فهرس الكتاب

دليل الفالحـــين - باب التقوى

رقم الحديث 69 ( فـ) الحديث ( الأول: منها عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيل يا رسول الله من أكرم الناس) ؟ قال المصنف في «شرح مسلم» : أصل الكرم كثرة الخير، فلما سئل أيّ الناس أكرم؟ أخبر بأكرم الكرم وأعمه ( فقال: أتقاهم) ، فإن من كان متقياً كان كثير الخير في الدنيا صاحب الدرجات العليا في الآخرة اهـ.
وقال بعضهم: الكريم هو المتقي وهو المنقطع عن الأكوان ( فقالوا ليس عن هذا) الكرم ( نسأل، قال فـ) أكرم الناس ( يوسف) بتثليث السين مع الهمزة وتركه، فإنه جمع خيري الدارين وشرفهما فإنه مع كونه ( نبيّ الله ابن نبيّ ا) يعقوب ( ابن نبيّ ا) إسحاق ( ابن خليل ا) إبراهيم، انضم إليه شرف علم الرؤيا وتمكنه فيه ورياسة الدنيا وملكها بالسيرة الجميلة وإحاطتهللرعية وعموم نفعه إياهم وشفقته عليهم، وما ذكر من تكرير ابن نبي الله مرتين هو كذلك في بعض روايات البخاري وهو الأصل، ووقع في رواية مسلم وبعض روايات البخاري «نبيّ الله ابن نبيّ الله ابن خليل ا» وهذه الرواية مختصرة من تلك الرواية/ إذ هو يوسفبن يعقوببن إسحاق ابن إبراهيم ( قالوا: ليس عن هذا) أيضاً ( نسألك) .
ففهم حينئذٍ أن مرادهم قبائل العرب ( قال: فعن معادن العرب تسألوني؟) قالوا نعم وسكت عنه لدلالة السياق عليه فقال خيارهم بكسر الخاء المعجمة ( في الجاهلية) ما قبل الإسلام، سموا بذلك لكثرة جهالتهم ( خيارهم في الإسلام) أي: إن أصحاب المروءات ومكارم الأخلاق في الجاهلية هم أصحابها في الإسلام وهم الخيار ( إذا فقهوا) أي: صاروا فقهاء عالمين بالأحكام الشرعية الفقهية.
قال القاضي عياض: قد تضمن الحديث في الأجوبة الثلاثة أن الكرم كله عمومه وخصوصه مجمله ومفصله إنما هو بالدين من التقوى والنبوّة والاعتراف بها الإسلام مع الفقه ( متفق عليه.
وفقهوا بضم القاف على المشهور، وحكي كسرها)
يقال فقه بضم القاف: إذا صار ذا سجية، وبكسرها بمعنى فهم.
وفي «شرح مسلم» : الفقه في اللغة بمعنى الفهم، يقال فقه يفقه كفرح يفرح.
أما الفقه الشرعي فقال صاحب «العين» والهروي وغيرهما: يقال منه فقه بضم القاف.
وقال ابن دريد بكسرها كالأول، وقد روي فقه في دين الله بالوجهين، والمشهور الضم اهـ.
أي: علموا أحكام الشرع ظاهره أصولاً وفقها وسلوكاً، ولا شك أن ذلك أكمل الأنواع، والجامع بين الجميع هو الإنسان الكامل.


رقم الحديث 70 ( الحديث الثاني) من أحاديث الباب ( عن أبي سعيد الخدري رضي الله عن النبي قال: إن الدنيا حلوة خضرة) بفتح المعجمة الأولى وكسر الثانية.
قال في «النهاية» :الخضر نوع من البقول ليس من أحرارها وجيدها، فشبه الدنيا للرغبة فيها والميل إليها بالفاكهة الحلوة الخضرة، فإن الحلو مرغوب فيه من حيث الذوق، والأخضر مرغوب فيه من حيث النظر، فإذا اجتمعا زادت الرغبة.
