فهرس الكتاب

دليل الفالحـــين - باب فضل الجوع وخشونة العيش والاقتصار عَلَى القليل من المأكول والمشروب والملبوس وغيرها من حظوظ النفس وترك الشهوات

رقم الحديث 501 ( وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: اللهم اجعل رزق) بكسر الراء مصدر بمعنى المفعول: أي من ينتفعون به مأكلاً ومشرباً وملبساً ( آل محمد) جاء عند بعض رواته زيادة في «الدنيا» بل قضية كلام «الجامع الصغير» أنه كذلك عند مسلم، ولم أره كذلك عند مسلم إنما الحديث فيه بحذفه.
قال الثعالبي في «تفسير الجواهر الحسان» : وعندي أن المراد بآل محمد هنا متبعوه ( قوتاً.
متفق عليه)
أي بالمعنى وإلا فاللفظ لمسلم في إحدى رواياته، ولفظ البخاري وهو عند مسلم أيضاً ( اللهم ارزق آل محمد قوتاً» ) قال الحافظ في «الفتح» بعد ذكر لفظ المذكور في «المتن» وهو المعتمد كون اللفظ الأول صالحاً لأن يكون دعاء بطلب القوت في ذلك اليوم، وأن يكون طلبه لهم دائماً، بخلاف لفظ مسلم فإنه يعين الاحتمال الثاني وهو الدال على الكفاف والحديث، رواه الترمذي وقال: حسن صحيح، والنسائي وابن ماجه كما في «الأطراف» ( قال أهل اللغة) هم الحاكمونلمعاني المفردات عن العرب ( والغريب) هم المتكلمون على مفردات الكتاب والسنة ( معنى قوتاً: أي ما يسد الرمق) في «المصباح» القوت ما يؤكل ليمسك الرمق.
وقال القرطبي: معنى الحديث طلب الكفاف، فإن القوت ما يقوت البدن ويكف عن الحاجة، ولم يظهر وجه إدخال: أي بين المفسر والمفسر، وفي هذه الحالة سلامة من آفات الغنى والفقر جميعاً.


رقم الحديث 502 ( وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: وا الذي لا إله إلا هو) أتى به لتأكيد ما بعده في ذهن سامعه ( إن) مخففة إني ( كنت لأعتمد بكبدي) بفتح الكاف وكسر الموحدة أفصح من فتح الكاف وكسرها مع سكون الموحدة ( على الأرض) أي ألصق بطني بها ( من الجوع) من فيه تعليلية، وكأنه كان يستفيد بذلك ما يستفيده من شده الحجر على بطنه، ويحتمل أن يكون كناية عن سقوطه إلى الأرض مغشياً عليه كما سيأتي في الحديث عنه عقب هذا: «لقد رأيتني وإني لأخرّ فيما بين منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى حجرة عائشة مغشياً عليّ» الحديث ( وإني كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع) كعادة العرب وأهل الرياضة أو أهل المدينة كانوا يفعلون ذلك إن خلت أجوافهم لئلا تسترخي أمعاؤهم فتثقل عليهم الحركة، وبربط الحجر تشتد البطن والظهر فتسهل عليهم الحركة حينئذ.
وقبل حكمة شده أنه يسكن بعض ألم الجوع، لأن حرارة المعدة الغريزية ما دامت مشغولة بالطعام فتلك الحرارة به، فإذا نفذ اشتعلت برطوبات الجسم وجوهره فيحصل التألم حينئذ ويزداد ما لم يضم على المعدة الأحشاء والجلد، فإن نارها حينئذ تخمد بعض الخمود فيقل الألم.
وقيل: يفعل ذلك لأن البطن إذا خلا ضعف صاحبه عن القيام لتقوس ظهره، فاحتيج لربط الحجر ليشده ويقيم صلبه ( ولقد قعدت على طريقهم) قال في «المصباح» : يذكر في لغة نجد وبه جاء قوله تعالى: { فاضرب لهم طريقاً في البحر يبساً} ( طه: 77) ويؤنث في لغة الحجاز.
قلت: وعدم تأنيث يبساً لكونه مصدراً وصف به كما ذكر البيضاوي في «التفسير» ، قال في «المصباح» :وجمعه طرق، وقد يجمع عن لغة التذكير على أطرقه والضمير يرجع إلى المارة المدلول عليه بالمضاف ( الذي يخرجون منه) أي إلى مطالبهم، وذلك لئلا يفوتوه ( فمرّ بي النبيّ) قبله في البخاري مرور أبي بكر وعمر، وأنه سأل كلا منهما عن آية وقصد بالسؤال التعرض للنوال فلم يقع، وسكت عنه المصنف لعدم تعرض غرض الباب به، إذ غرضه التحريض على الزهد في الدنيا والإعراض عما تدعو إليه الضرورة بالمرة، وهذا الخبر وأمثاله يدل عليه، إذ لو كان حاله بخلاف ذلك لما بلغ حال أصحابه في الفقر إلى ما ذكر في الخبر لما علم من كمال كرمه وإيثاره على نفسه ( فتبسم حين رآني وعرف ما في وجهي) أي مما يدل على ما في نفسي ( وما في نفسي) أي من الاحتياج إلى ما يسد الرمق، ووقع عند بعض رواة البخاري بأو التي للشك بدل الواو في قوله: «وما» قال في «الفتح» استدل أبو هريرة بتبسمه على أنه عرف ما به لأن التبسم يكون لما يعجب وتارة يكون لإيناس من تبسم إليه ولم تكن لك الحالة معجبة فقوي الحمل على الثاني ( ثم قال يا أبا هر) بتشديد الراء، قال في «الفتح» : وهو من رد الاسم المؤنث إلى المذكر والمصغر إلى المكبر، فإن كنيته في الأصل أبو هريرة تصغير هرة مؤنثاً، وأبو هرّ مذكر مكبر، وذكر بعضهم أنه يجوز فيه تخفيف الراء مطلقاً فعلى هذا فيسكن ( قلت: لبيك يا رسول الله) هذه رواية علي بن مسهر بإثبات حرف النداء، وعند باقي الرواة له بحذفه أي إجابة بعد إجابة ( قال الحق) بهمزة وصل وفتح الحاء المهملة أي اتبع ( ومضى) أي إلى سبيل بيته ( فاتبعته) بتشديد الفوقية، زاد في رواية علي بن مسهر: فلحقته، وفي «تفسير البغوي» أتبع بقطع الهمزة معناه أدرك وألحق، واتبع بتشديد التاء معناه سار، يقال: ما زالت أتبعه حتى اتبعته: أي ما زال أسير خلفه حتى أدركته ولحقته ( فدخل) زاد علي بن مسهر إلى أهله ( فاستأذن) قال في «الفتح» : بهمزة بعد التاء والنون مضمومه فعل المتكلم، وعبر عنه بذلك مبالغة في التحقق لأنه حكاية حال ماضية، ففيه الإشارة لكمال استحضاره لها حتى كأنه يخبر عن حاضر عنده وفي رواية ابن مسهر: فاستأذنت بضمير المتكلم ( فأذن لي) يحتمل أن يقرأ بالبناء للفاعل: أي النبيّ،وأن يقرأ بالبناء للمفعول ما لم تكن رواية فيوقف عندها ( فدخل) قال في «الفتح» كذا فيه، وهو إما تكرار لهذه اللفظة لوجود الفصل أو التفات ( فوجد لبناً في قدح فقال: من أين هذا اللبن؟) .
