فهرس الكتاب

دليل الفالحـــين - باب فضل الجوع وخشونة العيش والاقتصار عَلَى القليل من المأكول والمشروب والملبوس وغيرها من حظوظ النفس وترك الشهوات

رقم الحديث 511 ( وعن عبيد ا) بصيغة التصغير ( ابن محصن) بكسر الميم وسكون المهملة الأولى وفتح الثانية آخره نون ( الأنصاري) رأى ( رضي الله عنه) النبي قال في «أسد الغابة» بعد أو أن أورد حديث الباب: وقال أبو عمرو يعني ابن عبد البرّ: منهم من جعل حديثه مرسلاً والأكثر يصحح صحبته فيجعل حديثه مسنداً، روي عنه أبو سلمة أيضاً اهـ ( قال: قال رسول الله: «من أصبح منكم» ) الخطاب للحاضرين بمجلسه وحكمه على الواحد حكمه على الجماعة ( آمناً) من عدوه ( في سربه) على نفسه وبضعه وأهله وماله ( معافى في جسده) من الأمراض لأن معها لا سيما الشديد منها يذهل المرء عن نظره في حسن حاله وما أنعم المولى به عليه من أمن وسعة ( عنده قوت يومه) من طعام وشراب وسائر ما يحتاج إليه من أدوية ونحوها ( فكأنما حيزت) بكسر المهملة وسكون التحتية بعدها زاي: أي ضمت وجمعت ( له الدنيا) وفي رواية زيادة «بحذافيرها» أي بجوانبها أي فكأنما أعطي الدنيا بأسرها ( رواه الترمذي وقال: حديث حسن) ورواه البخاري في «الأدب المفرد» وابن ماجه ( سربه بكسر السين المهملة) وسكون الراء وبالموحدة المجرورة على الحكاية ( أي نفسه) قاله في «النهاية» قال: ويروى بالفتح وهو المسلك والطريق، يقال خلّ له سربه: أي طريقه، قلت: وعليه فيكون مجازاً عن الأمن أيضاً فيرجع إلى الأول ( وقيل: قومه) قلت: كأن قائله أخذه من قول اللغويين: السرب أي بكسر أوله الجماعة من النساء والبقر والشاة والقطاة والوحش كذا في «المصباح» ، فجرد السرب عن قيد النساء الخ، وأراد به مطلق جماعته وقومه والله أعلم.


رقم الحديث 512 ( وعن عبد الله بن عمرو بفتح المهملة) ابن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «قد أفلح» أي فاز بالفلاح وهو الفوز والبقاء والظفر ( من أسلم) بدأ به لأنه الأساس في الاعتداد بقبول صالح الأعمال، والمراد الإسلام الصحيح المخلص فيه لأنه الكامل فينصرف المطلق إليه ( وكان رزقه كفافاً) أي بقدر الحاجة لا يفضل عنه، قال المصنف: هي الكفاية من غير زيادة ولا نقص، وفيه شاهد لتفضيل الكفاف على كل من الفقر والغنى ( وقنعه ا) أي صيره قانعاً، ولعل التضعيف إيماء إلى بعد هذا الوصف عن طبع الإنسان فكان محاول إزالتها يحتاج إلى مبالغة في ذلك، لأن الطبع البشري مائل إلى الاستكثار من الدنيا والحرص عليها إلا من عصمالله، وقيل ماهم: أي وجعله الله يخفي ألطافه قانعاً ( بما آتاه) بالمد: أي أعطاه من الكفاف.
قال القرطبي: معنى الحديث أن من حصل له ذلك فقد حصل على مطلوبه وظفر بمرغوبه في الدارين ( رواه مسلم) قال في «الجامع الصغير» : رواه أحمد والترمذي وابن ماجه.


رقم الحديث 513 ( وعن أبي محمد فضالة) بفتح الفاء وبالضاد المعجمة ( ابن عبيد) بصيغة التصغير ابن ناقذ بالمعجمة ابن قيس بن صهيب بن الأصرم بن جحجبا بجيمين مفتوحتين بينهما حاء ساكنة وبباء موحدة ابن كلفة بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس ( الأنصاري) العمري ( رضي الله عنه) قال المصنف في «التهذيب» : أول مشاهده أحد شهدها وما بعدها من المشاهد ومنها بيعة الرضوان، وشهد فتح مصر وسكن دمشق وولى قضاءها لمعاوية وأمره على غزو الروم في البحر، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسون حديثاً، روى له مسلم منها حديثين، توفي بدمشق ودفن بباب الصغير سنة ثلاث وخمسين، وقيل: تسع وستين والصحيح الأول فقد نقلوا أن معاوية حمل نعشه وقال لابنه: أعني يا بنيّ فإنك لا تحمل بعده مثله، وتوفي معاوية سنة ستين ( أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: طوبى) قال في «المصباح» قيل: من الطيب، والمعنى: العيش الطيب، وقيل: الحسن، وقيل: الخير وأصلها طيبي فقلبت الياء واو المجانسة الضمة، وفي كتاب الجهاد من «صحيح البخاري» : طوبى فعلى منكل شيء طيب، وهي ياء حولت إلى الواو، وهو من يطيب اهـ ( لمن هدى) أي أوصل ( للإسلام) فعدي باللام لتضمنه معنى أوصل.
قال تعالى: { يهدي الله لنوره من يشاء} ( النور: 35) أي يوصله للدخول في جملة أهله ( وكان عيشه كفافاً وقنع) الأقرب أنه بالبناء للمفعول من باب التفعيل كما يدل عليه ما قبله، ويحتمل أن يكون بتخفيف النون مفتوحة، والجملتان الأقرب كونهما معطوفتين على جملة الصلة، ويجوز كونهما في محل الحال من نائب فاعل هدي ( رواه الترمذي وقال: حديث صحيح) قال في «الجامع الصغير» : ورواه ابن حبان والحاكم في «مستدركه» .


