فهرس الكتاب

دليل الفالحـــين - باب فضل الزهد في الدنيا والحث عَلَى التقلل منهاوفضل الفقر

رقم الحديث 457 ( عن عمرو) ويقال فيه عمير بالتصغير كما نبه عليه في «الفتح» ( ابن عوف الأنصاري) زاد المزي في وصفه قوله «البدري حليف بني عامر بن لؤي» وخرج بقوله الأنصاري عمرو بن عوف المزنيّ راوي حديث تكبيره خمساً في الجنازة وأحاديث أخر غير ذلك.
قال الحافظ في «الفتح» بعد قول البخاري الأنصاري: المعروف عند أهل المغازي أنه من المهاجرين، وهو موافق لقوله هنا: وهو حليف لبني عامر بن لؤي لأنه يشعر بكونه من أهل مكة.
ويحتمل أن يكون وصفه بالأنصاري بالمعنى الأعم، ولا مانع أن يكون أصله من الأوس أو الخزرج فنزل مكة وحالف بعض أهلها، فبهذا الاعتبار هو أنصاري مهاجري، ثم ظهر كأن لفظة الأنصاري وهم تفرد به شعيب عن الزهري، ورواه أصحاب الزهري كلهم عنه بدونها في «الصحيحين» وغيرها، وهو معدود من أهل بدر اتفاقاً، وقول المزي.
البدري لأنه( رضي الله عنه) شهد بدراً مع رسول الله.
أخرج ابن الأثير في «أسد الغابة» عن ابن إسحاق قال: ممن شهد بدراً عمرو بن عوف: مولى سهيل بن عمرو، وقال: هكذا جعله ابن إسحاق مولى وجعله غيره حليفاً، قيل لأنه سكن المدينة ولا عقب له، وليس له في الكتب الستة سوى هذا الحديث ( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث أبا عبيدة) قيل اسمه عامر بن عبد الله، وقيل عبد الله بن عامر ( بن الجراح) والأوّل أصح: أحد العشرة المبشرة بالجنة ( رضي الله عنه) وعنهم.
والجراح بفتح الجيم وتشديد الراء آخره حاء مهملة ( إلى البحرين) أي البلدة المشهورة بالعراق، وهي بين البصرة وهجر.
وفي كتاب «أسامى البلدان» قال الزهري: إنما ثنوا البحرين لأن في ناحية قراها بحيرة على باب الأحساء وقرى هجر بينها وبين البحر الأخضر عشرة فراسخ، وهذه البحيرة ثلاثة أميال في مثلها ولا يفيض ماؤها، وماؤها...... راكد زعاف اهـ.
( يأتي بجزيتها) أي بجزية أهلها، وكان غالب أهلها إذ ذاك مجوساً.
وذكر ابن سعد أن النبي بعد قسمة الغنائم بالجعرانة أرسل العلاء إلى المنذر ابن ساوى عامل الفرس على البحرين يدعوه إلى الإسلام فأسلم، وصالح مجوس تلك البلاد على الجزية من المجوس ( فقدم بمال من البحرين) قال في كتاب الصلاة ومن «التوشيح» نقلاً عن «مصنف ابن أبي شيبة» كان قدر المال مائة ألف وأنه أوّل خراج حمل إلى النبيّ اهـ.
( فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة) أي بالمال ( فوافوا صلاة الفجر مع رسول الله) قال الحافظ: يؤخذ منه أنهم كانوا لا يجتمعون الجميع في كل الصلوات إلا لأمر يطرأ، وكانوا يصلون في مساجدهم إذ كان لكل قبيلة مسجد يجتمعون فيه، فلأجل ذلك عرف أنهم اجتمعوا لأمر، ودلت القرينة على تعيين ذلك الأمر، وهو احتياجهم للمال للتوسعة عليهم.
ويحتمل أن يكون وعدهم بأن يعطيهم منه إذا حضروا، وقد وعد جابراً بعد هذا أن يعطيه من مال البحرين فوفى له أبو بكر ( فلما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انصرف) أي ذاهباً إلى مقصده ( فتعرضوا له) أي قصدوا له.
قال في «الصحاح» : تعرضت أسألهم اهـ.
( فتبسم حين رآهم) يحتمل أن يكون تبسمه لما ظهر من مقتضى الطبع من طلب الدنيا مع أن قضية حالهم وشرفهم وكون المصطفى بين أظهرهم مع كمال إعراضه عنها ترك ذلك ( ثم قال أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء) يحتمل أن يكون تنوينه للتعظيم باعتبار كثرة كميته.
ويحتملأن يكون للتحقير لحقارة الدنيا في جانب ما أعد الله للمؤمنين في الدار الآخرة ( من البحرين) يحتمل أن يكون متسقراً صفة لشيء، ويحتمل أن يكون لغواً متعلقاً بالفعل ( فقالوا: أجل) هو في المعنى مثل نعم، لكن نعم يحسن أن تقال جواب الاستفهام، وأجل أحسن من نعم في التصديق ( يا رسول الله) وأتوا به تلذذاً بالخطاب وإلا فقد حصل بقولهم: أجل الجواب ( فقال أبشروا) أمر معناه الإخبار بحصول المقصود ( وأملوا) قال في «تحفة القاري» بفتح...... الهمزة وتشديد الميم ( فوا ما الفقر) بالنصب مفعول مقدم لقوله ( أخشى عليكم) وتقدم المفعول اهتماماً بنفي خشية الفقر عليهم عكس الآباء مع أولادهم، فإن الوالد الشفيق يخشى على ولده الضيعة بعده، والنبي لهم مثل الوالد ولم يخش عليهم الفقر، قال الطيبي: لأن الأب الدنيوي يخشى على ولده الفقر الدنيوي، والأب الديني يخشى على ولده الفقر الديني، قال الحافظ في «الفتح» : يجوز رفع الفقر بتقدير ضمير: أي ما الفقر أخشاه عليكم، والأول هو الراجح، وخص بعضهم جواز ذلك بالشعر اهـ.
