فهرس الكتاب

- باب إلزاق المنكب بالمنكب والقدم بالقدم في الصف

رقم الحديث 1367 [1367] حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ -رضي الله عنه- يَقُولُ "مَرُّوا بِجَنَازَةٍ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَجَبَتْ.
ثُمَّ مَرُّوا بِأُخْرَى فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا، فَقَالَ: وَجَبَتْ.
فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه-: مَا وَجَبَتْ؟ قَالَ: هَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا فَوَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، وَهَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا فَوَجَبَتْ لَهُ النَّارُ.
أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الأَرْضِ".
[الحديث طرفه في: 2642] .
وبالسند قال: ( حدّثنا آدم) بن أبي إياس قال: ( حدّثنا شعبة) بن الحجاج، قال: ( حدّثنا عبد العزيز بن صهيب، قال: سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه، يقول) : ( مروا) ولأبي ذر: مرّ، بضم الميم مبنيًا للمفعول ( بجنازة، فأثنوا عليها خيرًا) في رواية النضر بن أنس عند الحاكم، فقالوا: كان يحب الله ورسوله، ويعمل بطاعة الله، ويسعى فيها، ( فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: وجبت، ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شرًّا) قال في رواية الحاكم المذكورة: فقالوا: كان يبغض الله ورسوله، ويعمل بمعصية الله ويسعى فيها، ( فقال) عليه الصلاة والسلام: ( وجبت) .
واستعمال الثناء في الشر لغة شاذة، لكنه استعمل هنا للمشاكلة لقوله: فأثنوا عليها خيرًا.
وإنما مكنوا من الثناء بالشر مع الحديث الصحيح في البخاري في النهي عن سب الأموات لأن النهي عن سبهم إنما هو في حق غير المنافقين، والكفار، وغير المتظاهر بالفسق، والبدعة.
وأما هؤلاء فلا يحرم سبهم، للتحذير من طريقتهم، ومن الاقتداء بآثارهم، والتخلق بأخلاقهم.
قاله النووي.
( فقال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه) لرسول الله، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، مستفهمًا عن قوله: ( ما وجبت؟ قال) عليه الصلاة والسلام: ( هذا أثنيتم عليه خيرًا، فوجبت له الجنة.
وهذا أثنيتم عليه شرًّا فوجبت له النار)
والمراد بالوجوب: الثبوت، أو هو في صحة الوقوع كالشيء الواجب، والأصل أنه لا يجب على الله شيء، بل الثواب فضله، والعقاب عدله.
لا يسأل عما يفعله ( أنتم شهداء الله في الأرض) ولفظه في: الشهادات: المؤمنون شهداء الله في الأرض.
فالمراد: المخاطبون بذلك من الصحابة، ومن كان على صفتهم من الإيمان.
فالمعتبر شهادة أهل الفضل والصدق، لا الفسقة.
لأنهم قد يثنون على من كان مثلهم، ولا من بينه وبين الميت عداوة، لأن شهادة العدو لا تقبل.
قاله الداودي.
وقال المظهري: ليس معنى قوله: أنتم شهداء الله في الأرض، أي: الذي يقولونه في حق شخص يكون كذلك، حتى يصير من يستحق الجنة من أهل النار بقولهم، ولا العكس.
بل معناه أن الذي أثنوا عليه خيرًا رأوه منه كان ذلك علامة كونه من أهل الجنة، وبالعكس.
وتعقبه الطيبي في شرح المشكاة، بأن قوله: وجبت، بعد ثناء الصحابة، حكم عقب وصفًا مناسبًا، فأشعر بالعلية.
وكذا الوصف بقوله: أنتم شهداء الله في الأرض.
لأن الإضافة فيه للتشريف بأنهم بمنزلة عالية عند الله، فهو كالتزكية من الرسول، لأمته، وإظهار عدالتهم بعد شهادتهم لصاحب الجنازة، فينبغي أن يكون لها أثر ونفع في حقه.
