فهرس الكتاب

دليل الفالحـــين - باب تعظيم حرمات المسلمين وبيان حقوقهم والشفقة عليهم ورحمتهم

رقم الحديث 225 ( وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قبل النبي) سبطه وريحانته ( الحسن بن علي رضي الله عنهما) وجملة ( وعنده الأقرع بن حابس) في محل الحال من فاعل قبل، واسم الأقرع فراس ولقب بذلك لقرع كان في رأسه وهو تميمي كان شريفاً في الجاهلية والإسلام، شهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتح مكة وحنيناً وحصار الطائف.
قال في «فتح الباري» : وهو من المؤلفة وممن حسن إسلامه ( فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد) بفتحتين أو بضم فسكون ( ما قبلت أحداً منهم) وذلك لما في أهل البادية من الغلظ والجفاء كما في الحديث «من بدا فقد جفا» ( فنظر إليه رسول الله) متعجباً من تلك الغلظة الناشىء عنها عدم الشفقة على الأولاد الناشىء عنها عدم تقبيلهم وحملهم وشمهم ( فقال) عقب نظره إليه ( من لا يرحم) بالبناء للفاعل وحذف المفعول للتعميم/ أو كنى به عن الفعل مع مفعوله: أي من لا يرحم الناس، ويقرب من هذا المعنى رواية جابر: «من لا يرحم الناس لا يرحمه ا» قاله الشيخ أكمل الدين في «شرح المشارق» ، لكن الحديث سيأتي عن جرير، ولعل قوله عن جابر من الكاتب أو من باب تنزيل المتعدى منزلة اللازم، ونحو: فلان يعطي ويمنع، أي موصوف بتينك الصفتين: أي من لا رحمة عنده ( لا يرحم) بالبناء للمفعول: أي لا يرحمهالله.
قال في «فتح الباري» : هو بالرفع فيهما على الخبر.
قال عياض: هو الأكثر وقال أبو البقاء «من» موصولة ويجوز أن تكون شرطية فيقرأ مجزوماً.
قال السهيلي: جعله على الخبر أشبه بسياق الكلام: أي الذي فعل هذا الفعل لا يرحم، ولو كانت شرطية لكان في الكلام بعض انقطاع لأن الشرط وجوابه كلام مستأنف.
قلت: وهو أولى من وجه آخر لأنه يصير كضرب المثل، ورجح بعضهم كونها موصولة لكون الشرط إذا أعقبه نفي ينفى بلم لا بلا، كقوله: «ومن لم يؤمن» وإن كان الآخر جائزاً كقول زهير: «ومن لا يظلم الناس يظلم» وهذا لا يقتضي ترجيحاً إذا كان المقام لائقاً بكونها شرطية، وأجاز بعض شراح المشارق رفع الجزءين وجزمهما ورفع الأول وجزم الثاني أو عكسه، ويحصل منه أربعة أوجه استبعد ثالثها، ووجه أن يكون في الثاني بمعنى النهي: أي من لا يرحم الناس لا ترحموه، وتقدير الرابع: من لا يكون من أهل الرحمة فإنه لا يرحم اهـ.
ملخصاً من «الفتح» .
وشارح المشارق المشار إليه هو الشيخ أكمل الدين، وعبارته: روي بالسكون والرفع، أما السكون فيهما فعلى الشرط والجزاء، وأما الرفع في الأول فيجعل من موصولة وكذا في الثاني، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف: أي فهو لا يرحم اهـ.
وفاته ذكر الوجه الثالث، ومعنى هاتين الجملتين قال ابن أبي جمرة: يحتمل أن يكون من لا يرحم غيره بأيّ نوع من أنواع الإحسان لا يحصل له هذا الثواب كما قال تعالى: { هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} ( الرحمن: 60) ويحتمل أن يكون المراد من لا تكون فيه رحمة الإيمان في الدنيا لا يرحم في الآخرة، أو من لا يرحم نفسه بامتثال أوامر الله واجتناب نواهيه لا يرحمه الله لأنه ليس عنده عهد، فتكون الرحمة الأولى بمعنى الأعمال، والثانيةبمعنى الجزاء، أي لا يثاب إلا من عمل صالحاً، ويحتمل أن تكون الأولى الصدقة الثانية البلاء: أي لا يسلم من البلاء إلا من تصدق، ومن لا يرحم الرحمة التي ليس فيها شائبة أذى لا يرحم مطلقاً، أو لا ينظر الله بعين الرحمة إلا إلى من جعل في قلبه الرحمة ولو كان عمله صالحاً اهـ.