وفي رواية ابن مسهر من أين لكم؟ ( قالوا: أهداه فلان أو فلانة) كذا بالشك قال في «الفتح» : ولم أقف على اسم من أهداه، وفي رواية روح: «أهداه لنا فلان آل فلان أو آل فلان» وفي رواية: «أهداه لنا فلان» ( قال: أبا هرّ قلت: لبيك يا رسول الله) بإثبات حرف النداء عند جميع رواه البخاري ( قال: الحق إلى أهل الصفة) ضمن الحق معنى انطلق فلذا عداه بإلى، وقد وقع في رواية روح بدله: انطلق ( فادعهم لي، قال) أي أبو هريرة وسقط من رواية روح ولا بد منها فإن قوله: ( وأهل الصفة أضياف الإسلام لا يأوون على أهل ولا مال ولا على أحد) إلى آخر مايأتي من بيان شأنهم من كلام أبي هريرة شرح به حال أهل الصفة والسبب الداعي لدعائهم، وأنه كان يخصهم بالصدقة ويشركهم فيما يأتيه من الهدية.
ووقع في رواية يونس ما يشعر بأن أبا هريرة كان منهم، وقد عدّه فيهم السخاوي في مؤلفه في أهل الصفة.
والصفة بناء في مؤخر المسجد منزل فقراء المهاجرين مما لا مال له، ولا معارف بالمدينة، وقد تقد فيهم بيان قبل هذا في باب فضل الزهد في الدنيا، ووقع هكذا في الرواية: لا يأوون على أهل والكثير «إلى» بدل «على» وقوله: ولا على أحد تعميم بعد تخصيص فيشمل الأقارب والأصدقاء وغيرهم، وجملة ولا يأوون في محل الحال ( وكان إذا أتته صدقه بعث بها إليهم ولم يتناول) وفي رواية روح ولم يصب ( منها شيئاً) أي لنفسه وزاد روح ولم يشركهم فيها لحرمة الصدقة عليه لعلو مقامه ( وإذا أتته هدية أرسل إليهم) أي ببعضها كما يدل عليه قوله: ( وأصاب منها وأشركهم فيها) وهذه الجملة الأخيرة كالإطناب فيها إيماء إلى أنه يجعل لهم منها حظاً وافراً، وأما هو في نصيبه منها فلا يستكثر إيثاراً، والجملة الشرطية وما عطف عليها مستأنفة فيها بيان معاملته معهم واعتنائه بأمرهم، وما ذكر من بعث الصدقة وبعث الهدية لأهل الصفة هو أحد أحواله معهم، وتارة كان إذا أتاه شيءوقيل له إنه صدقة أمر من عنده بأكله ولم يأكل منه، وإن قيل: إنه هدية ضرب بيده وأكل منه، وحمل على أن هذا كان قبل بناء الصفة وكان يقسم الصدقة فيمن يستحقها ويأكل الهدية فيمن حضر من أصحابه، ويحتمل أن يكون باختلاف حالين فيحمل حديث الباب على ما إذا لم يحضره أحد فإنه يرسل ببعض الهدية إلى أهل الصفة أن يدعوهم كما في قصة الباب، وإن حضر أحد شركه في الهدية وإن كان هناك فضل أرسل به إلى أهل الصفة أو دعاهم، ووقع في حديث أحمد عن طلحة بن عمر: نزلت في الصفة مع رجل كان بيني وبينه كل يوم مدّ من تمر وهو محمول على اختلاف الأحوال، كان أولاً ينزل إلى أهل الصفة مما حضره أو يدعوهم أو يفرقه على من حضر إن لم يحضر ما يكفيهم، فلما فتحت فدك وغيرها صار يجري عليهم من التمر في كل يوم ما ذكره اهـ ملخصاً من «الفتح» ( فساءني) بالمد: أي أحزنني ( ذلك) أي قوله: ادعهم لي لمزيد ضرورتي وشدة فاقتي ظن أن ذلك اللبن لا يزيد عن حاجته كما هو مقتضى العادة فيه فلذا قال: ( فقلت وما هذا اللبن) والواو عاطفة على محذوف والإشارة للتحقير ( في أهل الصفة؟) وهم عدد كثير، وفي رواية: «وأين يقع هذا اللبن في أهل الصفة؟» ( كنت أحق) أي أولى به ( أن أصيب) وحذف المفضل عليه مجروراً بمن لدلالة السياق عليه: أي أولى منهم إصابة ( من هذا اللبن شربة أتقوى بها) أي أصير ذا قوة من ضعف الجوع بسببها، يقال: تحجر الطين: أي صار حجراً، ويجوز أن يكون بمعنى المجرد: أي أقوى بها بعد الضعف ( فإذا جاء) قال الحافظ في «الفتح» كذا فيه بالإفراد: أي من أمرني بطلبه، والأكثر جاءوا بصيغة الجمع اهـ، والموجود في بعض نسخ الرياض الوجه الثاني ( أمرني) أي النبي ( فكنت أنا أعطيهم) وكأنه عرف ذلك بالعادة لأنه كان يلازم النبي ويخدمه ( وما عسى أن يبلغني) أي يصل إلى ( من هذا اللبن) بعد أن يكتفوا منه، وقال الكرماني: لفظ عسى زائد، ووقع في رواية يونس بن بكير: «فيأمرني أن أديره عليهم وما عسى أن يصيبني منه، وقد كنت أرجو أن أصيب منه ما يقيتني» : أي من جوع ذلك اليوم ( ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله بد) أي محيد.
