فهرس الكتاب

- باب: من كره أن يعود في الكفر كما يكره أن يلقى في النار من الإيمان

رقم الحديث 22 [22] حدّثنا إسْمَاعِيلُ قَالَ حدّثني مَالِكٌ عَن عَمْرِو بنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ عَن أبِيهِ عَن أبي سَعِيدٍ الخُدْرِي رَضِي الله عَنهُ عَن النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالَ يدْخُلُ أَهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ وأهْلُ النَّارِ النَّارَ ثُم يَقولُ اللَّهُ تَعَالَى أَخْرِجُوا مَن كَانَ فِي قَلْبِهِ مثْقالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إيمانٍ فَيُخْرَجُونَ مِنْهَا قَدِ اسْوَدُّوا فَيُلْقَوْنَ فِي نَهَرِ الحَياءِ أَو الحَيَاةِ شَكَّ مَالِكٌ فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الحِبَّةُ فِي جانِب السَّيْلِ أَلَمْ تَرَ أَنَّها تَخْرُجُ صَفَرَاءَ مُلْتَوِيَةً.. مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهِي أَن الْمَذْكُور فِيهِ هُوَ: أَن الْقَلِيل جدا من الْإِيمَان يخرج صَاحبه من النَّارذَلِك نقص ثَوَابه.
فَإِن قلت: كَيفَ يعلمُونَ مَا كَانَ فِي قُلُوبهم فِي الدُّنْيَا من الْإِيمَان ومقداره؟ قلت: لَعَلَّه بعلامات كَمَا يعلمُونَ أَنهم من أهل التَّوْحِيد.
قَوْله: ( كَمَا تنْبت الْحبَّة) الخ فِيهِ تَشْبِيه مُتَعَدد، وَهُوَ التَّشْبِيه من حَيْثُ الْإِسْرَاع، وَمن حَيْثُ ضعف النَّبَات، وَمن حَيْثُ الطراوة وَالْحسن، والمنى: من كَانَ فِي قلبه مِثْقَال حَبَّة من الْإِيمَان يخرج من ذَلِك المَاء نضراً حسنا منبسطاً متبختراً كخروج هَذِه الريحانة من جَانب السَّيْل صفراء متميلة، وَهَذَا يُؤَيّد كَون اللَّام فِي الْحبَّة للْجِنْس، لِأَن بقلة الحمقاء لَيست صفراء؛ إلاَّ أَن يقْصد بِهِ مُجَرّد الْحسن والطراوة، وَقد ذكرنَا وَجه كَونهَا للْعهد.
( بَيَان استنباط الْفَوَائِد) الأولى: فِيهِ حجَّة لأهل السّنة على المرجئة حَيْثُ علم مِنْهُ دُخُول طَائِفَة من عصارة الْمُؤمنِينَ النَّار، إِذْ مَذْهَبهم أَنه لَا يضر مَعَ الْإِيمَان مَعْصِيّة، فَلَا يدْخل العَاصِي النَّار.
الثَّانِيَة: فِيهِ حجَّة على الْمُعْتَزلَة حَيْثُ دلّ على عدم وجوب تخليد العَاصِي فِي النَّار.
الثَّالِثَة: فِيهِ دَلِيل على تفاضل أهل الْإِيمَان فِي الْأَعْمَال.
الرَّابِعَة: مَا قيل: إِن الْأَعْمَال من الْإِيمَان لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( خَرْدَل من إِيمَان) ، وَالْمرَاد مَا زَاد على أصل التَّوْحِيد.
قلت: لَا دلَالَة فِيهِ على ذَلِك أصلا على مَا لَا يخفى.
قَالَ وُهَيْبٌ حَدثنَا عَمْرٌ والحَيَاةِ.