ملخصاً.
قال: وينبغي للمرء أن يتفقد نفسه في هذه الأوجه كلها، فما قصر فيه لجأ إلى الله تعالى في الإعانة عليه اهـ.
وفي جواب النبي للأقرع إشارة إلى أن تقبيل الولد وغيره من الأهل والمحارم والأجانب إنما يكون للشفقة والرحمة، لا للشهوة واللذة، وكذا الضم والمعانقة والشم ( متفق عليه) .
قال في «الجامع الصغير» : ورواه أحمد وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة، ورواه الشيخان عن جرير.
وروى أحمد والشيخان والترمذي عن جرير «من لا يرحم الناس لا يرحمه ا» ورواه بهذا اللفظ أحمد والترمذي من حديث أبي سعيد، ورواه الطبراني بلفظ «من لا يرحم من في الأرض لا يرحمه من في السماء» عن جرير، ورواه أحمد بلفظ: «من لا يَرحم لا يُرحم/ ومن لا يَغفر لا يُغفر له» عن جرير، ورواه بهذا اللفظ الطبراني عن جرير وزاد «من لا يتب لا يتب عليه» اهـ.


رقم الحديث 226 ( وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قدم) بكسر الدال المهملة ( ناس) اسم جنس قيل أصله أناس بضم الهمزة فحذفت حذفها في لوقه وعوض عنها حرف التعريف ولذلك لا يجمع بينهما، وهو اسم جمع كرجال إذ لم يثبت فعال في أبنية الجمع.
وتقدم عن البيضاوي في التفسير أنه مأخوذ من أنس كفرح لأنهم يأنسون بأمثالهم، أو أنس كضرب لأنهم ظاهرون مبصرون ولذا سموا بشراَ كما سمي الجن جناً لاجتنانهم اهـ.
وقيل قلب من نسي، وقيل بل أصله ناس ينوس إذا اضطرب.
وكأن تعويض أل عن الهمزة ليس على وجه اللزوم فلذا قالته الفصيحة بالتنكير وأل فيه إذا عرف للجنس.
وهؤلاء الناس يحتمل أن يكونوا من بني تميم الذين رئيسهم الأقرع فيكون الحديث وما قبله في قصة واحدة، ويحتمل أنهما قصتان ( من الأعراب) هم سكان البوادي، وفي نسخة من العرب وهم ولد إسماعيل ( على رسول الله) وفي رواية البخاري «جاء أعرابي إلى رسول الله» وهذا الرجل قال شيخ الإسلام زكريا نقلاً عن الحافظ: يحتمل كونه الأقرع.
قلت: وحكى المصنف في مبهماته عن الخطيب قولاً: إنه عيينة بن حصن، قال: وقد جاءفي «الصحيحين» التصريح بأنه الأقرع فإن صح عن عيينة أيضاً فهما قصتان اهـ ( فقالوا) وقد رأوا المسلمين يقبلون صغارهم ( أتقبلون صبيانكم) بكسر الصاد وضمها جمع صبي ويجمع على صبية كما في ( الصحاح) ، وفي رواية البخاري السابقة «تقبلون» بتقدير ألف الاستفهام ( فقالوا) أي المسلمون وفي نسخة «فقال أي النبي ( نعم قالوا) أي الأعراب أو العرب ( لكنا) استدراك من قولهم نعم من حيث أن الجنس واحد وأنهم بشر فربما يتوهم أنهم كذلك، فقالوا ( لكنا وا ما تقبل) من حذف المفعول للتعميم، أي صغارنا أو من تنزيل التعدي منزلة اللازم نحو { هل يستوي الذين يعملون} ( الزمر: 9) ( فقال رسول الله: أو أملك) بالهمزة للاستفهام الإنكاري، وهو بفتح الواو العاطفة على مقدر بعد الهمزة على رأي الزمخشري.
وقيل: إن الهمزة من جملة المعطوف وإن الواو مؤخرة من تقديم لصدارة الهمزة، والتقدير على الأول: تنزع الرحمة من قلبك وأملك؟: أي أقدر أن أجعلها في قلبك، فمفعول أملك محذوف، وقوله: ( أن نزع الله من قلوبكم الرحمة) بفتح الهمزة تقليل لذلك: أي لا أملك وضعها في قلوبكم لأن الله نزعها منكم.
وأشار صاحب المفاتيح إلى كون أن بفتح الهمزة ومدخولها مفعول أملك على تقدير مضاف: أو أملك عدم نزع الله منكم الرحمة: أي لأن ما نزعه الله تعالى لا يقدر أحد على وضعه.
قال العاقولي: ويجوز كسر الهمزة على أنّ إن أداة شرط جزاؤها محذوف لدلالة الكلام السابق عليه: أي إن نزع الله الرحمة من قلبكم فلا أملك لم دفعه ومنعه ( متفق عليه) وهذا لفظ مسلم.
وهذا الحديث اقتصر المزي على عزوه للبخاري فقط، مع أنه بهذا اللفظ لمسلم في كتاب فضائل الأنبياء وأما البخاري فرواه في كتاب الأدب بنحوه.


رقم الحديث 227 ( وعن جرير بن عبد الله) البجلي ( رضي الله عنهما قال: قال رسول الله: من لا يرحم الناس) خصوا بالذكر اهتماماً بهم، وإلا فالرحمة مطلوبة لسائر المخلوقات حتى الدوابّ والبهائم.
ففي كل كبد حرّاً رطبة أجر ( لا يرحمه ا) قال العاقولي: الرحمة بمعنىالتعطف والرقة، فهي من الخلق بالمعنى ومن الله بالمعنى الغائي وهو الرضى عنه وإيصال النعم إليه.
قال الدماميني في مصابيح الجامع الصحيح: اعلم أنه يجوز عند المتكلمين في تأويل ما لا يسوغ نسبته إلى الله تعالى على حقيقته اللغوية وجهان: أحدهما الحمل على الإرادة فيكون من صفات الذات.
والآخر الحمل الحمل على فعل الإكرام فيكون من صفات الأفعال كالرحمة فإنها في اللغة مشتقة من الرحم وحاصلها رقة طبيعية وميل جبلي وهذا مستحيل في حق الباري فمنهم من يحملها على إرادة الخير ومنهم من يحملها على فعله ثم بعد ذلك يتعين أحد التأويلين في بعض السياقات لمانع يمنع الآخر كحديث «خلق الله الرحمة يوم خلقها» فيتعين تأويل الرحمة بفعل الخير لتكون صفة فعل فتكون حادثة عند الأشعري فيتسلط عليها الخلق، ولا يصح تأويلها فيه بالإرادة لأنها إذ ذاك من صفات الذات فتكون قديمة فيمتنع تعلق الخلق بها، ويتعين تأويلها بالإرادة في قوله تعالى: { لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم} ( هود: 43) لأنك لو حملتها على الفعل لكان العصمة بعينها فيكون استثناء الشيء من نفسه، وكأنك قلت: لا عاصم إلا العاصم فتكون الرحمة الإرادة، والعصمة على بابها لفعل المنع من المكروهات، كأنه قال: لا يمنع المحذور إلا من أراد له السلامة، فتأمل اهـ.
( متفق عليه) اقتصر المزي في «الأطراف» على عزوه بهذا اللفظ عن جرير إلى مسلم والترمذي قال: قال الترمذي: حسن صحيح، وتقدم تخريجه من الصحيحين وغيرهما في الكلام على حديث أبي هريرة نقلاً عن «الجامع الصغير» .