قال في «المصباح» : لا بد من كذا: أي لا محيد عنه، ولا يعرف استعماله إلا مقروناً بالنفي اهـ.
وذلك لأن شكر المنعم سبحانه واجب شرعاً وطاعة الرسول له سبحانه، قال تعالى: { من يطع الرسول فقد أطاع ا} ( النساء: 8) ( فأتيتهم) أي عقب الأمر لي بدعوتهم وإن كان على خلاف هواي ( فدعوتهم) قال الكرماني: وظاهر قوله: «فأتيتهم» أن الإتيان والدعوة وقعا بعد الإعطاء وليس كذلك، ثم أجاب أن معنى قوله: «فكنت أنا أعطيهم» عطف على جواب «فإذا جاءوا» ، فهي بمعنى الاستقبال، قال في «الفتح» : وهو ظاهر من السياق ( فأقبلوا فاستأذنوا) أي سألوا الإذن في الدخول ( فأذن لهم) بالبناء للفاعل كذا في النسخ: أي النبي، ولو قرىء بالبناء للمفعول لجاز لأن المدار على وجود الإذن من أي كان، قال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم} ( الأحزاب: 53) ( فأخذوا مجالسهم) أي فقعد كل منهم في المجلس اللائق به ( من البيت) أي بيت النبي وقد أمر بإنزال الناس منازلهم كما رواه مسلم في أول «صحيحه» عن عائشة معلقاً، قال الحافظ في «الفتح» : ولم أقف على عددهم إذ ذاك، قال أبو نعيم: عدد أهل الصفة يختلف بحسب الحال، فربما اجتمعوا فكثروا وربما تفرّقوا إما لغزو أو سفر أو استغناء فقلوا.
ووقع في عوارف المعارف أنهم كانوا أربعمائة، وفي «المصباح» : المجلس: أي بفتح أوله وثالثه: مكان الجلوس والجمع مجالس.
وقد يطلق على أهله مجازاً تسمية للحال باسم المحل اهـ ( قال: يا أبا هرّ: قلت لبيك يا رسولالله، قال: خذ) أي قدح اللبن المدلول عليه بالسياق والسباق ( فأعطهم، فأخذت القدح فجعلت) أي شرعت ( أعطيه الرجل) والإتيان به حكاية للحال الماضية إشارة لكمال استحضار القصة، ولولا ذلك لقال فأعطيته الرجل، وأل في الرجل للجنس ( فيشرب حتى يروي ثم) فيه إيماء إلى طول شرب الرجل منهم، وذلك لمزيد الجوع وتمام الفاقة ( يرد) بالبناء للفاعل ( عليّ القدح فأعطيه) أي عقب رده ( الآخر) أي الذي إلى جنبه، وهذه رواية يونس، وفي رواية علي بن مسهر «فجعلت أناول الإناء رجلاً رجلاً، فإذا روي أخذته فناولته الآخر حتى روي القوم جميعاً» ووقع في بعض نسخ البخاري: فأعطيته الرجل، وعليها شرح الحافظ كالكرماني فقال: أي الذي إلى جنبه، وهذا فيه أن المعرفة إذا أعيدت معرفة لا تكون عين الأولى.
قال: والتحقيق أن ذلك لا يطرد بل الأصل أن تكون عينه إلا أن يكون هناك قرينة.
قال الحافظ بعد ذكر اختلاف الروايات كما ذكرنا: وعليه فاللفظ المذكور من تصرف الرواة، فلا حاجة فيه لخرم القاعدة ( فيشرب حتى يروي ثم يرد عليّ القدح) وقوله: ( حتىانتهيت إلى النبي) أي فأعطيه غاية لمقدر: أي عممتهم أجمعين حتى انتهيت إليه ( وقد روي القوم كلهم) جملة في محل الحال، وقد للتحقيق إيماء إلى أنه تحقق لهم الري المطلوب، وأكد القوم بكلهم دفعاً لتوهم أن المراد ري بعضهم ( فأخذ القدح) أي وقد بقيت فيه فضلة من اللبن كما في رواية روح ( فوضعه على يده فنظر إلي فتبسم) قال الحافظ في «الفتح» : كأنه تفرس في أبي هريرة ما كان وقع في توهمه أنه لا يفضل له شيء من اللبن فلذا تبسم.