رقم الحديث 514 ( وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبيت الليالي المتتابعة) أي التابع بعضها بعضاً مع الاتصال ( طاوياً) هذا مقصود الإخبار.
قال في «النهاية» يقال: طوى من الجوع يطوي طوى فهو طاوي: أي خالي لم يأكل ( وأهله) بالرفع عطف على الضمير المستكن في يبيت للفصل بينهما بالظرف، ويجوز أن يقرأ بالنصب على أن الواو واو المصاحبة: أي مع من يقوم بنفقتهم، وقوله: ( لا يجدون عشاء) بفتح العين وبالمد، قال في «المصباح» : اسم للطعام الذي يتعشى به الإنسان وقت العشاء: أي بكسر العين اهـ.
وفي كتاب الصيام من كتب الفقه: العشاء اسم لما يؤكل بعد الزوال: أي في وقت العشي جملة مستأنفة لبيان حالهم المقتضي لطواهم ( وكان أكثر خبزهم خبز الشعير) أي وهو أقل في كلفة التحصيل من البرّ وغيره من نفائس الأقوات، والجملة محتملة للعطف على ما قبلها ولكونها حالية بإضمار قد ( رواه الترمذي وقال: حسن صحيح) ورواه أحمد وابن ماجه كما في «الجامع الصغير» .


رقم الحديث 515 ( وعن فضالة بن عبيد) أي الأنصاري ( رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذاصلى بالناس) أي وقت صلاته بهم، وهو مضمن معنى الشرط ولا يجزم إلا في الشعر، جوابه ( يخرّ) بكسر الخاء المعجمة: أي يسقط ( رجال من) ابتدائية: أي سقوط مبتدأ ( من قامتهم في الصلاة) تعليلية ( الخصاصة) بفتح الخاء المعجمة وبالمهملتين الخفيفتين بينهما ألف ( وهم أصحاب الصفة) جملة حالية من فاعل يخر لتخصيصه بالوصف ( حتى) غاية لمحذوف: أي فتعجب من خرورهم من لم يعلم سببه إلى أن ( يقول الأعراب) أي من حضره حينئذ من سكان البوادي ( هؤلاء مجانين) يحتمل كون الجملة خبرية كما هو الظاهر، ويحتمل أنها استفهامية على تقدير الهمزة، وعلى كل فهي منصوبة المحل على الحكاية، وذلك أنهم توهموا أن ذلك الخرور صادر عنهم اختياراً لا عن سبب يقتضيه، وذلك بحضرة الجمع شأن المجانين، فلذا حكموا عليهم به، أو سألوهم كذلك ( فإذا صلى رسول الله) أي الصلاة بإتمامها بسلامه منها وانصرف عنها ( انصرف إليهم) أي متوجهاً إليهم ( فقال) عقب وصوله إليهم لأنه الحامل له على قصدهم ( لو تعلمون ما لكم عند ا) أي ما أعده لكم مما لم تسمعه أذن ولم يره بصر، وفيه شهادة لهم بمكانتهم عند المولى سبحانه لصدق إيمانهم، وحسن مجاهدتهم وكمال وجهتهم ( لأحببتم أن تزدادوا فاقة) أي حاجة فعطف قوله: ( وحاجة) عليها من عطف الرديف وحبهم، ذلك ليصبروا عن الابتلاء بها فيكثر ما يؤجرون عليه من ذلك، فإن الجزاء على حسب المجازى عليه قلة وكثرة، أو لأنهم استعذبوا جميع ما يرد عليهم من الحق سبحانه لكمال عرفانهم، فنظروا إلى النعم من حيث صدورها من الرحيم لا من حيث ذاتها فأعجبوا بها على أي أمر تجلت وعلى أيّ مذاق، وما أحسن قول القائل: إذا ما رأيت الله في الكل فاعلاً رأيت جميع الكائنات ملاحاً وقلت في هذا المعنى: يا طالب التحقيق والعرفان لا تنظرن لحوادث الأزمان فتضيق منها وانظرن لمن بدت منه إليك فهو العلي الشان ( رواه الترمذي) في الزهد من «جامعه» ( وقال: حديث صحيح.
الخصاصة: الفاقةوالجوع الشديد)
قال في «النهاية» : وأصلها الفقر والحاجة إلى الشيء.


رقم الحديث 516 ( وعن أبي كريمة) بفتح الكاف وكسر الراء ( المقداد) بكسر الميم وسكون القاف ومهملتين بينهما ألف ( ابن معد يكرب) بكسر الدال المهملة وسكون التحتية وفتح الكاف وكسر الراء وتقدمت ترجمته رضي الله عنه في باب فضل الحب في الله ( قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ما ملأ آدمي» ) نسبة إلى آدم أبي البشر عليه السلام: أي إنسان ( وعاء شراً من بطنه) قال الطيبي: نقله عن ابن أقبرس جعل البطن وعاء كالأوعية المتخذة ظروفاً لحوائج البيت توهيناً لشأنه، ثم جعله شرّ الأوعية لأنها تستعمل فيما هي له، والبطن خلق لأن يتقوم به الصلب بالطعام، وامتلاؤه يفضي إلى الفساد ديناً أو دنيا فيكون شراً منها، فإن قلت: شرّاً أفعل تفضيل وهو ما اشتق من فعل الموصوف بزيادة على غيره فما وجه تحقق ثبوت الوصف في المفضل عليه؟ قلت: ملء الأوعية لا يخلو من طمع أو حرص على الدنيا وكلاهما شرّ على الفاعل ( بحسب ابن آدم) أي كافية فالباء مزيدة في المبتدأ ( أكلات) بفتح الكاف وضمها مع ضم الهمزة: أي كافية ذلك في سد الرمق، ولذا قال: ( يقمن صلبه) والجملة في محل الصفة لأكلات ويصح كونها مستأنفة لبيان سبب كفاية ذلك ( فإن كان لا محالة) في «الصحاح» قولهم لا محالة: أي بفتح الميم: أي لا بد، يقال: الموت آت لا محالة اهـ: أي فإن كان لا بد من الكثرة على ذلك فليكن أثلاثاً ( فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه) قال ابن أقبرس: أي يبقى من ملئه مقدار الثلث ليكون متمكناً من النفس.