وأصله للزركشي وتعقبه فيه الدماميني بأن ضعف ذلك مذهب كوفي، قال في «التسهيل» ولا يختص بالشعر خلافاً للكوفيين.
فإن قلت: تقديم المفعول هذا يؤذن بأن الكلام في المفعول لا في الفعل كقولك ما زيد ضربت فلا يصح أن يعقب المنفى بإثبات ضده، فيقول ولكن أكثر منه لأن المقام في المفعول هل هو زيد أو عمرو مثلاً، لا في الفعل هل هو إكرام أو إهانة: والحديث قد وقع فيه استدراك بإثبات ضد الفعل المنفي فقال: ولكن أخشى الخ فكيف يأتي هذا.
قلت: المنظور إليه في الاستدراك هو المنافسة في الدنيا عند بسطها عليه، فكأنه قال ما الفقر أخشى عليهم ولكن المنافسة في الدنيا فلم يقع الاستدراك إلا في المفعول كقولك ما ضربت زيداً، ولكن عمراً ضربت، ثم لا يضر لأنه في الحقيقة استدراك بالنسبة إلى المفعول لا إلى الفعل اهـ.
( ولكن أخشى أن تبسط) أي توسع ( الدنيا عليكم) وما فتحه الله عليهم من الدنيا بعده حتى إن أحدهم لا يجد للمال موضعاً يحطه فيه ( كما بسطت) ما موصول اسمي أو نكرة موصوفة: أي دنيا يعود الضمير النائب عن الفعل المستتر في بسطت عليه ( على من كان قبلكم) : أي من الأمم وسقطت كان من بعض نسخ البخاري ( فتنافسوها كما تنافسوها) الأول مضارع حذفت إحدى تاءيه تخفيفاً، والأصل فتتنافسوها، وفي بعض نسخ البخاري حذف الضمير المنصوب من الفعل الثاني، قال المصنف: والتنافس المسابقة إلى الشيء وكراهة أخذ...... الغير له، وهو أولدرجات الحسد اهـ.
وبمعناه ما في «تحفة القاري» من أنه الرغبة في الشيء والانفراد به ( فتهلككم) أي في الدين ( كما أهلكتهم) في ذلك وإسناد الإهلاك إليها مجاز عقلي من باب الإسناد إلى السبب إذ التنافس فيها سبب قد يجر لفساد الدين وهلاكه، قال الحافظ في «الفتح» : لأن المال مرغوب فيه فترتاح النفس لطلبه فتمتنع منه فتقع العداوة المقتضية للمقاتلة المفضية إلى الهلاك اهـ.
وقد وقع عند مسلم من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعاً «تتنافسون ثم تتحاسدون ثم تتدابرون ثم تتباغضون» ونحو ذلك.
قال في «الفتح» : وفي الحديث إشارة إلى أن كل خصلة من المذكورات مسببة عما قبلها، وفي الحديث «واتقوا الشح فإنه أهلك من قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم» .
قال ابن بطال: فيه أن زهرة الدنيا ينبغي لمن فتحت عليه أن يحذر من سوء عاقبتها وشرّ فتنتها عنه.
وفي «تفسير البيضاوي والخازن» : أي زينتها وبهجتها: أي فلا يطمئن إلى زخرفها ولا ينافس بها أيضاً اهـ.
( متفق عليه) رواه البخاري واللفظ له في الجزية، وفي المغازي من «صحيحه» ، ورواه مسلم في آخر «صحيحه» في باب تحريم الظلم السابق، ورواه الترمذي والنسائي وابن ماجه أيضاً، فرواه الأوّل في باب الزهد والثالث في الفتن، ومدار الحديث عندهم على الزهري.......


رقم الحديث 458 ( وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: جلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر) بكسر الميم وسكون النون وفتح الباء الموحدة، قال في «الصحاح» : نبرت الشيء أنبره نبراً: رفعته، ومنه سمي المنبر ( وجلسنا حوله) لسماع أقواله وتلقي مواعظه، وحول منصوب على الظرفية.
قال في «الصحاح» : يقال قعدوا حوله وحواله وحواليه، ولا يقال حواليه بكسر اللام، وقعد حياله وبحياله بالكسر: أي بإزائه وأصله الواو اهـ.
( فقال إن مما أخاف عليكم بعدي) أي بعد موتي وقدمه اهتماماً بأمره على الاسم وهو قوله ( ما يفتح) بالبناء للمفعول ( عليكم من زهرة الدنيا) قال في «المصباح» : زهرة بوزن تمرة لا غير: أي لا يجوزفتحها بخلاف واحدة الزهر ففيها ذلك أيضاً، ويرده ما في «تفسير البيضاوي» من قوله، وقرأ يعقوب زهرة بالفتح، وهي لغة في الزهرة اهـ.
ومثله في «تفسير النهر» إلا أنه لم يعين اسم القارىء وعبارته «وقرىء زهرة بفتح الهاء وسكونها نحو زهر ونهر» .
قلت: إن ثبت ما في «المصباح» من منع الفتح في لغة فيحمل على أنه جمع زاهر كما جوزه البيضاوي فيها أيضاً قال: وهي متاعها وزينتها.
