فهرس الكتاب

دليل الفالحـــين - باب بر الوالدين وصلة الأرحام

رقم الحديث 312 ( وعن أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود) بن غافل الهذلي ( رضي الله عنه قال: سألت النبي أي العمل أحب إلى ا) أي أكثر تقرّباً إليه لكونه أفضل، وفي رواية مالك بن مغول «أيّ العمل أفضل» وكذا لأكثر الرواة، فإن كان هذا اللفظ هو المسؤول به فلفظ حديث الباب ملزوم عنه، وتقدم الجواب عن نحو هذا الحديث مما اختلفت فيه الأجوبة بأنه أفضل الأعمال بأنه ذلك باختلاف أحوال السائلين، بأن أعلم كلاماً هو إليه أحوج أو هو به أليق أو باختلاف الأوقات أو أنه على تقدير من التبعيضية ( قال: الصلاة على وقتها) وفي رواية لهما «لوقتها» قال القرطبي وغيره قوله لوقتها اللام للاستقبال مثل: { فطلقوهن لعدتهن} ( الطلاق: 1) أي مستقبلات عدتهن وقيل للابتداء كقوله: { أقم الصلاة لدلوك الشمس} ( الإسراء: 78) وقيل بمعنى في: أي في وقتها، وقوله على وقتها قيل على بمعنىاللام ففيه ما تقدم، وقيل لإرادة الاستعلاء على الوقت، وفائدته تحقق دخول الوقت ليقع الأداء فيه اهـ.
وفي الحديث دليل على أن الصلاة أفضل عبادات البدن بعد الشهادتين، ويشهد له الخبر الصحيح «الصلاة خير موضوع» أي خير عمل وضعه الله لعباده ليتقرّبوا به إليه ( قلت: ثم) هي لتراخي الرتبة: أي ثم بعد الصلاة ( أي) قال الحافظ: قيل الصواب أنه غير منون لأنه موقوف عليه في الكلام، والسائل منتظر الجواب، والتنوين لا يوقف عليه فتنوينه ووصله بما بعده خطأ، فيوقف عليه وقفه لطيفة ثم يؤتى بما بعده.
قال الفاكهاني: وحكى ابن الجوزي وابن الخشاب الجزم بتنوينه لأنه معرف غير مضاف، وتعقب بأنه مضاف تقديراً والمضاف إليه محذوف لفظاً، والتقدير: ثم أيّ العمل أحبّ، فيوقف عليه بلا تنوين اهـ.
( قال برّ الوالدين) قال ابن حجر: والظاهر أن المراد به إسداء الخير إليهما مما يلزمه، ويندب له مع إرضائهما بفعل ما يريدانه ما لم يكن إثماً، وليس ضده العقوق بل قد يكون بينهما واسطة كما يفيده حدّ العقول بأن يفعل بهما ما يؤذيهما به إيذاء لبس بالهين ( قلت: ثم أيّ؟ قال الجهاد في سبيل ا) لإعلاء كلمة الله ( متفق عليه) .


رقم الحديث 313 ( وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: لا يجزي) قال المصنف، بفتح أوله ولا همز في آخره: أي لا يكافىء ( ولد والداً) وإن علا ذكراً كان أو أنثى: أي لا يقوم بمكافأته فيما له عليه بالإحسان وقضاء الحاجات ( إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه) وأخذ أهل الظاهر من مفهوم هذا الخبر توقف عتق القريب إذا ملك على إنشاء المالك للعتق ولو أصلاً أو فرعاً.
وقال جماهير العلماء: يحصل العتق في الأصل والفرع مطلقاً بمجرد الملك سواء المسلم والكافر والقريب والبعيد والوارث وغيره.
واختلف فيما وراء عمود النسب.
فقال الشافعي وأصحابه: لا يعتق غيرهما بالملك.
وقال مالك: تعتق الإخوة.
وقال أبو حنيفة: يعتق ذوو الأرحام المحرّمة، وتأول الجمهور الحديث المذكورعلى أنه لما تسبب في شرائه المتسبب عليه بالعتق أسند إليه ( رواه مسلم) والبخاري في الأدب المفرد، وأبو داود والترمذي وقال صحيح وابن ماجه.