وفيه إشارة إلى عدم بقائها وهو من التشبيه المطوي فيه الأداة.
قيل: والفرق بين هذا النوع والاستعارة أن هذا لا يتغير حسنه إذا ظهرت الأداة، فإن قولك: المال خضرة في الحسن كقولك المال كالخضرة، ولا كذلك الاستعارة فإن قولك: رأيت أسداً يرمي، ليس كقولك: رأيت رجلاً كأسد، ذكره العاقولي ( وإن الله مستخلفكم فيها) بكسر اللام: أي: جعلكم خلفاء في الدنيا: أي: أنتم بمنزلة الوكلاء فيها.
وقيل معناه: جعلكم خلفاء ممن كان قبلكم، فإنها لم تصل إلى قوم إلا بعد آخرين ( فينظر) أي: فيعلم علم مشاهدة وعيان ( كيف تعملون) من إنفاقها في مراضيه فتثابون، أو في مساخطه فتأثمون، فإن الجزاء إنما يترتب على ما يبدو في عالم الشهادة من الأعمال كما تقدم، أو فينظر كيف تعملون: أي: أتعتبرون بحالهم وتتدبرون في مآلهم ( فاتقوا الدنيا) أي: اجتنبوا فتنتها واحذروا أن تميلكم محبتها والاغترار بها عن أوامر الله تعالى واجتناب مناهيه فيها ( واتقوا النساء) أي: اجتنبوا الافتتان بهن: أي: أن يمنعكم التمتع بهن لاستيلاء محبتهن عن القيام بأداء حقوق العبودية والتقرّب إلى مراضي الله تعالى، فإن بمقدار محبة السوي والركون إليه البعد عن المولى، ويدخل فيهن كما قال المصنف الزوجات وهن أكثر فتنة لدوام فتنتهن وابتلاء أكثر الناس بهن ( فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء) أي: بسببهن، فهو كحديث «عذبت امرأة في هرة» قال شارح «الأنوار السنية» يحتمل أن يكون إشارة إلى قصة هاروت وماروت، لأنهما فتنا بسبب امرأة من بني إسرائيل.
ويحتمل أن يكون إشارة إلى قصة بلعامبن باعوراء لأنه إنما هلك بمطاوعة زوجته.
وبسببهن هلك كثير من الفضلاء ( رواه مسلم) .


رقم الحديث 71 ( الحديث الثالث عن) عبد الله ( بن مسعود رضي الله عنه أن النبي كان يقول اللهم) أصله يا أفحذف حرف النداء وعوّض عنه الميم كما تقدم ( إني أسألكالهدى) بضم الهاء: الرشاد ( والتقوى) وفي نسخة «والتقى» : امتثال الأوامر واجتناب النواهي ( والعفاف) أي: التنزه عما لا يباح والكف عنه ( والغنى) أي: غنى النفس والاغتناء عن الناس وعما في أيديهم، والمسؤول له زيادة ذلك.
وفيه شرف هذه الخصال، وفيه الخضوع واللجأ للكريم الوهاب في سائر الأحوال ( رواه مسلم) ورواه الترمذي وابن ماجه.


رقم الحديث 72 ( الحديث الرابع عن أبي طريف) بفتح الطاء وكسر الراء المهملتين وسكون التحتية بعدها فاء ( عدي) بفتح أوله فكسر ثانيه المهملتين فتشديد الياء ( ابن حاتم) بالحاء المهملة والفوقية المكسورة، العلم المضروب به المثل في الجود ( الطائي) نسبة إلى طيىء بوزن سيد، واسمه جلهمة، وسمي طيئاً لأنه أول من طوى أي بنى المناهل، وقيل: لغير ذلك، وهو ابن عدي ابن سعيدبن الحشرجبن امرىء القيسبن عديبن أخرمبن ربيعةبن جرولبن ثغلبن عمرو ابن الغوثبن طيىءبن أددبن زيدبن يشجببن عريببن زيدبن كهلانبن سبأ كذا في عجالة المبتدي للحازمي.