     وَقَالَ  خَرْدَلٍ مِنْ خيْرٍ.
الْكَلَام فِيهِ من وُجُوه.
الأول: أَن هَذَا من بَاب تعليقات البُخَارِيّ، وَلكنه أخرجه مُسْندًا فِي كتاب الرقَاق عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل عَن وهيب عَن عَمْرو بن يحيى عَن أَبِيه عَن أبي سعيد بِهِ، وسياقه اتم من سِيَاق مَالك، لكنه قَالَ: ( من خَرْدَل من إِيمَان) كَرِوَايَة مَالك، وَقد اعْترض على البُخَارِيّ بِهَذَا، وَلَا يرد عَلَيْهِ لِأَن أَبَا بكر بن أبي شيبَة أخرج هَذَا الحَدِيث فِي مُسْنده عَن عَفَّان بن مُسلم عَن وهيب فَقَالَ: ( من خَرْدَل من خير) ، كَمَا علقه البُخَارِيّ، وَقد أخرج مُسلم عَن أبي بكر هَذَا لَكِن لم يسق لَفظه.
الثَّانِي: فِي إِيرَاد البُخَارِيّ هَذِه الزِّيَادَة من حَدِيث وهيب هُنَا فَوَائِد.
مِنْهَا: قَول وهيب: حَدثنَا عَمْرو آتِيَا بِلَفْظ التحديث، بِخِلَاف مَالك فَإِنَّهُ أَتَى بِلَفْظَة: عَن، وفيهَا خلاف مَعْرُوف، هَل يدل على الِاتِّصَال وَالسَّمَاع أم لَا؟ فأزال البُخَارِيّ بِهَذِهِ الزِّيَادَة توهم الْخلاف، مَعَ أَن مَالِكًا غير مُدَلّس، وَالْمَشْهُور عِنْد أهل هَذَا الْفَنّ أَن لَفْظَة: عَن، مَحْمُولَة على الِاتِّصَال إِذا لم يكن المعنعن مدلساً.
وَمِنْهَا: إِزَالَة الشَّك الَّذِي جَاءَ فِي حَدِيث مَالك عَن عَمْرو فِي قَوْله: ( الْحيَاء أَو الْحَيَاة) فَأتى بِهِ وهيب مُجَردا من غير شكّ.
فَقَالَ: نهر الْحَيَاة.
وَمِنْهَا: قَوْله: من خير، وَتقدم الْكَلَام عَلَيْهِ.
الثَّالِث: قَوْله: ( الْحَيَاة) بِالْجَرِّ، على الْحِكَايَة، وَالْمعْنَى أَن وهيباً وَافق مَالِكًا فِي رِوَايَته لهَذَا الحَدِيث عَن عَمْرو بن يحيى بِسَنَدِهِ، وَجزم بقوله: فِي نهر الْحَيَاة وَلم يشك كَمَا شكّ مَالك رَحمَه الله تَعَالَى.
قَوْله: ( وَقَالَ خَرْدَل من خير) بجر خَرْدَل أَيْضا على الْحِكَايَة، أَي: قَالَ وهيب فِي رِوَايَته: مِثْقَال حَبَّة من خَرْدَل من خير، فَخَالف مَالِكًا أَيْضا فِي هَذِه اللَّفْظَة كَمَا ذكرنَا.
قَوْله: ( وهيب) ، بِضَم الْوَاو وَفتح الْهَاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة، ابْن خَالِد بن عجلَان الْبَاهِلِيّ، مَوْلَاهُم، الْبَصْرِيّ، روى عَن: هِشَام بن عُرْوَة وَأَيوب وَسُهيْل وَعَمْرو بن يحيى وَغَيرهم، روى عَنهُ: الْقطَّان وَابْن مهْدي وَأَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ وَخلق كثير، اتّفق على توثيقه،.

     وَقَالَ  ابْن سعد: كَانَ ثِقَة كثير الحَدِيث حجَّة، وَكَانَ يملي من حفظه، مَاتَ وَهُوَ ابْن ثَمَان وَخمسين سنة، روى لَهُ الْجَمَاعَة، وَقد سجن فَذهب بَصَره.
قَوْله: ( حَدثنَا عَمْرو) بِفَتْح الْعين، هُوَ عَمْرو بن يحيى الْمَازِني، وَقد مر ذكره عَن قريب.