وفي «تفسير البيضاوي والخازن» : أي زينتها وبهجتها فلا يطمئن إلى زخرفها ولا يتأنس بها اهـ.
قلت: وعليه فعطف قوله ( وزينتها) على الزهرة من عطف الخاص على العام وخشيته من ذلك لئلا يتعلق حبه بالقلب ويأخذ بهجته بالبصر فيوقع في الأسباب المؤدية إلى فساد الدين مما تقدم في الحديث قبله ( متفق عليه) ورواه البخاري في الصلاة وفي الجهاد وفي الزكاة وغيرها، ومسلم في باب ورواه النسائي في الجهاد.......


رقم الحديث 459 ( وعنه) أي أبي سعيد الخدري ( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الدنيا خضرة) بفتح المعجمة الأولى وكسر الثانية ( حلوة) أي جامعة بين الوصفين المحبوبين للبصر والذوق فهي كالفاكهة التي راق منظرها وحلا مذاقها ( وإن الله مستخلفكم فيها) بكسر اللام: أي بمنزلة الخلفاء عنه في التصرف فيها: أي فلا تتصرفوا بما لم يأذن لكم به ( فينظر كيف تعملون) فيجازيكم على ما يبدو منكم من حسن وضده في عالم الشهادة الذي ظهرك كما سبق في علم الغيب الأزلي ( فاتقوا الدنيا) أي من ميلكم إلى زهرتها وحلاوتها وخضرتها عما يطلب منكم من الوقوف عند ما أبيح لكم دون ما حظر عليكم، والفاء فيه فصيحة: أي إذا علمتم أن ما تعملون فيه بمرأى من الله تعالى فاتقوه في ذلك ( واتقوا النساء) أي احذروهن أن بكيدهن يحملكم الافتتان بهن على ترك ما طلب منكم من التكاليف أو أن يخدعنكم بكيدن فتقعوا في شيء من أغراضهن الممنوع منها شرعاً ( رواه مسلم) في آخر الدعوات، ورواه النسائي أيضاً فيعشرة النساء، والحديث قدمه المصنف في باب التقوى وتقدم شرحه ثمة بأبسط مما هنا.


رقم الحديث 460 ( وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:) في أشد أحواله لما رأى تعب أصحابه لحفر الخندق ( اللهم) أي يا الله ( إن العيش) الحياة الدائمة ( عيش الآخرة) فلا يحزن الإنسان لما يصيبه في هذه الدار فإنه منقض وأجره باق دائم، وقاله في أسرّ الأحوال أيضاً لما رأى كثرة المؤمنين في يوم عرفة في حجة الوداع لبيك إن العيش عيش الآخرة: أي شأن العاقل أن لا يفرح بما يسرّه من الدنيا لانقضائها وأن يكون اهتمامه بما يفرح به في آخرته لأن حياتها الدائمة الأبدية ( متفق عليه) وقد تقدم هذا الحديث مع شرحه.......


رقم الحديث 461 ( وعنه) أي عن أنس ( عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يتبع الميت) من منزله إلى مدفنه في الغالب ( ثلاث) من الأشياء، وحذف التاء منه لحذف المعدود، وأبدل من ثلاث بدل مفصل من مجمل قوله ( أهله وماله) أي الذي كان ماله قبل موته: أي بعضه كعبيده وما يصحب مع أهله لنفقة على مؤن دفنه ( وعمله) أي جميع ما عمله في الدنيا كما يومىء إليه إضافة المفرد، ويحتمل أن يراد ما عمله مما يتعلق به جزاء دون ما كفر لنحو توبة أو عمل صالح أو فضل إلهي فيكون عاماً أريد به خاص ( فيرجع اثنان ويبقى واحد) ذكره مجملاً ثم مفصلاً ليكون أوقع في النفس وأقر فيها فقال ( يرجع أهله) بعد دفنه ( وماله) كذلك أو ما يبقي مما هيىء لمؤمن الدفن بعد تمامه ( ويبقى عمله) معه مرتهناً هو به.
قال تعالى: { كل نفس بما كسبت رهينة} ( المدثر: 38) اللهم وفقنا لمرضاتك بمنك وكرمك، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ( متفق عليه) أخرجه البخاري في الرقاق، ومسلم في الزهد، وكذا رواه الترمذي في الزهد من «جامعه» ، وقال حسن صحيح، والنسائي في ذلك من «سننه» ،ومداره عند الجميع على سفيان بن عيينة عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري، عن أنس كذا يؤخذ من «الأطراف» .......


