فهرس الكتاب

دليل الفالحـــين - باب الصبر

رقم الحديث 35 ( وعن عطاء) بالمهملتين المفتوحتين والمد ( ابن أبي رباح) بالراء المفتوحة وبالموحدة وبالمهملة.
وفي «الكاشف» للذهبي: عطاءبن أبي رباح هو أبو محمد القرشي مولاهم المكي أحد الأعلام، روى عن عائشة وأبي هريرة، وعنه الأوزاعي وابن جريج وأبو حنيفة والليث، خرّج عنه الستة أي وغيرهم، عاش ثمانين سنة ومات سنة مائة وأربع عشرة، وقيل: خمس عشرة اهـ.
وسأذكر زيادة على هذا في الكلام على ترجمته في «رجال الشمائل» أعانني الله على إتمامه ( قال) عطاء ( قال لي) اللام لام التبليغ ( ابن عباس رضي الله عنهما: ألا) بفتح الهمزة وتخفيف اللام أداة عرض بدىء بها ليتوجه السامع لما بعدها ( أريك امرأة) من الإراءة البصرية ولذا تعدت لمفعول فقط ( من أهل الجنة) في محل الصفة لامرأة ( فقلت بلى، قال: هذه المرأة السوداء) اسمها: سعيرة بضم المهملة الأولى وفتح الثانية وسكون التحتية الأسدية، وكنيتها: أم زفر بضم الزاي وفتح الفاء والراء آخره ( أتت النبي فقالت) مخبرة عما نزل بها من غير تبرم ولا تضجر، لأن البرّ يهدي إلى البرّ، طالبة منه الدعاء برفع دائها ( إني أصرع) بضم الهمزة من الصرع: علة معروفة ( وإني أتكشف) من التفعل.
وفي نسخة من الانفعال: أي ينكشف بعض بدني من الصرع ( فادع الله لي) أي: بردع الصرع الناشىء عنه التكشف ( قال إن شئت صبرت) بكسر تاء الخطاب فيهما وصبرت مفعول شاء: أي الصبر على هذا الدعاء محتسبة ( ولك الجنة) .
وفي نسخة: «الأجر» ، جملة حالية أفادت فضل الصبر وجواب الشرط محذوف: أي فاصبري،ويجوز أن تكون صبرت جواب الشرط ومفعول شاء محذوف: أي إن شئت جزيل الأجر صبرت، ومثل هذا الإعراب يجري في قوله: ( وإن شئت دعوت الله تعالى أن يعافيك، فقالت) مختارة للبلاء والصبر عليه لجزيل الثواب المرتب عليه ( أصبر) أي على الصرع لأنه يرجع إلى النفس، ولما كان التكشف راجعاً لحق الله تعالى: إذ هي مأمورة بستر جميع البدن لكونه عورة ( قالت: إني أتكشف فادع الله لي أن لا أتكشف، فدعا لها) فهي من أهل الجنة بوعد الصادق المصدوق ( متفق عليه) .
قيل: أحاديث الباب تشعر أن نفس المصائب لا ثواب فيها إنما الثواب على الصبر عليها والاحتساب، وقد بسطت الكلام على ذلك في باب أذكار المريض من «شرح الأذكار» .


رقم الحديث 36 ( وعن أبي عبد الرحمن) كنية ( عبد ابن مسعود رضي الله عنه) ابن غافل بمعجمة وفاء ابن حبيب الهذلي.
وكان ابن مسعود حالف في الجاهلية عبد الحارثبن زهرية.
أسلم عبد الله قديماً بمكة سادس ستة لما مر به وهو يرعى غنماً لعقبةبن أبي معيط فأراه معجزة فأسلم، ثم هاجر إلى الحبشة ثم إلى المدينة، وشهد بدراً وبيعة الرضوان والمشاهد كلها؛ وصلى للقبلتين، وكان يكرمه ويدنيه ولا يحجبه، وكان مشهوراً بين الصحابة بأنه صاحب سرّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسواكه ونعليه وطهوره في السفر، وبشره بالجنة وقال: «رضيت لأمتي ما رضي لها ابن أم عبد، وسخطت لها ما سخط لها ابن أم عبد» وكان يشبه برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هديه وسمته، ولي قضاء الكوفة ومالها في خلافة عمر وصدراً من خلافة عثمان، ثم رجع إلى المدينة، ومات بها، وقيل: بالكوفة سنة اثنتين وثلاثين عن بضع وستين سنة، وصلى عليه الزبير ليلاً ودفنه بالبقيع بإيصائه له بذلك لكونه كان قد آخى بينهما.
روي له ثمانمائة حديث وثمانية وأربعون حديثاً، أخرجا منها أربعة وستين، وانفرد البخاري بأحد وعشرين، ومسلم بخمسة وثلاثين ( قال: كأني أنظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـيحكي نبياً من الأنبياء) جملة حالية أتى بها بصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية، وبقوله: كأني أنظر إلخ.
إشارة لكمال استحضاره لها.
قال مجاهد: وذلك النبيّ المحكيّ هو نوع عليه السلام، لكن تعقبه الحافظ في «الفتح» بأن ظاهر صنيع البخاري إذ أورد الحديث في أحاديث ترجمة ذكر بني إسرائيل أن النبيّ من أنبيائهم فيحمل عليه ( صلوات الله وسلامه عليهم) وقوله: ( ضربه قومه فأدموه) بيان للمحكيّ، ويحتمل على بعد كونه بياناً للحكاية فتكون الحكاية للفعل: أي أتى بفعل مثل فعل ذلك النبي المحكي فعله، والمحكي به ما وقع له بأحد من شج رأسه وكسر رباعيته ( وهو) أي: ذلك النبيّ المحكيّ عنه، أو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( يمسح الدم عن وجهه ويقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) وفي هذه الجملة أنواع من الصبر والحكم: الأول: أنه مسح دمه لئلا يصيب الأرض فيحل بهم البلاء.
الثاني: أنه قابل جهلهم بفضله فدعا لهم بغفران ذنب تلك الجريمة منهم إن كان الدعاء من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا مطلقاً وإلا لآمنوا عن آخرهم إذهو مجاب الدعوة.
الثالث: أنه اعتذر عن سوء فعلهم بعدم علمهم.
ولا تنافي بين الدعاء بما ذكر إن كان من نوح، قوله: { لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً} ( نوح: 26) لإمكان حمل ما في حديث الباب على ما قبل إياسه من إيمانهم وما في الآية على ما بعده ( متفق عليه) وينبغي للسالك التحلي بما فيه كما روي أن جندياً ضرب بعض العارفين وهو لا يعرفه/ فقيل إنه فلان، فعاد إليه معتذراً، فقال: إبي أبرأت ذمتك ودعوت لك لما ضربتني، قال: وكيف ذاك؟ قال: لأنك كنت سبباً لدخولي الجنة فلا أكون سبباً لعذابك، فأكب على الشيخ وتاب.