رقم الحديث 314 ( وعنه أيضاً رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من كان يؤمن با واليوم الآخر) أي إيماناً كاملاً ( فليكرم ضيفه) وتقدم ما في الحديث في الباب قبله ( ومن كان يؤمن با واليوم الآخر فليصل رحمه) وتقدم الحديث في الباب قبله.
قال القاضي عياض: لا خلاف أن صلة الرحم واجبة في الجملة وقطيعتها معصية كبيرة.
قال: والأحاديث في الباب تشهد بهذا، ولكن الصلة درجات بعضها أرفع من بعض، وأدناها ترك المهاجرة وصلتها بالكلام وبالسلام.
ويختلف ذلك باختلاف القدرة والحاجة: فمنها واجب ومنها مستحب، ولو وصل بعض الصلة ولم يصل غايتها لا يسمى قاطعاً، ولو قصر عما يقدر عليه وينبغي له لم يسم واصلاً، وسيأتي بيان الكلام في حد الحرم المأمور بصلتها ( ومن كان يؤمن با واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) بضم الميم، وأصمت بمعناه مضارعه يصمت بضم الميم، قاله المصنف.
واعترض بأن المسموع والقياس كسرها إذ قياس فعل مفتوح العين يفعل بكسرها ويفعل بضمها دخيل فيه كما نص عليه ابن جني، وإنما يتجه ذلك إن سبرت كتب اللغة فلم تر ما قاله وإلا فهو حجة في النقل، وهو لم يقل هذا قياساً حتى يعترض بما ذكر وإنما قاله نقلاً كما هو الظاهر من كلامه فوجب قبوله: أي ليسكت عما لم يظهر له فيه الخير كما تقدم بسطه في الباب قبله ( متفق عليه) .


رقم الحديث 315 ( وعنه قال: قال رسول الله: إن الله تعالى خلق الخلق) أي أوجدهمواخترعهم من كتم العدل بباهر قدرته ( حتى إذا فرغ منهم) أي كمل خلقهم لا أنه تعالى كان مشتغلاً بهم ثم فرغ من شغلهم، تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً، فليست أفعاله تعالى بمباشرة ولا مناولة ولا بآلة ولا محاولة، تعالى عما يتوهمه المتوهمون: { إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} ( يس: 82) ( قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة) قال القاضي عياض: الرحم التي توصل وتقطع وتبرّ إنما هي معنى من المعاني ليست بجسم إنما هي قرابة ونسب يجمعه رحم والدة ويتصل بعضه ببعض وسمي بذلك الاتصال رحماً، والمعاني لا يتأتى منها القيام ولا الكلام، فيكون ذكر قيامها هنا وتعلقها ضرب مثل وحسن استعارة على عادة العرب استعمال ذلك، والمراد تعظيم شأنها وفضيلة واصلها وعظيم اسم قاطعها بعقوقهم، ولذا سمي العقوق قطعاً، والعق الشق كأنه قطع ذلك السبب المتصل.
قال: ويجوز أن يكون المراد قيام ملك من الملائكة تعلق بالعرش وتكلم على لسانها بذلك بأمر الله تعالى اهـ.
قال القرطبي: فالحديث محمول إما على أن ملكاً تكلم بذلك، أو على أنه لو كانت الرحم ممن يعقل ويتكلم لقالت هذا الكلام، فيكون على وجه الفرض والتقدير.
قال المصنف: والعائذ المستعيذ، وهو المعتصم بالشيء الملتجىء إليه المستجير به ( قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك) قال العلماء: حقيقة الصلة العطف والرحمة، وصلة الله سبحانه عباده لطفه بهم ورحمته إياهم وعطفه بإحسانه ونعمه، أو صلتهم بأهل ملكوته الأعلى وشرح صدورهم لمعرفته وطاعته أو إرادته ذلك ( قالت) أي الرحم لو كانت متكلمة أو الملائكة المتكلمة بذلك ( بلى) أي رضيت به ( قال فذلك) بكسر الكاف فيه وفي ( لك) لأن المخاطب مؤنث ( ثم قال رسول الله: اقرءوا إن شئتم) أي ما يدل لذلك وجملة الشرط معترضة وجوابها محذوف لدلالة ما قبلها عليه ومفعول اقرؤوا قوله: ( { فهل عسيتم} ) أي فهل يتوقع منكم، ويجوز فتح السين وكسرها وبهما قرىء: ( { إن توليتم} ) أمور الناس وتأمرتم عليهم أو أعرضتم وتوليتم عن الإسلام ( { أن تفسدوا في الأرض} ) بأنواع العتو ( { وتقطعوا أرحامكم} ) تشاجراً على الولاية وتجاذباً لها، أو رجوعاً إلى ما كنتم عليه في الجاهلية من التغادر والماقتلة مع الأقارب.