رقم الحديث 462 ( وعنه قال: قال رسول الله: يؤتى) بالبناء للمفعول ونائب الفاعل الظرف بعده والفاعل إما الله تعالى لأنه الموجد للجميع، وإما الملائكة لأنهم المنتصبون في ذلك بأمره ( بأنعم أهل الدنيا) أي بأكثرهم نعمة فيها من لذات الدنيا وزهراتها ( من أهل النار) في محل الحال نائب الفاعل، وفيه إيماء إلى أن من أنعم الله عليه في الدنيا بالنعم في ظاهره من أهل الإيمان وصالح الأعمال ليسوا كذلك ( يوم القيامة) ظرف للفعل: أي بعد فصل القضاء والحكم بين العباد ( فيصبغ) أي يغمس ( في النار صبغة) بفتح الصاد أي غمسة ولعل التنوين فيه للتقليل فيكون أبلغ فالتعقيب بالنسبة للإتيان كذلك هنا وفي قرينة ( ثم) لعل الإتيان بها إيماء إلى أنه يهان بإهماله كذلك مدة ( ويقال) له بعدها تبكيتاً والقائل إن كان خزنة جهنم فالأمر ظاهر، وإن كان الحق سبحانه بلا واسطة فلا دلالة فيه على شرف لهم لأن خطابه تعالى لهم على سبيل الإهانة والإذلال، ثم رأيت حديث النسائي مصرحاً بالشق الثاني ( هل مر بك نعيم قط) بفتح القاف وتشديد الطاء المهملة ظرف للزمان الماضي ( فيقول) عقب السؤال بلا تراخ كما تؤذن به الفاء ( لا وا) الجواب مقدر بعد لا، أغنى عن التصريح به دلالة ما قبله عليه، والقسم بعد لتأكيد نفي ذلك، وكأن ذلك منه لغلبة العذاب عليه حتى يذهل عما مضى له في الدنيا من النعيم فيقول ذلك، وإلا فالآخرة لا يقع فيها الكذب من أحد، ويحتمل أنهم عدوا جميع ما ذاقوه من النعيم في جنب ما أصابهم من أقل العذاب كالعدم فصيروره في حكم المعدوم فقالوا ذلك.
وقوله ( يا رب) بحذف الياء اكتفاء بدلالة الكسرة عليها، أتى به للتعطف والترحم ( ويؤتى بأشد الناس بؤساً) بالهمز: أي شدة، قاله المصنف، قال في «المصباح» : ويجوز التخفيف.
أي لغة ( في الدنيا) يحتمل أن يكون ظرفاً مستقراً صفة لبؤس وأن يكون لغواً متعلقاً به، وقوله ( من أهل الجنة) في محل النصب بيان لأشد، وهو المؤمن ولو عاصياً ( فيصبغ) أي...... يغمس ( صبغة في الجنة) وسمى ما ذكر صبغة لظهور أثره عليهم ظهور أثر المصبوغ.
قال تعالى: { وجوه يومئذٍ ناضرة.
إلى ربها ناظرة.
ووجوه يومئذٍباسرة.
تظن أن يفعل بها فاقرة}
( القيامة: 22، 25) ثم قوله فيصبغ الخ ثابت في «صحيح مسلم» ساقط فيما وقفت عليه من نسخ الرياض ولعله من قلم الناسخ سهواً ولعل حكمة تقديم شأن أهل النار لكونه من باب الإنذار وهو كالتخلية على ما يتعلق بأهل الجنة الذي هو من باب البشارة لكونه كالتحلية بالمهملة، والظاهر أن تقديم المفعول المطلق هنا على نائب الفاعل وتأخيره ثمة للتفنن في التعبير ( فيقال له) أي عقب إذاقته لأول ما يلقاه من النعيم الذي هو جزء يسير مما أعد له من النعيم كما تؤذن الفاء، والمبادرة بذلك للتشريف ( هل رأيت) أي وجدت ( بؤساً) أي شدة ( قط هل مرّ بك بؤس قط) يحتمل أن يكون بمعنى ما قبله وكرر تأكيداً وإطناباً لزيادة التذكير بالنعمة التي آل إليه أمرها حتى هان عليه ما لاقاه في الدنيا في جانبها يقال ما يأتي، ويحتمل أن لا يكون كذلك بأن المسؤول عنه أولاً ما وجد مشقته وشدته وثانياً ما نزل به مما لم يكن كذلك لما عارضه من خفي لطف إلهي ( فيقول لا وا) وصرح بالمحذوف بعد لا النافية الدال عليه سياق الكلام بقوله ( ما مر بي بؤس) أي شدة ( قط ولا رأيت شدة قط) لأن المقام للإطناب شكراً لما أبيح من تلك المنة التي يقصر عن بيان أدناها البيان ( رواه مسلم) في التوبة من صحيحه وكذا رواه النسائي في الجهاد من سننه، كذا قال الحافظ المزّي في «الأطراف» وتعقبه الحافظ ابن حجر في «النكت الظراف» عليه بأنهما حديثان، وكان عليهما إفرادهما وذلك بيّن من سياقهما ولفظ حديث مسلم عن يزيد عن حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس ما ذكر، ولفظ حديث النسائي عن بهز عن حماد «يؤتى بالرجل من أهل الجنة فيقول الله عزّ وجل يا ابن آدم كيف وجدت منزلتك؟ فيقول ربي: خير منزل، فيقول عزّ وجل: سل وتمنّ، فيقول أسألك...... أن تردني إلى الدنيا فأقتل في سبيلك عشر مرات لما رأى من فضل الشهادة، ويؤتى بالرجل من أهل النار فيقول تبارك وتعالى: يا ابن آدم كيف منزلك؟» الحديث.
فهذان حديثان مختلفان في السياق والمعنى وإن اتحد إسنادهما وقد أخرج الثاني الحاكم في «المستدرك» وقال صحيح على شرط مسلم انتهى.