رقم الحديث 37 ( وعن أبي سعيد) الخدري سعدبن مالكبن سنان ( وأبي هريرة) الدوسي عبد الرحمنبن صخر ( رضي الله عنهما) حال كونهما راويين ( عن النبي قال:) بيانللمرويّ ( ما يصيب) بضم أوله ( المسلم) حقيقة، وخص لأن الثواب الأخروي خاص به وهو مفعول الفعل ( من نصب) بفتحتين: التعب، ومن صلة، ونصب فاعله ( ولا وصب) بفتحتين: وجع دائم، خاص بعد عام، لما في الوجع كذلك من الشدة المؤدية إلى التضجر والسخر بالقضاء المحبط للثواب أو الإسلام والعياذ با، أو تأكيد بعطف مترادفات أو قريبة من الترادف اهتماماً بهذا المقام الخطير، ليكون العلم بعظم الثواب مانعاً من الوقوع في ورطة خطر الضجر ( ولا همّ ولا حزن) فرق بينهما بأن الأول للمستقبل والثاني للماضي، وقيل غير ذلك مما بينته في باب «أذكار المساء والصباح من شرح الأذكار» .
قال وكيع: لم يسمع في الهمّ أنه كفارة إلا في هذا الحديث ( ولا أذى) هو كل ما لا يلائم النفس فهو أعمّ الكل ( ولا غمّ) هو أبلغ من الحزن لأنه حزن يشتد بمن قام به حتى يصير بحيث يغمى عليه ( حتى) ابتدائية أو عاطفة أو بمعنى إلى الغائية بيان وتقريب لأدنى مراتب الأذى ( الشوكة) بالرفع أو الجر ( يشاكها) خبر أو حال، والضمير البارز هو المفعول الثاني على تقدير الجار، والنصب كذلك سماعي وهذا منه، أو على تضمين فعل متعد لاثنين: أي يذاقها، والأول مضمر نائب الفاعل يعود على المسلم من أشكته أدخلت في جسده شوكة ( إلا كفر ا) استثناء من أعم الأحوال المقدرة: أي ما حصل لإنسان في حال المصيبة حال من الأحوال إلا الحالة التي يكفر الله ( بها) أي: بسببها ( من خطاياه) ابتدائية أو تبعيضية.
قيل: وهو أولى لأن بعض الذنوب لا تكفر بذلك كحق الآدمي والكبائر ( متفق عليه) وأخرجه الترمذي.
وفيه أن الأمراض وغيرها من المؤذيات التي تصيب المؤمن مطهرة له من الذنوب، وأنه ينبغي للإنسان ألا يجمع على نفسه بين ضررين عظيمين: الأذى الحاصل وتفويت ثوابه، وقد ورد مرفوعاً «المصاب من حرم الثواب» ( والوصب: المرض) أي: الدائم كما تقدم أو الشديد الكثير الأوجاع.
قال في «الصحاح» : قد وصب الرجل يوصب فهو وصب وأوصبه الله فهو موصب.
والوصب: المرض الشديد الكثير الأوجاع اهـ.


رقم الحديث 38 ( وعن) عبد الله ( ابن مسعود رضي الله عنه قال: دخلت على النبي) عائداً، وهو يوعك ( بالبناء للمجهول) من الوعك، وسيأتي تفسيره في الأصل ( فقلت: يا رسول الله إنك توعك) بالفوقية مبني للمفعول ( وعكاً شديداً) يحتمل أنه عرف ذلك من لمس بعض أعضائه أو من ظهور الآثار عليه ( قال أجل) بفتحتين وثانيه جيم وآخره لام ساكنة وتبدل الهمزة وموحدة فيقال بجل.
في «الصحاح» : أجل جواب مثل نعم.
قال الأخفش إلا أنه أحسن من نعم في التصديق، ونعم أحسن منه الاستفهام اهـ.
( إني) بيان للإجمال في قوله أجل ( أوعك) بالبناء للمجهول ( كما يوعك رجلان منكم) فالكاف مفعول مطلق، واحترز بقوله منكم عن نحو الأنبياء، فإنه يحتمل أنه وإن وعك أشد من وعكهم، زيادة في علوّ درجته المقتضية لمزيد الابتلاء الشاهد به «أشدكم بلاء الأنبياء» الحديث إلا أنه لا يكون وعكه كوعك اثنين منهم اهـ.
والله أعلم ( قلت: ذلك) أي زيادة الوعك ( أن لك) بفتح الهمزة أي لأن لك ( أجرين/ قال أجل ذلك) أي تضاعف الأجر ( كذلك) أي كتضاعف المرض، ثم ذكر الدليل على ترتب الثواب على أنواع البلاء عند حصول الصبر فقال ( ما من مسلم) من مزيدة للاستغراق فيدخل فيه الكامل وغيره ( يصيبه) بضم أوله ( أذى) أي: ما يتأذى به ( شوكة) بدل من أذى وذكرها لأنها أخف أنواعه، ولما كان ما فوقها تعجز العبارة عن تفصيل جميعه أجمله بقوله: ( فما فوقها إلا كفّر الله به سيئاته) أي الصغائر المتعلقة بحقوق الله تعالى ( كما تحط الشجرة ورقها.
متفق عليه)
وكذا رواه أحمد كما قال الحافظ، وكذا رواه النسائي.
وأخرج ابن سعد في «الطبقات» ، والبخاري في «الأدب المفرد» ، وابن ماجه والحاكم وصححه، والبيهقي في «الشعب» عن أبي سعيد قال: «دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو محموم، فوضعت يدي فوق القطيفة، فوجدت حرارة الحمّى فوق القطيفة، فقلت: «ما أشد حمّاك يا رسول الله» قال: «إنا كذلك معشر الأنبياء يضاعف علينا الوجع فيضاعف الأجر» الحديث.
ذكره صاحب «المرقاة في شرح المشكاة» ( والوعك) بإسكان المهملة ( مغث الحمى) أي حرارتها ووهنها للبدن وإضعافها إياه.
وفي «مختصر النهاية»للسيوطي: أنه ألم الحمى ( وقيل الحمى) وهذا الحديث يشهد للقول المختار من حصول الأجر على الأمراض والأعراض: أي بشرط الصبر وعدم التبرم من القدر والسخط منه، وقد بسطت هذا المقام في «شرح الأذكار» .


رقم الحديث 39 ( وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: من يرد الله به خيراً) حالاً ومآلاً ( يصب منه) إما في بدنه أو ماله أو محبوبه.
