فهرس الكتاب

- باب: الصلاة من الإيمان

رقم الحديث 41 [41] قَالَ مَالِكٌ أخْبَرَنِى زَيْدُ بنُ أَسْلَمَ أنّ أَبَا سَعِيدٍ الخُدْرِىَّ أخبَرَهُ أَنه سَمِعَ رسولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ إِذا أَسْلَمَ العَبْدُ فَحَسُنَ إسْلاَمُهُ يُكَفِّرُ اللَّهُ عنهُ كلَّ سَيِّئَةٍ كَانَ زَلَفها وَكَانَ يَعْدَ ذلكَ القِصاصُ الحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثالِها إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ والسَّيِئَةُ بِمثْلِها إلاَّ أَن يَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهَا مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لَا تخفى.
بَيَان رِجَاله: وهم أَرْبَعَة.
الأول: مَالك بن أنس، رَحمَه الله.
الثَّانِي: زيد بن أسلم، ابو اسامة الْقرشِي الْمَكِّيّ، مولى عمر بن الْخطاب، رَضِي الله عَنهُ.
الثَّالِث: عَطاء بن يسَار، بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَالسِّين الْمُهْملَة، أَبُو مُحَمَّد الْمدنِي، مولى مَيْمُونَة أم الْمُؤمنِينَ.
الرَّابِع: ابو سعيد سعد بن مَالك الْخُدْرِيّ، وَقد مر ذكرهم.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن رُوَاته أَئِمَّة أجلاء مَشْهُورُونَ.
وَمِنْهَا: أَنه مسلسل بِلَفْظ الْإِخْبَار على سَبِيل الِانْفِرَاد وَهُوَ الْقِرَاءَة على الشَّيْخ إِذا كَانَ القارىء وَحده، وَهَذَا عِنْد من فرق بَين الْإِخْبَار والتحديث، وَبَين أَن يكون مَعَه غَيره أَولا يكون.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ التَّصْرِيح بِسَمَاع الصَّحَابِيّ من النَّبِي، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ يدْفع احْتِمَال سَمَاعه من صَحَابِيّ آخر، فَافْهَم.
بَيَان حكم الحَدِيث: ذكره البُخَارِيّ مُعَلّقا، وَلم يوصله فِي مَوضِع فِي الْكتاب، وَالْبُخَارِيّ لم يدْرك زمن مَالك، فَيكون تَعْلِيقا وَلكنه بِلَفْظ جازم، فَهُوَ صَحِيح وَلَا قدح فِيهِ،.

     وَقَالَ  ابْن حزم: إِنَّه قَادِح فِي الصِّحَّة لِأَنَّهُ مُنْقَطع، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، لِأَنَّهُ مَوْصُول من جِهَات أخر صَحِيحَة، وَلم يذكرهُ لشهرته، وَكَيف وَقد عرف من شَرطه وعادته أَنه لَا يجْزم إلاَّ بتثبت وَثُبُوت؟ وَلَيْسَ كل مُنْقَطع يقْدَح فِيهِ، فَهَذَا، وَإِن كَانَ يُطلق عَلَيْهِ أَنه مُنْقَطع بِحَسب الِاصْطِلَاح، إلاَّ أَنه فِي حكم الْمُتَّصِل فِي كَونه صَحِيحا، وَقد وَصله أَبُو ذَر الْهَرَوِيّ فِي بعض النّسخ فَقَالَ: أخبرنَا النضروي، وَهُوَ الْعَبَّاس بن الْفضل، ثَنَا الْحُسَيْن بن إِدْرِيس، ثَنَا هِشَام بن خَالِد، ثَنَا الْوَلِيد بن مُسلم، عَن مَالك بِهِ.
وَكَذَا وَصله النَّسَائِيّ عَن أَحْمد بن الْمُعَلَّى بن يزِيد، عَن صَفْوَان بن صَالح، عَن الْوَلِيد بن مُسلم، عَن مَالك بن زيد بن أسلم بِهِ.
وَقد وَصله الْإِسْمَاعِيلِيّ بِزِيَادَة فِيهِ، فَقَالَ: أَخْبرنِي الْحسن بن سُفْيَان، ثَنَا حميد بن قُتَيْبَة الْأَسدي، قَالَ: قَرَأت على عبد الله بن نَافِع الصَّانِع أَن مَالِكًا اخبره قَالَ: واخبرني عبد الله بن مُحَمَّد بن مُسلم أَن أَبَا يُونُس بن عبد الْأَعْلَى حَدثنِي يحيى بن عبد الله بن بكير، ثَنَا عبد الله بن وهب أَبَا مَالك ابْن انس، وَاللَّفْظ لِابْنِ نَافِع، عَن زيد بن أسلم، عَن عَطاء بن يسَار، عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ، ان رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: ( أذا اسْلَمْ العَبْد كتب الله لَهُ كل حَسَنَة قدمهَا، ومحى عَنهُ كل سَيِّئَة زلفها، ثمَّ قيل لَهُ: أيتنف الْعَمَل الْحَسَنَة بِعشر أَمْثَالهَا إِلَى سَبْعمِائة، والسيئة بِمِثْلِهَا، إلاَّ أَن يغْفر الله) .
وَكَذَا أوصله الْحسن بن سُفْيَان من طَرِيق عبد الله بن نَافِع، وَالْبَزَّار من طَرِيق إِسْحَاق الْفَروِي، وَالْبَيْهَقِيّ فِي ( الشّعب) من طَرِيق اسماعيل بن أبي أويس، كلهم عَن مَالك.
.

