فهرس الكتاب

دليل الفالحـــين - بابُ فضل العلم

رقم الحديث 1384 ( وعنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول الدنيا) تقدم أن الصحيح أنها ما عدا الآخرة، من جميع الأعراض والجواهر العاجلة ( ملعونة) أي بعيدة عن الله ( ملعون) أي: بعيد ( ما فيها) ؛ لأنها رأس كل خطيئة ( إلا ذكر الله وما والاه وعالماً ومتعلماً) وليس من الدنيا الطاعات، ولا الأصفياء من الأنبياء والأولياء.
وتقدم الجمع بين الوارد في ذم الدنيا، والوارد في مدحها، بحمل الأول على ما يبعد عن الله تعالى، والثاني على ما يقرب إليه كما يومىء إليه الإِستثناء المذكور في الحديث، وهو متصل، نظراً لكون المستثنى منها باعتبار الظاهر، وإن كان في الحقيقة فيها لا منها.
"تقدم الحديث مشروحاً في باب فضل الزهد في الدنيا ( رواه الترمذي وقال: حديث حسن.
قوله)
- صلى الله عليه وسلم - ( وما والاه أي طاعة الله) أي: فكأنه قال إلا ذكر الله وطاعته، والذكر حينئذ القول الذي يثنى به عليه سبحانه وتعالى وينزه به.


رقم الحديث 1385 ( وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من خرج في طلب العلم) أي لطلب العلم الشرعي ومثله آلاته ( فهو في سبيل الله) أي: طاعته ( حتى يرجع) إلى منزله، قال المظهري: وجه مشابهة طلب العلم بالجهاد في سبيل الله أنه إحياء الدين، وإذلال الشيطان، وإتعاب النفس، وكسر الهوى واللذة ( رواه الترمذي وقال: حديث حسن) ورواه الضياء.


رقم الحديث 1386 ( وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لن يشبع مؤمن من خير) أي: من كل مقرب إلى الله تعالى من سائر الطاعات وأشرفها، كما جاء في رواية زيادة: يسمعه ( حتى يكون منتهاه الجنة) حتى فيه محتملة؛ لكونها غاية للشبع، أي: لا ينتهي عن الخير حتى يموت فيدخل الجنة بما اكتسب في حياته من العمل الصالح، ولكونها تعليلية، أي: عدم قناعته بيسير من الطاعة ليكون مآله الجنة، فإنها تتفاوت منازلها بتفاوته ( رواه الترمذي وقال: حديث حسن) ورواه ابن حبان في صحيحه.


رقم الحديث 1387 ( وعن أبي إمامة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فضل العالم) أي: المقتصر على فرائض العبادات، ويصرف باقي أوقاته في العلم ( على العابد) أي: العارف بما يجب عليه تعلمه من الديانات فقط ويصرف ما زاد عليه في التعبد ( كفضلي على أدناكم) فيه عظم شرف العلماء.
قال: الزملكاني، في كتابه المسمى تحقيق الألى من أهل الرفيق الأعلى بعد كلام طويل ساقه في وجوه التفضيل وأسبابه ما لفظه: والذي استقر من ذلك أن العالم المستحق للتفضيل بالعلم، هو الذي تعلم العلم النافع في الدنيا والآخرة، وقام بحق علمه من عمل أو نفع أو هداية أو غير ذلك، من حقوق العلم النافع فذلك هو العالم المفضل بعلمه اهـ ( ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله وملائكته وأهل السموات) عطف عام على خاص، إن أريد بهم جميع الملائكة، وإن أريد بالملائكة المقربون كما يوميء إليه إضافتهم للاسم الكريم، وبأهل السموات باقي الملائكة كان من عطف المغاير ( والأرض حتى النملة) بالنصب عطفاً على أهل، وهي غاية لما قبلها في القلة والصغر مستوعبة لثواب البر.
وجوّز ابن حجر في فتح الإِله كونها جارة.
( في جحرها) بضم الجيم ( وحتى الحوت) أتى بالواو كأنه والله أعلم لئلا يتوهم أن هذه بدل من تلك وهي غاية مستوعبة لدواب البحر ( ليصلون) هو من استعمال اللفظ في معانيه دفعه واحدة، وهل هو مشترك بينهما أو حقيقة في أحدها مجاز في غيره؟ خلاف يأتي تحقيقه أول كتاب الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن شاء الله تعالى، وهي من الله رحمة مقرونة بتعظيم، ومن الملائكة استغفار، ومن المؤمنين تضرع ودعاء.
والظاهر أنها من الحيوانات تضرع ودعاء أيضاً ( على معلمي الناس الخير) عدل إليه عن العالم الذي اقتضاه السياق؛ لبيان سبب شرف العالم وامتيازه على العابد، وهو عموم نفعه وتعديه ( رواه الترمذي وقال: حديث حسن) قال في المشكاة: ورواه الدارمي عن مكحول مرسلاً.