ورأيت في بعض كتب الطب أن كسرى سأل طبيباً: ما الداء الذي لا دواء له؟ قال: إدخال الطعام على الطعام، فذاك الذي أفتى البرية وقتل سبع البرية، فسأل عن الحمية فقال: الاقتصاد في كل شيء، فإذا أكل فوق المقدار ضيق على الروح اهـ ( رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح) وأخرجه النسائي من طريق الترمذي ومن طريق أخرى، وأخرجه القاضي عياض في «الشفاء» من طريق أبي نعيم الحافظ والبزار، وفي «الجامع الصغير» ،وأخرجه أحمد وابن ماجه والحاكم في «المستدرك» ( أكلات: أي لقم) بضم ففتح جمع لقمة وهذا يقتضي فتح أولى أكلات والأنسب لقمات، لأن جمع السلامة من جموع القلة، فلذا قال التلمساني في حواشي «الشفاء» : فيه إيماء إلى أنه لا يصل بها العشرة.
ولعل المصنف وضع جمع الكثرة موضع ضده مجازاً كقوله تعالى: { ثلاثة قروء} ( البقرة: 228) .


رقم الحديث 517 ( وعن أبي أمامة) بضم الهمزة وميمين خفيفتين بينهما ألف ( إياس) بكسر الهمزة والتحتية المخففة آخره مهملة.
قال في «الإصابة» : هذا اسمه عند الأكثر، وقيل: اسمه عبد الله وبه جزم أحمد بن حنبل.
وقيل: ثعلبة بن سهل، وقيل: أبو عبد الرحمن، قال أبو عمر: واسمه إياس ولا يصح غيره ( ابن ثعلبة) بالمثلثة المفتوحة والمهملة الساكنة بعدها لام فموحدة مفتوحتين فهاء ( الأنصاري الحارثي) بالمهملة آخره مثلثة نسبة للحارث بن الخزرج أحد أجداده وقيل: إنه بلوى حليف بني حارثة وهو ابن أخت أبي بردة بن نيار ( رضي الله عنه) وتوفي في منصرف النبي من أحد فصلى عليه.
قال في «أسد الغابة» : رواية من روى عنه مرسلة لأنه لم يدرك النبي، وكذا رواية محمود بن الربيع عنه فإنه ولد قبل وفاة إياس على القول إنه قتل يوم أحد، والصحيح أنه لم يتوف حينئذ إنما كانت وفاة أمه عند منصرف النبي من بدر، فرده من أجلها، فرجع فوجدها ماتت فصلى عليها ولم يشهد بدراً لذلك.
ومما يقوي أنه لم يقتل بأحد أن مسلماً روى في «صحيحه» بإسناده عن عبد الله بن كعب عن أبي أمامة بن ثعلبة: «من اقتطع حق مسلم بيمينه» الحديث، فلو كان منقطعاً ولم يسمع أبي بن كعب منه لما أخرجه مسلم في «الصحيح» اهـ.
روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحاديث ذكر منها المزي في «الأطراف» حديثين: حديث مسلم وحديث الباب.
وقال في «الإصابة» : روى له عن النبي أحاديث منها عند مسلم وأصحاب السنن انفرد به مسلم عن البخاري، فخرج له الحديث المار في كلام «أسد الغابة» وهو عند النسائي وابن ماجه ( قال: ذكر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً عنده) أي النبيّ بقرينة إفراد الضمير وإن كان خلاف الغالب ( الدنيا) أي زينتها والترفع فيها بالملبس وغيره ( فقال رسول الله: ألا) بالتخفيف أداة عرض وأتى بها تحريضاً على الاستماع لما بعدها والإصغاء إليه ( تسمعون ألاتسمعون) قال ابن رسلان في «شرح السنن» : في الكلام أنواع من التأكيدات: إلا الدالة على العرض والتحضيض على الاستماع والتأكيد بتكرير الكلمة والتصريح بالإصغاء بالاستماع سماع فهم وانتفاع، مع أنه عالم بأنهم يستمعون لما يقوله ويبادرون إلى امتثاله، لكن يكون أبلغ في الموعظة والإتيان بلفظ ( إن) للتأكيد وهي عوض إعادة الكلام مرّتين ( البذاذة من) كمال ( الإيمان) الراسخ في القلب، قال زيد بن وهب: رأيت عمر بن الخطاب خرج إلى السوق وبيده الدرّة وعليه إزار فيه أربع عشرة رقعة بعضها من أدم: أي جلد.
وعوتب عليّ رضي الله عنه في إزار مرقوع فقال: يقتدي به المؤمن ويخشع له القلب.
قال عيسى عليه السلام: جودة الثياب خيلاء القلب، وإنما كانت البذاذة من الإيمان لما تؤدي إليه من كسر النفس والتواضع، ولكن ليس ذلك عند أكل أحد بل يورث عند بعض الناس من الكبرياء ما يورثه لبس نفيس الثياب عند آخرين، وبالجملة فالمحبوب التوسط في الثياب كما سيأتي بسطه في كتاب اللباس ( إن البذاذة من الإيمان) وفي بعض نسخ أبي داود تكراره ثلاثاً، ولا ينافي حديث الباب وما في معناه، وإيثاره بذاذة الهيئة ورثاثة المنظر وتبعه عليه السلف الصالح ما اختاره جمع أئمة من متأخري الصوفية وغيرهم، لأن السلف لما رأوا أهل الهوى يتفاخرون بالزينة والملابس أظهروا لهم برثاثة ملابسهم حقارة ما حقره الحق مما عظم الغافلون، والآن قد قست القلوب ونسي ذلك المعنى، فأخذ الغافلون رثاثة الهيئة حيلة على جلب الدنيا، فانعكس الأمر وصار مخالفتهم في ذلك تبعاً للسلف، ومن ثم قال العارف با تعالى أبو الحسن الشاذلي لذي رثاثة أنكر عليه جمال هيئته: يا هذا هيئتي هذه تقول الحمد، وهيئتكم تقول: أعطوني من دنياكم ( يعني التقحل) هذا قول أبي داود وتفسير للبذاذة كما صرح به شارح «سنن أبي داود» بن رسلان فقال: قال المصنف: البذاذة يعني التقحل بفتح التاء والقاف وبالحاء المهملة المشددة.