     وَقَالَ  الدَّارَقُطْنِيّ فِي كتاب ( غرائب مَالك) : اتّفق هَؤُلَاءِ التِّسْعَة: ابْن وهب، والوليد بن مُسلم، وَطَلْحَة بن يحيى، وَزيد بن شُعَيْب، واسحاق الْفَروِي، وَسَعِيد الزبيرِي، وَعبد الله بن نَافِع، وابراهيم بن الْمُخْتَار، وَعبد الْعَزِيز بن يحيى فَرَوَوْه عَن مَالك عَن زيد عَن عَطاء عَن أبي سعيد، وَخَالفهُم معن بن عِيسَى فَرَوَاهُ عَن مَالك عَن زيد عَن عَطاء عَن أبي هُرَيْرَة، وَهِي رِوَايَة شَاذَّة وَرَوَاهُ سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن زيد بن اسْلَمْ عَن عَطاء مُرْسلا، وَقد حفظ مَالك الْوَصْل فِيهِ، وَهُوَ اتقن لحَدِيث أهل الْمَدِينَة من غَيره،.

     وَقَالَ  الْخَطِيب: هُوَ حَدِيث ثَابت، وَذكر الْبَزَّار أَن مَالِكًا تفرد بوصله،.

     وَقَالَ  ابْن بطال: حَدِيث أبي سعيد أسقط البُخَارِيّ بعضه، وَهُوَ حَدِيث مَشْهُور من رِوَايَة مَالك فِي غير الْمُوَطَّأ، وَنَصه: ( إِذا أسلم الْكَافِر فَحسن إِسْلَامه كتب الله لَهُ لكل حَسَنَة كَانَ زلفها، ومحى عَنهُ كل سَيِّئَة كَانَ زلفها) .
وَذكر بَاقِيه بِمَعْنَاهُ.
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: ( فَحسن إِسْلَامه) معنى: حسن الْإِسْلَام الدُّخُول فِيهِ بِالظَّاهِرِ وَالْبَاطِن جَمِيعًا، يُقَال فِي عرف الشَّرْع: حسن إِسْلَام فلَان، إِذا دخل فِيهِ حَقِيقَة،.

     وَقَالَ  ابْن بطال: مَعْنَاهُ مَا جَاءَ فِي حَدِيث جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام: ( الْإِحْسَان ان تعبد الله كَأَنَّك ترَاهُ) ، فاراد مُبَالغَة الْإِخْلَاص لله، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، بِالطَّاعَةِ والمراقبة لَهُ.
قَوْله: ( يكفر الله) من التَّكْفِير وَهُوَ التغطية فِي الْمعاصِي، كالإحباط فِي الطَّاعَات،.