وقد عدىّ ( رضي الله عنه) على النبيّ سنة تسع في شعبان، وقيل: سنة عشر وكان نصرانياً، وقيل: بل أسر المسلمون أخته سفانة بنت حاتم فأسلمت وعادت إليه، فأخبرته ودعته إلى رسول الله، فأسلم وحسن إسلامه.
روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ستة وستون حديثاً، اتفقا على ثلاثة منها، وانفرد مسلم بحديثين.
ولما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدم على الصديق وقت الردّة بصدقة قومه، وثبت على الإسلام ولم يرتدّ وثبت قومه معه، وكان جواداً شريفاً في قومه معظماً عندهم وعند غيرهم.
روي عنه أنه قال: ما دخل عليّ وقت صلاة إلا وأنا مشتاق إليها.
وكان يكرمه إذا دخل عليه، وكان يفتّ للنمل الخبز ويقول: إنهن جارات ولهن حق، شهد صفين مع علىّ.
توفي سنة سبع، وقيل: تسع وستين، وله مائة وعشرون سنة.
قيل: مات بالكوفة أيام المختار، وقيل: مات بقرقيسا، والأول أصح ( قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من حلف على يمين) الحلف هو اليمين كما تقول حلف يحلف حلفا، وأصلها العقد بالعزم والنية فخالف بين اللفظين وقال: حلف على يمين تأكيداً.
وقال القرطبي: اليمين المحلوف عليه.
( ثم رأى أتقى منها) أي: منيمينه التي التزمها في ترك أمر ( فليأت التقوى) وحاصله أن من حلف على ترك فعل شيء أو فعله فرأى غيره خيراً من التمادي على اليمين وأتقى كأن حلف ليتركنّ الصلاة أو ليشربنّ المسكر وجب عليه الحنث والإتيان بما هو التقوى من فعل المأمور به وترك المنهيّ عنه، فإن حلف على ترك مندوب أو فعل منهي عنه نهي كراهة ندب له الحنث، ومثله حديث مسلم أيضاً «من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه» ( رواه مسلم) .


رقم الحديث 73 ( الخامس عن أبي أمامة) بضم الهمزة ( صدي) بضم الصاد ففتح الدال المهملتين وتشديد الياء، ويقال الصدي بأل ولم يذكره الحاكم في كتابه إلا بها ( ابن عجلان) بفتح المهملة وسكون الجيم وابن والبة بالموحدة ابن رباح بكسر الراء ابن الحارثبن معنبن مالكبن أعصربن سعد ابن قيس عيلان بالمهملة ابن مضربن نزاربن معدبن عدنان.
قال المصنف في «التهذيب» : ويقال في نسبه غير هذا ( الباهلي) كان ( رضي الله عنه) من مشهوري الصحابة.
روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائتا حديث وخمسون حديثاً، روى البخاري خمسة منها/ ومسلم ثلاثة، وخرّج عنه أصحاب السنن.
سكن مصر ثم حمص وتوفي بها سنة إحدى، وقيل: سنة ست وثمانين.
وهو آخر من مات من الصحابة في البلدان المتفرقة فقال: آخر من مات من الصحابة أبو الطفيل موته بمكة سهلبن عبد الله بالمدينة وأنسبن مالك بالبصرة ومات بالشام أبو قرصافه وابن أبي أوفى الحمام وافه بكوفة واليمن اذكر أبيضاً وبخراسان بريدة قضى ولم تنم مائة إلا وقد ماتوا ولم يبق على الأرض أحد رأى بعينيه النبي المصطفى فاحفظ لنظمي ذا تنال الشرفاقلت: ويزاد عليه: وآخر الصحب بحمص ماتا أبو أمامة وذا قد فاتا وفي كتاب «اليواقيت الفاخرة» : أن آخر من مات بالمدينة السائببن يزيد، يعرف بابن أخت النمر، أدرك النبي صغيراً وروي عنه وتوفى سنة إحدى وتسعين وهو ابن ثمان وثمانين اهـ.