رقم الحديث 1388 ( وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من سلك طريقاً يبتغي فيه) وفي رواية يطلب فيه ( علماً) أي: شرعياً أو آلته، ولو وسيلة كما تقدم ( سهل الله له طريقاً إلى الجنة) وذلك الأعمال الصالحة لتوصله بها إلى الجنة.
ومنها أن يسهل عليه ما يزداد به علمه؛ لأنه من جملة الأسباب الموصلة إلى الجنة، بل إلى أعلاها لتوقف صحة الأعمال وقبولها عليه ( وإن الملائكة) يحتمل أن يراد بهم ملائكة الرحمة ونحوهم من الساعين في مصالح بني آدم، ويحتمل أن يراد الكل، وهذا أنسب بالمعنى المجازي الآتي.
والأول أنسب بالمعنى الحقيقي ( لتضع أجنحتها) حقيقة وإن لم نشاهده للقاعدة: أن كل ما ورد وأمكن حمله على ظاهره حمل عليه ما لم يصرفه عنه صارف.
وحينئذ فهي تكف أجنحتها عن الطيران وتنزل لسماع العلم، إذ هو أشرف الذكر.
وقيل: هو مجاز إما عن التواضع نظير ( واخفض جناحك) أو عن المعونة وتيسير السعي في طلب العلم ( لطالب العلم رضاً) مفعول له مستوفى للشروط أي: لأجل الرضا الحاصل منها، أو لأجل إرضائها ( بما يصنع) من حيازة الوراثة العظمى، وسلوك السنن الأسمى ( وإن العالم) ترق إلى ذكر ما هو أبلغ في فضله بإثبات وصف العلم له بعد إثبات فضل طلبه، فيما قبله.
وبإثبات استغفار من يأتي إلا رفع من مجرد وضع الأجنحة، كذا قيل: واستوجه في فتح الإِله أن وضع الأجنحة للطالب قبل أن يسمى عالماً، والاستغفار للعالم فلا ترقى ( ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان) بالرفع والجر نظير ما مر.
ويؤيد الأول أن في رواية: والحيتان بالواو العاطفة بدلها ( في) جوف ( الماء) وأتى بذلك؛ مبالغة في التعميم خصوصاً إن أريد بالحيتان الحيوان البحري فهو أكثر من البري، لما جاء أن عوالم البر أربعمائة عالم وعوالم البحر ستمائة عالم، وسبب عموم استغفار هذه الموجودات للعلماء؛ طالبين تخليهم عما لا يليق بمقامهم من الأدناس شمول بركة علمهم وعملهم لجميع أولئك.
إذ لا إله يقوم نظام العالم إلا بالعلم.
ولا مانع من جعل الاستغفار من غير العقلاء من نحو الجماد على حقيقته؛ لأنه ممكن فهو من قبيل قوله تعالى: ( وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم) ( وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب) هو بالنصب عطف على اسم أن السابق، ويؤيده أن في رواية المشكاة: وإن فضل الخ، وزاد في هذه الرواية بعد قوله "كفضل القمر" قوله "ليلة البدر" ووجه ذلك أن نور العبادة وكمالها ملازم لذات العابد لا يتخطاه، فهو كنور الكواكب ونور العلم وكماله، يتعدى إلى الغير فيستضيء به العالم، لكنه ليس من ذاته، وإنما استفاده من شمس الوجود الذي لا أكمل منه محمد - صلى الله عليه وسلم -، فهو كنور القمر المكتسب من نور الشمس التي لا أضوء منها، وبما ذكر علم أن الكلام في عالم غير مخل بشيء من الواجبات وإلا كان إثماً مذموماً ( وأن العلماء ورثة الأنبياء) علماً وعملاً وكمالاً وتكميلاً، ولا يتم ذلك إلا لمن صفت مصادر علمه وعمله ومواردهما عن الهوى والحظوظ، حتى أمدته كلمات الله التي لا تفنى إلى أن صار من الراسخين في العلم، القائمين بصور الأعمال على ما ينبغي، فسلم من الإخلاد إلى أرض الشهوات الخافضة إلى أرذل الدركات ( إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً) أي: مالاً وخصا بالذكر؛ لأنهما أغلب أنواعه، وفي نفيهما عنهم إيماء إلى رذالة الدنيا فأعرضوا عنها ولم يأخذوا منها إلا قدر الضرورة، فلم يورثوا شيئاً منها، لئلا يتوهم أنهم كانوا يطلبون شيئاً منها يورث عنهم ( إنما ورثوا العلم) بأحوال الظاهر والباطن، على تباين أجناسه واختلاف أنواعه بتعليمهم لأممهم ( فمن أخذه) أي: فبسبب ما ذكر من تلك الفضائل العلية من ورث العلم ( أخذ بحظ) أي: نصيب من الكمال ( وافر) لا نهاية له، ومن ثم قال الثوري: لا أعلم اليوم شيئاً أفضل من طلب العلم، قيل له: ليس لهم نية؟ قال: طلبهم له نية، وقال الحسن: من طلب العلم يريد ما عند الله، كان خيراً له مما طلعت عليه الشمس، وقال مالك: لمن أراد المبادرة إلى الصلاة، وترك ما هو فيه من العلم ليس ما تذهب إليه فوق ما أنت فيه إذا صحت النية.
وقال الشافعي: طلب العلم أفضل من صلاة النافلة ( رواه أحمد وأبو داود والترمذي) وقال: بعد أن أخرجه في العلم من جامعه، من طريق محمود بن حداس الطالقاني بإسناده بنحوه ما لفظه هكذا "حدثنا محمود" وإنما يروى هذا الحديث عن عاصم عن الوليد بن جميل عن كثير بن قيس عن أبي الدرداء.
وهذا أصح من حديث محمود، ولا نعرف هذا الحديث من حديث عاصم، وليس إسناده عندي بمتصل.
اهـ ورواه ابن ماجه والدرامي كما في المشكاة، ورواه ابن حبان في صحيحه والبيهقي في الشعب كما في الجامع الكبير.