رقم الحديث 228 ( وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا صلى أحدكم) إماماً ( للناس) وفي رواية مسلم «إذا أمّ أحدكم» ( فليحفف) بأن يقتصر على أواسط المفصل وصغاره، وفي التسبيح في الركوع والسجود على ثلاث مرات، ويأتي بكمال التشهد والصلاةعلى النبي، وهذا في إمام العامة، أما إمام قوم محصورين لم يتعلق بعينهم حق، راضين بالتطويل في مسجد لا يطرقهم غيرهم فلا بأس به ومحل ذلك أيضاً في غير ما لم يرد فيه قراءة سورة معينة وإلا كـ { آلم تنزيل} ( البقرة: 1) { وهل أتى} ( الإنسان: 1) في صبح الجمعة، { وق} { واقتربت} في العيد، ونحو ذلك فيأتي به وإن لم يرض القوم اكتفاء بوروده من فعله.
قال ابن دقيق العيد: التخفيف والتطويل من الأمور الإضافية، فقد يكون الشيء خفيفاً بالنسبة إلى عادة قوم، ذويلاً بالنسبة إلى عادة قوم آخرين.
وقول الفقهاء: لا يزيد الإمام على ثلاث تسبيحات في الركوع والسجود لا يخالف ما ورد عن النبي أنه كان يزيد على ذلك، لأن رغبة الصحابة في الخير تقتضي أن لا يكون ذلك تطويلاً.
قال الحافظ ابن حجر: وأولى ما أخذ حد التخفيف من الحديث الذي أخرجه أبو داود والنسائي عن عثمان بن أبي العاص: «أن النبي قال له: أنت إمام قومك، وأقدر القوم بأضعفهم» إسناده حسن وأصله في مسلم ( فإن فيهم الضعيف) أي في خلقته كالنحيف ( والسقيم) من به مرض ( والكبير) أي في السن والجملة تعليل للأمر المذكور، وقضيته أنه متى لم يكن فيهم متصف بصفة من المذكورات لم يضرّ التطويل، لكن قال ابن سيد الناس اليعمري: الأحكام إنما تناط بالغالب لا بالصورة النادرة، فينبغي للأئمة التخفيف مطلقاً، قال: وهذا كما شرع القصر في صلاة السفر، وعلل بالمشقة وهي مع ذلك تشرع «وإن لم يشق عملاً بالغالب لأنه لا يدري ما يطرأ عليه وكذلك هنا ( وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء) ومسلم «فليصل كيف شاء» أي مخففاً أو مطولاً ( متفق عليه) ورواه أبو داود والترمذي إلى قوله: «والكبير» وفي «الجامع الصغير» من حديث أبي واقد «كان أخفّ الناس صلاة على الناس، وأطول الناس صلاة لنفسه» رواه أحمد ( وفي رواية) أي في «الصحيحين» وهي عند أبي داود أيضاً ( وذا الحاجة) أي صاحب حاجة يريد قضاءها عقب الصلاة.


رقم الحديث 229 ( وعن عائشة رضي الله عنها قالت: إن) مخففة من الثقيلة أي إنه ( كان رسول الله) من كمال شفقته على أمته ( ليدع) أي يترك ( العمل) واللام هي الفارقة بين المخففة وإن النافية، وجملة ( وهو يحب أن يعمل به) في محل الحال ومحبته للعمل لما فيه من التقرّب إلى الله عزّ وجلّ والتوسل إلى زيادة مراضيه، وقوله: ( خشية) مفعول: أي خوف ( أن يعمل به الناس) اتباعاً له إذا فعله وهم مقتدون به في سائر الأحوال ( فيفرض عليهم) ومن ذلك ترك الخروج إلى قوم لصلاة الليل جماعة في الليلة الثالثة أو الرابعة من رمضان حتى طلع الفجر، فخرج عليهم وقال: «ما منعني إلا خشية أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها» ( متفق عليه) .