( رواه أبو داود) في الترجل من «سننه» ، ورواه ابن ماجه في الزهد ( البذاذة بالباء الموحدة) المفتوحة ( والذالين المعجمتين) الخفيفتين ( وهي رثاثة) بالراء والمثلثتين الخفيفات مصدر رث الشيء.
أي خلق، قال في «النهاية» : وأصل اللفظة من الرث وهو الثوب الخلق اهـ.
والمراد منه في عبارته ضد الجيد من ( الهيئة وترك فاخر الثياب) أي تواضعاً في اللباس، يقال: فلان بذّ الهيئة وباذها: أي رث اللبسة، والمراد التواضع في اللباس وترك التبجح به.
قال هارون الرشيد: سألت معناًعن البذاذة فقال: هو الدون من اللباس ( وأما التقحل فالبقاف والحاء) أي المهملة كما تقدم ( قال في اللغة: المتقحل هو الرجل اليابس الجلد من خشونة العيش وترك الترفه) أي التنعم لسوء الحال، قال ابن رسلان: يقال: قد قحل الرجل قحلاً: إذا التزق جلده بعظمه من الهزال.


رقم الحديث 518 ( وعن أبي عبد الله جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: بعثنا رسول الله) في سنة ثمان ( وأمر) بتشديد الميم: أي جعل أميراً ( علينا أبا عبيدة) بن الجراح أحد العشرة ( رضي الله عنه) وفيه تأمير أهل الفضل، وقد اتفقت روايات «الصحيحين» على تأميره في تلك السرية، فهو المحفوظ، وفي رواية: إن أميرها قيس بن سعد بن عبادة حملت على أن أحد رواتها ظن من ذبح قيس النياق للجيش تأميره فصرح به وليس كذلك ( نتلقى عيراً لقريش) جملة مستأنفة لبيان سبب البعث، والعير بكسر العين المهملة: القافلة التي تحمل البرّ والطعام، ثم صريح هذه الرواية ما ذكر من تلقي العير، لكن عند ابن سعد أنه بعثهم إلى حيّ من جهينة وأن ذلك كان في شهر رجب، ويمكن الجمع بين كونهم يتلقون غير قريش ويقصدون الحي من جهينة، ويقوي هذا الجمع ما عند مسلم أيضاً عن جابر قال: بعث النبي بعثاً إلى أرض جهينة، فذكر القصة الذي يتلقى عير قريش لا يتصور أن يكون في الشهر الذي ذكر ابن سعد: أي رجب من سنة ثمان لأنهم حينئذ كانوا في الهدنة، إلا إن كان تلقيهم العير لحفظها من جهينة، ولذا لم يقع في الحديث أنهم قاتلوا أحداً، بل فيه أنهم أقاموا شهراً أو أكثر في مكان واحد ( وزودنا جراباً) أي ملأه ( من تمر) بفتح الفوقية، وقوله ( لم يجد لنا غيره) استئناف لبيان سبب الاقتصار على ذلك القليل في ذلك العدد الكثير ( فكان أبو عبيدة يعطينا تمرة تمرة) هذا من باب قولهم: ركب القوم دوابهم: أي لكلواحد تمرة، وهذا باعتبار آخر فعل أبي عبيدة، وإلا ففي البخاري: فكان يقوتنا كل يوم قليلاً قليلاً حتى فني فلم يكن يصيبنا إلا تمرة، وكذا قال المصنف في «شرح مسلم» : الظاهر أن قوله قسم تمرة تمرة إنما كان بعد أن قسم قبضة قبضة فلما قل ثمرهم قسم تمرة تمرة.
l والجراب هو الذي زودهم به وكانت عندهم أزوادهم من تمر لأنفسهم كما يدل عليه قوله في رواية للبخاري ومسلم: فكنا ببعض الطريق فني الزاد، فأمر أبو عبيدة بأزواد الجيش فجمعت، فكان مزودي تمراً.
قال في «الفتح» : وقول عياض يحتمل أنه لم يكن في أزوادهم تمر غير الجراب المذكور مردود بما ذكر ( فقيل) يحتمل أن يكون القائل وهب بن كيسان الراوي عن جابر فإن في رواية البخاري في المغازي التصريح بأنه سأل جابراً: ما يعني عنكم تمرة فقال: قد وجدنا نقدها حين فقدت فلعله سأل فقال: ( كيف كنتم تصنعون؟) قال البيضاوي في التفسير: تصنعون أبلغ من تعملون، من حيث إن الصنع عمل الإنسان بعد تدرب فيه وتردد وتر وتحر وإجادة ( بها قال: نمصها) لم يصدر قال: بفاء ولا واو، بل أتى بها مستأنفاً، لأن مراده الإخبار عن قوله ذلك مع قطع النظر عن كونه أخبر حالاً أو بعد ( كما يمصّ الصبي ثم نشرب عليها من الماء) أي بعض الماء ( فتكفينا يومنا إلى الليل) ففيه ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من الزهد في الدنيا والتقلل منها والصبر على الجوع وخشونة العيش، وفيه كرامة له حيث كفى الواحد منهم نهاره تمرة واحدة لكونها حلت عليه بركته.
وفيه أن توقف الشبع على الأكل ليس على جهة اللزوم وإنما ذلك فعل الله يفعله عقبه تارة ومن غيره أخرى كما قال: «إني أظلّ عند ربي يطعمني ويسقيني» أي يجعل في قوة الطاعم والشارب على أحد الأقوال، ومنه قوله: { أطعمهم من جوع} ( قريش: 4) على القول بأن: «من» تبعيضية والله أعلم.