والمعنى: أنهم لضعفهم في الدين وحرصهم على الدنيا أحق بأن يتوقع ذلك منهم من عرف حالهم ويقول لهم: هل عسيتم، وهذا على لغة الحجاز فإن بني تميم لا يحلقون الضمير به، وخبره أن تفسدوا، وإن توليتم اعتراض ( { أولئك} ) إشارة إلى المذكورين ( { الذي لعنهم ا} ) لإفسادهم وقطعهم أرحامهم ( { فأصمهم} ) عن سماع الحق ( { وأعمى أبصارهم} ) فلا يهتدون إلى سبيله.
وعلى القول الثاني: أي قوله أعرضتم وتوليتم عن الإسلام تكون الرحم المذكورة دين الإسلام والإيمان التي قد سماها الله تعالى إخوة بقوله: { إنما المؤمنون إخوة} ( الحجرات: 1) وقال الفراء: نزلت هذه الآية في بني هاشم وبني أمية.
قال القرطبي: وعليه فالرحم بمعنى القرابة قال المصنف: قال القاضي عياض: وقد اختلف في حدّ الرحم التي تجب صلتها ويحرم قطعها، فقيل هو كل رحم محرم بحيث لو كان أحدهما ذكراً والآخر أنثى حرمت مناكحتهما فعليه لا تدخل أولاد العم والخال.
واحتج هذا القائل بتحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح ونحوه وجواز ذلك في بنات الأعمام والأخوال، وقيل هو عام في كل ذي رحم من ذوي الأرحام في الميراث يستوي فيه المحرم وغيره، ويدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام: «ثم أدناك أدناك» اهـ.
قال المصنف والقول الثاني هو الصواب، ومما يدل عليه قوله في الحديث في أهل مصر «فإن لهم ذمة ورحما» وحديث «إن أبرّ البر أن يصل الرجل أهل ودّ أبيه» مع أنه لا محرمية والله أعلم.
قال القرطبي: ويخرج من هذا القول أن رحم الأم التي لا يتوارث بها لا تجب صلتهم ولا يحرم قطعهم.
والصواب ما ذكرناه من أنها قرابات الرجل من جهة طرفي أبائه وإن علوا وأبنائه وإن نزلوا، وما يتصل بالطرفين من الإخوة والأخوات والأعمام والعمات والأخوال والخالات، وما يتصل بهم من أولادهم برحم جامعة اهـ.
( متفق عليه) رواه البخاري في كتاب الأدب ومسلم في كتاب البرّ والصلة.
( وفي رواية للبخاري) هي في كتاب الأدب أيضاً عن أبي هريرة ( فقال الله تعالى: منوصلك وصلته ومن قطعك قطعته) فالفرق بين اللفظين أن الأوّل إخبار عما يبدو في عالم الشهادة للواصل والقاطع، والثاني إخبار عما في الأزل: أي قضيت أزلاً بوصل الواصل وقطع القاطع.


رقم الحديث 316 ( وعنه: جاء رجل) قيل: هو معاوية بن حيدة، وقد جاء في «سنن أبي داود» والترمذي عنه أنه قال: «يا رسول الله من أبرّ؟ قال: أمك» الحديث وفي آخره «ثم الأقرب فالأقرب» ( إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله من أحقّ الناس بحسن صحابتي) بفتح الصاد المهملة مصدر صحب ( قال أمك) وذلك لضعفها وحاجتها ( قال: ثم من؟) أي الأحق بعدها ( قال) تأكيداً للقيام بحق الأم ( أمك، قال: ثم من؟) الأحق بعدها ( قال) مبالغاً في تأكيد حق الأم ( أمك، قال: ثم من؟) الأحق بعدها ( قال أبوك.