وفي الحديث: «المؤمن لا يخلو من علة أو قلة أو ذلة» وإنما كان خيراً حالاً لما فيه من اللجإ إلى المولى، ومآلاً لما فيه من تكفير السيئات أو كتب الحسنات أو هما جميعاً ( رواه البخاري) في صحيحه ورواه الإمام أحمد ( وضبطوا) أي شراح الحديث الصحيح ( يصب) المذكور في الحديث ( بفتح الصاد) أي المهملة على البناء للمفعول ولم يذكر الفاعل للعلم به وأنه الله سبحانه ( وكسرها) على البناء للفاعل.


رقم الحديث 40 ( وعن أنس) بن مالك رضي الله عنه ( قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يتمنينّ) بتشديد النون ( أحدكم) أي الواحد منكم ( الموت) وفي التعبير بيتمنى دون يسأل إيماء إلى أنه قد يكون من المستحيل لعدم مجيء حينه، فحصوله حينئذٍ محال وإن كان بأنواع السؤال.
فسوابق الهمم لا تخرق أسوار الأقدار، والمنهي عنه على وجه التنزيه تمني الموت ( لضرّ) بفتح الضاء المعجمة وتضم، وضبط هنا بذلك ضد النفع ( أصابه) في نفسه أو ماله أو من يلوذ به أو نحوه، لما يدل عليه من الجزع في البلاء وعدم الرضا بالقضاء، أما تمنيه شوقاًللقاء ربّ العالمين أو شهادة في سبيل الله أو ليدفن ببلد شريف أو لخوف فتنة في الدين فلا كراهية فيه، وعليه يحمل ما جاء عن كثيرين ( فإن كان) من أصابه الضرّ ( لا بد) أي لا فرق ولا محالة كما في «القاموس» ( فاعلاً) لتمني الموت لما قاساه من المحن الدنيوية التي لو كشف له عن حقائق اللطف فيها لرآها من «المنح الإلهية» ، ولو لم يكن فيها إلا رجوع العبد إلى مولاه، وخروجه عن حوله وقواه لكفاه، فكيف وهي سبب لتكفير الخطايا ورفع الدرجات ( فليقل: اللهم) يا أ، فالميم عوض من حرف النداء؛ ولذا امتنع جمعهما إلا في ضرورة كقوله: أقول يا اللهم يا اللهما وقد بسطت الكلام فيما يتعلق بها في باب ما يقول إذا توجه إلى المسجد من «شرح الأذكار» ( أحينى) بقطع الهمزة: أي أدم لي الحياة الحسية ( ما كانت الحياة) المسؤولة بقوله أحيني، وما مصدرية ظرفية أي مدة كون الحياة ( خيراً لي) بأن أوفق لمراضاة الله تعالى وأداء عبادته وأسلم من الخذلان والغفلة والنسيان ( وتوفني) أي أمتني ( إذا كانت الوفاة خيراً لي) بأن أنعكس الأمر ( متفق عليه) وأخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حيان في «صحيحه» من طرق، وزاد في بعضها: «لضرّ نزل به في الدنيا» واختلف الصوفية في الأفضل: من طلب الحياة لما ورد من حديث: «طوبى لمن طال عمره وحسن عمله» ولرجاء التوبة وحسن العمل وحصول الأمل أو يطلب الموت نظراً إلى الشوق إلى الله وحصول لقياه، وقد ورد «من أحبّ لقاء الله أحبّ الله لقاءه» وخوفاً من التغير ولقاء المحن والوقوع في الفتن.
والمختار التفويض والتسليم كما دل عليه الحديث الشريف.


رقم الحديث 41 ( وعن أبي عبد ا) كنية ( خباب) بفتح المعجمة وتشديد الموحدة الأولى، وقيل: كنيته أبو محمد، وقيل أبو يحيى ( ابن الأرتّ) بفتح الهمزة والراء وتشديد الفوقية آخره، ابن جندلةبن سعدبن خزيمةبن كعببن زيد مناةبن تميم، فهو ( رضي الله عنه) تميميّ في قول الأكثر، وقيل: خزاعي، وقال بعضهم: إنه تميمي النسب خزاعي الولاء زهري الحلفلأن مولاته أم أنمار بنت سباع الخزاعية من حلفاء عوفبن عبد ابن عوفبن عبد الحارثبن زهرة.
وهو من السابقين إلى الإسلام كان سادس ستة فيه، وعذّب في الله تعالى.
قال مجاهد: أول من أظهر إسلامه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وخباب وصهيب وبلال وعمار وأم عمار، فأما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمنعه الله بعمه أبي طالب، وأما أبو بكر فمنعه قومه، وأما الآخرون: فألبسوهم أدرع الحديد ثم أصبروهم في الشمس فبلغ منهم الجهد ما شاء الله من حرّ الحديد والشمس.
قال الشعبي: سأل عمربن الخطاب خباباً عما لقي من المشركين؟ فقال: يا أمير المؤمنين انظر إلى ظهري.
فقال: ما رأيت كاليوم ظهر رجل.
قال خباب: لقد أوقدت نار وسجيت عليها فما أطفأها إلا ودك ظهري.
شهد بدراً والمشاهد كلها، ولما هاجر آخى بينه وبين تميم مولى حراشبن الصمة، وقيل: آخى بينه وبين جبربن عتيك.
مرض خباب مرضاً شديداً.
روى عن قيسبن أبي حازم قال: دخلنا على خباب وقد اكتوى سبع كيات فقال: لو ما أن رسول الله نهانا أن ندعو بالموت لدعوت به.
ونزل الكوفة ومات بها، وهو أول من دفن بظهر الكوفة من الصحابة، وكان موته سنة سبع وثلاثين.
وقال علي رضي الله عنه لما نعى له «رحم الله خباباً، أسلم راغباً، وهاجر طائعاً، وعاش مجاهداً وابتلي في جسمه، ولم يضيع الله أجر من أحسن عملاً» وكان سنه حين موته ثلاثاً وسبعين سنة.
روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اثنان وثلاثون حديثاً اتفقا على ثلاثة منها، وانفرد البخاري باثنين ومسلم بواحد، وخرّج عنه أصحاب السنن ( قال: شكونا إلى رسول الله) أي ما بنا من أذى الكفار وعذابهم بدليل قوله في الرواية الثانية «وقد لقينا من المشركين شدة» ( وهو متوسد بردة له) أي: جاعلها تحت رأسه.