قلت: ويجوز أن يكون قد اطلع على ذلك ككثير من المغيبات ( فقال: أبا هر) كذا في رواية، وفي رواية ابن مسهر هنا وفيما ذكر أوله: «أبو هرّ» بالواو وهو على تقدير الاستفهام: أي أنت أبو هريرة أو على لغة من لا يعرب الكنية ( فقلت: لبيك يا رسولالله، قال: بقيت أنا وأنت) كأنه بالنسبة لمن حضر من أهل الصفة، وأما من كان في البيت من أهل النبي فلم يتعرض لذكرهم، ويحتمل أن البيت إذ ذاك ما كان فيه أحد منهم، أو أخذوا كفايتهم، والذي في القدح نصيبه ( قلت: صدقت يا رسول الله) وهذه الجملة والتي قبلها من باب لازم الخبر ( قال: اقعد فاشرب) فيه أن اللبن كغيره من المشروبات في استحباب الجلوس عند شربه، بخلاف المص للمشروب فإنه يستحب فيما عدا اللبن، أما هو فيعبه عباً لأن ما شرع له المص من خوف الشرقة به مفقود في اللبن لقوله تعالى: { سائغاً للشاربين} ( النحل: 66) قال الحافظ السيوطي: لم يشرق باللبن أحد أصلاً ( فقعدت فشربت فما زال يقول لي: اشرب) أي لما علم من مزيد حاجته وشدة فاقته، ولأنه ربما يترك بعض حاجته ليبقى بعضه للنبي فأمره بذلك ليستوفي إربه، وظاهر أنه كرّر ذلك مراراً، والمذكور في أدب الضيافة أن المضيف يقول نحو ذلك للضيف إلى ثلاثة لا يجاوزها ( حتى قلت: لا) المنفي محذوف: أي لا أشرب ثم علل ذلك على وجه الاستئناف البياني مؤكداً بالقسم بقوله: ( والذي بعثك) أي أرسلك ملتبساً ( بالحق لا أجد له مسلكاً) بفتح أوله وثالثه وسكون ثانيه المهمل بينهما: أي مكاناً يسلك فيه مني ( قال فأرني) وفي رواية روح فقال:ناولني القدح ( فأعطيته القدح فحمد الله تعالى) أي على ما منّ به من البركة في اللبن المذكور مع قلته حتى روي القوم كلهم وأفضلوا ( وسمى) في ابتداء الشرب ( وشرب الفضلة) أي البقية، وفي رواية روح: فشرب من الفضلة، وفيه إشعار بأنه بقي بعضه فإن كانت محفوظة فلعله أعدها لمن بقي بالبيت إن كان ( رواه البخاري) في «الرقاق» من «صحيحه» ووقع في «الأطراف» أنه رواه في الاستئذان وهو وهم، إلا إن أراد أنه رواه كذلك مختصراً بنحوه في الباب المذكور كما نبهت عليه في حاشية كتاب «الأطراف» ، ورواه الترمذي في الزهد من «جامعه» ، والنسائي في الرقاق من «سننه» .
وفي الحديث من الفوائد من علامات النبوة تكثير الطعام والشراب ببركته، وفيه جواز الشبع ولو بلغ أقصى غايته أخذاً من قول أبي هريرة لا أجد له مسلكاً، وتقرير النبيّ له على جوازه خلافاً لمن قال بتحريمه، والجمع بين ذلك وبين الأحاديث الواردة بالزجر عن الشبع بحمل الزجر على متخذ الشبع عادة لما يترتب عليه من الكسل عن العبادة وغيرها، وحمل الجواز على من وقع له ذلك نادراً، لا سيما بعد شدة جوع واستبعاد حصول شيء بعده عن قرب.
تنبيه: قال في «الفتح» : وقع لأبي هريرة قصة أخرى في تكثير الطعام مع أهل الصفة.
أخرج ابن حبان عن أبي هريرة قال: «أتت عليّ ثلاثة أيام لم أطعم، فجئت أريد الصفة فجعلت أسقط، فجعل الصبيان يقولون: جنّ أبو هريرة حتى انتهيت إلى الصفة، فوافقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى بقصعة من ثريد، فدعا عليها أهل الصفة وهم يأكلون منها، فجعلت أتطاول لكي يدعوني حتى قاموا وليس في القصعة إلا شيء في نواحيها، فجمعه فصار لقمة فوضعها على أصابعه فقال لي: كل باسمالله، فوالذي نفسي بيده ما زلت آكل منها حتى شبعت» اهـ.


رقم الحديث 503 ( وعن محمد بن سيرين) بكسر المهملة وسكون التحتية وبالراء ثم تحتية ثم نون غير منصرف للعلمية والعجمة، وابن سيرين تابعي يكنى أبا بكر، بصري ثقة ثبت، عابد كبير القدر من أوساط التابعين، مات سنة عشر ومائة، روى عنه الستة كذا في «تقريب» الحافظ ( عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لقد رأيتني) أي أبصرتني وهذا طرف من أواخر حديثة، وأوله: «كنا عند أبي هريرة وعليه ثوبان ممشقان من كتان، فتمخط فقال: بخ بخ أبو هريرة يتمخط في الكتان، ولقد رأيتني» وكان على المصنف ذكر الواو لينبه على أن ما ذكر بعضحديث معطوف على شيء تقدمه ( وإني لأخر) بكسر الخاء المعجمة: أي لأسقط والجملة حال من فاعل رأيتني أو مفعوله ( فيما) أي في المكان الذي أو مكان ( بين منبر) بكسر فسكون ففتح، من النبر بالنون فالموحدة: الارتفاع ( رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى حجرة عائشة رضي الله عنها) القياس وحجرة عائشة لأن بين لا تضاف إلا إلى متعدد، وكذا رأيته عزاه الحافظ في باب الرقاق من «الفتح» إلى باب الاعتصام، لكن في باب الاعتصام من «الصحيح» بلفظ إلى، وفي كتب النحو فيما اختصت به الواو العاطفة عن باقي العواطف عطف ما لا يستغني عنه كجلست بين زيد وعمرو، ولذا كان الأصمعي يقول: الصواب بين الدخول وحومل، لا فحومل.
وأجيب بأن التقدير بين نواحي الدخول فهو كقولك دخلت بين الزيدين، أو أن الدخول مشتمل على أماكن ذكره في «مغني اللبيب» ، والجواب الأول ممكن هنا: أي ما بين ساحات المنبر إلى حجرة عائشة وما بين المنبر وحجرة عائشة: أي بيتها، وهي مدفنه حذاء الروضة طولاً ( مغشياً علي) هذا محط الفائدة ومقصد الإخبار: أي مغمي علي، والإغماء زوال الشعور مع فتور في الأعضاء ( فيجيء الجائي فيضع رجله على عنقي ويرى أني مجنون) أي وتلك عادتهم بالمجنون حتى يفيق وجملة يرى محتملة للحالية وللاستئناف البياني ( وما بي من) مزيدة للتنصيص على العموم الظاهر فيه ( جنون) لكونه نكرة في سياق النفي، وهو مبتدأ والظرف قبله خبر قدم عليه اهتماماً واعتناء ( وما بي) الباء فيه سببية: أي ليس سبب إغمائي ( إلا الجوع.