متفق عليه)
.
( وفي رواية) لمسلم ( يا رسول الله: من أحقّ بحسن الصحبة؟ قال: أمك، ثم أمك، ثم أباك، ثم أدناك) ثم ( أدناك والصحابة) المذكورة في الرواية أولاً ( بمعنى الصحبة) المذكور في الرواية الثانية هي بضم الصاد ( وقوله ثم أباك هكذا هو) في الرواية الثانية ( منصوب بفعل محذوف) جوازاً ( أي ثم برّ أباك) وفيه عطف الجملة الطلبية على الجملة الخبرية، ويجوز تخريجه على أنه مرفوع بضمة على الألف على لغة القصر ( وفي رواية ثم أبوك وهو واضح) أي إنه معطوف على الخبر للمبتدأ المحذوف.


رقم الحديث 317 ( وعنه: عن النبي قال: رغم أنف) قال في «المصباح» : من باب قتل ومن باب تعب لغة، وهو كناية عن الذلّ كأنه لصق بالرغام وهو التراب هواناً اهـ.
وفي ذيل مثلث ابن مالك لتلميذه أبي الفتح اليعلي من المثلث الرغم مصدر رغم أنف فلان ( ثم) للتراخي في الدعاء ( رغم أنف ثم رغم أنف من) أي شخص مكلف ( أدرك أبويه) أي حياتهما ( عند الكبر) بكسر ففتح، قال في «المصباح» : كبر الصغير وغيره يكبر من باب علم كبراً بوزن عنب اهـ.
قال العاقولي: وفي رواية عنده الكبر بزيادة هاء، قال: ومعناه على حذفها أن يدرك هو والديه عند كبرهما وإن كانا غنيين عنه بمالهما وعن خدمته لهما بمالهما من خادم ومعناه على تلك الرواية: أن يدركهما الكبر وهما عنده وفي مؤنثه محتاجين إليه اهـ.
والتقييد به لأن الابتلاء بهما حينئذٍ أتمّ لمزيد حاجتهما لضعفهما، فكان القيام بحقهما حينئذٍ آكد كما قاما بحق الابن حين زيد حاجته وافتقاره، وإلا فوجدانهما ولو حال الشباب لهما مطلوب من الابن العناية بهما ومزيد برّهما، لكن التقييد بالكبر لمزيد التأكيد لكمال الحاجة، وقوله ( أحدهما أو كلاهما) بالرفع فيما وقفت عليه من النسخ وهو محتمل لكونه مبتدأ محذوف الخبر: أي أحدهما أو كلاهما سواء فيما ذكر أو فاعلاً لمحذوف: أي ليستوي أحدهما أو كلاهما في ذلك، وأعربه العاقولي فاعلاً للظرف لكونه حالاً ثم حبذا كونه خبر مبتدأ محذوف، و «كلاهما» معطوف عليه عليهما، قال: وهذه الجملة بيان لقوله: «من أدرك والديه» وقال القرطبي: الرواية الصحيحة بالنصب فيهما بدل من والديه منصوب بأدرك، قال: وقد وقع في بعض النسخ رفعهما وهو على الابتداء ويتكلف بإضمار خبر، والأوّل أولى، وفيه التعقيب به دفع لتوهم قصر المذمة على من قصّر في البر عند اجتماعهما دونه مع أحدها ( فلم يدخل الجنة) عطف على أدرك، والعطف بالفاء فيه إشعار بحصول الجنة بالفضل الإلهي للبارّ بأبويه أو أحدهما عقب مفارقة الحياة، وذلك بعرض مقامه عليه وتبشيره بما يؤول إليه ( رواه مسلم) في أواخر الكتاب والحديث عند أحمد أيضاً، ففي «الجامع الصغير» للسيوطي عزوه إليهما ولفظه «رغم أنفه ثم رغم أنفه ثم رغم أنفه: من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كلاهما ثم لم يدخل الجنة» وعزوه اللفظ المذكور فيه لمسلممراده باعتبار المعنى لا بخصوص المبنى، لأن الضمائر محذوفة من رواية مسلم، وعلى تلك الرواية فمن فاعل لفعل محذوف أو خبر مبتدأ محذوف، والجملة استئناف بيان لسؤال تقديره من هو، والإتيان بثم فيها إيماء إلى صعوبة المقام وإبطائه، فكأنه لذلك كالبعيد الحصول فعبر فيه بذلك.