وفني التمر كما في رواية أخرى لهما: «فلم يصلهم ولا تمرة تمرة فوجدوا فقدها» كما تقدم عن جابر فعنده ضربوا الشجر كما قال: ( وكنا نضرب بعصينا) بكسر أوله إتباعاً لكسر ثانيه وتشديد التحتية ويجوز ضم أوله ( الخبط ثم نبله بالماء) هذا يدل على أنه كان يابساً بخلاف ما جزم به الداودي أنه كان أخضر رطباً قاله في «الفتح» .
قلت: ولعل الماء كان لإذهاب خشونته ولإساغته فلا يخالف ما قاله الداودي ( فنأكله فانطلقنا على ساحل) بالمهملتين: أي شاطىء ( البحر فرفع) بالبناء للمجهول ( لنا على ساحل البحر كهيئةالكثيب) بالمثلثة والتحتية والموحدة بوزن قريب: الرمل المستطيل المحدودب وأحد الظروف نائب الفاعل والظرفان حالان متداخلان أو مترادفان منه ( الضخم) بفتح المعجمة الأولى وسكون الثانية بمعنى العظيم ( فأتيناه) أي المرفوع لنا ( فإذا هي) أي المرفوع لنا والتأنيث رعاية لقوله: ( دابة تدعى) بالبناء للمجهول ( العنبر) بفتح أوله وثالثه الباء الموحدة وسكون ثانيه النون المزيدة ويجوز إبداله وإدغامه في الثالث.
قال في «فتح الباري» : قال أهل اللغة: هي سمكة بحرية كبيرة يتخذ من جلدها الترسة يقال: إن العرف المشموم رجيع هذه الدابة قال ابن سينا: بل المشموم يخرج، وإنما يوجد في أجواف السمك الذي يبتلعه، ونقل الماوردي عن الشافعي قال: سمعت من يقول: رأيت العنبر نابتاً في البحر ملتوياً مثل عنق الشاة، وفي «البحر» دابة تأكله وهو سم لها فيقتلها فيقذفها البحر فيخرج العنبر من بطنها.
وقال الأزهري: العنبر سمكة تكون بالبحر الأعظم يبلغ طولها خمسون ذراعاً يقال لها باله، وليست بعربية اهـ.
( فقال أبو عبيدة) هي ( ميتة) أي وإن كانت ميتة للضرورة والميتة محرمة بنص الكتاب ( ثم) تغير اجتهاده وأرشد للصواب ( فقال: لا) أي لا يحرم تناولها وإن كانت ميتة للضرورة، فالمنفي ما دل عليه كلامه السابق من تحريم وحذف لدلالة المقام عليه ( بل) إضراب عما ظنه أولاً ( نحن رسل) بضمتين ويجوز إسكان ثانيه تخفيفاً ( رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي سبيل ا) أي ونحن في طاعة الله وفي جهاد أعدائه وأعداء نبيه، ففيه إيماء إلى قوله تعالى: { ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب} ( الطلاق: 2، 3) ولي في هذا المعنى يديها.
اتق الله سائر الأزمان لا تخف من طوارق الحدثان يرزق الله متقيه ويكفيـ ــــه فهذا قد جاء في القرآن ( وقد اضطررتم) جملة مستأنفة ويحتمل أن تكون حالية وعدل عن التكلم إليه تفنناً في التعبير وتحصيلاً للالتفات المورث في الكلام وطراوة وحسناً ونضارة ( فكلوا) الفاء فيه للتقريع ( فأقمنا) المعطوف عليه محذوف: أي فأكلنا فأقمنا ( عليه شهراً) وفي رواية«الصحيحين» فأكل منه القوم ثماني عشرة ليلة، وفي رواية لهما: فأكلنا منه نصف شهر.
قال في «فتح الباري» : ويجمع بأن الذي قال ثماني عشرة ضبط ما لم يضبطه غيره، ومن قال نصف شهر ألغى الكسر الزائد عليه وهو ثلاثة أيام، ومن قال: شهراً جبر الكسر وضم بقية المدة التي كانت قبل وجدانهم، ورجح المصنف رواية الباب لما فيه من الزيادة، وجمع القاضي بأن من قال: نصف شهر أراد أكلوا منه تلك المدة، ومن قال: شهراً أراد قد زودوه فأكلوا منه باقي الشهر.
وقال ابن التين: إحدى الروايتين وهم.
قال الحافظ: ولعل الذي سلكته من الجمع أولى ووقع عند الحاكم اثني عشر وهي شاذة، وأشذ منها رواية فأقمنا قبلها ثلاثاً ( ونحن ثلثمائة) جملة حالية من أقمنا ( حتى) غاية للإقامة عليها: أي فأكلنا منها إلى أن ( سمنا) يحتمل أكلهم منه زيادة عن الحاجة حتى نشأ عنه السمن، وأنهم يرون حلّ ذلك من الميتة عند الضرورة إلى التناول منها، ويحتمل أنه تغير اجتهادهم بعد فرأوا حل ميتة البحر والله أعلم ( وقد رأيتنا نغترف) أتى به من باب الافتعال الدالّ على المبالغة إيماء إلى الكثرة ( من وقب عينه) بالإفراد ( بالقلال) بكسر القاف وتخفيف اللام جمع قلة بضم القاف وتشديد اللام ( الدهن ونقطع منه) بتخفيف الطاء المهملة كذا في النسخ، والتضعيف فيه أنسب بالإفعال فيما قبله ( القدر كالثور) بالمثلثة: ذكر البقر ( أو) شك من الراوي ( كقدر الثور) والجملة جواب القسم المقدر وهو جوابه مستأنف عطف عليه قوله: ( ولقد أخذ منا أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلاً فأقعدهم في وقب عينه) وعطف عليه أو على المعطوف عليه قوله: ( وأخذ ضلعاً) بكسر الضاد المعجمة، قال في «المصباح» : أما اللام فتفتح في لغة الحجاز وتسكن في لغة تميم، وهي أنثى اهـ ( من أضلاعه فأقامها) أي منصوبة ( ثم رحل أعظم بعير معنا) بتخفيف الحاء المهملة: أي جعل عليه الرحل ( فمر من تحتها) جاء في رواية عبادة بن الصامت عند ابن إسحاق: ثم أمر بأجسم بعير معنا فحمل عليه أجسم رجل منا فخرج من تحتها وما مسك رأسه.