     وَقَالَ  الزَّمَخْشَرِيّ: التَّكْفِير إمَاطَة الْعقَاب من الْمُسْتَحق بِثَوَاباليه، وَالْكَافِر لَيْسَ كَذَلِك، وَأولُوا حَدِيث حَكِيم بن حزَام من وُجُوه.
الأول: أَن معنى قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( اسلمت على مَا اسلفت من خير) : إِنَّك اكْتسبت طباعاً جميلَة تنْتَفع بِتِلْكَ الطباع فِي الْإِسْلَام بِأَن يكون لَك مَعُونَة على فعل الطَّاعَات.
وَالثَّانِي: اكْتسبت ثَنَاء جميلاً بَقِي لَك فِي الاسلام.
وَالثَّالِث: لَا يبعد أَن يُزَاد فِي حَسَنَاته الَّتِي يَفْعَلهَا فِي الْإِسْلَام، وَيكثر أجره لما تقدم لَهُ من الْأَفْعَال الحميدة.
وَقد جَاءَ أَن الْكَافِر إِذا كَانَ يفعل خيرا فَإِنَّهُ يُخَفف عَنهُ بِهِ، فَلَا يبعد أَن يُزَاد فِي أجوره.
وَالرَّابِع: زَاده القَاضِي، وَهُوَ أَنه ببركة مَا سبق لَك من الْخَيْر هداك الله لِلْإِسْلَامِ، أَي: سبق لَك عِنْد الله من الْخَيْر مَا حملك على فعله فِي جاهليتك، وعَلى خَاتِمَة الْإِسْلَام.
وتعقبهم النَّوَوِيّ فِي ( شَرحه) فَقَالَ: هَذَا الَّذِي ذَكرُوهُ ضَعِيف، بل الصَّوَاب الَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ، وَقد ادّعى فِيهِ الْإِجْمَاع على أَن الْكَافِر إِذا فعل أفعالاً جميلَة على جِهَة التَّقَرُّب إِلَى الله تَعَالَى: كصدقة وصلَة رحم واعتاق وَنَحْوهَا من الْخِصَال الجميلة، ثمَّ أسلم، يكْتب لَهُ كل ذَلِك ويثاب عَلَيْهِ إِذا مَاتَ على الْإِسْلَام، وَدَلِيله حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ الذى يَأْتِي الْآن، وَحَدِيث حَكِيم بن حزَام ظَاهر فِيهِ، وَهَذَا أَمر لَا يحيله الْعقل، وَقد ورد الشَّرْع بِهِ، فَوَجَبَ قبُوله.
وَأما دَعْوَى كَونه مُخَالفا لِلْأُصُولِ فَغير مَقْبُولَة، وَأما قَول الْفُقَهَاء: لَا تصح عبَادَة من كَافِر وَلَو اسْلَمْ، لم يعْتد بهَا، فمرادهم: لَا يعْتد بهَا فِي أَحْكَام الدُّنْيَا، وَلَيْسَ فِيهِ تعرض لثواب الْآخِرَة، فان أقدم قَائِل على التَّصْرِيح بِأَنَّهُ إِذا أسلم لَا يُثَاب عَلَيْهَا فِي الْآخِرَة، فَهُوَ مجازف، فَيرد قَوْله بِهَذِهِ السّنة الصَّحِيحَة.
وَقد يعْتد بِبَعْض أَفعَال الْكَافِر فى الدُّنْيَا، فَقَالَ: قَالَ الْفُقَهَاء: إِذا لزمَه كَفَّارَة ظِهَار وَغَيرهَا فَكفر فِي حَال كفره اجزأه ذَلِك، وَإِذا اسْلَمْ لَا يلْزم إِعَادَتهَا، وَاخْتلفُوا فِيمَا لَو اجنب واغتسل فِي كفره، ثمَّ اسْلَمْ، هَل يلْزمه إِعَادَة الْغسْل؟ وَالأَصَح اللُّزُوم، وَبَالغ بعض أَصْحَابنَا فَقَالَ: يَصح من كل كَافِر طَهَارَة، غسلا كَانَت أَو وضوء أَو تيمماً، وَإِذا أسلم صلى بهَا، وَقد ذهب إِلَى مَا ذهب إِلَيْهِ النَّوَوِيّ ابراهيم الْحَرْبِيّ وَابْن بطال والقرطبي وَابْن مُنِير،.