وكذا في «التقريب» للحافظ أن السائب آخر من مات من الصحابة بالمدينة ( قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب في حجة الوداع) بكسر الحاء على الأفصح وفتح الواو اسم مصدر من التوديع، وبكسرها مصدر وادع، سميت بذلك لأنه ودع الناس فيها.
وفيه جواز تسميتها بذلك من غير كراهة ( فقال: اتقوا ا) بدأ به لأنه الأساس لتناوله فعل سائر المأمورات وترك سائر المناهي، وعطف عليه ما بعده من عطف الخاص على العام اهتماماً به واعتناء بشأنه، ويحتمل أن عطف قوله: «وأطيعوا أمراءكم» من عطف المغاير من حيث أن أظهر مقاصد التقوى انتظار الأمور الأخروية ( وصلوا خمسكم) أي: الفروض الخمسة ( وصوموا شهركم) أي: شهر رمضان، وأضيف للأمة لما يسبغ عليهم فيه من الفيوض الإلهية من عتق الرقاب وجزيل الثواب.
وفي الحديث «رجب شهرالله، وشعبان شهري، ورمضان شهر الأمة» ( وأدّوا زكاة أموالكم) في الخلافيات «وأدوا زكاتكم طيبة بها نفوسكم، وحجوا بيت ربكم» ( وأطيعوا أمراءكم) وفي رواية «ذا أمركم» فيما ليس فيه معصية الله تعالى، وفي ذلك انتظام الأحوال المتوصل به إلى قوام المعاش والاستعداد للمعاد ( تدخلوا) بالجزم في جواب الأمر ( جنة ربكم.
رواه الترمذي في آخر كتاب الصلاة، وقال: حديث حسن صحيح)
ورواه ابن حبان والحاكم.
ولما كان من ثمرات التقوى العرفان الذي به تنجلي الأمور، والنور الذي تنشرح بهالصدور، ومن انشرح صدره واستنار قلبه بشهود التوحيد وأنه لا شريك له في ملكه ولا في شيء من أفعاله، تيقن أن لا حول له ولا قوّة، وأنه لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرّاً، فخرج عما في نفسه من التدابير، وألقى نفسه مع جري المقادير، ففاز كما جاء في الحديث الشريف «لا حول ولا قوة إلا با كنز من كنوز الجنة» وظهر بهذا أن التوكل واليقين من ثمرات التقوى فلذا عقبها بهما فقال: 7

رقم الحديث -4 أصلها «وقوى» بكسر أوله وقد يفتح من الوقاية أبدلت تاء كتراث وتخمة: وهي ما يستر الرأس، فهي اتخاذ وقاية تقيك مما تخافه وتحذره؛ فتقوى العبد أن يجعل بينه وبين ما يخشاه وقاية تقيه منه، وهي امتثال أوامره تعالى واجتناب نواهيه بفعل كل مأمور به وترك كل منهي عنه حسب الطاقة، من فعل ذلك فهو من المتقين الذين شرفهم الله تعالى في كتابه بالمدح والثناء { وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور} ( آل عمران: 186) وبالحفظ من الأعداء { وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً} ( آل عمران: 12) وبالتأكيد والنصرة { إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} ( النحل: 128) وبالنجاة من الشدائد والرزق من الحلال ( { ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب} ) ( الطلاق: 2، 3) قال أبو ذر «قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية ثم قال: يا أبا ذرّ لو أن الناس كلهم أخذوا بها لكفتهم» وبإصلاح العمل وغفران الذنب { اتقوا الله وقولوا قولاً سديدا * يصح لكم أعمالك ويغفر لكم ذنوبكم} ( الأحزاب: 7، 71) وبكلفين من الرحمة والنور { اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نوراً تمشون به} ( الحديد: 28) وبالقبول { إنما يتقبل الله من المتقين} ( المائدة: 27) وبالإكرام