رقم الحديث 230 ( وعنها) أي عائشة ( قالت: نهاهم) أي الصحابة ( النبي عن الوصال) وهو أن لا يتناول مفطراً بين الصومين، وقيل استدامة أحوال الصائم، فعلى الثاني يخرج من الوصال بالجماع والتقيؤ دون الأول، والنهي فيه عندنا للتحريم ( رحمة لهم) علة للنهي ولا يمنع من كونه على وجه التحريم ويكون سبب التحريم الشفقة عليهم لئلا يتكلفوا ما يشق عليهم ( فقالوا: إنك تواصل) أي وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، تفعل ذلك تقرّباً إلىالله، فنحن لكوننا لسنا معصومين أولى بفعل ما يكتسب به غفر الذنوب والتوصل إلى مرضاة الله تعالى ( قال) مبيناً لاختصاص قربة الوصال به ( إني لست كهيئتكم) أي على صفتكم ومنزلتكم من الله: أي إن له من القرب من الله تعالى وعلوّ المنزلة عنده ما ليس لهم وفي رواية للبخاري «وأيكم مثلي» وهذا الاستفهام يفيد التوبيخ المشعر بالاستبعاد ( إنى يطعمني) بضم أوله ( ربي ويسقيني) يجوز فتح أوله وضمه من سقى وأسقى إلا أن تصح رواية بأحدهما فيرجع إليها ( متفق عليه) أخرجه مسلم في كتاب الصوم وكذا البخاري فيه «وفي غيره ورواه مالك والنسائي ( معناه) أي المعنى المراد من قوله يطعمني إلخ ( يجعل فيّ) بتشديد الياء ( قوة من أكل وشرب) كذا قاله الجمهور فهو مجاز من ذكر الملزوم وإرادة اللازم: أي يجعل فيّ القوة المذكورة ويفيض على ما يسد مسد الطعام والشراب، والقوّة على أنواع الطاعات من غير ضعف في القوة ولا كلال في الإحساس.
وقيل المعنى على المجاز أيضاً أنه يجعل فيه من الشبع والري ما يغني عن الطعام والشراب فلا يحس بجوع ولا عطش.
والفرق بين القولين أنه على الأول يعطي القوة من غير شبع ولا ري، وعلى الثاني يعطي القوة مع ذلك، ورجح الأول بأن الثاني ينافي حال الصائم ويفوّت المقصود من الصيام والوصال لأن الجوع روح هذه العبادة بخصوصها.
قال القرطبي: ويبعده أيضاً النظر إلى حاله فإنه كان يجوع أكثر مما كان يشبع ويربط على بطنه الحجارة من الجوع.
وجنح ابن القيم إلى أن المراد أنه يشغله بالتفكر في عظمته والتحلي بمشاهدته والتغذي بمعارفه وقرّة العين بمحبته والاستغراق في مناجاته والإقبال عليه عن الطعام والشراب/ قال: وقد يكون هذا الغذاء أعظم من غذاء الأجساد، ومن له أدنى ذوق وتجربة يعلم استغناء الجسم بغذاء القلب والروح عن كثير من الغذاء الجسماني اهـ.
وقيل إن المراد منه حقيقته فإنه كان يؤتى بطعام وشراب من الجنة كرامة له، وذلك لا يفطره لأن المفطر طعام الدنيا، أما طعام الجنة: أي المأتي على وجه المعجزة فلا، وبه يردّ ردّ المصنف بقوله: لو كان حقيقة لم يكن مواصلاً.
قال ابن المنيرّ: هو محمول على أن أكله في تلك الحالة كحال النائم الذي يحصل الشبع والريّ ويستمرّ له حتى يستيقظ فلا يبطل به صومه ولا ينقطع وصاله ولا ينقص أجره.
قال الحافظ: وحاصله أن يحمل ذلك على حالة استغراقه في أحواله الشريفة حتى لا يؤثر فيه حينئذٍ شيء من الأحوال البشرية اهـ.
وقيل إنه كان يؤتى به في النوم فيستيقظ وهو يجد الشبع والري.