     وَقَالَ  ابْن مُنِير: الْمُخَالف للقواعد دَعْوَى أَنه يكْتب لَهُ ذَلِك فِي حَال كفره واما أَن الله يضيف إِلَى حَسَنَاته فِي الْإِسْلَام ثَوَاب مَا كَانَ صدر مِنْهُ مِمَّا كَانَ يَظُنّهُ خيرا، فَلَا مَانع مِنْهُ كَمَا لَو تفضل عَلَيْهِ ابْتِدَاء من غير عمل، وكما يتفضل على الْعَاجِز بِثَوَاب مَا كَانَ يعْمل وَهُوَ قَادر، فَإِذا جَازَ أَن يكْتب لَهُ ثَوَاب مَا لم يعْمل أَلْبَتَّة، جَازَ أَن يكْتب لَهُ ثَوَاب مَا عمله غير موفي الشُّرُوط.
.

     وَقَالَ  ابْن بطال: لله تَعَالَى ان يتفضل على عباده بِمَا شَاءَ، وَلَا اعْتِرَاض عَلَيْهِ.
فَوَائِد: مِنْهَا: أَن فِيهِ الْحجَّة على الْخَوَارِج وَغَيرهم من الَّذين يكفرون بِالذنُوبِ ويوجبون خُلُود المذنبين فِي النَّار.
وَمِنْهَا: أَن قَوْله: ( إلاَّ ان يتَجَاوَز الله عَنْهَا) دَلِيل لمَذْهَب أهل السّنة أَنه تَحت الْمَشِيئَة، إِن شَاءَ الله تجَاوز عَنهُ، وَإِن شَاءَ أَخذه.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ دَلِيلا لَهُم فِي أَن أَصْحَاب الْمعاصِي لَا يقطع عَلَيْهِم بالنَّار، خلافًا للمعتزلة، فَإِنَّهُم قطعُوا بعقاب صَاحب الْكَبِيرَة إِذا مَاتَ بِلَا تَوْبَة.
وَمِنْهَا: مَا قَالَ بَعضهم: أول الحَدِيث يرد على من أنكر الزِّيَادَة وَالنَّقْص فِي الْإِيمَان، لِأَن الْحسن تَتَفَاوَت درجاته، قلت: هَذَا كَلَام سَاقِط، لِأَن الْحسن من أَوْصَاف الْإِيمَان، وَلَا يلْزم من قابلية الْوَصْف الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان قابلية الذَّات إيَّاهُمَا، لِأَن الذَّات من حَيْثُ هُوَ لَا يقبل ذَلِك كَمَا عرف فِي مَوْضِعه.


رقم الحديث 42 [42] حدّثنا إسْحَاقُ بنُ مَنْصُورٍ قَالَ حّدثنا عبدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ همامٍ عَنْ أَبى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا أحْسَنَ أحَدُكُمْ إسْلاَمَهُ فَكُلُّ حَسَنَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ لَهُ بِعَشْرِ أمْثَالِهَا إلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ وكُلُّ سَيِّئَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ لَهُ بِمِثْلِهَا.
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: اسحق بن مَنْصُور بن بهْرَام،.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ، بِكَسْر الْبَاء، وَالْمَشْهُور فتحهَا، أَبُو يَعْقُوب الكوسج من أهل مرو سكن بنيسابور ورحل إِلَى الْعرَاق وَالشَّام والحجاز، روى عَنهُ الْجَمَاعَة إلاَّ أَبَا دَاوُد، وَهُوَ أحد الْأَئِمَّة من أَصْحَاب الحَدِيث، وَهُوَ الَّذِي دوَّن عَن أَحْمد الْمسَائِل.
قَالَ النَّسَائِيّ: ثِقَة ثَبت، مَاتَ بنيسابور سنة إِحْدَى وَخمسين وَمِائَتَيْنِ.
الثَّانِي: عبد الرَّزَّاق بن همام بن نَافِع الْيَمَانِيّ الصَّنْعَانِيّ، سمع عبد الله المعمرى ومعمراً وَالثَّوْري ومالكاً وَغَيرهم، قَالَ معمر: عبد الرَّزَّاق خليق أَن يضْرب إِلَيْهِ أكباد الْإِبِل.
.