والإعزاز عند الله تعالى { إن أكرمكم عند الله أتقاكم} ( الحجرات: 13) وبالنجاة من النار { ثم ننجي الذين اتقوا} ( مريم: 72) وبالخلود في الجنة { أعدت للمتقين} ( آل عمران: 133) وبغاية ذلك القصوى وهي محبة الله تعالى وموالاته، وانتفاء الخوف والحزن، وحصول البشارة في الدنيا والآخرة والفوز العظيم { إن الله يحب المتقين} ( التوبة: 7) { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون * الذين آمنوا وكانوا يتقون * لهم البشرى في الحيوة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم} ( يونس: 62 - 64) ولو لم يكن في التقوى سوى هذه الخصلة لكفت «وفي أوائل تفسير البيضاوي: للتقوى ثلاث مراتب: ( الأولى) التوقي عن العذاب المخلد بالتبري عن الشرك وعليه قوله تعالى: { وألزمهم كلمة التقوى} ( الفتح: 26) ( والثانية) التجنب عن كل ما يؤثم من فعل أو ترك حتى الصغائر عند قوم، وهو المتعارف باسم التقوى في الشرع وهو المعنى بقوله تعالى: { ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا} ( الأعراف: 96) ( والثالثة) أن يتنزه عما يشغل سره عن الحق ويتبتل إليه بشراشره: وهو التقى الحقيقي المطلوب بقوله تعالى: { اتقوا الله حق تقاته} ( آل عمران: 12) .
ثم قال في قوله تعالى: { اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون} ( البقرة: 21) نبه به على أن التقوى منتهى درجات السالكين وهو التبري من كل شيء سوى الله تعالى اهـ فحمله على المقام الأكمل من مراتبها.
وفي كتاب «التقوى» لابن أبي الدنيا والحليلة وغيرهما أنه قيل لأبي الدرداء: إنه ليس أحد له بيت في الأنصار إلا وقد قال شعراً فقال: وأنا قد قلت فاسمعوه: يريد المرء أن يعطي مناه ويأبى الله إلا ما أرادا يقول المرء فائدتي ومالي وتقوى الله أولى ما استفادا وقلت في شرف التقوى: عليك بالتقوى لرب الورى فخير أمر المرء تقواه واله عن المال ففيه الأذى ولست والرحمن تقواه ( قال الله تعالى) : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} سبق الكلام فيها في باب الصدق ( قال تعالى) : { اتقوا الله حق تقاته} ( آل عمران: 12) بأن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر، أخرجه الحاكم مرفوعاً، وعن أنس: «لا يتقي الله العبد حق تقاته حتى يحزن من لسانه» .
( وقال تعالى) : { فاتقوا الله ما استطعتم} وهذه الآية المقيد فيها أمر التقوى بالاستطاعة ( مبنية للمراد من) الآية ( الأولى) الخالية من ذلك التقييد، وذلك بأن يقال المراد أن يطاع فلا يعصى بحسب الاستطاعة وكذا ما بعده.
وقال ابن الجوزي: قال ابن عقيل: ليست منسوخة، لأن قوله ما استطعتم بيان لحق تقاته وأنه بحسب الطاقة: فمن سمى بيان المراد نسخاً فقد أخطأ، وهذا في تحقيق الفقهاء تفسير مجمل وبيان مشكل، وذلك أن القوم ظنوا أن ذلك تكليف ما لا يطاق، فأزال الله إشكالهم وبين أني لم أرد بحق تقاته ما ليس في الطاقة اهـ.
وقيل: إنها منسوخة بهذه، قال السيوطي في «تفسيره» ، وفي الإكليل بعد أن ذكر تفسيرها بما سبق «فقالوا» يا رسول الله فمن يقوى على هذا؟ فنسخ بقوله: { فاتقوا الله ما استطعتم} اهـ.
قال بعض المحققين وينبغي أن لا نسخ إذ لا يصار إليه إلا بشروط لم توجد كما يعلم من محله.