والبرد بضم الموحدة: الشملة المخططة، وقيل كساء أسود مربع فيه صور، والبردة واحد البرد وجمعه أبراد وأبرد وبرود كما في «القاموس» ، والجملة حالية من رسول الله / وكذا قوله: ( في ظل الكعبة) ، ويصح أن تكون الثانية حالاً من الضمير في متوسد فتكون متداخلة ( فقلنا) بيان لشكواهم إليه ( ألا) بفتح الهمزة وتخفيف اللام أداة استفتاح أو عرض ( تستنصر) أي تسأل الله النصر ( لنا؟ ألا تدعو لنا) أي: بذلك أو نحوه من كفهم عنا ومنعهم من أذانا ( فقال) محرّضاً لهم على الصبر ( قد كان من) بفتح الميم: أي الذين ( قبلكم) من الأمم ( يؤخذ الرجل) أي المؤمن منهم فالجملة خبر والرابط محذوف: أيكان الذين قبلكم يؤخذ الرجل الذي آمن منهم ليعذب فيرجع عن إيمانه فما يرجع ( فيحفر له في الأرض) بالبناء للمفعول والظرف نائب الفاعل وحذف الفاعل لعدم تعلق الغرض بعينه ويحتمل أنه مبني للفاعل: أي يحفر الآخذ، والظرف الثاني حال أو صلة يحفر ( فيجعل فيها ثم يؤتى بالمنشار) روى بالنون من نشرت الخشبة قال الحافظ في «الفتح» وهي أشهر في الاستعمال وبالهمزة من أشرت الخشبة بالمنشار، وبإبدالها ياء إما تخفيفاً أو من وشرت، ذكره ابن التين ( فيوضع) أي المئشار ( على رأسه) فيؤشر ( فيجعل) أي يصير ( نصفين ويمشط) أي يعذب ( بأمشاط) جمع مشط، معروف ( الحديد) أي يعذب بها ( ما دون لحمه وعظمه) زيادة في تعذيبه ليرجع عن إيمانه.
وفي نسخة من «البخاري» «ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب» و ( ما يصده) أي: يمنعه أو يصرفه ( ذلك) المذكور من أنواع العذاب.
واستعمل فيه اسم الإشارة الموضوع للبعيد مع قربه، لأن الملفوظ به لكونه عرضاً لا يلقى زمانين كالبعيد، فأشار إليه بما يشار به للبعيد ( عن دينه) والثبات عليه، وفيه مدح الصبر على العذاب على الدين، وعدم إقرار عين الكافر باللفظ بكلمة الكفر وإن كانت جائزة حينئذٍ للإكراه كما تقدم ( وا) فيه الحلف من غير استحلاف، وهو مندوب لتأكيد ما يحتاج لتأكيده ( ليتمن) بفتح التحتية ( هذا الأمر) بالرفع فاعل يتم، وفي نسخة بضم التحتية ونصب الأمر على أنه مفعول يتم: أي ليتمنّ اهذا الأمر: أي دين الإسلام ( حتى يسير) بالنصب لأنه مستقبل بالنسبة لما قبل زمن التكلم به ( الراكب) التقييد به جرى على الغالب من أن المسافر يكون راكباً فلا مفهوم له، والمراد الجنس فيشمل ما فوق الواحد، أو يفهم ما فوقه من باب أولى لأنه إذا أمن الواحد مع انفراده فالعدد الأولى ( من صنعاء) بالمد: مدينة عظيمة باليمن، وقيل إنها مدينة بالشام ( إلى حضرموت) مدينة بقرب اليمن؛ وهو مركب مزجيّ غير مصروف لذلك وللعلمية ( لا يخاف) أحداً ( إلا ا) جملة حالية من فاعل يسير، والمعنى أن الإسلام يعم النواحي فيسير المسافر لا يخشى أحداً يعذبه على إيمانه ولا يفتنه في دينه فلا يخاف إلا الله سبحانه ( و) لا يخاف إلا من الأسباب العادية على أموره والدنيوية فيخاف ( الذئب) بكسر المعجمة بعدها تحتية بهمزة على الأصل وقد لا تهمز: سبع معروف أن يعدو ( على غنمه) والسارق أن يغير على ماله ونعمه ( و) تمام هذا الأمر: أي الإسلام وظهوره على سائر الأديان كائنالبتة ( لكنكم تستعجلون) أي: تطلبون العجلة في الأمور ولكل شيء في علم الله أوان وإذا جاء الأوان يجيء.
وقد وقع ما أخبر به المصطفى كما أخبر، فعم الإسلام وظهر وصار الراكب لا يخشى من يفتنه ويصده عن دينه: إنما يخشى بوائق الحدثان وبا المستعان، فهو من جملة علامات نبوّته، ولا يخالف هذا الحديث ما نقله ابن الأثير في «أسد الغابة» عن أبي صالح قال: «كان خباب قيناً يصنع السيوف؛ وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يألفه ويأتيه/ فأخبرت ملاوته بذلك فكانت تأخذ الحديدة الممحاة فتضعها على رأسه، فشكا ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: اللهمّ انصر خباباً؛ فاشتكت مولاته أم أنمار رأسها، فكانت تعوي مثل الكلاب، فقيل لها اكتوي، فكان خباب يأخذ الحديدة المحماة فيكوي بها رأسها» اهـ.
لتعدد الوقعات، واختلاف الأقوال لاختلاف الأحوال، والله أعلم.
( رواه البخاري) في علامات النبوّة وفيما يأتي وفي كتاب الإكراه، ورواه أبو داود والنسائي.
( وفي رواية) أي: للبخاري في باب ما لقي النبيّ وأصحابه من المشركين بمكة ( وهو متوسد بردة) وفي نسخة «ببرد» أتى بها مع أنها في الرواية السابقة ليبين بها محل قوله: ( وقد لقينا) أي معشر ضعفاء المسلمين ( من المشركين شدة) أي: عظيمة كما يؤذن به التنوين، فكانوا يلقون بلالاً على قفاه في وقت الظهيرة ويجعلون على صدره الصخرة العظيمة، وكانوا يلقون خباباً على ظهره على النار وجعلوا سمية أم عمار بين جملين وأدخلوا في قلبها رمحاً فماتت رضي الله عنهم أجمعين، ثم هذه الشدائد التي حلت بأولئك الأماجد لكمال استعدادهم زيادة في علو درجاتهم ورفع شأنهم، وفي الحديث الشريف: «أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل» وعلى قدر المقام يكون الابتلاء.