     وَقَالَ  أَحْمد بن حَنْبَل: مَا رَأَيْت أحسن من عبد الرَّزَّاق.
.

     وَقَالَ إضافي، مُبْتَدأ وَخَبره قَوْله: ( تكْتب لَهُ) ، وَقَوله: ( يعملها) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَالْمَفْعُول فِي مَحل الْجَرّ لِأَنَّهَا صفة: لحسنة.
قَوْله: ( إِلَى سَبْعمِائة) فِي مَحل النصب على الْحَال، اى: منتهية إِلَى سَبْعمِائة.
قَوْله: ( بِمِثْلِهَا) الْبَاء فِيهِ للمقابلة، وَالله اعْلَم.
32 - ( بَاب أحَبُّ الدِّينِ إلَى اللَّهِ أدْوَمُهُ) الْكَلَام فِيهِ من وُجُوه.
الأول: قَوْله: بَاب، خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف غير منون إِن اعْتبرت إِضَافَته إِلَى الْجُمْلَة.
وَقَوله: ( أحب الدّين) كَلَام إضافي مُبْتَدأ، وَخَبره قَوْله: ( أَدْوَمه) .
الثَّانِي: وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ أَن الْمَذْكُور فِي الْبَاب الأول حسن إِسْلَام الْمَرْء، وَهُوَ: الِامْتِثَال بالأوامر والانتهاء عَن النواهي، والشفقة على خلق الله تَعَالَى، وَالْمَطْلُوب فِي هَذَا: المداومة والمواظبة، وَكلما واظب العَبْد عَلَيْهِ وداوم زَاد من الله محبَّة، لِأَن الله تَعَالَى يحب مداومة العَبْد على الْعَمَل الصَّالح،.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: أحب الدّين، أَي: أحب الْعلم، إِذْ الدّين هُوَ الطَّاعَة، ومناسبته لكتاب الْإِيمَان من جِهَة أَن الدّين وَالْإِيمَان وَالْإِسْلَام وَاحِد.
قلت: الْعجب مِنْهُ كَيفَ رَضِي بِهَذَا الْكَلَام، فالمناسبة لَا تطلب إلاَّ بَين الْبَابَيْنِ المتواليين، وَلَا تطلب بَين بَابَيْنِ أَو بَين كتاب وَبَاب بَينهمَا أَبْوَاب عديدة، وَكَذَلِكَ دَعْوَاهُ باتحاد الدّين وَالْإِيمَان والاسلام، وَالْفرق بَينهمَا ظَاهر، وَقد حققناه فِيمَا مضى،.