وقال ابن الجوزي في «عمدة العالم الراسخ في المنسوخ والناسخ» : في الآية قولان: أحدهما: أنها منسوخة ثم نقل في ذلك آثاراً، وقال بعده: وإلى هذا ذهب الربيع بن أنس وابن زيد ومقاتلبن سلمان؛ ومن نصر هذا القول قال: حق تقاته هو القيام له بجميع ما يستحقه من طاعته واجتناب معصيته، قال: وهذا أمر يعجز الخلائق فكيف بالواحد؟ فوجب أن تكون منسوخة وأن يعلق الأمر بالاستطاعة.
والقول الثاني: أنها محكمة؛ ومن نصر هذا القول قال: حق تقاته هو اجتناب ما نهى عنه وامتثال ما أمر به، ولم ينه عن شيء ولا أمر به إلا وهو داخل تحت الطاقة؟ فقد فهم الأولون من الآية تكليف ما لا يطاق فحكموا بالنسخ، وقد رد عليهم قوله تعالى: { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} ( البقرة: 286) وأما قوله: { حق تقاته} فالحق بمعنى الحقيقة اهـ.
وفي «شرح الأربعين» لابن حجر الهيثمي: إنما يتم هذا: أي كون هذه الآية تفسيراً لتلك على تفسير حق تقاته بامتثال أمره واجتناب نهيه، أما على المشهور من تفسيره بأن يذكر فلا ينسى الخ فالأوجه النسخ، فإن هذه لما نزلت تحرجت الصحابة منها فقالوا أينا يطبق ذلك فنزلت تلك اهـ.
وبقولي «وذلك بأن يقال الخ» اندفع ما قاله من أن الأوجه النسخ، ونزولها عقب تحرجهم من تلك لا يستلزم النسخ فتأمل، ولذا جرى هو في مكان على موافقة المصنف وترجيح ما قاله من غير تقييد بما ذكر، وكأن وجهه أن يقيد ما في تفسيرها المشهور بحسب الطاقة.
( وقال تعالى) : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدا} صواباً ( { يصلح لكم أعمالكم} ) يتقبلها أو يوفقكم للأعمال الصالحة ( { ويغفر لكم ذنوبكم} ) ( الأحزاب: 7) بجعلها مكفرة باستقامتكم في القول والعمل ( والآيات في الأمر بالتقوى كثيرة معلومة.
وقال تعالى: { ومن يتق الله يجعل له مخرجا} )
من كرب الدنيا والآخرة ( { ويرزقه من حيث لا يحتسب} ) يخطر بباله.
في «تفسير البيضاوي» : يروي «أن سالمبن عوفبن مالك الأشجعي أسره العدو، فشكا أبوه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: اتق الله وأكثر قول لا حول ولا قوّة إلا با» ففعل، فبينا هو في بيته إذ قرع ابنه الباب ومعه مائة من الإبل غفل عنه العدوّ فاستاقها.
وفي رواية: إذ رجع ومعه غنيمات ومتاع.
قلت: روى الثعلبي الثاني وفيه «أنه جاء بأربعة آلاف شاة» .
والبيهقي في «الدلائل» الأول.
قال الحافظ ابن حجر في «تخريج أحاديث الكشاف» : وأخرج الحاكم عن جابر قال: «نزلت هذه الآية في رجل من أشجع كان فقيراً خفيف ذات اليد كثير العيال.
فأتى رسول اا فسأله، فقال له: اتق الله واصبر، فلم يلبث إلا يسيرا حتى جاء ابن عم له بغنم كان العدو أصابوه» فذكر نحو حديث عوف السابق مختصراً، وفي سنده من تكلم فيه اهـ.
g ( وقال الله تعالى: { إن تتقوا ا} ) بالأمانة وغيرها ( { يجعل لكم فرقانا} ) بينكم وبين ما تخافون فتنجون ( { ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم} ) ( الأنفال: 29) ذنوبكم ( والآيات في الباب كثيرة معلومة) وقد سبق جملة منها أول الباب.