رقم الحديث 463 ( وعن المستورد) هو بضم الميم وسكون السين المهملة وفتح الفوقية وكسر الراءآخره دال مهملة ( ابن شداد) بفتح المعجمة وتشديد المهملة الأولى، ابن عمرو بن حنبل بن الأحب بن حبيب بن عمرو بن شبان بن محارب بن فهر القرشي الفهري ( رضي الله عنه) وأمه دعد بنت جابر بن حنبل بن الأحب أخت كرز بن جابر، ولما قبض النبي كان غلاماً قاله الواقدي، وقال غيره: إنه سمع من النبي سماعاً وأتقنه، سكن الكوفة ثم مصر، روى عنه أهل الكوفة وأهل مصر كذا في «أسد الغابة» ، قال ابن الجوزي روي له عن النبيّ سبعة أحاديث، قال البرقي: في هذه السبعة التي جاءت عنه منها أربعة لأهل مصر، وحديثان لأهل الكوفة، وحديث لأهل الشام اهـ عنه روى مسلم هذا الحديث وأخرج عنه حديثاً آخر ولم يرو له البخاري ( قال: قال رسول الله: ما الدنيا) أي ما مثلها أو نعيمها أو زمانها ( في الآخرة) أي في جانبها أو بالنظر إليها ( إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه) قال في «المصباح» : فيه عشر لغات.
تثليث الهمزة مع تثليث الموحدة، والعاشرة أصبوع كعصفور والمشهور من لغاتها كسر الهمزة وفتح الباء، وهي التي ارتضاها الفصحاء اهـ، وقد نظمتها بقولي: وفي أصبع عشر بتثليث همزة وباء له والعاشر أصبوع فاعلم...... ( في اليم) بفتح التحتية وتشديد الميم: البحر ( فلينظر) أي أحدكم ( بم) أصله بما حذفت الألف؛ أي بأي شيء ( يرجع) بالتحتية والضمير راجع لأحد: أي بما يرجع أحدكم أصبعه لا لأصبع لأنها مؤنثة كما في «المصباح» ، ثم قال: وفي كلام ابن فارس ما يدل على تذكير الأصبع، وقال الصغاني: يذكر ويؤنث والغالب التأنيث، قال في «المفاتيح» : يجوز في مثل أن يقرأ بالرفع والفتح على أنه مبني لأن «ما» في «ما يجعل» مصدرية يعني نسبة ما ذكر من نعيم الدنيا وزمانها إلى نعيم الآخرة، ليس إلا مثل نسبة الماء اللاصق بأصبع أحدكم إذا غمسها في اليم، أي البحر ( رواه مسلم) في صفة الدنيا والآخرة من «صحيحه» ، ورواه الترمذي في الزهد، وقال: حسن صحيح، ورواه النسائي في الزهد.......


رقم الحديث 464 ( وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرّ بالسوق) داخلاً من بعض طرق العالية كما في «صحيح مسلم» ، وحذفه المصنف اختصاراً لعدم تعلق غرضه، قال في«المصباح» : يذكر ويؤنث، وقال أبو إسحاق في السوق التي يباع فيها مؤنثة وهو أفصح وأوضح وتصغيرها سويقة والتذكير خطأ لأنه قيل بسوق نافقة ولم يقل نافق بغير هاء اهـ، سميت بذلك لسوق الناس بضائعهم إليها أو لأنهم يقومون فيها على سوقهم أو لتصاكك السوق فيها من الازدحام ( والناس كنفيه) جملة في محل الحال من ضمير مر، وفي «شرح مسلم» للمصنف قوله: والناس كنفيه وفي بعض النسخ كنفتيه معنى الأول جانبه والثاني جانبيه اهـ.
ولم يظهر وجه تفسير ما حذفت التاء منه بالمفرد وما أثبت فيه تاء بالمثنى، وفي «النهاية» أنهما كذلك بمعنى والله أعلم، وفي «المصباح» : الكنف بفتحتين الجانب، وجمعه أكناف كسبب وأسباب ( فمر بجدي) هو ولد المعز كذا في «المفاتيح» ، وفي المصباح قال ابن الأنباري: هو الذكر من أولاد المعز، والأنثى عناق، وقيده بعضهم في السنة الأولى، والجمع أجد وجداء كدلو وأدل وأدلاء، والجدي بالكسر لغة رديئة اهـ.
( أسك) أي صغير الأذن من السك بفتحتين وهو صغيرها كذا في «المفاتيح» ، ويأتي مثله في الأصل، وقال العاقولي: الأسك مصطلم الأذنين مقطوعهما ( ميت فتناوله) فيه دليل على أن لمس النجس إذا لم تكن رطوبة من أحد الجانبين لا ينجس ( فأخذ بأذنه) كان الأخذ بها لمزيد الحقارة، والأذن بضمتين ويجوز تخفيفها بتسكين الثانية ( ثم قال) كان الإتيان بثم لبيان أنه عرض بين الأخذ والتكلم ما تأخر بسببه التكلم، ويحتمل أن تكون استعيرت في موضع الفاء وعدل إليها تفنناً ودفعاً لثقل التكرار في الجملة ( أيكم يحب أن هذه له بدرهم) أحد الظرفين في محل الخبر والآخر في محل الحال والأولى إعراب الأول خبراً والثاني حالاً كما يومىء إليه ما بعده، قال العاقولي: هو استفهام إرشاد وتنبيه ليلقوا السمع لما...... يوجهه إليهم من الخطاب الخطير في ضمن التمثيل بهذا المعنى الحقير ( فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء) أي من الأشياء التي هي أقل من الدرهم فضلاً عنه ( وما نصنع به) وهو نجس لموته قد انقطعت الأطماع بذلك عن الانتفاع به ( قال) تأكيداً للمقام ( تحبون) أي أتحبون ( أنه لكم) أي من غير شيء ( قالوا: وا لو كان حياً كان عيباً) أي معيباً أو ذا عيب ويجوز إبقاؤه على ظاهره من غير تأويل ولا تقدير، ويكون في الجملة مبالغة أنه لكمال قيام العيب به ولصوقه صار كأنه عيب وحذفت اللام من جملة لو، حملاً على جواب «أنّ» كما أثبتت اللام في جواب «أنّ» حملاً على جواب «لو» في قولهم وإلا لكان كذا أي لو كان حياً لترك مع رجاء الانتفاع به لكونه معيباً، قوله ( أنه أسك) تفسيرلعيب ( فكيف وهو ميت) لا ينتفع به ( فقال وا للدنيا) بفتح اللام صدّر بها جملة جواب القسم المركبة من مبتدأ وهو الدنيا وخبر وهو قوله ( أهون على الله من هذا عليكم) وأهون أفعل من الهون بضم الهاء وسكون الواو قال في «المصباح» هان يهون هوناً بالضم وهواناً: ذل وحقر، وفي التنزيل { أيمسكه على هون} ( النحل: 59) قال أبو زيد والكلابيون يقولون: على هوان ولم يعرفوا الهون، وفيه مهانة: أي ذل وضعف اهـ، والمعنى أن الدنيا عند الله أذل وأحقر من هذا عندكم فعلى بمعنى عند.