وقد كانت قلوبهم راضية وأنفسهم بذلك مطمئنة، حتى لقد رد بعضهم جوار أقاربه للكفار، ورضي أن يعذب في الله ويبتلى فيه مع الأخيار، وشكواهم ليست عن تطجر ولا تبرم، وإنما هي لأنهم رأوا أن في السلام من ذلكتفرغاً للعبادة، وتوجهاً إلى كمال السعادة، فأرشدهم المصطفى إلى أن غاية الأدب الصبر على مراد الله والرضا بقضاءالله.. لا ينعم المرء بمحبوبه حتى يرى الراحة فيما قضى

رقم الحديث 42 ( وعن) عبد الله ( بن مسعود) الهذلي وهو المراد إذا أطلق ابن مسعود ( رضي الله عنه قال: لما كان يوم حنين) أي: زمن غزوتها: وهي واد بين مكة والطائف وراء عرفات، بينه وبين مكة بضعة عشر ميلاً وهو معروف، وكانت وقعة حنين في شوال سنة ثمان من الهجرة عقب فتح مكة ( آثر) بالمد أي: أعطى ( رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناساً) من المؤلفة ومن الطلقاء ومن رؤساء العرب يتألفهم ( في القسمة) لغنائم هوازن ( فأعطى الأقرع) بالقاف الساكنة بعدها مهملتان، لقب به لقرع كان في رأسه ( ابن حابس) بالمهملة أوله وآخره وبعد الألف موحدة، وهو من سادات تميم، كان شريفاً في الجاهلية والإسلام ( مائة من الإبل وأعطى عيينة) بضم المهملة وفتح التحتية الأولى ( ابن حصن) بكسر المهملة الأولى وسكون الثانية بعدها نون، ابن بدر الفزاري ( مثل ذلك) مفعول ثان.
ويحتمل أن يكون مفعولاً مطلقاً، أي: إعطاء مثل ذلك الإعطاء، والأول أقرب ( وأعطى ناساً من أشراف العرب) والطلقاء وضعفاء الإيمان ( وآثرهم) أي أعطاهم عطايا نفيسة ( يومئذٍ) أي: يوم حنين ( في القسمة) لغنائمها تألفاً لهم، وترك أقواماً اعتماداً على ما وقر في قلوبهم من نور الإيمان وشمس العرفان.
وفي الحديث الصحيح عن سعد مرفوعاً: «إني لأعطي الرجل وغيره أحب إليّ منه مخافة أن يكبه الله في النار على وجهه» .
والناس قال الراغب في «مفرداته» : قيل أصله أناس فحذف فاؤه لما أدخل عليه أل.
قلت وتقدم مثله عن البيضاوي، والناس قد يذكر ويراد به الفضلاء دون من يتناوله اسم الناس تجوّزاً، وذلك إذا اعتبر معنى الإنسانية وهو وجود العقل والذكر وسائر القوى المختصة به فإن كل شيء عدم وصفه المختص به لا يكاد يستحق اسمه اهـ.
( فقال رجل) هذا لفظ مسلم.
وعند البخاري «فقال رجل من الأنصار: هذه قسمة ما أريد بها وجهالله، فقال: لقد أوذي موسى بأكثر من هذا فصير» .
قال ابن الملقن: وقوله في البخاري: «إنه من الأنصار» غريب.
قلت: قال الشيخ زكريا في «تحفة القارىء» : اسمه: معتببن قشير اهـ.
وهو بضم الميم وفتح المهملة وتشديد الفوقية آخره موحدة وهو من الأنصار: أي من قبيلتهم، وهو الذي روىعنه الزبير أنه قال: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا.
أما الذي قال: اعدل يا رسول الله فاسمه ذو الخويصرة وهو أبو الخوارج، وظاهر كلام عياض في «شرح مسلم» أنه هو القائل عن النبي ما ذكر في هذا الخبر والله أعلم.
فإن صح ذلك فيكون معنى قوله: إنه من الأنصار: أي حلفاً أو ولاء ( وا إن هذه لقسمة ما عدل فيها وما أريد بها وجه ا) الأوجه أنه إنما ترك قتل قاتل هذا الكلام مع أن سبه كفر يقتل به فاعله، لئلا يتحدث الناس بأنه يقتل أصحابه فينفروا عن الإسلام فعامله معاملة غيره من المنافقين.
قال القاضي عياض: وقد رأى الناس هذا الصنف في جماعتهم وعدوه من جملتهم، قال ابن مسعود ( فقلت: وا لأخبرنّ رسول الله) ليحذر منه وليعلم ما أخفاه من حاله، وليس هذا من باب نقل المجالس وهي بالأمانة، لأن ذاك في غير نحو هذا، أما هذا فمن النصيحة ولرسوله وللمؤمنين ( فأتيته فأخبرته بما قال) مما يدل على حجب بصيره قائله عن مشكاة أنواره وإلا فلو أشرق فيه بعض ذلك النور لامتلأ قلبه من الخيور وعلم أنه الطبيب الحاذق الذي يداوي كل سقيم ويذهب كل ضير وألم { ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور} .
قال ابن مسعود: ( فتغير وجهه) كما هو قضية طبع البشر عند حصول مؤذ للنفس ( حتى كان) أي: صار ( كالصرف) هذا لفظ رواية مسلم.
وفي رواية البخاري في باب بدء الخلق «فغضب حتى رأيت الغضب في وجهه» ( ثم قال) راداً عليه ما نسبه إليه من عدم العدل ( فمن يعدل) استفهام إنكار فهو في معنى ما يعدل أحد ( إذا لم يعدل الله ورسوله ثم قال) مبيناً أن الصفح عن عثرات اللئام سنة قديمة في الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام ( يرحم الله موسى) أتى به مع أن الأكثر من هديه في الدعاء: أي عند ذكر أحد من الأنبياء كما قيده به الدمير في الديباجة، أن يبدأ بنفسه فيقول مثلاً غفر الله لنا ولفلان، اهتماماً بشأنه لأنه ذكر في مقام المدحة له والتأسي به ( قد أوذي بأكثر من هذا) أي: من أذى السفهاء والجهال له فقالوا إنه آدر: وذلك منهم غاية العتوّ ونهاية الاختلاق؛ قال العراقي في «شرح التقريب» : ( فصبر) على أذاهم وقابل جهلهم بحلمه، وهو المقتبس من مشكاته كل خلقحسن ( فقلت لأجرم) مذهب الخليل وسيبونه أنهما ركبا من لا وجرم وبنيا، والمعنى: حق، وما بعدها رفع به على الفاعلية.
وقال الكسائي: معناها لا صدّ ولا منع، فيكون جرام اسم لا وهو مبني على الفتح، وقيل غير ذلك، وعلى القول الأول فالتقدير: حق أن ( لا أرفع إليه بعدها) أي هذه المرة ( حديثاً) يقع من أولئك فيه نفثات ألسنتهم بما تخفيه صدورّهم: أي مما لا يعود بضرر على النبيّ ولا على الإسلام وإنما رأى ذلك لأنه رأى أن كلامه حصل منه بعض التعب للنبي حتى رأى أثر الغضب من تلك الحمرة في بشرته الشريفة، ومع ذلك صفح عن ذلك القائل كيلا يقول الناس إن محمداً يقتل أصحابه ( متفق عليه) رواه البخاري في أبواب الخمس وفي الأنبياء وفي الدعوات وفي الأدب.