رواه البخاري)
في باب الاعتصام، ورواه الترمذي في الزهد من «جامعه» ، وقال: حسن صحيح غريب، ورواه في «الشمائل» بنحوه.


رقم الحديث 504 ( وعن عائشة رضي الله عنها قالت: توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودرعه) بكسر الدال المهملة: ما يلبس في الحرب، زاد البخاري في أول البيوع عنها: ورهنه درعاً من حديد ( مرهونة عند يهودي) هو أبو الشحم، قال الحافظ في «الفتح» : كما بينه الشافعي ثم البيهقيمن طريق جعفر ابن محمد عن أبيه أن النبي رهن درعاً له عند أبي الشحم اليهودي رجل من بني ظفر في شعير، وأبو الشحم اسمه كنيته، وظفر الهمزة وكسر الموحدة اسم فاعل من الإباء.
قال العلماء: الحكمة في عدوله عن معاملة مياسير الصحابة إلى معاملة اليهود، وإما لبيان الجواز، أو لأنهم لم يكن عندهم إذ ذاك طعام فاضل عن حاجة من عندهم، أو خشي أنهم لا يأخذون ثمناً أو عوضاً فلم يرد التضييق عليهم، فإنه لا يبعد أن يكون فيهم إذ ذاك من يقدر منه على ذلك أو أكثر منه، فلعله لم يطلعهم على ذلك وإنما طلع عليه من لم يكن موسراً به ممن نقل ذلك اهـ ( في ثلاثين صاعاً) وقيل في عشرين، وقيل: في أربعين، وقيل: وسقاً بدل الصاع كما ورد كل منها، قال الشيخ زكريا في «تحفة القاريء» ، وجمع في «الفتح» بين روايتي عشرين وثلاثين بأنه لعله كان ناقصاً عن الثلاثين فجبر بذلك الكسر وألغى أخرى.
قال: ووقع لابن حبان عن أنس أن قيمة الطعام كانت ديناراً ( من شعير) قال الشيخ زكريا في «شرح البهجة» : قيل افتكه قبل موته لخبر «نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضي» وهو منزّه عن ذلك والأصح خلافه لقول ابن عباس رضي الله عنهما «توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودرعه مرهونة عند يهودي» أي ولحديث الباب، والحديث الأول محمول على من لم يخلف وفاء.
قال السبكي: مع أنه ليس من الخبر لأن دينه ليس لمصلحة نفسه، لأنه غنيّ با، وإنما أخذ الشعير لأهله وهو متصرف عليهم بالولاية العامة فلا يتعلق الدين به بل بهم، ولم يثبت أنه كان عليه ديون وإن ثبت فهو لمصلحة المسلمين، وإذا استدان الإمام لمصالحهم كان عليهم لا عليه.
فإن قيل: هذا فيما استدانه للجهات العامة دون ما استدانه لأهله، فإنه وكيل عليهم والوكيل تتعلق به العهدة.
والجواب: أنه أولى بالمؤمنين، فهو يتصرف عليهم بهذه الولاية التي ليست لغيره من الأئمة ولا يخفى ما فيه اهـ كلام الشيخ زكريا.
أقول: يمكن أن يجاب بأن المختار عند الأصوليين عدم دخول المتكلم في عموم كلامه، فذلك في حق من سواه، أما هو فلا يحبس عن علي مقامه تشريفاً له والله أعلم.
وفي «فتح الباري» : فيه أي في حديث: «توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودرعه مرهونة» دليل على أن المراد بقوله في حديث أبي هريرة: «نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضي عنه» وهو حديث صححه ابن حبان وغيره من لم يترك عند صاحب الدين ما يحصل به الوفاء وإليه جنح الماوردي، وذكر ابن الطلاع في الأقضية النبوية أن أبا بكر افتك الدرع بعد النبي، لكن روى ابن سعد أن أبا بكر قضى عدات النبي وأن علياً قضى ديونه، وروى إسحاق بن راهويه في «مسنده» عن الشعبي مرسلاً أن أبا بكر افتكها وسلمها لعلي، وأما من أجاب بأنهافتكها قبل موته بثلاثة أيام فمعارض بحديث عائشة اهـ ( متفق عليه) رواه البخاري في أبواب من «صحيحه» بعضها باللفظ المذكور وبعضها بنحوه، ورواه مسلم في البيوع، ورواه النسائي وابن ماجه.


رقم الحديث 505 ( وعن أنس رضي الله عنه قال: رهن النبيّ درعه) لفظ البخاري درعاً له، فيه أنه من أدراعه لا الذي كان يعتاد لبسه ( بشعير) أي مقابلة بثمن الشعير الذي شراه نسيئة، ففي الحديث مضاف مقدر والباء فيه للمقابلة، ويصح كونها باء السببية ولا مضاف: أي بسبب الشعير الذي شراه نسيئة ( ومشيت إلى النبي بخبز شعير) قال الحافظ في كتاب الرهن من «الفتح» : ووقع لأحمد عن أنس: «لقد دعي نبي الله - صلى الله عليه وسلم - يوم على خبز شعير وإهالة سنخة» ، فكأن اليهودي دعا النبي على لسان أنس، فلذا قال: مشيت إليه بخلاف ما يقتضيه ظاهره ( وإهالة سنخة) بالسين المهملة، قال الشيخ زكريا: ويروى زنخة بالزاي بدلها والباقي سواء، ففيه إعراضه عن المشهيّات واجتزاؤه بما يسد الحاجة من القوت حتى حمل إليه مثل ذلك ( ولقد سمعته) ظاهره أن هذا من كلام أنس، ومرجع الضمير البارز للنبي: أي قال أنس: سمعت النبي، وهو ما فهمه الحافظ ابن حجر، ورد على الكرماني قوله وهو كلام قتادة، والضمير المنصوب فيه لأنس.