قال في «المصباح» : تأتي على بمعنى عند، قال الشاعر: غدت من عليه بعد ما تم ظمؤها...... قال الأصمعي: معناه من عنده، ثم قال العلماء: الأنبياء والأصفياء والكتب الإلهية والعبادات في الدنيا وليست منها فلا تدخل في الهوان ( رواه مسلم) في الزهد من «صحيحه» ، ورواه أبو داود في الطهارة من سننه ( قوله كنفيه: أي عن جانبيه) تقدم في «المصباح» : الكنف الجانب وكان التأنيث باعتبار معنى الجهة ( والأسك الصغير الأذن) قال في «المصباح» : السكك أي بفتحتين مصدر من باب تعب، وهو صغر الأذنين وبه يتأيد ما تقدم عن المفاتيح ويحمل قوله «مصطلمهما» أن ذلك خلقي، لا أن ذلك طارىء بقطعهما كما يعطيه لفظ الاصطلام إذ معناه كما في «الصحاح» أيضاً القطع: ثم رأيت «الصحاح» قال: السكك بالتحريك صغر الأذن، يقال: كل سكاء تبيض وكل شرقاء تلد، فالسكاء التي لا أذن لها والشرقاء التي لها أذن وإن كانت مشقوقة، ويقال سكة يسكه إذا اصطلم أذنيه اهـ.
ومنه يعلم أن العاقولي اشتبهت عليه مادة بمادة فحمل الأسك على أنه من باب المضاعف المضموم العين المفسر بالاصطلام وإنما هو من باب علم كما تقدم في «المصباح» وغيره، فهو الصغير الأذن كما قاله المصنف وغيره.......


رقم الحديث 465 ( وعن أبي ذر) بفتح المعجمة وتشديد الراء كنية جندب بن جنادة ( رضي الله عنه قال: كنت أمشي مع النبي) فيه كمال تواضعه مع أصحابه وعدم ترفعه على أحد منهم ( في حرة) بفتح الحاء المهملة وتشديد الراء: هي أرض ذات حجارة سود والجمعحرار بكسر أوله ( بالمدينة) علم بالغلبة على دار هجرته ( فاستقبلنا أحد) بضمتين: الجبل المعروف بالمدينة ( فقال يا أبا ذر) فيه تكنية العالم تلميذه وتابعه تأنيساً وتكريماً، وهو من كمال فضله وحسن خلقه ( قلت) في نسخ البخاري المصححة «فقلت» بالفاء أوله ( لبيك يا رسول الله) فيه الجواب زيادة في الأدب ( قال: ما يسرني أن عندي مثل أحد هذا) والإتيان به للتعظيم كقوله تعالى: { ذلك الكتاب} ( البقرة: 2) وقوله ( ذهباً) تمييز لمثل، وجاء في رواية البخاري في باب الاستئذان من صحيحه «فلما أبصر أحداً قال: ما أحب أن يحول لي ذهباً» قال الحافظ بعد ذكر اختلاف رواياته: وقد اختلفت ألفاظ هذا الحديث ومخرجه متحد فهو من تصرف الرواة، ويمكن الجمع بين قوله مثل أحد وبين قوله: «يحول أحد» بحمل المثلية على شيء بكون وزنه من الذهب وزن أحد، والتحويل على أنه إن انقلب ذهباً كان على قدر وزنه أيضاً، وذهباً على تلك الرواية الثانية جعله ابن مالك مفعولاً ثانياً لحول ومفعوله الأول ضمير أحد.