رقم الحديث 231 ( وعن أبي قتادة الحارث بن ربعي) الأنصاري ( رضي الله عنه قال: قالرسول الله: إني لأقوم إلى الصلاة وأريد أن أطول فيها) جملة حالية من فاعل أقوم أو معطوفة على جملة لأقوم، وإرادته التطويل فيها لما يناله من قرة عينه بمناجاته ربه ولذيد أنسه به كما قال: «وجعلت قرّة عيني في الصلاة» هذا هو الأصح، وإن احتمل أن المراد ما قاله ابن فورك: من أن تلك الصلاة هي قوله: { إن الله وملائكته يصلون على النبيّ} ( الأحزاب: 56) ذكره الشنواني في حاشية شرح خطبة «مختصر خليل» للقاني ( فأسمع بكاء الطفل) قال في «الصحاح» : الطفل هو المولود، قال البدر الدماميني في «تحفة الغريب على مغني اللبيب» وقد كنت وقفت على فصل لبعض اللغويين ذكر فيه صفات الإنسان التي يختص بإطلاقها عليه بحسب الأزمنة المختلفة فقلت ناظماً لها: أصخ لصفات الآدمي وضبطها لتلتقط دراً تقتنيه بديعا جنين إذا ما كان في بطن أمه ومن بعد يدعى بالصبي رضيعا وإن فطموه فالغلام لسبعة كذا يافع للعشر قله مطيعا إلى خمس عشر بالجزوّر سمه لتحسن فيما تنتحيه صنيعا فمد إلى خمس وعشرين حجة بذاك دعاه الفاضلون جميعا ومن بعد يدعي بالعطيطل لأنها ثلاثين فاحفظ لا تعد مضيعا صل لحد الأربعين وبعده بكهل إلى الخمسين فادع سميعا وشيخاً إلى حد الثمانين فادعه بها ثم هما للممات سريعا قال الحافظ ابن حجر في أواخر كتاب الهبة من «الفتح» : يطلق على الشخص قبل البلوغ أنه طفل وغلام، وتخصيص بعض اللغويين بما ذكر أغلبي ( فأتجوز) أي أخفف ( في صلاتي) بين مسلم في رواية له عن أنس محل التخفيف منها ولفظه «فيقرأ بالسورة القصيرة» وبين ابن أبي شيبة من حديث عبد الرحمن بن سابط مقدارها ولفظه «أنه قرأ في الركعة الأولى سورة طويلة، فسمع بكاء صبيّ فقرأ في الثانية بثلاث آيات» وهذا مرسل ( كراهية) بتخفيف الياء مصدر كره وهو مفعول له أي لكراهة ( أن أشق على أمه) بدوامهافي الصلاة لتطويلها مع بكاء ابنها، وذكر الأم خرج مخرج الغالب، وإلا فمن في معناها ملحق بها، والتخفيف السابق في حديث أبي هريرة لحقّ المأمومين، وفي هذا لمصلحة غير المأمومين لكن بحيث يتعلق بمن يرجع إليه، وفي الحديث شفقته على الصحابة ومراعاة أحوال الكبير منهم والصغير ( رواه البخاري) في كتاب الصلاة، وكذا رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه.


رقم الحديث 232 ( وعن) أبي عبد الله ( جندب) بضم الجيم والمهملة وبفتحها ( ابن عبد ا) ابن صفيان البجلي العلقي ( رضي الله عنه) وعلقة: بفتح المهملة واللام بطن من بجيلة، له صحبة ليست بالقديمة.
وقال في «المشكاة» ، جندب القسري، بفتح أوليه، قال: وفي بعض نسخ المصابيح القشيري قال شارحها وهو غلط، قال ابن الأثير: والذي ذكره الكلبي أن جندب الخير هو جندب بن عبد الله بن الأحزم الأزدي الغامدي اهـ.
روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة وأربعون حديثاً، أخرج له منها في «الصحيحين» اثني عشر حديثاً اتفقا على سبعة منها، والباقي لمسلم ( قال: قال رسول الله: من صلى صلاة الصبح) أي جماعة كما في رواية أخرى لمسلم فتقيد بها هذه الرواية المعلقة ( فهو في ذمة ا) أي أمانه وعهده وكأنها خصت بذلك لأنها أول النهار الذي هو وقت ابتداء انتشار الناس في حوائجهم المحتاجين فيه وفي دوامه إلى أمن بعضهم من بعض لا لأفضليتها.