قال: وإلى معنى هذا يومئ قوله تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] اهـ.
وقال النووي: قال بعضهم: معنى الحديث أن الثناء بالخير لمن أثنى عليه أهل الفضل، وكان ذلك مطابقًا للواقع، فهو من أهل الجنة، وإن كان غير مطابق فلا، وكذا عكسه.
قال: والصحيح أنه على عمومه، وأن من مات فألهم الله الناس الثناء عليهبخير كان دليلاً على أنه من أهل الجنة، سواء كانت أفعاله تقتضي ذلك أم لا، فإن الأعمال داخلة تحت المشيئة، وهذا الإلهام يستدل به على تعيينها، أو بهذا تظهر فائدة الثناء اهـ.


رقم الحديث 1368 [1368] حَدَّثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي الْفُرَاتِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ قَالَ: "قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ -وَقَدْ وَقَعَ بِهَا مَرَضٌ- فَجَلَسْتُ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه- فَمَرَّتْ بِهِمْ جَنَازَةٌ فَأُثْنِيَ عَلَى صَاحِبِهَا خَيْرًا، فَقَالَ عُمَرُ -رضي الله عنه-: وَجَبَتْ.
ثُمَّ مُرَّ بِأُخْرَى فَأُثْنِيَ عَلَى صَاحِبِهَا خَيْرًا، فَقَالَ عُمَرُ -رضي الله عنه-: وَجَبَتْ.
ثُمَّ مُرَّ بِالثَّالِثَةِ فَأُثْنِيَ عَلَى صَاحِبِهَا شَرًّا، فَقَالَ: وَجَبَتْ.
فَقَالَ أَبُو الأَسْوَدِ فَقُلْتُ وَمَا وَجَبَتْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ:.

قُلْتُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَيُّمَا مُسْلِمٍ شَهِدَ لَهُ أَرْبَعَةٌ بِخَيْرٍ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ.
فَقُلْنَا: وَثَلاَثَةٌ؟ قَالَ: وَثَلاَثَةٌ.
فَقُلْنَا: وَاثْنَانِ؟ قَالَ: وَاثْنَانِ.
ثُمَّ لَمْ نَسْأَلْهُ عَنِ الْوَاحِدِ".
[الحديث 1386 - طرفه في: 2643] .
وبه قال: (حدّثنا عفان بن مسلم) بكسر اللام المخففة، زاد أبو ذرة هو الصفار، قال (حدّثنا داود بن أبي الفرات) بلفظ النهر، واسمه عمرو الكندي (عن عبد الله بن بريدة) بضم الموحدة وفتح الراء آخره هاء تأنيث (عن أبي الأسود) ظالم بن عمرو بن سفيان الديلي، بكسر الدال المهملة وسكون التحتية، ويقال: الدؤلي بضم الدال بعدها همزة مفتوحة، وهو أول من تكلم في النحو بعد عليّ بن أبي طالب.
قال الحافظ ابن حجر: ولم أره من رواية عبد الله بن بريدة عنه، إلا معنعنًا.
وقد حكى الدارقطني في كتاب التتبع، عن عليّ بن المديني: أن ابن بريدة إنما يروي عن يحيى بن معمر، عن أبي الأسود، ولم يقل في هذا الحديث: سمعت أبا الأسود.
قال الحافظ ابن حجر، وابن بريدة ولد في عهد عمر، فقد أدرك أبا الأسود بلا ريب، لكن البخاري لا يكتفي بالمعاصرة، فلعله أخرجه شاهدًا أو اكتفى للأصل بحديث أنس السابق.
(قال) أي: أبو الأسود: (قدمت المدينة) النبوية - (وقد وقع بها مرض) - جملة حالية، زاد في الشهادات: وهم يموتون موتًا ذريعًا.
وهو بالذال المعجمة أي سريعًا (فجلست إلى) أي: عند (عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، فمرت بهم جنازة، فأثني) بضم الهمزة مبنيًّا للمفعول (على صاحبها خيرًا) كذا في جميع الأصول بالنصب، ووجهه ابن بطال، بأنه أقام الجار والمجرور، وهو قوله: على صاحبها مقام المفعول الأول وخيرًا مقام الثاني وإن كان الاختيار عكسه.