ورواه مسلم في الزكاة ( وقوله) في الحديث: ( كالصرف هو بكسر الصاد المهملة) وسكون الراء أخوه فاء ( وهو صبغ أحمر) زاد في «شرح مسلم» يصبغ به الجلود، قال ابن دريد: وقد يسمى الدم أيضاً صرفاً اهـ.


رقم الحديث 43 ( وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله: إذا أراد الله يعبده) المراد عقابه ( الخير عجل له) في جزاء سيئاته ( العقوبة في الدنيا) ببلاء في نفسه أو بموت صديقه أو بفقد ماله ونحوه، فيكون ذلك إذا سلم من التبرّم من الأقدار كفازة لجناياته فيوافي القيامة وقد خلص من تبعة الذنب ودركه، فإن لم يكن من أرباب المخالفات ونزل به بلاء كان زيادة في درجاته، وعليه يحمل حديث: «أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمتل فالأمثل» ( وإذا أراد الله بعبده) المذكور ( الشر) من للعقاب والعذاب ( أمسك عنه) الأذى ( بذنبه) الباء بمعنى فيه، أو سببية 4 يعني أن تأخير ما ذكر عنه وبقاءه في تبعات ذنبه من أسباب ذنبه، ففيه استدراجه من حيث لا يشعر ( حتى يوافي به) أي: يذنبه حاملاً له على كاهله ( يوم القيامة) فيجازى به، وأين جميع أهوال الدنيا ومضايقها من ساعة من عذاب النار وما فيهامن الأغلال والأنكال؟ وفي الحديث الحثّ على الصبر على ما تجري به الأقدار، وأنه خير للناس في الحال والمآل، فمن صبر فاز: ومن تبرّم بالأقدار فقدر الله لا يرد، وفات المتبرّم أعالي الدرجات وتكفير السيئات وا وليّ التوفيق.
( و) عن أنس ( قال النبيّ) مؤكداً لما دل عليه ما قبله مبيناً له ( إن عظم) بكسر المهملة وفتح المعجمة في المعاني ( الجزاء) أي الثواب في الآخرة كائن ( مع عظم البلاء) فمن حلّ به خلاف ما يهواه الإنسان بالطبع من الشدائد فليفرح بها، لما فيها من التخصيص وإجزال العطاء، فإن لم يكن من أهل مقام الرضا فلا أقل من أهل مقام الصبر ( وإن الله تعالى إذا أحب قوماً ابتلاهم) لأنه لو تركهم وزهرات الدنيا ربما استغرقت فيها قلوبهم: فاستغلوا بها عن مربوبهم كما وقع ذلك للكفار وأرباب الغفلات، فمن أراد الله إقباله عليه قطع عنه العلائق وأنزل به أنواع البلايا لتقوده إلى الرجوع إلى مولاه في كل ساعة، وأي نعيم يوازي نعيم الشهود، وأي جحيم يساوي الغفلة والتبعيد ( فمن رضي) بما جرى به القدر ولم يتبرم ولم يتضجر ( فله الرضا) بالاختصاص الإلهي والفيض الرباني والثواب الجزيل والأجر الجميل، قال تعالى: { هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} ( الرحمن: 6) ( ومن سخط) من ذلك وتبرم من تلك المقادير ( جرى المقدور) إذ لا مانع لما أراد سبحانه ( وله) أي الساخط ( السخط) بفتحين أو بضم فسكون: الانتقام أو إرادته، لما فيه من معارضة الأقدار الإلهية والاعتراض على الأحكام الربانية، وليس ذلك من شأن العبيد، وا يفعل ما يريد ( رواه الترمذي) في «جامعه» ( وقال حديث حسن) هو ما رواه العدل الضابط غير تامهما، أو المستور وانجبر وقد سلم من الشذوذ والعلة، وفي معنى حديث الباب ما أخرجه الترمذي أيضاً عن جابر قال: قال رسول الله «يود أهل العافية يوم القيامة حين يعطي أهل البلاء الثواب أن لو كانت جلودهم قرضت في الدنيا بالمقاريض» .


رقم الحديث 44 ( وعن أنس) الأخضر: وعنه ( رضي الله عنه قال: كان ابن) هو الذي قال له: «يا أبا عمير ما فعل النغير؟» وحديثه ذلك عند الترمذي في «شمائله» .
قيل كناه بما ذكر إشارة إلى قصر عمره.
وعند ابن ماجه حديث في قصة تزويج أم سليم بأبي طلحة بشرط أن يسلم/ وقال فيه: «فكلمت فولدت غلاماً صبيحاً، فكان أبو طلحة يحبه حباً شديداً، فعاش حتى تحرّك فمرض، فحزن أبو طلحة عليه حزناً شديداً حتى تضعضع، وأبو طلحة يغدو ويروح على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فراح روحة فمات الصبيّ» ( لأبي طلحة) اسمه زيدبن سهل الأنصاري، والابن أخ لأنس من أمه أم سليم ( رضي الله عنه) الأولى رضي الله عنهما لأنه ذكر صحابيان الابن وأبوه ( يشتكي) أي: مريض، وليس المراد أنه صدرت منه شكوى، لكن لما كان المريض يحصل منه ذلك استعمل في كل مريض ( فخرج أبو طلحة) أي إلى النبي ( فقبض) بالبناء للمجهول ( الصبي) زاد الإسماعيلي في روايته: «فأمرت أمه أنساً أن يدعو أبا طلحة وألا يخبره بموت ابنه» ( فلما رجع أبو طلحة) إلى بيته، جاء في رواية الإسماعيلي «وكان أبو طلحة صائماً» ( قال ما فعل ابني) أي ما قام به من صحة أو زيادة مرض ( فقالت أم سليم) بضم المهملة مصغراً.
واختلف في اسمها، فقيل سهلة، وقيل رميثة ومليكة والغميصاء والرميصاء ( وهي أم الصبي) جملة معترضة ( هو أسكن ما كان) أي أسكن أكوانه فإنه كان في القلق والاضطراب للنزع فذهب ذلك حينئذٍ، وظن أبو طلحة أنها أرادت هو أسكن من الألم لحصول العافية وفي عبارتها التوجيه ( فقربت له العشاء) بفتح المهملة ممدوداً، الطعام الذي يؤكل عند العشاء، وهو ما بين المغرب والعتمة ( فتعشى ثم أصاب منها) أي جامعها.