قال العاقولي: معنى ثم فيه استبعاد لغفلته عن نيل مثل هذه السعادة العظيمة.


رقم الحديث 318 ( وعنه أن رجلاً) لم أقف على من سماه ( قال: يا رسول الله إن لي قرابة) أي ذوي قرابة أي رحم ونسب، ويقال فيها قربي كما في «المصباح» ( أصلهم ويقطعوني وأحسن إليهم) أي أسدي إليهم الإحسان ( ويسيئون إلي وأحلم) بضم اللام ( عنهم ويجهلون عليّ) ويجوز أن تكون الجمل المضارعية معطوفة على أقرانها وهو الأقرب، ويحتمل أن تكون في محل الحال على تقدير مبتدأ محذوف: أي وهم يقطعوني لأن الواو الحالية لا يجوز دخولها على الجملة المضارعة المثبتة الخالية من قد إلا ضرورة نحو قوله: علقتها عرضاً وأقتل قومها وبإضمار المبتدأ تخرج عن ذلك، وقد جعل منه صاحب التسهيل قوله تعالى: { الذين كفروا ويصدون عن سبيل ا} ( الحج: 25) أي وهم يصدون، وحكى الأصمعي: قمت وأصك عينه، أي وأنا أصكها ( فقال) يعني النبي ( لئن كنت كما قلت) من إسداء الجميل: أي وهم على ما ذكرت من مقابلته بضده ( فكأنما تسفهم الملل ولا يزال معك) متعلق بظهير وكذا قوله: ( من ا) ويصح كونه في محل الحال لكونه في الأصل وصفاً لظهير قدّم عليه، وقوله: ( ظهير) أي معين، وهو كما في «المصباح» يطلق على الواحد والجمع، وفي التنزيل: { والملائكة بعد ذلك ظهير} ( التحريم: 4) والمظاهرة المعاونة اهـ.
اسم يزال، وقوله: ( عليهم) خبر ويجوز أن يكون صفة، وقوله: معك أو من الله الخبر، وقوله: ( ما دمت علىذلك) أي مدة دوامك على ما ذكر، أو أنه لما كان الإحسان والحلم معطوفين على الصلة الشاملة لهما من عطف الخاص على العام أفرد اسم الإشارة.
وفي الحديث أن ما ذكر من الخصال سبب لإعانة صاحبها وتأييده وتوفيقه وتسديده، فإن المعنى فيه هو التأييد الإلهي واللطف الرباني ( رواه مسلم.
وتفسهم بضم التاء الفوقية وكسر السين المهملة وتشديد الفاء)
وفي «المصباح» : سف الدواء أكله غير ملتوت فأشار إلى أنه تناول الجامدات غير ملتوتات ( والملح بفتح الميم وتشديد اللام: وهو الرماد الحار) أي باعتبار المراد في الحديث وهذا معناه مطلقاً في أحد الأقوال؛ ففي «المصباح» : الملة، قيل الحفرة التي تحفر للخبز، وقيل: التراب الحار والرماد: أي الحار كما يؤذن به كلام المصنف هنا، ويحتمل إبقاؤه على إطلاقه ويجوز إرادة ذلك فإن تناول الرماد من المضرّ وإن لم يكن حاراً ( وهو تشبيه لما يلحقهم من الإثم) أي الذنب نفسه أو من جزئه، والثاني: أنسب بقوله: ( وهو العذاب بما يلحق آكل الرماد الحار من الألم) بجامع التألم والتوجع، وهو على الأّل من تشبيه معقول بمحسوس، وعلى الثاني من تشبيه محسوس بمحسوس ( ولا شيء) بالفتح أي من التبعات ( على هذا المحسن إليهم) في مقابلته لسيء أعمالهم بإحسانه وذكره من المصنف إطناب إذ لم يقع منه بذلك ما يقتضي اللوم بل زاد في الإحسان والاستدراك في قوله: ( ولكن ينالهم إثم عظيم) دلّ على عظم تمثيله بما ذكر ( وبتقصيرهم في حقه وإدخالهم الأذى) بالقصر: أي المكروه ( عليه) لدفع ما قد يتوهم من نفي الملامة عنهم بقرينة نفيها عنه وإن كان الفرق كفلق الصبح ( والله أعلم) وقال المصنف في «شرح مسلم» : وقيل معناه إنك بالإحسان إليهم تحزنهم وتحقرهم في أنفسهم لكثرة إحسانك وقبيح فعلهم، فهم من الخزي والحقارة عند أنفسهم كمن يسفّ المل، وقيل ذلك الذي يأكلونه من إحسانك كالمل يحرق أحشاءهم اهـ.