قال الحافظ: ويرد عليه أنه أخرجه أحمد وابن ماجه عن أنس بلفظ: «ولقد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «والذي نفس محمد بيده» فذكر الحديث بلفظ ابن ماجه وساقه أحمد بتمامه ( يقول) مسلياً لأولي الفقر والحاجة من أمته ( ما أصبح لآل محمد) أي عندهم كقوله تعالى: { أثم الصلاة لدلوك الشمس} ( الإسراء: 78) أي عنده كما يدل عليه لفظ البخاري في أوائل البيوع: «ما أمسى عند آل محمد صاع برّ» الحديث، قال في «تحفة القارىء» : وآل مقحم.
قلت: ويجوز إبقاؤه على ظاهره خصوصاً ومذهب البصريين وهو المختار منع زيادة الأسماء، ويؤيده عود الضمير إليه من قوله وإنهم لتسعة أبيات ( إلا صاع) أي مكيلة من الطعام لكن في باب شراء النبي نسيئة أوائل البيوع من «صحيح البخاري» في حديث الباب عن أنس: «ولقد سمعته يقول: ماأمسى عند آل محمد صاع برّ لا صاع حبّ» ويمكن الجمع بأن المنفي في رواية: «صاع» تام من نوع واحد، والمثبت صاع مجمع من أقوات كما يبينه أنه في جانب النفي بين فرداً خاصاً ثم عطف عليه ما يعمه وغيره، وفي جانب الإثبات لم يبين إبهام الصاع والله أعلم ( ولا أمسى) أي لهم سواه كما صرح به أبو نعيم في روايته في «مستخرجه» بلفظ: ولا أمسى إلا صاع، وحذف ذلك إيجازاً لدلالة ما قبله عليه ( وإنهم) أي آله الذين ينفق عليهم من زوجاته ومن يلوذ بهن ( لتسعة أبيات) هذا بالنسبة للزوجات، وكان له مارية وريحانة يطؤهما بملك اليمين، وجملة وإنهم في محل الحال من الظرف، قال الحافظ في «الفتح» : ويناسبه ذكر أنس لهذا القدر مع ما قبله الإشارة إلى سبب قوله هذا، وأنه لم يقله متضجراً ولا شاكياً.
معاذالله، إنما قاله متعذراً عن إجابته لدعوة اليهودي ولرهنه درعه عنده، ولعل هذا هو الحامل للذي زعم أنه قائل ذلك هو أنس فراراً من أن يظن به أنه قاله تضجراً، والله أعلم ( رواه البخاري) في البيوع والرهن، ورواه الترمذي في البيوع من «جامعه» وقال: حسن صحيح، والنسائي في البيوع أيضاً، وابن ماجه في «الأحكام» ( الإهالة بكسر الهمزة) وتخفيف الهاء واللام ( الشحم الذائب) وفي «المصباح» هي الودك المذاب، وفي «التحفة» : هي ما يؤتدم به من الأدهان كالألية، وهما قولان، ففي «النهاية» كل شيء من الأدهان يؤتدم به إهالة، وقيل: هو ما أذيب من الألية والشحم وبهذا بدأ الحافظ في «الفتح» ، وقيل: هو الدمس الجامد.
قلت: وعلى الأول والاخير فيشمل السمن ونحوه من الزبد ( وانسنخة بالنون) المكسورة، قال الحافظ: ويقال فيها بالزاي بدل السين ( والخاء المعجمة، وهي المتغيرة) أي متغيرة الرائحة من طول المكث كما في «تحفة القارىء» ، ففي الحديث كمال تواضعه وزهده وتقلله من الدنيا مع قدرته عليها، وكرمه الذي أفضى به إلى عدم الإدخار حتى احتاج إلى رهن درعه.


رقم الحديث 506 ( وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لقد رأيت سبعين) بتقديم المهملة على الموحدة ( من أهل الصفة) من فيه تبعيضية لما تقدم قريباً من أنهم يبلغون إلى أربعمائة ( مامنهم رجل عليه رداء) أي لا رداء، وهو الساتر لأعلى البدن على أحد منهم وإنما معهم ما يسترون به عورتهم إما بكسر الهمزة للتفضيل ( إزار وإما كساء) وهو مبتدأ خبره محذوف: أي ما لهم ذلك أو ذلك ( قد ربطوا) بحذف العائد وهو المفعول به: أي ربطوه ( في أعناقهم) وذلك للاستمساك فيدوم ستر العورة ( منها) أي الأزر والأكسية المدلول عليها بما ذكر ( ما يبلغ نصف الساقين) أفرد المضاف إلى المثنى وهو جائز كتثنيته وجمعه كقطعت رأسي الكبشين وكحديث «كان شعاره إلى أنصاف أذنيه» وقوله تعالى: { فقد صغت قلوبكما} ( التحريم: 4) وفي «المصباح» : الساق من الأعضاء أنثى، وهي ما بين الركبة والقدم وتصغيرها سويقة اهـ ( ومنها ما يبلغ) أي يدرك ( الكعبين) قال في «المصباح» : الكعب من الإنسان اختلف فيه أئمة اللغة، قال أبو عمرو بن العلاء والأصمعي: الناتىء عند ملتقى الساق والقدم فيكون لكل قدم كعبان عن يمينها وشمالها، وقد صرح بهذا الأزهري وجماعة، وقال ابن الأعرابي وغيره: الكعب هو المفصل بين الساق والقدم، وذهب الشيعة إلى أن الكعب في ظهر القدم، وأنكره أئمة اللغة كالأصمعي وغيره اهـ.