قال الحافظ في «الفتح» : ولم أقف على اسم هذا الرجل وأظنه قيس بن سعد بن عبادة، فإن له ذكراً في هذه الغزوة، وكان مشهوراً بالطول وقصته في ذلك مع معاوية لما أرسل إليه ملك الروم بالسراويل معروفة، ذكرها المعافى الحريري في «الجليس» وأبو الفرج الأصبهاني وغيرهما، ومحصلها أن أطول رجل من الروم نزع له قيس بن سعد سراويله، فكان طول قامة الرومي بحيث كان طرفها على أنفه وطرفها على الأرض،وعوتب قيس على نزع سراويله في المجلس فأنشد: أردت لكيما يعلم الناس أنها سراويل قيس والوفود شهود وألا يقولوا غاب قيس وهذه سراويل عاد الأولى وثمود ( وتزوّدنا من لحمه وشائق) معطوف على ما قبله، ويحتمل أن يكون مستأنفاً، إذ لا حاجة لتأكيد مثله بالقسم، لأن ما ثبت عظمه من الحيوان بما ذكر قبله لا يستبعد تزوّد ذلك منه ( فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرنا له ذلك فقال) مبيناً لحكمه وحكمة عثورهم عليه ( هو رزق) في الأصل مصدر والمراد به اسم المفعول كقوله تعالى: { هذا خلق ا} ( لقمان: 11) أي مخلوقه ( أخرجه الله لكم) وزاد في تطمين قلوبهم في حله ونفي الشك في إباحته لأنه ارتضاه لنفسه قوله: ( فهل معكم من لحمه شيء) ويجوز أن يكون قصد التبرك به لكونه طعمة من الله تعالى خارقة للعادة أكرمهم الله بها أشار إليه المصنف، ومن للتبعيض وهي ومجرورها متعلقان بمحذوف هو الخبر وتقديمه مع وجود المسوغ للابتداء بشيء وهو تقدم الاستفهام للاهتمام، والظرف قبله في محل الحال وكان في الأصل صفة شيء قدم عليه فصار إلى ما ذكرنا كقوله: لمية موحشاً طلل وقوله: ( فتطعمونا) جواب الاستفهام ( فأرسلنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منه فأكله) أي عقب وصوله بلا تراخ كما تؤذن به الفاء وذلك لما تقدم في قوله: فهل معكم الخ ( رواه مسلم) أي بهذا اللفظ في الأطعمة من «صحيحه» ، وإلا فحديث جابر في هذه السرية قد رواه البخاري في الشركة وفي الجهاد وفي المغازي من «صحيحه» ، ولعل ما ذكرنا سبب الاقتصار على العزو لمسلم، أو غاب عن الشيخ حينئذ تخريج البخاري له، ولا عيب في مثله، رواه الترمذي في الزهد وقال: حسن صحيح، والنسائي في الصيد وفي السير، وابن ماجه في الزهد كذا يؤخذ من «الأطراف» ملخصاً.
( الجراب وعاء) بكسر الواو المهملة المخففة بعدها ألف ممدودة ( من جلد) أما من غيره فلا يسمى بذلك ( معروف وهو بكسر الجيم) وجمعه جرب ككتاب وكتب وسمع أجربةكذا في «المصباح» ( وفتحها والكسر أفصح) وكذا قال في «شرح مسلم» ولم يبين قائل كل من القولين، وقد بينه القاضي عياض فقال: الجراب وعاء من جلد كالمزود ونحوه وهو بكسر الجيم، وكذا قيده الخليل وغيره، وقال القزاز بفتح الجيم، ومثله في «المطالع» لابن قرقول، لكن في «الصحاح» الجراب: أي بكسر الجيم معروف، والعامة تفتحه، وفي «المصباح» : ولا يقال: جراب بالفتح، قاله ابن السكيت وغيره ( وقوله: يمصها بفتح الميم) وفتح التحتية قبلها، وسكت المصنف عنه لأنه معلوم وتشديد الصاد المهملة، ويجوز ضم الميم كما في «شرح مسلم» قال: والفتح أفصح وأشهر، لكن في «المشارق» و «المطالع» تعين فتح الصاد من قوله: «امصص بظر اللات» وأنه من باب علم، حينئذ فهذا يعين الفتح كما اقتصر عليه المصنف هنا والله أعلم ( والخبط) بفتح أوليه المعجمة والموحدة وبالمهملة ( ورق شجر معروف تأكله الإبل) عبارة «النهاية» الخبط: أي بسكون الموحدة ضرب الشجر بالعصي ليتناثر ورقها، واسم الورق الساقط خبط فعل بمعنى مفعول وهو من علف الإبل اهـ.
ومثلها في «المصباح» ، وحينئذ فما ذكره المصنف بيان للمراد في الحديث، وأن هذا النوع الخاص سمي وحده بهذا الاسم كما يطلق على كل ما تساقط من الورق بالخبط ( والكثيب) يضبطه السابق في الشرح ( التل) بفتح الفوقية وجمعه تلال وهو المرتفع: أي الرابية ( من الرمل) قال في «المصباح» : سمي به لاجتماعه، وفي «فتح الباري» .
الكثيب: الرمل المستطيل المحدودب ( والوقب بفتح الواو وسكون القاف وبعدها باء موحدة وهي نقرة العين) النقرة بضم النون حفرة غير كبيرة، والمراد المجوف من عظم الرأس لمحل العين ( والقلال) بكسر القاف.