وفي رواية تأتي: «أنها تصنعت له أحسن ما كانت تصنع قبل ذلك فوقع بها» ( فلما فرغ) من حاجته ( قالت: واروا) أي: استروا ( الصبي) بالدفن ( فلما أصبح أبو طلحة أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره) أي بما عدا الجماع بدليل قوله: ( فقال:أعرستم الليلة) المراد منه هنا الوطء وسماه: إعراساً لأنه من توابع الإعراس، ولا يقال فيه بالتشديد كذا في «النهاية» : وهمزة الاستفهام مقدرة ( قال: نعم) بفتح أوليه وسكون ثالثه، وبكسر ثانيه في لغة كنانة، وقد تبدل عينه حاء، حكاه النضربن شميل، وهي من حروف الجواب لتصديق مخبر أو إعلام مستخبر أو وعد طالب ( قال: اللهم) أي يا أ ( بارك لهما) دعا لهما بالبركة وهي النماء والزيادة ( فولدت) من ذلك الوطء المدعو بالبركة فيه ( غلاماً) هو عبد الله.
قال أنس: ( فقال لي أبو طلحة: احمله حتى تأتي به النبيّ) ليحلّ نظره الشريف عليه ( وبعث معه بتمرات) بفتح الميم ليحنكه بها، والتحنيك بالتمر تفاؤل بالإيمان، لأنها ثمرة الشجرة التي شبهها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمؤمن ولحلاوتها أيضاً: ( فقال) أي النبيّ، وفي الكلام حذف تقديره: فحملته حتى أتيت به النبيّ فقال ( أمعه شيء؟) أي: يحنك به ( قال) أنس: ( نعم) بفتحتين فسكون ( تمرات) مبتدأ خبره محذوف اكتفاء بذكره في السؤال: أي معه تمرات ( فأخذها النبي فمضغها) لتختلط بريقه الشريف ويقدر الصبي على إساغتها، فيكون أول ما يدخل جوفه الممتضغ بريق المصطفى فيسعد ويبارك فيه ( ثم أخذها) أي: التمرات الممضوغات ( من فيه فجعلها في فيّ الصبيّ) أي في فمه، ولا يخفى ما فيه من الجناس التام ( ثم حنكه) في «الصحاح» : حنكت الصبي وحنكته إذا مضغت تمراً أو غيره ثم دلكته بحنكه، والصبيّ محنوك ومحنك اهـ.
( وسماه عبد ا) أي: وضع له هذا الاسم، ففيه فضل التسمية بذلك ( متفق عليه) في «فتح الباري» : وأخرجه ابن حبان والطيالسي هذا ما اتفقا عليه.
( و) زاد ( في رواية للبخاري قال) سفيان ( ابن عيينة) بضم المهملة وبكسرها اتباعاً للياء بعدها وفتح التحتية الأولى وسكون الثانية/ الهلالي قرين الإمام مالك من تابعي التابعين ( فقال رجل من الأنصار) هو: عبايةبن رفاعة كما أخرجه سعد بنمنصور ومسددبن سعد وغيرهم، وسبق أن الأنصار لفظ إسلامي صار علماً على أولاد الأوس والخزرج الذين نصروا النبي والإسلام ( فرأيت تسعة أولاد كلهم) بالرفع مبتدأ خبره جملة ( قد قرءوا القرآن) ويجوز أن يكون كل تأكيد تسعة، وأتى بها لئلا يتوهم أنه رأى بعضاً دون بعض وحينئذٍ فجملة قرءوا القرآن حالية ( يعني) هذا لفظ أحد الرواة عن سفيان لبيان أن الأولاد المرئيين ( من أولاد عبد ا) بن أبي طلحة ( المولود) من تلك الإصابة المدعو لها بالبركة.
ووقع في رواية عن سفيان أنهم سبعة بتقديم السين.
قال في «فتح الباري» وقيل إن في إحدهما تصحيفاً، أن المراد بالسبعة من ختم القرآن كله وبالتسعة من قرأ معظمه، وله من الولد فيما ذكر ابن سعد وغيره من علماء الأنساب إسحاق وإسماعيل وعبد الله ويعقوب وعمر والقاسم وعمارة وإبراهيم وعمير وزيد ومحمد، وأربع من البنات، ويؤخذ من قول سفيان المذكور أن في قوله: «لكما» تجوّز لأن ظاهره أنها في ولدهما من غير واسطة وإنما المراد من أولاد ولدهما المدعو له بالبركة وهو عبد الله اهـ.
( وفي رواية) أخرى ( لمسلم) في «صحيحه» ( مات ابن لأبي طلحة من أم سليم) الظرف الأول صفة لابن والثاني محتمل لها والحالية ( فقالت لأهلها) أي: لقرابتها الذين عندها وشعروا بوفاة ابنها ( لا تحدثوا أبا طلحة) عند مجيئه المنزل ( بـ) وفاة ( ــــابنه) لئلا يتنغص عيشه وهو صائم فلا ينال حاجته من الطعام ( حتى) تعليلية أو غائية ( أكون أنا) تأكيد للضمير المستكن ( أحدثه، فجاء فقربت إليه عشاء) عبر هنا بإلى لأنه منتهى التقريب، وفيما تقدم باللام إشارة إلى أنه مقصود بذلك العشاء مهيأ له كما أشار البيضاوي إلى نحوه في سورة يونس في تعدية يهدي بإلى تارة وباللام أخرى ( فأكل وشرب ثم تصنعت له) بتحسين الهيئة بالحلي ونحوه ( أحسن ما كانت تصنع) بنصب أحسن مفعول مطلق وأصل تصنع تتصنع فأدغمت إحدى التاءين في الصاد المهملة هذا إن قرىء بتشديدها، فإن كانت مخففة فإحدى التاءين محذوفة دفعاً للثقل ( قبل ذلك) الوقت، وهذا يدل على كمال يقينها وقوة صبرها ( فوقع بها) أي: جامعها ( فلما أن) زائدة ( رأت أنه قد شبع) من الطعام ( وأصاب منها) بالجماع ( قالت) منبهة له على أنه لا ينبغي له الحزن على موت ولده، عند اطلاعهعليه لأنه وديعة بصدد الاسترداد ( يا أبا طلحة أرأيت) أخبرني ( لو) ثبت ( أن قوماً) هو في الأصل جماعة الرجال، والأكثر في استعمال الشرع أن يراد به ما يشملهم والنساء، قاله الراغب في «مفرداته» ( أعاروا عاريتهم) مفعول ثان لأعار ( أهل بيت) مفعوله الأول ( فطلبوا عاريتهم ألهم) أي: لأهل البيت المستعيرين والظرف خبر مقدم مبتدؤه ( أن يمنعوهم) أي: منعهم، ويصح أن تعرب أن ومدخولها فاعلاً للظرف لاعتماده على الاستفهام ( قال: لا) أي: ليس لهم منعهم لأن الإعارة إباحة منافع المعار، والمعار باق على ملك المعير فله استرداده متى شاء ( قالت: فاحتسب ابنك) أي: اطلب ثواب ابنك وأجر مصيبتك فيه من الله ولا تدنسها بما يحبط الثواب فإنه كان عندك عارية استرده مالكه ( قال) أنس: ( فغضب) أبو طلحة ( وقال) لأم سليم: ( تركتني) بكسر التاء للمخاطبة ( حتى إذا) وقتية ( تلطخت) بفتح الفوقية واللام وتشديد الطاء المهملة وسكون المعجمة، أي تقذرت بالجماع، يقال رجل لطخ أي قذر ( ثم أخبرتني) بكسر التاء ( بابني) أي: بموته ( فانطلق) يمشي ( حتى أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر له ذلك) أي المذكور من فعل أم سليم الدال على كمال يقينها وحسن صبرها مما يعجز عنه كثير من الرجال ( فقال النبيّ) داعياً لهما بما يعود نفعه عليهما الجميل فعلهما ( بارك الله لكما في ليلتكما) أي فيما فعلتماه فيها من الإعراس بأن يجعله نتاجاً طيباً وثمرة حسنة ( قال) أنس: ( فحملت) أم سليم إجابة لدعائه بالبركة بما كان منه قوم صالحون كما تقدم عن ابن عيينة ( قال) أنس: ( وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر وهي معه، كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أتى المدينة من سفر) بفتح أوليه، سمي بذلك لأنه يسفر عن أخلاق الرجال، وسفره من المدينة إنما كان لأداء النسك أو الجهاد ( لا يطرقها) بضم الراء ( طروقاً) بضم أوليه المهملين أي لا يأتيها ليلاً، وكل آت بالليل طارق، ونهي عن طروق المسافر أهله ليلاً لئلا يرى منهم ما قد يكرهه.