وقال النووي: منصوب بنزع الخافض، أي أثنى عليها بخير.
وقال في مصابيح الجامع: على صاحبها، نائب عن الفاعل، وخيرًا: مفعول لمحذوف.
فقال المثنون خيرًا.
(فقال عمر، رضي الله عنه: وجبت ثم مرّ) بضم الميم (بأخرى، فأثني على صاحبها) فقال المثنون: (خيرًا، فقال عمر، رضي الله عنه، وجبت ثم مر) بضم الميم (بالثالثة، فأثني على صاحبها) فقال المثنون (شرًّا، فقال) عمر رضي الله عنه: (وجبت.
فقال أبو الأسود) المذكور بالإسناد السابق، (فقلت وما) معنى قولك لكل منهما (وجبت يا أمير المؤمنين): مع اختلاف الثناء بالخير والشر.
(قال) عمر: (قلت كما قال النبي، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) هو المقول، وحينئذ فيكون قول عمر، رضي الله عنه لكل منهما وجبت، قاله بناء على اعتقاده صدق الوعد المستفاد من قوله، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أدخله الله الجنة.
(أيما مسلم شهد له أربعة) من المسلمين (بخير، أدخله الله الجنة).
(فقلنا) أي عمر وغيره (وثلاثة؟ قال) عليه الصلاة والسلام: (وثلاثة.
فقلنا: واثنان؟ قال) عليه الصلاة والسلام (واثنان).
(ثم لم نسأله عن الواحد) استبعادًا أن يكتفي في مثل هذا المقام العظيم، بأقل من النصاب.
واقتصر على الشق الأول اختصارًا، أو لإحالة السامع على القياس.
وفي حديث حماد بن سلمة، عن ثابت عن أنس، عند أحمد، وابن حبان والحاكم مرفوعًا: ما من مسلم يموت، فيشهد له أربعة من جيرانه الادنين، أنهم لا يعلمون منه إلا خيرًا، إلا قال الله تعالى قد قبلت قولكم وغفرت له ما لا تعلمون وهذا يؤيد قول النووي السابق: إن من مات فألهم الله الناس الثناء عليه بخير، كان دليلاً على أنه من أهل الجنة، سواء كانت أفعاله تقتضي ذلك أم لا.
وهذا في جانب الخير واضح، وأما في جانب الشر، فظاهر الأحاديث أنه كذلك، لكن إنما يقع ذلك في حق من غلب شره على خيره، وقد وقع في رواية النضر عند الحاكم: إن لله تعالى ملائكة تنطق على ألسنة بني آدم بما في المؤمن من الخير أو الشر.
وهل يختص الثناء الذي ينفع الميت بالرجال، أو يشمل النساء أيضًا.
وإذا قلنا إنهن يدخلن، فهل يكتفى باْمرأتين، أو لا بد من رجل واْمرأتين؟ محل نظر.
وقد يقال: لا يدخلن، لقصة أم العلاء الأنصارية، لا أثنت على عثمان بن مظعون بقولها: فشهادتي عليك لقد أكرمك الله تعالى.
فقال لها النبي، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وما يدريك أن الله أكرمه، فلم يكتف بشهادتها، لكن يجاب بأنه عليه الصلاة والسلام، إنما أنكر عليها القطع بأن الله أكرمه، وذلك مغيب عنها، بخلاف الشهادة للميتبأفعاله الحسنة التي يتلبس بها في الحياة الدنيا.
ورواة هذا الحديث: كلهم بصريون، لكن داود مروزي، تحول إلى البصرة.
وهو من أفراد المؤلّف.
وفيه: رواية تابعي عن تابعي عن صحابي والتحديث والعنعنة والقول، وأخرجه أيضًا في الشهادات، والترمذي في: الجنائز، وكذا النسائي والله أعلم.