واستدل به على مجيء حول بمعنى صير، وعمله عملها وهو استعمال كثير يخفى على أكثر النحاة، ورده الحافظ بقوله بعد أن ذكر أن اختلاف ألفاظه من تصرف الرواة ما لفظه فلا يكون حجة في اللغة ( تمضي علىَّ ثالثة) أي ليلة ثالثة وإنما قيد بالثلاث لأنه لا يتهيأ تفريق قدر أحد من الذهب في أقل منها غالباً لكن يعكر عليه رواية يوم وليلة، فالأولى أن يقال الثلاث أقصى ما يحتاج إليه في تفريق مثل ذلك والليلة الواحدة أقله ( وعندي منه دينار) جملة حالية ( إلاّ شيء) كذا هو فيما وقفت عليه من نسخ الرياض بالرفع وقد ذكر الحافظ في «الفتح» : أن فيه روايتين: الرفع والنصب،...... قال: وهما جائزان لأن المستثنى منه مطلق عام والمستثنى مقيد خاص فاتجه النصب، وتوجيه الرفع أن المستثنى منه في سياق النفي والشيء فسر في رواية بالدينار ووقع في رواية غير أبي ذر «وعندي منه دينار أو نصف دينار» وفي رواية أخرى «وأدع منه قيراطاً قال: قلت: قنطاراً، قال: قيراطاً» وفيه «ثم قال: يا أبا ذر إنما أقول الذي هو أقل» ( أرصده لدين) قال الدماميني بفتح الهمزة والصاد مضمومة أو مكسورة أي أعده وأحفظه وهذا الإرصاد أعم من أن يكون لصاحبدين غائب حتى يحضر أو لأجل وفاء دين مؤجل حتى يحل فيوفى ( إلا أن أقول به في عباد اهكذا وهكذا وهكذا عن يمينه وعن شماله ومن خلفه) هو استثناء بعد استثناء فيفيد الإثبات فيؤخذ منه أن نفي محبة المال مقيدة بعدم الإنفاق فيلزم محبة وجوده مع الإنفاق فما دام الإنفاق في سبيل الله موجوداً لا يكره وجود المال، وإذا انتفى الإنفاق ثبتت كراهية وجود المال ولايلزم من ذلك كراهية حصول شيء آخر ولو قدر أحد، أو أكبر مع استمرار الإنفاق، وقوله عن يمينه الخ هكذا اقتصر على ثلاث وحمل المبالغة لأن العطية لمن بين يديه هي الأصل، قال في «الفتح» : والذي يظهر لي أن ذلك من تصرف الرواة وأن أصل الحديث مشتمل على الجهات الأربع، ثم ذكر أنه وجده كذلك في رواية بإثبات الأربع قال: وقد أخرجه في الاستئذان فاقتصر على ثنتين وعدّي إلى الأولين بحرف المجاوزة لأن المنفق منهما كالمنحرف عن المنفق المار على عرضه، ونظيره جلست عن يمينه، وعدى الثالث بحرف الابتداء إيماء إلى كمال المبالغة في الكرم حتى كأنه ابتدأ به من جهة الخلف بعد أن أتمه من جهة الأمام وجاوز به من عن جانبيه، وقال الحافظ: قوله من خلفه بيان للإشارة وخص عن باليمين والشمال لأن الغالب في الإعطاء صدوره باليدين اهـ.
وما قلناه أظهر فتدبر ( ثم سار فقال) في رواية للبخاري ثم قال: وبها يتبين أن أحد العاطفين استعير في محل الثاني ( ألا) ...... أداة استفتاح يؤتى بها لتنبيه السامع لما بعدها اهتماماً به ( إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة) هكذا عند البخاري الأقلون بالهمزة في الاستقراض والاستئذان من «صحيحه» ووقع عنده في الرقاق منه «المقلون» بالميم محل الهمز، قال الحافظ: والمراد الإكثار من المال والإقلال من ثواب الآخرة، وهذا في حق من لم يتصل بما دل عليه الاستثناء بعد من الإنفاق بقوله ( إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا عن يمينه وعن شماله ومن خلفه) في رواية عند أحمد «إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا فحثى عن يمينه ومن بين يديه وعن يساره» فاشتملت الروايتان على الجهات الأربع وإن كان كل اقتصر على ثلاث منها وقد جمعها عبد العزيز بن رفيع في روايته ولفظه «إلا من أعطاه الله خيراً» أي ما لا فنفح...... بنون وفاء ومهملة أي أعطى كثيراً بلا تكلف يميناً وشمالاً وبين يديه ووراءه وبقي من الجهات فوق وأسفل والإعطاء من قبل كل منهما ممكن لكن حذف لندوره وقد فسر بعضهم الإنفاق من وراء بالوصية ولي قيداً فيه بل قد يقصد الصحيح الإخفاء فيدفع لمن وراء ما لم يدر به من أمامه، وقوله هكذا صفة لمصدر محذوف: أي لمن أشار إشارة مثل هذه الإشارة ( وقليل ما هم) ما صلة مزيدةلتأكيد القلة، ويحتمل أن تكون موصوفة ولفظ قليل هو الخبر وهم المبتدأ والتقدير: وهم قليل وقدم الخبر اهتماماً بمضمونه كما يؤذن به تأكيده، ففيه التحريض على الإنفاق لأصحاب الأموال ليندرج في القليل الذي هو الجليل وا الموفق ( ثم قال لي مكانك) بالنصب: أي الزمه وقوله ( لا تبرح) تأكيد له ودفع لتوهم أن الأمر بلزوم المكان ليس عاماً في الأزمنة ( حتى آتيك) غاية للزوم المكان المذكور ( ثم انطلق في سواد الليل حتى توارى) فيه إشعار بأن القمر كان قد غلب حتى توارى: أي غاب شخصه.
قلت: ويحتمل أن يكون التواري بسبب زيادة البعد حتى خفي عن البصر سيما ونور القمر يغيب فيه الشخص عن العين في بعد لا يتوارى عنها في مثله في الشمس لضعف ضوئه ( فسمعت صوتاً قد ارتفع) في رواية لغطاً وهو اختلاط الأصوات ( فتخوفت أن يكون) أي من أن يكون ( أحد قد عرض) أي تعرض بسوء ( للنبي فأردت أن آتيه) أي أتوجه إليه كما جاء في رواية أن أذهب: أي إليه ولم يرد أن يتوجه لحال سبيله بدليل رواية الباب ( فذكرت قوله لا تبرح فلم أبرح حتى أتاني) في رواية فانتظرته حتى جاء، وفي الحديث الوقوف عند أمره ولزوم طاعته قال في «الفتح» : ففيه أن امتثال أمر الكبير والوقوف عنده أولى من ارتكاب ما يخالفه بالرأي ولو كان فيما يقتضيه الرأي توهم دفع مفسدة حتى يتحقق ذلك فيكون دفعها أولى اهـ.
