : حَسَنٌ قَالَ يَقُولُ : عَسَى كَاشِفُ الْكَرْبِ عَنْ يُوسُفٍ يُسَخِّرُ لِي رَبَّةَ الْمَحْمَلِ قَالَ : أَمَّا هَذَا فَدَعْهُ |
592 سمعْتُ الْمُبَرِّدَ يَقُولُ : يُرْوَى عَنْ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ الضُّبَعِيِّ قَالَ : كُنْتُ لَا أَكَادُ أَمُرُّ فِي طَرِيقٍ إِلَّا وَمَعِي الْأَلْوَاحُ فَحَجَجْتُ , فَرَأَيْتُ أَعْرَابِيًّا يَقُومُ حَتَّى قَامَ بِحِذَاءِ الْكَعْبَةِ ثُمَّ قَالَ : تَفَهَّمُوا عَنِّي تَحْفَظُوا مَقَالَتِي , ثُمَّ رَفَعَ صَوْتَهُ يُنْشِدُ : أَلَا مَا بَالُ عَيْنِي قَدْ عَصَتْنِي وَقَلْبِي قَدْ أَبَى إِلَّا الْحَنِينَا وَنَفْسِي مَا تَزَالُ الدَّهْرَ تَصْبُو كَأَنَّ بِهَا لِمَا تَلْقَى جُنُونَا أُحِبُّ الْغَانِيَاتِ وَلَيْسَ قَلْبِي بِسَالٍ مَا بَقِيَتُ وَمَا بَقِينَا وَجَمُلَ ما علِمْتُ قَرِينَ سُوءٍ تُمَنِّينَا وَتُمْطِلُنَا الدُّيُونَا فَرَآنِي وَأَنَا كَسْلَانُ , فَقَالَ : هَذَا الْخُسْرَانُ مُبِينٌ , أَتَفْعَلُ مِثْلَ هَذَا فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ ؟ فَقُلْتُ : لَا , بَلِ الْخُسْرَانُ مَا أَنْتَ فِيهِ , فَقَالَ : أَنَا مَعْذُورٌ , أَنَا مَسْلُوبُ الْعَقْلِ , جِئْتُ مُسْتَجِيرًا بَرَبِّ هَذَا الْبَيْتِ لِمَا أَجِدُ بِقَلْبِي , وَأَنْتَ مَسْلُوبُ الدِّينِ , تَكْتُبُ بَلَايَا الْعَاشِقِينَ مُؤْثِرًا لَهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ , لَا قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَكَ . |
594 وَأَنْشَدَنِي أَبُو الْفَضْلِ الرَّبَعِيُّ لِعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ : فَإِنْ حَجَبُوهَا أَوْ يَحُلْ دُونَ وَصْلِهَا مَقَالَةُ وَاشٍ أَوْ حَذَارُ أَمِيرِ فَلَمْ يَمْنَعُوا عَيْنِي مِنَ دَائِمِ الْبُكَا وَلَنْ يَحْجُبُوا مَا قَدْ أَجَنَّ ضَمِيرِي إِلَى اللَّهِ أَشْكُو مَا أُلَاقِي مِنَ الْهَوَى وَمِنْ حِدَقٍ تَعْتَادُنِي وَزَفِيرِ |
595 حَدَّثَنَا الرَّبَعِيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ هِشَامٍ الْكَلْبِيُّ قَالَ : ضَرَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ بَعْثًا إِلَى الْيَمَنِ , فَأَقَامُوا سِنِينَ حَتَّى إِذَا كَانَ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَهَوَ بِدِمَشْقَ قَالَ : وَاللَّهِ لَأَعِسَنَّ اللَّيْلَةَ مَدِينَةَ دِمَشْقَ , وَلَأَسْمَعَنَّ النَّاسَ مَا يَقُولُونَ فِي الْبَعْثِ الَّذِي أَغْرَبْتُ فِيهِ رِحَالَهُمْ , وَأَغْرَمْتُ فِيهِ أَمْوَالَهُمْ , فَبَيْنَا هُوَ فِي بَعْضِ أَزِقَّتِهَا إِذَا هُوَ بِصَوْتِ امْرَأَةٍ قَائِمَةٍ تُصَلِّي , فَتَسَمَّعَ إِلَيْهَا , فَلَمَّا انْصَرَفَتْ إِلَى مَضْجَعِهَا قَالَتْ : اللَّهُمَّ يَا غَلِيظَ الْحِجَابِ , وَيَا مُنْزِلَ الْكُتُبِ , وَيَا مُعْطِيَ الرُّعْبِ , وَيَا مُرَوِّيَ الْعَرَبِ , وَيَا مُسَيِّرَ النُّجُبِ , أَسْأَلُكَ أَنْ تُؤَدِّيَ غَايَتِي فَتَكْشِفَ بِهِ هَمِّي , وَتُصَفِّيَ بِهِ لَذَّتِي , وَتُقِرَّ بِهِ عَيْنِي , وَأَسْأَلُكَ أَنْ تَحْكُمَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ , الَّذِي فَعَلَ بِنَا هَذَا , فَقَدْ صَيَّرَ الرَّجُلَ نَازِحًا , وَالْمَرْأَةَ مُتَقَلْقِلَةً عَلَى فِرَاشِهَا , ثُمَّ أَنْشَأَتْ تَقُولُ : تَطَاوَلَ هَذَا اللَّيْلُ وَالْعَيْنُ تَدْمَعُ وَأَرَّقَنِي حُزْنٌ بِقَلْبِي يُوجِعُ فَبِتُّ أُقَاسِي اللَّيْلَ أَرْعَى نُجُومَهُ وَبَاتَ فُؤَادِي غَائِبًا يَتَفَزَّعُ إِذَا غَابَ مِنْهَا كَوْكَبٌ فِي مَغِيبِهِ لَمَحْتُ بِعَيْنَيَّ آخَرًا حِينَ يَطْلُعُ إِذَا مَا تَذَكَّرْتُ الَّذِي كَانَ بَيْنَنَا وَجَدْتُ فُؤَادِيَ لِلْهَوَى يَتَقَطَّعُ وَكُلُّ حَبِيبٍ ذَاكِرٌ لِحَبِيبِهِ يُرَجِّي لِقَاهُ كُلَّ يَوْمٍ وَيَطْمَعُ فَذَا الْعَرْشِ فَرِّجْ مَا تَرَى مِنْ صَبَابَتِي فَأَنْتَ الَّذِي تَرْعَى أُمُورِي وَتَسْمَعُ دَعَوْتُكَ فِي السَّرَّاءِ وَالضُّرِ دَعْوَةً عَلَى غُلَّةٍ بَيْنَ الشَّرَاسِيفِ يَلْذَعُ فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ لِحَاجِبِهِ : تَعْرِفُ هَذَا الْمَنْزِلَ ؟ قَالَ : نَعَمْ , هَذَا مَنْزِلُ يَزِيدَ بْنِ سِنَانٍ قَالَ : فَمَا الْمَرْأَةُ مِنْهُ ؟ قَالَ : زَوْجَتُهُ , فَلَمَّا أَصْبَحَ سَأَلَ : كَمْ تَصْبِرُ الْمَرْأَةُ عَنْ زَوْجِهَا ؟ قَالُوا : سِتَّةَ أَشْهُرٍ , فَأَمَرَ أَلَّا يَمْكُثَ الْعَسْكَرُ أَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ |
596 حَدَّثَنَا أَبُو الْفَضْلِ الرَّبَعِيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ هِشَامٍ , عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ الْعَبْدِيِّ قَالَ : إِنِّي لَبِمُزْدَلِفَةَ بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ إِذْ سَمِعْتُ صَوْتًا شَجِيًّا وَبُكَاءً حَرِقًا , فَاتَّبَعْتُ الصَّوْتَ فَإِذَا جَارِيَةٌ كَأَنَّهَا قَمَرٌ مَعَهَا عَجُوزٌ , فَلَطَّيْتُ بِالْأَرْضِ أُلَاحِظُهَا مِنْ حَيْثُ لَا تَرَانِي , وَأُمْتِعُ عَيْنَيَّ بِحُسْنِهَا , وَهِيَ تَقُولُ : دَعَوْتُكَ يَا مَوْلَايَ سِرًّا وَجَهْرَةً دُعَاءَ ضَعِيفِ الْقَلْبِ مِنْ مَحْمَلِ الْحُبِّ بُلِيتُ بِقَاسِي الْقَلْبِ لَا يَعْرِفُ الْهَوَى وَأَقْتَلِ خَلْقِ اللَّهِ لِلْهَائِمِ الصَّبِّ فَإِنْ كُنْتَ لَمْ تَقْضِ الْمَوَدَّةَ بَيْنَنَا فَلَا يَخْلُ مِنْ حُبٍّ لَهُ أَبَدًا قَلْبِي رَضِيتُ بِهَذَا مَا حَيِيتُ فَإِنْ أَمُتْ فَحَسْبِي ثَوَابًا فِي الْمَعَادِ بِهِ حَسْبِي قَالَ : وَجَعَلَتْ تُرَدِّدُ ذَلِكَ وَتَبْكِي , وَالنَّاسُ مَشَاغِيلُ بِجَمْعِ الْحَصَى , فَقُمْتُ إِلَيْهَا فَقُلْتُ : بِنَفْسِي أَنْتِ , مَعَ هَذَا الْوَجْهِ الْحَسَنِ يَمْتَنِعُ عَلَيْكِ مَنْ تُرِيدِينَ ؟ فَقَالَتْ : نَعَمْ وَاللَّهِ , يَفْعَلُ ذَلِكَ تَصَبُّرًا , وَفِي قَلْبِهِ أَكْثَرُ مِمَّا فِي قَلْبِي مِنْهُ , قُلْتُ : فَإِلَى كَمْ هَذَا الْبُكَاءُ ؟ قَالَتْ : أَبَدًا , أَوْ يَصِيرُ الدَّمْعُ دَمًا , وَتُطْفَأُ نَفْسِي غَمًّا , فَقُلْتُ : إِنَّ هَذِهِ اللَّيْلَةَ آخِرُ لَيْلَةٍ مِنْ لَيَالِي الْحَجِّ , فَلَوْ سَأَلْتِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ التَّوْبَةَ مِمَّا أَنْتِ فِيهِ , وَالْمَغْفِرَةَ لِمَا سَلَفَ , رَجَوْتُ أَنْ يَذْهَبَ حُبُّهُ مِنْ قَلْبِكِ ؟ قَالَتْ : يَا هَذَا , عَلَيْكَ بِنَفْسِكَ فِي طَلَبِ رَغْبَتِكَ , فَإِنِّي قَدْ قَدَّمْتُ رَغْبَتِي إِلَى مَنْ لَيْسَ يَجْهَلُ بُغْيَتِي , وَحَوَّلَتْ وَجْهَهَا وَأَقْبَلَتْ عَلَى بُكَائِهَا وَشِعْرِهَا , وَلَمْ يُكْرِثْهَا قَوْلِي وَوَعْظِي |