87 - باب مَا جَاءَ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ وَقَولُهُ تَعَالَى: { إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلاَئِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} [الأنعام: 93] َالْهَوْنُ هُوَ الْهَوَانُ.
وَالْهَوَانُ الرِّفْقُ، وَقَولُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ { سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} [التوبة: 11] .
وَقَولُهُ تَعَالَى: { وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 45] .
(باب ما جاء في عذاب القبر) قد تظاهرت الدلائل من الكتاب والسنة على ثبوته، وأجمع عليه أهل السنة، ولا مانع في العقل أن يعيد الله الحياة في جزء من الجسد، أو في جميعه على الخلاف المعروف، فيثيبه ويعذبه.
وإذا لم يمنعه العقل وورد به الشرع وجب قبوله، واعتقاده.
ولا يمنع من ذلك كون الميت قد تفرقت أجزاؤه، كما يشاهد في العادة، أو أكلته السباع والطيور وحيتان البحر.
كما أن الله تعالى يعيده للحشر، وهو سبحانه وتعالى، قادر على ذلك، فلا يستبعد تعلق روح الشخص الواحد في آن واحد بكل واحد من أجزائه المتفرقة في المشارق والمغارب.
فإن تعلقه ليس على سبيل الحلول حتى يمنعه الحلول في جزء من الحلول في غيره، قال في مصابيح الجامع: وقد كثرت الأحاديث في عذاب القبر، حتى قال غير واحد: إنها متواترة لا يصح عليها التواطؤ وإن لم يصح مثلها لم يصح شيء من أمر الدين.
قال أبو عثمان الحداد وليس في قوله تعالى: إ { لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} [الدخان: 56] ما يعارض ما ثبت من عذاب القبر، لأن الله تعالى أخبر بحياة الشهداء قبل يوم القيامة، وليست مرادة بقوله تعالى: { لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} [الدخان: 56] فكذا حياة المقبور قبل الحشر.
قال ابن المنير: وأشكل ما في القضية أنه إذا ثبت حياتهم، لزم أن يثبت موتهم بعد هذه الحياة ليجتمع الخلق كلهم في الموت عند قوله تعالى: { لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر: 16] ويلزم تعدد الموت، وقد قال تعالى: { لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} [الدخان: 56] الآية، والجواب الواضح عندي أن معنى قوله تعالى: { لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ} [الدخان: 56] أي ألم الموت فيكون الموت الذى يعقب الحياة الأخروية بعد الموت الأول لا يذاق ألمه البتة، ويجوز ذلك في حكم التقدير بلا إشكال، وما وضع العرب اسم الموت إلا للمؤلم على ما فهموه لا باعتبار كونه ضدّ الحياة، فعلى هذا يخلق الله لتلك الحياة الثانية ضدًّا يعدمها به لا يسمى ذلك الضد موتًا، وإن كان للحياة ضد، جمعًا بين الأدلة العقلية والنقلية واللغوية.
اهـ.
وقد ادعى قوم عدم ذكر عذاب القبر في القرآن، وزعموا أنه لم يرد ذكره إلا من أخبار الآحاد، فذكر المصنف آيات تدل لذلك ردًّا عليهم فقال: (وقوله تعالى) بالجر عطفًا على عذاب، أو بالرفع على الاستئناف ({ إذ الظالمون} ) ولأبي ذر، وابن عساكر: { ولو ترى إذ الظالمون} جوابه محذوف، أي: ولو ترى زمن غمراتهم لرأيت أمرًا فظيعًا ({ في غمرات الموت} ) شدائده ({ والملائكة باسطو أيديهم} ) لقبض أرواحهم أو بالعذاب ({ أخرجوا أنفسكم} ) أي: يقولون لهم أخرجوها إلينا من أجسادكم تغليطًا وتعنيفًا عليهم، فقد ورد أن أرواح الكفار تتفرق في أجسادهم، وتأبى الخروج فتضربهم الملائكة حتى تخرج ({ اليوم} ) يريد وقت الإماتة لما فيه من شدة النزع، أو الوقت الممتد من الإماتة إلى ما لا نهاية له الذي فيه عذاب البرزخ والقيامة ({ تجزون عذاب الهون} ) [الأنعام: 93] .