وقال العاقولي: أراد كأنما يجعل الرماد لهم في سفوف يسفونه، يعني إذا لم يشكروا فإن عطاءك إياهم حرام عليهم ونار في بطونهم اهـ.


رقم الحديث 319 ( وعن أنس) بن مالك ( رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من أحب) وفي رواية: «من يسره» ( أن يبسط) بالبناء للمفعول: أي يوسع.
في «المصباح» : بسط الله الرزق: كثره ووسعه، وقال المصنف: بسطه توسيعه وكثرته، وقيل بالبركة فيه ونائب الفاعل أحد الطرفين في قوله: ( له في رزقه) أي مرزوقه مصدر بمعنى المفعول، وهو ما به النفع للحيوان، والثاني أنسب، والظرف الآخر في محل الحال، وهذا الإعراب بعينه جار في قرينه من الجملة الثانية: أعني قوله: ( وينسأ) بهمزة آخره أي يؤخر ( له في أثره) بفتح الهمزة والمثلثة: أي أجله، وسمي الأجل أثراً لأنه يتبع العمر قال زهير: والمرء ما عاش ممدود له أمل لا ينتهي العمر حتى ينتهي الأثر وأصله من أثر مشيه في الأرض فإن من مات لا يبقى له حركة فلا يبقى لقدمه في الأرض أثر ( فليصل رحمه) قال ابن التين: ظاهر الحديث يعارض قوله تعالى: { فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} ( الأعراف: 34) والجمع بينهما إما بحمل الزيادة على أنها كناية عن البركة في العمر بسبب التوفيق إلى طاعة الله وعمارة وقته بما ينفعه، ويقربه من مولاه تعالى ويقوّيه ما جاء من: أنه تقاصر أعمار أمته بالنسبة لأعمار من مضى من الأمم فأعطى ليلة القدر.
وحاصله أن صلة الرحم سبب للتوفيق لمرضاة المولى وحفظ الأوقات عن الضياع في غير رضا فيبقى بعده الذكر الجميل، فكأنه لم يمت، أو يحمل الزيادة في الحديث على حقيقتها، وذلك بالنسبة للأجل المعلق المكتوب في اللوح المدفوع للملك، مثلاً كتب فيه: إن أطاع فلان فعمره كذا وإلا فعمره كذا، وا سبحانه وتعالى عالم بالواقع منهما والأجل المحتوم في الآية على ما في علم الله سبحانه الذي لا تغير فيه، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: { يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أمّ الكتاب} ( الرعد: 39) فالحديث فيه ما أشارت إليه أول الآية من الأجل المعلق، وقوله: { عنده أمّ الكتاب} أشار به إلى العلم الإلهي الذي لا تغير فيه البتة ويعبر عنه بالقضاء المبرم وعن الأول بالقضاء المعلق، والوجه الأوّل أليق بلفظ المذكور.