وظاهر أن المراد هنا لا يختلف على قول أهل اللغة الستة المذكورين إذ المراد التقريب لا التحديد، فما أدرك الناتىء قارب إدراك المفصل وبالعكس، والأول أبلغ في الإعراض عن الدنيا اللائق بأحوالهم ( فيجمعه) أي الرجل أعاد الضمير أولاً مجموعاً في قوله قد ربطوا باعتبار المعنى، إذ المراد من رجل العموم وإفراده هنا باعتبار لفظه: أي فيجمع ما ذكر من الإزار والكساء ( بيده كراهية) بتخفيف التحتية وهو الكراهة بحذفها مصدر كره الأمر يكرهه وهو مفعول له علة للجمع: أي استقباح ( أن ترى عورته) من طرفي نحو الإزار لصغره ( رواه البخاري) في الصلاة من «صحيحه» وقد سبق الحديث في الباب قبله.


رقم الحديث 507 ( وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان فراش رسول الله) أي الذي ينام عليه ( من أدم) بفتح أوليه والدال مهملة جمع أديم: الجلد المدبوغ ( حشوه) أي محشوه مصدربمعنى المفعول ( ليف) بكسر اللام وسكون التحتية، قال في «الصحاح» : الليف للنخل واحده ليفة ( رواه البخاري) .


رقم الحديث 508 ( وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا جلوساً) بضم أوليه جمع جالس ( مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ جاء رجل من الأنصار) أي وقت مجيء الرجل الأنصاري وتقدم أنها تحتمل المفاجأة بناء على قول أبي عبيدة بإفادتها له ( فسلم عليه) أي على النبي ( فقال رسول الله: يا أخا الأنصار) أي يا واحداً من الأنصار في «الكشاف» في قوله تعالى: { إذ قال لهم أخوهم نوح} ( الشعراء: 16) قيل أخوهم لأنه كان منهم من قول العرب يا أخا بني تميم يريدون يا واحداً منهم، ومنه بيت الحماسة: لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهاناً ( كيف أخي) فيه كمال تواضعه ومزيد فضله إذ أطلق هذا اللفظ في حقه تشريفاً له، وفيه إيماء إلى صدق إيمانه فيكون فيه تلميح إلى قوله تعالى: { إنما المؤمنون إخوة} ( الحجرات: 1) ( سعد بن عبادة) سيد الخزرج ( فقال صالح) خبر مبتدأ محذوف لدلالة السؤال عليه ففيه استحباب مثله لمن سأل عن حال مريض من نفسه أو غيره.
وفي الحديث: «أن علياً رضي الله عنه خرج من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في اليوم الذي توفي فيه النبيّ فقال: بخير، أصبح بارئاً بحمد ا» وقوله صالح: أي للشفاء عند مجيء إبانها في العلم الأزلي وهو كناية عن مرضه، فلذا توجه لعيادته ( فقال رسول الله: من يعوده منكم) فيه أن العيادة مطلوبة على الكفاية ( فقام وقمنا معه) ظاهره قيام جميع حاضري المجلس معه ( ونحن بضعة عشر) البضعة بكسر الموحدة ما بين العقدين من العدد ( ما علينا نعال) بكسر النون جمع نعل أي في أقدامنا ( ولا خفاف) بكسر أوله أيضاً جمع خف بضمه، قال في «المصباح» : الخفّالملبوس جمعه خفاف ككتاب: أي بل كنا حفاة ( ولا قلانس) هي كالقلاسي جمع قلنسوة بوزن فعنلوة بفتح أوليه وسكون النون وضم اللام، وفي «التهذيب» للمصنف: القلنسوة هي التي تلبس، النون فيها زائدة وهي معروفة وفيها لغتان ذكرهما الجوهري وغيره، قال الجوهري: هي القلنسوة والقلنسية إذا فتحت القاف ضمت السين، وإن ضمت القاف كسرت السين وقلبت الواو ياء، فإذا جمعت أو صغرت فأنت بالخيار في حذف الواو أو النون لأنهما زائدتان، وإن شئت حذفت الواو فقلت قلانس، وإن شئت حذفت النون قلت: قلاس، وإن جمعت القلنسوة بحذف الهاء قلت: قلنس والأصل قلنسو، وإلا أن الواو رفضت لأنه ليس في الأسماء: أي المعربة اسم آخره حرف علة قبله ضمة، فإذا أدى إلى ذلك قياس وجب رفضه وتبدل من الضمة كسرة فيصير آخر الاسم ياء مكسوراً ما قبلها فتحذف كهي في غاز اهـ ملخصاً ( ولا قمص) بضمتين جمع قميص ويجمع على قمصان: الثوب المعروف الملبوس على البدن وجملة النفي في محل الحال من المبتدأ على مذهب سيبويه، ويصح أن يكون خبراً بعد خبر كجملة ( نمشي في تلك السباخ) بكسر المهملة وبالموحدة جمع سبخة، بوزن تمرة أما سبخة بوزن كلمة فجمعها سبخات ككلمة وكلمات، والأرض السبخة قال في «النهاية» : هي التي يعلوها الملوحة ولا تكاد تنبت إلا بعض الشجر.
وفي هذه الجملة دلالة على الاقتصار على قليل الملبوس والإعراض عما زاد على الضرورة، وظاهر العبارة أنه حينئذ كان كذلك ليتأسوا به ويقتدوا بهديه ( حتى جئناه) غاية للمشي ( فاستأخر قومه) الخزرج أو الأنصار ( من حوله حتى دنا) أي قرب منه ( رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الذين) جاءوا ( معه) إكراماً للوافد وإنزالاً للناس منازلهم وليتأنس بهم المريض ويذهب عنه بعض الكلال الذي يحصل له من طول ملازمة من عنده إن كان ( رواه مسلم) في الجنائز من «صحيحه» .


رقم الحديث 509 ( وعن عمران) بكسر المهملة ( ابن حصين) بضم المهملة الأولى وفتح الثانية وسكون التحتية بعدها نون ( رضي الله عنهما عن النبيّ قال: خيركم) أيها الأمة وحذف «المصنف لفظ» إن من أول الحديث وهي ثابتة عند مسلم ( قرني) وفي لفظ آخر لهما: «خير أمتي قرني» وفي لفظ آخر لمسلم: «خير الناس قرني» وحديث الباب بمعناه كما قدرناه.