جمع قلة بضمها وهي الجرة الكبيرة التي يقلها الرجل بين يديه، كذا في «شرح مسلم» ، وحينئذ فكان على الشيخ أن يزيد على قول: ( الجرار) بكسر الجيم وتخفيف الراءين قوله: الكبار، وسميت القلة بذلك لأن الرجل العظيم يقلها: أي يرفعها من الأرض ( والقدر بكسر الفاء وفتح الدال: القطع) هذا أحد قولين حكاهما في «شرح مسلم» وقال: إنهما وجهان مشهوران في نسخ بلادنا: أي من «صحيح مسلم» إحداهما بقاف مفتوحة ثم دال ساكنة: أي مثل الثور، والثاني بفاء مكسورة ثم دال مفتوحة جمع فدرة والأول أصح، وادعى القاضيعياض أنه تصحيف وأن الثاني الصواب، وليس كما قال بل هما صوابان اهـ.
وبه يعلم أنه هنا متابع للقاضي عياض ( ورحل البعير بتخفيف الحاء) قال في «المصباح» : من باب نفع ( أي جعل عليه الرحل) أي شده عليه كما في «المصباح» ، والرحل للجمل بمنزلة السرج للفرس ( الوشائق بالشين المعجمة والقاف: اللحم الذي قطع ليقدد) اللام فيه للصيرورة: أي لييبس: أي فيؤكل يابساً، وهذا قوله حكاه في «الصحاح» عن أبي عبييد عن بعضهم أن الوشيق بمنزلة القديد لا تمسه النار، حكاه في «شرح مسلم» بقوله: وقيل: الوشيق القديد، وقال أولاً: قال أبو عبيدة: هو اللحم يؤخذ فيغلى إغلاءةً ولا ينضج ويحمل في الأسفار، ومثله في «الصحاح» وزاد قوله: وهو أبقى قديد يكون.


رقم الحديث 519 ( وعن أسماء) بسكون السين المهملة آخره ألف ممدودة ( بنت يزيد) بفتح الياء الأولى وسكون الثانية بينهما زاي مكسورة ابن السكن بن رافع بن امرىء القيس بن زيد بن عبد الأشهل بن خيثم الأنصاري ( رضي الله عنها) ولما لم يكن في الصحابيات أسماء بنت يزيد سواها لم يقيد بقوله: الأنصارية، تكنى أم سلمة، ويقال: أم عامر.
قال الحافظ في «التقريب» لها أحاديث، قلت: عدتها أحد وثمانون، خرج لها البخاري في «الأدب المفرد» ، وروى عنها الأربعة، وفي «أسد الغابة» أنها ابنة معاذ بن جبل وأنها قتلت يوم اليرموك تسعة من الروم بعمود فسطاطها ( قالت: كان كم قميص رسول الله) قال في «المصباح» : كم القميص معروف جمعه أكمام وكممة مثل عنبة ( إلى الرضع) وحكمة الاقتصار عليه أنه متى جاوز اليد شق على لابسه ومنعه سرعة الحركة والبطش، ومتى قصر عنه تأذى الساعد ببروزه للحرّ والبرد فكان جعله إليه أمراً وسطاً وخير الأمور أوساطها، ولا تنافي هذه الرواية رواية أسفل من الرسغ لاحتمال تعدد القميص أو أن المراد «التقريب» لا التحديد ( رواه أبو داود والترمذي) قال ابن حجر الهيثمي في «أشرف الوسائل» : هو بالصاد عندهما ( وقال: حديث حسن) ورواه النسائي قال: وهو عند غيرهما بالسين ( الرصغ) بضم الراء وسكون المهملةوضمها للاتباع لغة بعدهما معجمة ( بالصاد والرسغ بالسين) أي المهملة أيضاً ( هو) أي هنا ( المفصل بين الكف والساعد) وإلا ففي «المصباح» أنه من الإنسان مفصل ما بين الكف والساعد والقدم: أي مشترك بينهما، ثم ظاهر عبارته أن السين والصاد كل منهما أصل غير منقلب عن الآخر، وعبارة «النهاية» تشهد له وهي الرصغ لغة في الرسغ اهـ.


رقم الحديث 520 ( وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنها قال: إنا كنا يوم) أي زمن وهو ظرف للفعل الآتي بعد ( الخندق) وكان حفره لما تحزبت قريش واجايشها إلى أن بلغوا عشرة آلاف، فأرادوا حرب المدينة فأشار سلمان بحفر الخندق حول المدينة: فأمر به وكان ذلك في السنة الخامسة من الهجرة، قال ابن إسحاق: في شوّال وقال ابن سعد: في ذي القعدة ( نحفر فعرضت لنا كدية شديدة) أي تامة الإباء عن تأثير الفؤوس فيها ( فجاءوا إلى النبيّ) قال في «المصباح» جاء زيد يجيء مجيئاً حضر، ويستعمل متعدياً أيضاً بنفسه فيقال: جئت شيئاً حسناً: أي فعلته، وجئت زيداً إذا أتيت إليه، وجئت به إذا أحضرته معك، وقد يقال: جئت إليه: يعني ذهبت إليه اهـ ( فقالوا: هذه كدية) وقولهم: ( عرضت في الخندق) في محل الصفة للكدية أتوا به إطناباً لطول المحاورة مع المصطفى نظير ما قيل في قوله موسى عليه السلام { أتوكأ عليها وأهشّ بها على غنمي} ( طه: 18) والخندق معروف ( فقال: أنا نازل) عمل فيه بنفسه ترغيباً للمسلمين، فلذا سارعوا إليه فأتموه قبل وصول المشركين وحصارهم ( ثم قام وبطنه معصوب) قال في «المصباح» : البطن خلاف الظهر وهو مذكر، وفي البخاري: وبطنه معصوب بحجر: أي مربوط فوق الحجر عن بطنه الشريف، وتقدم في الباب حكمة ذلك، والجملة حال من فاعل قام ( ولبثنا) بالموحدة فالمثلثة: أي قمنا ( ثلاثة أيام) ظرف لقوله: ( لا نذوق ذواقاً) بفتح الذال المعجمة مصدر بمعنى الذوق:أي المطعوم: أي لا نطعم فيها، والجملة يحتمل كونها حالية بإضمار «قد» من فاعل نحفر، ويحتمل كونها معطوفة على الجملة الحالية، ففيها بيان سبب عصب بطنه من طول مدة ترك الطعام، ويحتمل كونها معترضة أتى بها لبيان أن ما حصل منه من التأثير في تلك الكدية ليس ناشئاً عن القوة المودعة في الإنسان عادة لغلبة الضعف عليه حينئذ بترك تناول الطعام المدة المذكورة، إنما ذلك معجزة، ثم رأيت الحافظ في «الفتح» جزم بالأخير وقال: إنه سبب العصب، وغير خاف أن ما ذكرناه محتمل وله أوجه، والله أعلم ( فأخذ المعول) بكسر الميم وسكون المهملة وفتح الواو بعدها لام: أي المسحاة، وعند أحمد: فأخذ المعول أو المسحاة بالشك ( فضرب فعاد) أي فصارت الكدية وذكرها باعتبار المضروب الدال عليه قوله: فضرب ( كثيباً أهيل) بوزن أحمد ثالثه تحتية وعند البخاري أهيل أو أهيم، والمعنى أنه صار رملاً لا يتماسك.