رقم الحديث 1389 ( وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: نضر الله امرأً) بالضاد المعجمة المشددة ويروى بالتخفيف.
يقال: نضره وأنضره ونضره، أي: نعمه من النضارة، وهي في الأصل حسن الوجه والبريق.
والمراد حسن خلقه وقدره.
قاله في النهاية.
قال بعضهم: إني لأرى في وجوه أهل الحديث نضرة أشار به إلى إجابة الدعوة لهم ( سمع منا) بغير توسطه، والضمير يحتمل أنه للجماعة فيشمل من روى عن الصحابة شيئا فأداه كما سمعه ( شيئاً) قليلاً كان أو كثيراً ( فبلغه كما سمعه) أي: من حيث المعنى فلا يضر في ذلك الرواية بالمعنى بشرطه، ويحتمل أن تختص الدعوة بمن أدى باللفظ لما فيه من مزيد الاعتناء والتوجه، حتى حفظ لفظه واستحضره ( فرب) هي للتكثير واستعمالها فيه حقيقة لا مجاز خلافاً لزاعمه ( مبلغ) بصيغة المفعول، من التبليغ كذا في الأصول ( أوعى) أكثر وعياً، أي: تنبهاً لخبايا عرائس المعاني ونفائس المقاصد ( من سامع) فلذا دعا - صلى الله عليه وسلم - للضابط الحافظ ألفاظ السنة الراوي لها، كذلك بما ذكر، لأن حفظه للسنة مع أدائها كما سمع سعي في نضارتها، فكأنه جعل المعنى بذلك غضاً طرياً، بخلاف ما لو أبدلها ولو بمرادف فإنه جعله مبتذلاً، ألا ترى أنه لو أبدل نضر، بنحو حسن لفاتت الدقيقة المستفادة من نضر، وقس عليه الباقي.
ثم قيل: التقدير من سامع له منه - صلى الله عليه وسلم - فيؤخذ منه أنه قد يكون في التابعين من يمتاز على بعض الصحابة، بكونه أفقه منه وأفهم منه فيما بلغه له عنه - صلى الله عليه وسلم -، ولا بدع في ذلك فإنه قد يكون في المفضول مزايا لا تكون في الفاضل ( رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح) ورواه الدرامي من حديث أبي الدرداء، ورواه الشافعي والبيهقي في المدخل عن ابن مسعود أيضاً بلفظ "نضر الله عبداً سمع مقالتي فحفظها ووعاها فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه" الحديث ورواه أحمد والترمذي، وأبو داود وابن ماجه والدرامي والضياء عن زيد بن ثابت.
قال في فتح الإِله: أعلم أن في تغيير ألفاظ هذين الحديثين مع اتحادهما في أن كلاً منهما مسوق للحث على تبليغ ما سمعه من غير تغيير شيء منه، تأييداً لجواز الرواية بالمعنى للعارف بمؤدى الألفاظ والمراد بها، ودلالة على أن القصد إنما هو أصل المعنى دون المحسنات التي ينتجها باهر بلاغته - صلى الله عليه وسلم -، التي لا يصل أحد إلى معشار عشرها؛ لأن رعاية ذلك متعذرة فيلزم عليها منع الرواية بالمعنى مطلقاً، وفي ذلك حرج وضياع لكثير من السنة، فاقتضت المصلحة العامة التوسيع للناس في طرق الرواية نظر إلى أن المقصود أصل المعنى لا غير اهـ.


رقم الحديث 1390 ( وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من سئل عن علم) أي: شرعي محتاج إليه حالاً ( وكتمه) أي: لم يبينه للسائل ( ألجم) بالبناء للمفعول ( يوم القيامة بلجام من نار) فيه عظم وعيد كتم العلم الشرعي بشرطه ( رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن) ورواه أحمد والنسائي وابن ماجه والحاكم في المستدرك كما في الجامع الصغير.