     وَقَالَ  بَعضهم: مُرَاد المُصَنّف الِاسْتِدْلَال على أَن الْإِيمَان يُطلق على الْأَعْمَال، لِأَن المُرَاد بِالدّينِ هُنَا: الْعَمَل، وَالدّين الْحَقِيقِيّ هُوَ الْإِسْلَام، وَالْإِسْلَام الْحَقِيقِيّ مرادف للْإيمَان، فَيصح بِهَذَا مَقْصُوده.
.
ومناسبته لما قبله من قَوْله: عَلَيْكُم بِمَا تطيقون، لِأَنَّهُ لما قدم: إِن الْإِسْلَام يحسن بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَة، أَرَادَ أَن يُنَبه على أَن جِهَاد النَّفس فِي ذَلِك إِلَى حد المغالبة غير الْمَطْلُوب.
قلت: فِيهِ نظر من وُجُوه.
الأول: إِن قَوْله: مُرَاد المُصَنّف الِاسْتِدْلَال على أَن الْإِيمَان يُطلق على الْأَعْمَال غير صَحِيح، لِأَن الحَدِيث لَيْسَ فِيهِ مَا يدل على هَذَا، وَالِاسْتِدْلَال بالترجمة لَيْسَ باستدلال يقوم بِهِ الْمُدَّعِي.
فَإِن قلت: فِي الحَدِيث مَا يدل عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْله: أحب الدّين إِلَيْهِ، فَإِن المُرَاد هَهُنَا من الدّين الْعَمَل، وَقد أطلق عَلَيْهِ الدّين.
قلت: هَذَا إِنَّمَا يمشي إِذا أطلق الدّين الْمَعْهُود المصطلح على الْعَمَل وَلَيْسَ كَذَلِك فَإِن المُرَاد بِالدّينِ هَهُنَا الطَّاعَة بِالْوَضْعِ الْأَصْلِيّ فَإِن لفظ الدّين مُشْتَرك بَين مَعَاني كَثِيرَة مُخْتَلفَة.
الدّين: بِمَعْنى الْعِبَادَة، وَبِمَعْنى الْجَزَاء، وَبِمَعْنى الطَّاعَة، وَبِمَعْنى الْحساب، وَبِمَعْنى السُّلْطَان، وَبِمَعْنى الْملَّة، وَبِمَعْنى الْوَرع، وَبِمَعْنى الْقَهْر، وَبِمَعْنى الْحَال، وَبِمَعْنى مَا يتدين بِهِ الرجل، وَبِمَعْنى الْعُبُودِيَّة، وَبِمَعْنى الْإِسْلَام.
وَفِي ( الْمُحكم) : الدّين: الْإِسْلَام.
الثَّانِي: أَنه قَالَ: الْإِسْلَام الْحَقِيقِيّ مرادف للْإيمَان، يَعْنِي كِلَاهُمَا وَاحِد،.

     وَقَالَ : إِن الْإِيمَان يُطلق على الْأَعْمَال، يُشِير بِهِ إِلَى أَن الْأَعْمَال من الْإِيمَان، ثمَّ قَالَ: إِن الْإِسْلَام يحسن بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَة، فَكَلَامه يُشِير إِلَى أَن الْأَعْمَال لَيست من الْإِيمَان، لِأَن الْحسن من الْأَوْصَاف الزَّائِدَة على الذَّات، وَهِي غير الذَّات.
فينتج من كَلَامه أَن الْإِسْلَام يحسن بِالْإِسْلَامِ، وَهَذَا فَاسد.
الثَّالِث: قَوْله: فَيصح بِهَذَا مَقْصُوده، ومناسبته لما قبله غير مُسْتَقِيم، لِأَنَّهُ لَا يظْهر وَجه الْمُنَاسبَة لما قلبه مِمَّا قَالَه أصلا، وَكَيف يُوجد وَجه الْمُنَاسبَة من قَوْله: عَلَيْكُم بِمَا تطيقون، والترجمة لَيست عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا وَجه الْمُنَاسبَة لما قبله مَا ذكرت لَك آنِفا.
فَافْهَم.
الْوَجْه الثَّالِث: قَوْله: ( أحب الدّين) ، أحب هَهُنَا أفعل لتفضيل الْمَفْعُول، ومحبة الله تَعَالَى للدّين إِرَادَة إِيصَال الثَّوَاب عَلَيْهِ.
قَوْله: ( أَدْوَمه) هُوَ أفعل من الدَّوَام، وَهُوَ شُمُول جَمِيع الْأَزْمِنَة أَي: التَّأْبِيد.
فَإِن قيل: شُمُول الْأَزْمِنَة لَا يقبل التَّفْضِيل، فَمَا معنى الأدوم؟ أُجِيب: بِأَن المُرَاد بالدوام هُوَ الدَّوَام الْعرفِيّ، وَذَلِكَ قَابل للكثرة والقلة.
فَافْهَم.