وروى الطبري، وابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس { والملائكة باسطو أيديهم} قال: هذا عند الموت، والبسط الضرب، يضربون وجوههم وأدبارهم (الهون) بالضم، ولأبي ذر: قال أبو عبد الله أي البخاري: الهون (هو الهوان) يريد العذاب المتضمن لشدة وإهانة، وأضافه إلى الهون لتمكنه فيه، (والهون) بالفتح والرفع: (الرفق.
وقوله جل ذكره: ({ سنعذبهم مرتين} ) بالفضيحة في الدنيا، وعذاب القبر، رواه الطبري وابن أبي حاتم، والطبراني في الأوسط، عن ابن عباس بلفظ: خطب رسول الله، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يوم الجمعة، فقال: أخرج يا فلان فإنك منافق ... فذكر الحديث.
وفيه: ففضح الله المنافقين، فهذا العذاب الأول.
والعذاب الثاني، عذاب القبر، أو ضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم عند قبض أرواحهم، ثم عذاب القبر ({ ثم يردون إلى عذاب عظيم} ) [التوبة: 11] في جهنم.
(وقوله تعالى: { وحاق بآل فرعون} )فرعون وقومه، واستغنى بذكرهم عن ذكره للعلم بأنه أولى بذلك ({ سوء العذاب} ) الغرق في الدنيا، ثم النقلة منه إلى النار ({ النار يعرضون عليها غدوًا وعشيًّا} ) جملة مستأنفة، أو: النار، بدل من سوء العذاب، ويعرضون حال.
وروى ابن مسعود: أن أرواحهم في أجواف طير سود تعرض على النار بكرة وعشيًا، فقال لهم: هذه داركم.
رواه ابن أبي حاتم، قال القرطبي: الجمهور على أن هذا العرض في البرزخ، وفيه دليل على بقاء النفس، وعذاب القبر ({ ويوم تقوم الساعة} ) أي: هذا ما دامت الدنيا، فإذا قامت الساعة قيل لهم: ({ أدخلوا} ) { آَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} [غافر: 45] عذاب جهنم فإنه أشد مما كانو فيه، أو أشد عذاب جهنم.
وهذه الآية المكية أصل في الاستدلال لعذاب القبر، لكن استشكلت مع الحديث المروي في مسند الإمام أحمد بإسناد صحيح على شرط الشيخين: أن يهودية في المدينة كانت تعيذ عائشة من عذاب القبر، فسألت عنه رسول الله، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فقال: كذب يهود، لا عذاب دون القيامة.
فلما مضى بعض أيام، نادى رسول الله، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، محمرًا عيناه، بأعلى صوته: أيها الناس استعيذوا بالله من عذاب القبر، فإنه حق.
وأجيب: بأن الآية دلت على عذاب الأرواح في البرزخ، وما نفاه أوّلاً ثم أثبته، عليه الصلاة والسلام، عذاب الجسد فيه.
والأولى أن يقال: الآية دلت على عذاب الكفار، وما نفاه، ثم أثبته عذاب القبر للمؤمنين.
ففي صحيح مسلم، من طريق ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، رضي الله عنها، أن يهودية قالت لها: أشعرت أنكم تفتنون في القبور؟ فلما سمع، عليه الصلاة والسلام، قولها ارتاع، وقال: إنما تفتن اليهود.
ثم قال بعد ليال: أشعرت أنه أوحي إليّ أنكم تفتنون في القبور، وفي الترمذي، عن عليّ قال: ما زلنا نشك في عذاب القبر حتى نزلت { أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر: 1 - 2] وفي صحيح ابن حبان، من حديث أبي هريرة مرفوعًا في قوله تعالى: { فإن له معيشة ضنكًا} قال عذاب القبر.