قيل وهذا أوضح مما قاله الطيبي من أنها خصت بالذكر لما فيها من الكلفة والمشقة، فكان أداؤها مظنة خلوص الرجل ومئنة إيمانه، ومن كان مؤمناً فهو في ذمة الله وعهده، وذلك لأن ما قاله الطيبي يجري في العصر، فكان ذكر ذلك فيها أولى لوجود هذا المعنى فيها مع كونها أفضل وفي العشاء بل المشقة فيها أكثر، فلم يبق ما يميز الصبح عن غيرها من الخمس إلا ما ذكرناه ( فلا يطلبنكم الله بشيء من ذمته) أيالله.
قال الطيبي: ويجوز أن يعود إلى من، وقيل يحتمل أن المراد بالذمة الصلاة المقتضية للأمان فيكون المعنى لا تتركوا صلاة الصبح فينتقض به العهد الذي بينكم وبين ربكم فيطلبكم به ( فإنه) أي الشأن ( من يطلبه) أي الله ( من ذمته) أي من عهده، بأن خفره فيه وتعرض لمن هو فيه ولو ( بشيء) يسير ( يدركه) إذ لا مهرب منه ( ثم) بعد إدراكه ( يكبه) بفتح حرف المضارعة وهو أحدالأفعال التي ثلاثيها متعدّ وإذا زيدت فيه الهمزة صار قاصراً: أي يلقيه ( على وجهه في نار جهنم) قال الطيبي: قوله فلا يطلبنكم من باب لا أرينك هاهنا، وقع النهي عن مطالبة الله إياهم عن نقض العهد، والمراد نهيهم عن التعرض لما يوجب مطالبة الله إياهم، وفيه مبالغات لأن الأصل لا تخفروا ذمته فجيء بالنهي كما ترى وصرح بلفظ «ا» ووضع المنهي، الذي هو مسبب موضع التعرض الذي هو سبب فيه، ثم أعاد الطلب وكرر الذمة ورتب عليه الوعيد.
والمعنى: من صلى صلاة الصبح فهو في ذمة الله فلا تتعرضوا له بشيء يسير، فإنكم إن تعرضتم له يدرككم الله ولن تفوتوه فيحيط بكم من جوانبكم كما يحيط المحيط بالمحاط فيكبكم في نار جهنم.
قال ابن حجر الهيتمي في «شرح المشكاة» : وفيه غاية التحذير من التعرّض بسوء لمن صلى الصبح المستلزمة لصلاة بقية الخمس وأن في التعرض له بسوء غاية الإهانة والعذاب.
اهـ.
ونقل الشعراني في كتاب الحوض المورود أن الحجاج كان مع شدة فجوره إذا أتى له بأحد يسأله هل صليت الصبح؟ فإن قال نعم ترك التعرّض له بسوء خوفاً من هذالوجه ( رواه مسلم) في كتاب الصلاة، ورواه الترمذي من حديث أبي هريرة ولفظه: «من صلى الصبح فهو في ذمةالله، فلا يتبعنكم الله بشيء من ذمته» وسيأتي فيه بسط في باب التحذير من إيذاء الصالحين.


رقم الحديث 233 ( وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: المسلم أخو المسلم) قال تعالى: { إنما المؤمنون إخوة} ( الحجرات: 1) قال البيضاوي: أي من حيث إنهم منسوبون إلى أصل وهو الإيمان الموجب للحياة الأبدية اهـ.