قالالسيوطي في «الترشيح» : القرن أهل زمان واحد متقارب اشتركوا في أمر من الأمور المقصودة، والأصح ألا يضبط بمدة فقرنه هم الصحابة وكانت مدتهم من المبعث إلى آخر من مات من الصحابة مائة وعشرين سنة ( ثم الذين يلونهم) أي ثم قرن التابعين، وقرنهم من سنة مائة نحو سبعين ( ثم الذين يلونهم) أي من أتباع التابعين، وقرنهم من ثمة إلى حدود العشرين ومائتين، ومن هذا الوقت ظهرت البدع ظهوراً فاشياً وأطلقت المعتزلة ألسنتها، ورفعت الفلاسفة رؤوسها وامتحن أهل العلم ليقولوا بخلق القرآن وتغيرت الأحوال تغيراً شديداً ولم يزل الأمر في نقص إلى الآن اهـ.
قال المصنف: والمراد تفضيل جملة القرن، ولا يلزم منه تفضيل الصحابي على الأنبياء ولا تفضيل أفراد النساء على مريم وآسية وغيرهما بل المراد جملة القرن بالنسبة إلى جملة القرن.
حكي عن عياض عن المغيرة قال: قرنه أصحابه، والذين يلونهم أبناؤهم، والثالث أبناء إبنائهم، وقال سهل: قرنه ما بقيت عين رأته، والثاني ما بقيت عين رأت من رآه ثم كذلك ( قال عمران) هذا من كلام أحد الرواة عنه، ويحتمل على بعد أن يكون عبر عن نفسه باسمه كما هي طريق كثير من الأوائل ( فما أدري، قال النبي) ثم الذين يلونهم ( مرتين أو) قالها ( ثلاثاً) وشرف القرن الرابع باعتبار من فيه من أئمة الإسلام الناصرين للحق الذابين عنه، المجاهدين في سبيلالله، الصابرين على ما أصابهم في سبيله كالإمام أحمد بن حنبل وأضرابه ( ثم يكون بعدهم) أي أهل القرون المشهود لهم بالأخيرية ( قوم يشهدون ولا يستشهدون) قال المصنف في «شرح مسلم» : هذا غير مخالف لحديث: «خير الشهود الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسأل عنها» لأن ذلك محمول على دعاوى الحسبة أو على إعلام ذي الحق بأنك تشهد به وهو لا يعلم شهادتك به، وحديث الباب محمول على الشهادة لذي الحق العالم بها عند الحاكم قبل طلبها منه أو على شاهد الزور أو على من ينتصب شاهداً وليس هو من أهل الشهادة أو على من يشهد لقوم بالجنة أو النار من غير توقيف، وهذا ضعيف اهـ ملخصاً ( ويخونون ولا يؤتمنون) قال المصنف في «شرح مسلم» بعد أو أورده بلفظ يتمنون بالتشديد الفوقية: كذا في أكثر النسخ، يعني من مسلم، وفي بعضها يؤتمنون ومعناه يخونون خيانة ظاهرة بحيث لا يبقى معها أمانة، بخلاف من خان بحقير مرة واحدة فإنه يصدق عليه أن خانفلا يخرج عن الأمانة في بعض المواطن اهـ.. قلت: ويصح أن يكون جملة النفي في محل الحال: أي إن طبعهم الخيانة مع عدم الائتمان لهم فليس لهم سوى وبال العزم عليها من غير ظفر بشيء والله أعلم ( وينذرون) بفتح الفوقية وضم الذال المعجمة وكسرها لغتان كما في المصنف ( ولا يوفون) قال في «شرح مسلم» : وفي رواية: «ولا يفون» وهما صحيحتان يقال وفي وأوفى ( ويظهر فيهم السمن) أي كثرة اللحم: أي إنه يكثر ذلك فيهم، وليس الخلقي منهم مذموماً بل المكتسب له بالتوسع في المأكل والمشرب وغير زيادة على المعتاد، وقيل: المراد التكثر مما ليس لهم وادعاء ما ليس لهم من الشرف وغيره، وقيل: المراد جمعهم الأموال ( متفق عليه) أخرجه البخاري في الشهادات وفضل الصحابة وغيرهما من «صحيحه» ، ومسلم في الفضائل، ورواه النسائي في النذور.


رقم الحديث 510 ( وعن أبي أمامة) بضم الهمزة وميمين خفيفين بينهما ألف ( رضي الله عنه قال: قال رسول الله: «با ابن آدم إنك إن) بفتح الهمزة ( تبذل الفضل) أي بذلك الفضل منصوب بدل اشتمال من اسم أن، والفضل بفتح الفاء وسكون الضاد المعجمة أفضل عما يحتاج إليه عادة ( خير لك) ليبقى لك غلته، ويحتمل أن يكوم مصدراً ( وأن تمسكه شر لك) لأنك ربما لا تؤدي الحقوق الواجبة، وقد يشغل به القلب الذي هو بيت الرب ومحل نظره من العبد عن التوجه إليه ( ولا تلام) بضم الفوقية مبني للمجهول: أي لا يلحقك لوم: أي عتب من الشرع ( على كفاف) بفتح أوليه: أي قدر الحاجة من طعام وشراب وملبس ومسكن وخادم احتاجه، قال القرطبي: وهو ما يكف عن الحاجات ويدفع الضرورات والفاقات ولا يلحق بأهل الترفهات، وهذا أحسن الأحوال لسلامته من وصمه كل من الفقر والغنى ( وابدأ) في الإنفاق ( بما تعول) أي بحق الذي تعوله وتمونه من زوجة وأصل أو فرع محتاج أو خادم فالعائد محذوف، أو بعائلتك فما موصولة أو مصدرية ( رواه الترمذي) في الزهد من «جامعه» ( وقال: حديث حسن صحيح) وأخرجه مسلم في الزكاة من «صحيحه» وكان عزوه إليه أولى، وكأنه غاب عن الشيخ ولا عيب على الإنسان في النسيان.