وأيضاً فإذا وصلوا البلد نهاراً وسمع بهم أهلهم تصنعت المرأة لبعلها فيراها بمنظر حسن، بخلاف ما إذا فجأها وهيشعثة ربما كان رؤياها كذلك سبباً لفراقه لها، وهذا إذا لم يترقب أهله قدومه عليهم ليلاً، وإلا كأن بلغهم خبر قدومه من أول النهار فلا بأس بالطروق حينئذٍ ( فدنوا) قربوا ( من المدينة فضربها المخاض) بفتح الميم وقرىء بكسرها في «الشواذ» : وهو وجع الولادة ( فاحتبس عليها أبو طلحة) أي: حبس نفسه عليها لاشتغاله بشأنها ( وانطلق رسول الله) في مسيره إلى المدينة.
( قال) أنس: ( يقول أبو طلحة) أتى بلفظ المضارع لحكاية الحال الماضية إشارة لكمال استحضاره للقصة وإتقانه لها ( إنك لتعلم يا رب) بكسر الباء دليلاً على التحتية، ويجوز فتحها على أن المحذوفة الألف المنقلبة عن الياء وضمها بناء على قطعه عن الإضافة، وجملة النداء معترضة بين الفعل، وما سد مسد مفعوليه وهو قوله: ( إنه يعجبني) بضم التحتية ( أن أخرج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج) من المدينة لسفر ( وأدخل معه) المدينة، وهو بالنصف عطف على أخرج ( إذا دخل) أي: دخلها، فالمفعول محذوف لدلالة السياق عليه ( وقد احتبست) أي منعت من الدخول ( بما ترى) مما نزل بأم سليم، فأجاب الله دعوته وكشف كربته ( قال) ( قال) أنس مخبراً عن ذلك ( تقول أم سليم) أي قالت أم سليم، وعدل عنه إلى المضارع لما ذكر آنفاً ( يا أبا طلحة، ما أجد الذي كنت أجد) العائد محذوف التقدير أجده: أي ما أجد ألم الوضع الذي كنت أجده قبل ( انطلق) أمر له لأن سبب التخفيف زال.
( قال) أنس: ( فانطلقنا وضربها المخاض حين قدما) بكسر الدال: أي وقت قدوم أبي طلحة وأم سليم المدينة مع المصطفى ( فولدت غلاماً) هو المسمى بعبد الله ( فقالت لي أمي) أم سليم أم عبد الله المذكور فهو أخو أنس لأمه كما تقدم ( يا أنس لا يرضعه) بضم التحتية وسكون المهملة على أنّ لا ناهية ( أحد) أي: ليكون أول شيء يشق جوفه ويدخل أمعاءه الممزوج بريق المصطفى، فيعود عليه بخير الدارين كما ظهر أثره في هذا الغلام بتكثير بنيه الصالحين الأتقياء الفالحين قال الشاعر: نعم الإله على العباد كثيرة وأجلهن نجابة الأولاد( حتى تغدو به) وتعرضه ( على رسول الله) والغدوّ: سير أول النهار، والرواح: السير بعد الزوال، هذا هو الأصل فيهما وقد يتجوز في ذلك، ومنه حديث: «من راح إلى الجمعة في الساعة الأولى» على أحد الأقوال فيه، وعدي بعلى إشارة إلى أن القصد من الوصول به إليه عرضه ليحل عليه نظره السعيد فيفوز بالخير المديد وقد حقق الله ما أرادت ( فلما أصبح) أي دخل وقت الصباح ومنه قوله تعالى: { فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون} ( الروم: 17) ( احتملته فانطلقت) أمشي ( به) منتهياً ( إلى رسولالله.
وذكر تمام الحديث)
وفيه نحو مما في حديث السابق أنه حنكه بالتمر وسماه عبد الله.
قال في «فتح الباري» : وفي الحديث فوائد: جواز الأخذ بالشدة، وترك الرخصة مع القدرة عليها، والتسلية عن المصائب، وتزين المرأة لزوجها، وتعرضها لطلب الجماع منه، واجتهادها في عمل مصالحه، ومشروعية المعاريض الموهمة إذا دعت الضرورة إليها ولم يترتب عليها إبطال حق مسلم.
والحامل لأم سليم عليه المبالغة في الصبر والتسليم لأمر الله تعالى، ورجاء إخلافه عليها ما فات منها، إذ لو أعلمت أبا طلحة بالأمر في أول الحال تنكد عليه وقته ولم تبلغ الغرض الذي أرادته، فلما علم الله تعالى صدق نيتها بلغها مناها وأصلح لها ذريتها، وفيه إجابة دعوة النبيّ وأن من ترك شيئاً عوضه الله خيراً منه.
وكان لأم سليم من قوّة القلب وثبات الجنان الغاية القصوى، فكانت تشهد الحرب وتداوي الجرحى اهـ.