رقم الحديث 23 [23] حدّثنا مُحمدُ بنُ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ حدّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ سَعْدٍ عَن صالِحٍ عنِ ابْن شِهابٍ عَن أبي أُمامَةَ بنِ سَهْلٍ أنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ يَقولُ قَالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَيْنَا أَنا نائِمٌ رَأْيْتُ الناسَ يُعْرَضُونَ عليَّ وَعَليهمْ قُمُصٌ مِنها مَا يَبْلُغُ الثُّدِيَّ ومِنها مَا دُونَ ذلِكِ وعُرِضَ عَلَيَّ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ وَعَلَيْهِ قَميصٌ يَجُرُّهُ قَالُوا فَمَا أَوّلْتَ ذلكَ يَا رسولَ اللَّهِ قَالَ الدِّينَ.. مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة من جِهَة تَأْوِيل الْقَمِيص بِالدّينِ، وَذكر فِيهِ أَنهم متفاضلون فِي لبسهَا فَدلَّ على أَنهم متفاضلون فِي الْإِيمَان.
.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: دلّ الحَدِيث على أَن الْأَعْمَال من الْإِيمَان، وَأَن الْإِيمَان وَالدّين بِمَعْنى وَاحِد، وَأَن أهل الْإِيمَانبَعضهم، لِأَن الْعَرَب تعبر عَن الْعِفَّة بنقاء الثَّوْب والمئزر، وجره عبارَة عَمَّا فضل عَنهُ وانتفع النَّاس بِهِ، بِخِلَاف جَرّه فِي الدُّنْيَا للخيلاء فَإِنَّهُ مَذْمُوم.
فَإِن قيل: يلْزم من الحَدِيث أَن يكون عمر رَضِي الله عَنهُ، أفضل من أبي بكر رَضِي الله عَنهُ، لِأَن المُرَاد بالأفضل الْأَكْثَر ثَوابًا، والأعمال عَلَامَات الثَّوَاب، فَمن كَانَ دينه أَكثر فثوابه أَكثر، وَهُوَ خلاف الاجماع.
قلت: لَا يلْزم، إِذْ الْقِسْمَة غير حاصرة لجَوَاز قسم رَابِع سلمنَا انحصار الْقِسْمَة، لَكِن مَا خصص الْقسم الثَّالِث بعمر رَضِي الله عَنهُ، وَلم يحصره عَلَيْهِ سلمنَا التَّخْصِيص بِهِ، لكنه معَارض بالأحاديث الدَّالَّة على أَفضَلِيَّة الصّديق رَضِي الله عَنهُ، بِحَسب تَوَاتر الْقدر الْمُشْتَرك بَينهَا، وَمثله يُسمى بالمتواتر من جِهَة الْمَعْنى، فدليلكم آحَاد وَدَلِيلنَا متواتر، سلمنَا التَّسَاوِي بَين الدَّلِيلَيْنِ.
لَكِن الْإِجْمَاع مُنْعَقد على أفضليته وَهُوَ دَلِيل قَطْعِيّ، وَهَذَا دَلِيل ظَنِّي، وَالظَّن لَا يُعَارض الْقطع، وَهَذَا الْجَواب يُسْتَفَاد من نفس تَقْرِير الدَّلِيل، وَهَذِه قَاعِدَة كُلية عِنْد أهل المناظرة فِي أَمْثَال هَذِه الإيرادات، بِأَن يُقَال: مَا أردته إِمَّا مجمع عَلَيْهِ أَو لَا، فَإِن كَانَ فالدليل مَخْصُوص بِالْإِجْمَاع وإلاَّ فَلَا يتم الْإِيرَاد إِذْ لَا إِلْزَام إلاَّ بالمجمع عَلَيْهِ.
لَا يُقَال: كَيفَ يُقَال: الْإِجْمَاع مُنْعَقد على أَفضَلِيَّة الصّديق رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقد أنكر ذَلِك طَائِفَة الشِّيعَة والخوارج من العثمانية، لأَنا نقُول: لَا اعْتِبَار بمخالفة أهل الضلال، وَالْأَصْل إِجْمَاع أهل السّنة وَالْجَمَاعَة.
( بَيَان استنباط الْفَوَائِد) مِنْهَا: الدّلَالَة على تفاضل أهل الْإِيمَان، وَمِنْهَا: الدّلَالَة على فَضِيلَة عمر رَضِي الله عَنهُ.
وَمِنْهَا: تَعْبِير الرُّؤْيَا وسؤال الْعَالم بهَا عَنْهَا.
وَمِنْهَا: جَوَاز إِشَاعَة الْعَالم الثَّنَاء على الْفَاضِل من أَصْحَابه إِذا لم يحس بِهِ بإعجاب وَنَحْوه، وَيكون الْغَرَض التَّنْبِيه على فَضله لتعلم مَنْزِلَته ويعامل بمقتضاها، ويرغب الِاقْتِدَاء بِهِ والتخلق بأخلاقه.
16 - ( بَاب الحَياءُ مِنَ الإيمانِ) أَي: هَذَا بَاب، وَالْبَاب منون، وَالْحيَاء مَرْفُوع سَوَاء أضفت إِلَيْهِ الْبَاب أم لَا، لِأَنَّهُ مُبْتَدأ، وَمن الْإِيمَان، خبر.
فَإِن قلت: قد قلت: إِن الْبَاب منون وَلَا شكّ أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، فَيكون جملَة، وَقَوله: الْحيَاء من الْإِيمَان جملَة أُخْرَى، وعَلى تَقْدِير عدم الْإِضَافَة مَا الرابطة بَين الجملتين؟ قلت: هِيَ محذوفة تَقْدِير الْكَلَام: هَذَا بَاب فِيهِ الْحيَاء من الْإِيمَان يَعْنِي بَيَان أَن الْحيَاء من الْإِيمَان وَبَيَان تَفْسِير الْحيَاء وَوجه كَونه من الْإِيمَان قد تقدما فِي بَاب أُمُور الْإِيمَان.
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ أَن فِي الْبَاب الأول بَيَان تفاضل الْإِيمَان فِي الْأَعْمَال، وَهَذَا الْبَاب أَيْضا من جملَة مَا يفضل بِهِ الْإِيمَان، وَهُوَ الْحيَاء الَّذِي يحجب صَاحبه عَن أَشْيَاء مُنكرَة عِنْد الله وَعند الْخلق.