( فقلت) جاء في رواية للبخاري زيادة يا رسول الله ( لقد سمعت صوتاً تخوفت منه) اللام هي المؤذنة بالقسم المقدر الداعي إليه تأكيد مقام الإخبار ( فذكرت...... له) المفعول محذوف: أي ما سمعت وقد جاء مصرحاً به في بعض رواياته بلفظ فذكرت له الذي سمعت ( فقال: وهل سمعته) المعطوف عليه محذوف أي أتذكر ذلك وهل سمعته، ومفعول سمع محذوف لدلالة ما قبله: أي وهل سمعت صوتاً؟ وظاهر أن الاستفهام للتثبت والتقرير لتقدم إخباره بالسماع فجوز أن يكون التبس عليه صوت نحو ريح حينئذٍ بصوت متكلم فقال ذلك ذلك ( قلت نعم) أي من غير تردد ( قال ذاك) أي الذي كنت أخاطبه ( جبريل) أو ذلك الصوت الذي سمعته صوت جبريل ففيه على الثاني مضاف مقدر ( أتاني فقال: من مات من أمتك لا يشرك با شيئاً) أي من الشرك الجلي، أما الخفي وهو نحو الرياء فغير مانع من دخول الجنة ( دخل الجنة) فقيل المراد إما ابتداء أو بعد المجازاة على المعصية، وقيل المراد دخلها ابتداء وقد حمله كذلك البخاري على من تاب عند الموت وهذا ما فهمه أبو ذر، والأول أولى للجمع بين الأدلة، جواب الشرط، رتب دخول الجنة على الموت بغير إشراك با، فقد ثبت الوعيد بدخول النار لمن عمل بعض الكبائر، وبعدم دخول الجنة لمن عملها ولذا وقع الاستفهام.
بقول أبي ذر ( قلت وإن زنى وإن سرق) بتقدير همزة الاستفهام قبله.
قال ابن مالك: حرف الاستفهام مقدر أول هذا الكلام ولا بد من تقديره ( قال: وإن زنى وإن سرق) أي يدخلها وإن زنى وإن سرق، إن وصلية والواو الداخلة عليها قيل عاطفة على مقدر، وقيل حالية، واقتصر على ذكر هذين لأن أحدهما متعلق بحق الله سبحانه، والآخر بحق العباد فكأنه يقول: إن من مات على التوحيد دخلها وإن تلبس بمعصية متعلقة بحق الله تعالى أو بحق عباده، وزيادة شرب الخمر في رواية للإشارة إلى فحش تلك الكبيرة لأنها تؤدي إلى خلل في العقل الذي به شرف الإنسان على البهائم، وبوقوع الخلل فيه قد يزول التوقي الذي يحجز عن ارتكاب بقية الكبائر، وأسقط المصنف تكرار استفهام أبي ذر لذلك وجوابه عن ذلك مرتين أخريين زاد في الثالثة «وإن رغم أنف أبي ذر» لعدم تعلق غرض الترجمة به............ ( متفق عليه، وهذا لفظ البخاري) في الرقاق من «صحيحه» ، وقد أخرجه في مواضع أخرى منه وأخرجه مسلم في الزكاة، ورواه الترمذي في الإيمان من «جامعه» وأخرجه ابن السني في «عمل اليوم والليلة» ومداره عندهم على زيد بن وهب عن أبي ذر كذا يؤخذ من «الأطراف» للمزي.


رقم الحديث 466 ( وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لو كان لي) أي وجد فهي تامة فاعلها ( مثل أحد) والظرف حال منه، ويجوز أن تكون ناقصة والظرف خبراً مقدماً( ذهباً) تمييز مثل ( لسرني ألا تمر عليّ ثلاث ليال وعندي منه شيء إلا شيء) بالرفع مستثنى من شيء ورفع لكونه مستثنى من كلام منزل منزلة المنفي، وهو أنه في حيز جواب لو إذ هو في تقدير النفي كما أشار إليه الحافظ في «الفتح» ( أرصده) في محل الصفة للمستثنى أي أعده ( لدين) أي لأدائه عند مجيء الدائن، أو عند حلول أجل الدين كما تقدمت الإشارة لذلك.
وفي الحديث الحث على الإنفاق في وجوه الخير والحض على ذلك في الحياة وفي الصحة وترجيحه على إنفاقه عند الموت وقد تقدم منه حديث «أن تصدق وأنت صحيح شحيح» وأنه كان في أعلى درجات الزهد في الدنيا بحيث إنه لا يحب أن يبقى بيده شيء منها لإنفاقه فيمن يستحقه أو لإرصاده لمن له حق وأما لتعذر من يقبل ذلك منه لتقيده في رواية عند البخاري بقوله أجد من يقبله وفيه تقديم وفاء الدين على صدقة التطوع وفيه الحث على وفاء الدين وأداء الأمانة وجواز استعمال لو عند تمني الخير، وتخصيص الحديث الوارد بالنهي عن استعمال ما يكون في أمر غير محمود شرعاً وفيه غير ذلك ( متفق عليه) أخرجه البخاري مع الحديث قبله في باب واحد...................