ورتب على هذه الأخوة المقتضية لمزيد الشفقة والتناصر والتعاون قوله ( لا يظلمه) بأن ينقصه من ماله أو من حقه بغصب أو نحوه، ولا يسلمه إلى عدوّ متعد عليه عدواناً، بل ينصره ويدفع الظلم عنه ويدفعه عن الظلم كما سيأتي في حديث «انصر أخاك ظالماً» ( ولا يسلمه) إلى عدوه ومنه نفسه التي هي أمارة بالسوء والشيطان كما قال تعالى: { إن الشيطان لكم عدوّ فاتخذوه عدوّاً} ( فاطر: 6) فيحول بينهوبين دواعي النفس من الشهوات والدعة المقتضية للنزول عن مقام الأخيار والحلول في جملة الأشرار، وبينه وبين الشيطان الذي يأمر بالسوء والفحشاء، وبينه وبين العدو الباغي عليهم عليه بالظلم والاعتداء ( من كان في حاجة أخيه) أي ما يحتاج إليه حالاً أو مآلاً ( كان الله في حاجته) جزاء وفاقاً - { هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} ( الرحمن: 6) روى الطبراني مرفوعاً «أفضل الأعمال إدخال السرور على المؤمن، كسوت عورته، أو أشبعت جوعته، أو قضيت له حاجته» وورد مرفوعاً أيضاً «من سعى في حاجة أخيه المسلم قضيت له أو لم تقض غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وكتب له براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق» وأوردهما في «الفتح المبين شرح الأربعين» ( ومن فرج) بتشديد الراء ( عن مسلم كربة) بضم الكاف: الهم الذي يأخذ النفس ( فرج الله عنه بها) أي بتلك المرة من التفريج ( كربة من كرب) بضم ففتح جمع كربة كقربة وقرب ( يوم القيامة) ثم آثر التفريج على رديفه من وسع الوارد في رواية أخرى، لأنه أعظم من التنفيس لأنه إزالتها بالكلية، والتنفيس إنما فيه إرخاء وتهوين ( ومن ستر مسلماً) من ذوي الهيئات ونحوهم ممن لم يعرف بأذى أو فساد بأن علم منه معصية فيما مضى فلم يخبر بها حاكماً وهذا للندب، إذ لو لم يستره.
ورفعه لحاكم لم يأثم إجماعاً، بل ارتكب خلاف الأولى أو مكروهاً، أما كشفها لغير الحاكم كالتحدث بها فذلك غيبة شديدة الإثم والوزر، ويندب لمن جاءه تائب وأقرّ بجد ولم يفسره أن لا يستفسره بل يأمره بستر نفسه كما أمر ما عزا، وكذا تندب الشفاعة فيمن ظهرت منه جريمة من ذوي الهيئات حتى لا يوصل إليه، ففي الحديث «أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم» رواه أبو داود والنسائي، ومنه أخذ أصحابنا أن لا تعزيز لذوي الهيئة على هفوة أو زلة صدرت منه أو المراد بستر المسلم ستر المسلم ستر عورته الحسية والمعنوية بإعانته على ستر دينه، كأن يكون محتاجاً لنكاح فيتوصل له في التزوّج أو الكسب فيتوصل له إلى بضاعة يتجر فيها أو نحو ذلك ( ستره الله يوم القيامة) بالمعنيين بأن لا يعاقبه على ما فرط منه لأنه تعالى حييّ كريم، وستر العورة من الحياء والكرم، ففيه تخلق بخلقالله، وا يحبّ المتخلق بأخلاقه، وخرج بنحو ذوي الهيئات من عرف بالأذى والفساد فيندب، بل قد يجب أن لا يستر عليه بل أن يظهر حاله للناس حتى يتوقوه أو يرفعه لوليّ الأمر حتى قيم عليهواجبه من حدّ أو تعزير ما لم يخش مفسدة، لأن الستر عليه يطعمه في مزيد الأذى والفساد، وبقولنا فيما مضى ما لو رآه متلبساً بالمعصية فيلزمه المبادرة بمنعه منها بنفسه إن قدر وإلا فيرفعه للحاكم كما مرّ ما لم يترتب عليه مفسدة، والكلام في غير نحو الرواة والشهود والأمناء على نحو صدقة أو وقف أو يتيم فيجب بالإجماع جرحهم على من يعلم قادحاً فيهم/ وليس هذا من الغيبة المحرّمة بل من النصيحة الواجبة ( متفق عليه) .
وسبب فضل ما ذكر في الخبر أن الخلق عيالالله، وتنفيس الكرب وستر العورة إحسان إليهم، والعادة أن السيد المالك يحبّ الإحسان لعياله وحاشيته، وفي الأثر «الخلق عيالالله، وأحبهم إلى الله أرفقهم لعياله» .