وقال الطيبي: الأوّل أظهر وإليه يشير كلام صاحبالفائق، قال: ويجوز أن يكون المعنى: أن الله يبقي أثر واصل الرحم في الدنيا طويلاً فلا يضمحلّ سريعاً كما يضمحل أثر قاطع الرحم، ومن هذه المادة قول إبراهيم عليه السلام: { واجعل لي لسان صدق في الآخرين} ( الشعراء: 84) وورد في تفسيره وجه ثالث أخرج الطبراني في «الصغير» بسند ضعيف عن أبي الدرداء قال: «ذكر عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن من وصل رحمه أنسأ له في أجله، فقال: إنه ليس زيادة في عمره قال الله تعالى: { إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} ( الأعراف: 34) ولكن الرجل تكون له الذرية الصالحة يدعون له من بعده» وأخرج في الكبير من حديث أبي مشجعة بشين معجمة ثم صالحة» الحديث.
وجزم به ابن فورك بأن المراد بزيادة العمر نفي الآفات عن صاحب البر في فهمه وعقله.
وقال غيره: في أعم من ذلك وفي وجود البركة في رزقه وعمله ونحو ذلك ( متفق عليه) ورواه أبو داود وابن ماجه كلاهما من حديث أنس أيضاً ورواه أحمد والبخاري من حديث أبي هريرة، كذا في «الجامع الصغير» ( ومعنى ينسأ له في أثره: أي يؤخر له في أجله وعمره) فقوله: يؤخر تفسير لقوله ينسأ، وقوله في أجله وعمره وتفسير لقوله أثره كما علم مما تقدم، وهل التأخير فيهما على حقيقته أو مجاز مراد منه لازمه من الإمداد ودوام الثناء بعده؟ كل محتمل والعبارة في الأول أظهر.


رقم الحديث 320 ( وعنه قال: كان أبو طلحة أكثر) بالمثلثة ( الأنصار بالمدينة مالاً) تمييز عن نسبة الأكثرية إليه ( من نخل) بيان للمال ( وكان أحب أمواله) يجوز الرفع والنصب ( إليه بيرحاءوكانت مستقبلة المسجد) بكسر الموحدة: أي مقابلته وراءه ( وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخلها) أي الحديقة المذكورة ( ويشرب من ماء فيها طيب) يجوز رفع طيب فاعل الظرف لاعتماده على الموصوف وجره صفة لماء ( فلما نزلت هذه الآية: لن تنالوا البرّ حتى تنفقوا مما تحبون قام أبو طلحة) وسار قاصداً ( إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إن الله تبارك وتعالى) عما لا يليق به، وجملة ( يقول) في محل الخبر ( لن تنالوا البرّ حتى تنفقوا مما تحبون وإن أحبّ أموالي إليّ بيرحاء) يحتمل أن يكون ذلك لعظم نماء أرضها وعظم ثمرها وكثرته وأن يكون لمعنى آخر ( وإنها) لكونها أحبّ إليّ ( صدقة تعالى أرجو برّها وأدخرها عند ا) الجملة الفعلية محتملة لكونها خبراً بعد خبر على حد قوله تعالى: { وهذا ذكر مبارك أنزلناه} ( الأنبياء: 5) على أحد الوجوه فيه ولكونها حالاً حذف عاملها وصاحبها: أي أتصدق بها حال كوني أرجو برّها ( فضعها يا رسول الله حيث أراك الله تعالى، فقال رسول الله: بخ) لتفخيم فعله والثناء عليه ( ذلك مال رابح ذلك مال رابح) بالموحدة وبالهمزة والتكرير للتأكيد لأن المقام يقتضي الإطناب ( وقد سمعت ما قلت، وإني أرى) من الرأي والاجتهاد، ففيه دليل لجواز الاجتهاد منه ووقوعه: ( أن تجعلها في الأقربين، فقال أبو طلحة: أفعل) أي أصرفه لهم متبعاً لرأيك ( يا رسولالله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه.
متفق عليه، وسبق بيان ألفاظه)
وبيان من خرج الحديث زيادة على من ذكره المصنف ( في باب الإنفاق مما يحب) بالمهملة والموحدة.


رقم الحديث 321 ( وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: أقبل رجل) قال الشيخ زكريا: هو جاهمة بن العباس بن مرداس، أو معاوية بن جاهمة.
وقال شيخه الحافظ في «الفتح» : يحتمل أن يكون جاهمة بن العباس، فقد روى النسائي وأحمد من طريق معاوية بن جاهمة: «أن جاهمة جاء إلى النبي فقال: يا رسول الله أردت الغزو وجئت لأستشيرك، فقال: هل لك من أمّ؟ قال: نعم، قال: الزمها» الحديث، ورواه البيهقي بنحوه اهـ.
فاقتصر على الأوّل وجعله احتمالاً، وقوله: ( إلى نبي الله) متعلق بأقبل ( فقال: أبايعك على الهجرة) أي مفارقة وطني وسكني المدينة.
قال القرطبي: وهذا كان في زمن وجوب الهجرة ( والجهاد) في سبيل الله ( أبتغي الأجر من الله تعالى) مستأنفة استئنافاً بيانياً لبيان سبب المبايعة الحامل عليها ( قال: فهل من والديك) خبر مقدم ( أحد حيّ) مبتدأ وجيء بأحد توطئة ليقوم به حتى ( قال: نعم، بل) انتقال دلّ عليه جوابه بنعم من حياة أحدهما إلى الإخبار بحياتهما معاً ( كليهما) كذا هو منصوب بتقدير وجدت كليهما، ويجوز كونه مرفوعاً مبتدأ محذوف الخبر: أي حيان وكتبت الألف بصورة الياء، وقد نبه المصنف في شرح مسلم على أن محل ذلك كله إذا لم يحضر الصف ويتعين للقتال ( قال: فتبتغي الأجر من الله تعالى؟) الهمزة والمعطوف عليه مقدران قبل الفاء العاطفة: أي أتفعل ذلك فتبتغي الأجر من الله تعالى: ( قال: نعم، قال: فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما) أسقط الشارع عنه وجوب الهجرة تقديماً لحق أبويه، فإن الهجرة إن كانت واجبة عليه فقد عارضها ما هو أوجب منها وهو حق الوالدين، وإن لم تكن واجبة فالواجب أولى، لكن هذا إنما يصح ممن يسلم له دينه في موضعهما، أما لو خاف على دينه وجب عليه الفرار به وترك آبائه وأبنائه كما فعل المهاجرون الذين هم صفوة الله من العباد.
وفي الحديث تقديم البرّ للوالدين على الجهاد ( متفق عليه، وهذا لفظ مسلم) .
( وفي رواية لهما) وهي كذلك عند البخاري في الجهاد، وعند مسلم في الأدب، ورواها أبو داود والترمذي والنسائي في الجهاد، وقال الترمذي: حسنصحيح والبزار، كذا من «الأطراف» للمزي ملخصاً ( جاء رجل) كذا في النسخة بحذف الظرف: أي إلى النبي وهو ثابت في الصحيحين، والظاهر أنه اختصار من المصنف لدلالة ما قبله عليه أو في الكتاب ( فاستأذنه في الجهاد فقال: أحيّ والداك) الوصف فيه مبتدأ لاعتماده على الاستفهام ووالداك فاعله سد مسد خبره ( قال: نعم) أي هما حيان ( قال: ففيهما فجاهد) وقوله: ففيهما متعلق بالأمر قدم للاختصاص، والفاء الأولى جزاء لشرط محذوف، والثانية جزائية لتضمن الكلام معنى الشرط: أي إذا كان الأمر كما قلت فاخصص المجاهدة بخدمة الوالدين نحو: { فإياي فاعبدون} ( العنكبوت: 56) فحذف الشرط وعوض عنه الظرف المفيد للاختصاص، قاله العاقولي.
وقال ابن رسلان: المراد بالجهاد فيهما جهاد النفس في وصول البرّ إليهما بالتلطف بهما وحسن الصحبة والطاعة وغير ذلك، وتقدم أن الجهاد الأكبر جهاد النفس الأمارة بالسوء اهـ.
قال المصنف: هذا كله دليل لعظم فضيلة برّهما، وأنه آكد من الجهاد، وفيه حجة لما قال العلماء من أنه لا يجوز الجهاد إلا بإذنهما إذا كانا مسلمين أو بإذن المسلم منهما، فلو كانا مشركين لم يشترط إذنهما عند الشافعي ومن وافقه، وهذا كله حيث لم يحضر الصفّ ويتعين للقتال فحينئذٍ يجوز بغير إذن اهـ.