قال الحافظ في «الفتح» : ضبط أهيم بالمثلثة وبالتحتية، والمعروف الثاني وهي بمعنى أهيل ( فقلت: يا رسول الله ائذن لي إلى البيت) الظرف الثاني متعلق بفعل محذوف يدل عليه المقام: أي انصرف، وفي الكلام حذف صرح به أبو نعيم في روايته في «المستخرج» فقال: «فأذن لي» ( فقلت لامرأتي) اسمها سهيلة بنت معوذ الأنصارية ( رأيت) أي أبصرت ( بالنبي شيئاً) أي عظيماً كما يدل عليه قوله: ( ما في ذلك صبر) أي ما في الاستفهام: أي أعندك ما تندفع به الحاجة في الجملة ( فقالت: عندي شعير) جاء في رواية ابن بكير أنه صاع ( وعناق) بفتح العين المهملة وتخفيف النون هي الأنثى من المعز ( فذبحت بتاء المتكلم ( العناق وطحنت) ) بفتح حروف الفعل الثلاثي والتاء فيه للتأنيث وفاعله يعود إلى امرأته ( الشعير) وقوله: ( حتى جعلنا اللحم في البرمة) بضم الموحدة وسكون الراء كما في «الفتح» غاية لمقدر: أي واستمريت غائباً عن الخندق إلى ما ذكر، وفي رواية الكشميهني: حتى جعلت ( ثم جئت النبي والعجين قد انكسر) أي لانورطب وتمكن منه الخبز ( والبرمة بين الأثافي) بمثلثة وفاء: ثلاثة أحجار يوضع عليها القدر ( قد كادت) أي قاربت ( تنضج) بفتح الفوقية والضاد: أي تدرك الاستواء ( فقلت: طعيم) بتشديد التحتية صغره مبالغة في تحقيره قيل: من تمام المعروف تعجيله وتحقيره ( لي) في محل الصفة وأتى به طلباً لخبره بمجيئه إلى منزله إجابة لدعوته ( فقم أنت يا رسول الله) أكد الضمير المستكن بالضمير البارز لينبه على أنه المقصود بالأصالة فأجد دلالة على الاهتمام بذلك لا ليعطف عليه قوله: ( ورجل أو رجلان) لوجود الفصل بالنداء بين المتعاطفين وهو كاف كذلك ( قال: كم هو؟ فذكرت له ذلك) أي ما ذكر قبله واستعمل فيه اسم الإشارة الموضوع للبعيد لأنه لما لم يسمع صار كأنه بعيد ( فقال: كثير طيب) لعل سؤاله عنه ليتنبه جابر إذ رأى شبع أولئك العدد الكثير من ذلك النزر اليسير، فيعلم أنه معجزة كما قيل به في حكمة قوله تعالى: { وما تلك بيمينك يا موسى} ( طه: 17) وأن ذلك أثر قوله: كثير طيب ( قل لها) أي لامرأتك ( لا تنزع البرمة) بكسر الزاي والفعل مجزوم والمراد لا تأخذ اللحم منها ( ولا الخبز من التنور) بفتح الفوقية وتشديد النون وهو الذي يخبر فيه.
قال في «المصباح» : وافقت فيه لغة العرب العجم.
وقال أبو حاتم: ليس بعربيّ صحيح والجمع تنانير ( حتى آتي) أي أجيء إلى المنزل فقال: ( أي بعد قيامهم قبل وصولهم المنزل) فقلت: ويحك ( بفتح الواو وسكون التحتية وهي كلمة رحمة، وويل كلمة عذاب) ، وقيل: هما بمعنى واحد، وهو منصوب بإضمار فعل، أي ألزمك الله ويحاً، كذا يؤخذ من «الصحاح» ( قد جاء النبيّ والمهاجرون والأنصار ومن معهم) أي من مواليهم والمسلمين مما لم يهاجر جاء عنه في رواية أخرى: فلقيت من الحياء ما لا يعلمه إلاالله، وقلت: جاء الخلق على صاع من شعير وعناق فدخلت على امرأتي أقول: افتضحت، جاءك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالخندق أجمعين ( قالت: هل سألك؟ قلت: نعم) زاد في رواية فقالت: الله ورسوله أعلم، نحن قد أعلمناه بما عندنا فكشفت عني غماً شديداً، فيه دليل على وفور عقلها وكمال فضلها لعلمهاأنه حيث علم بالطعام المدعو له ودعا من دعاه عليه إنما عليه إنما هو لما يعلمه، لأن الذي أشبع القوم إنما كان منه من خرق الله تعالى العادات له معجزة فلذا ( قال: ادخلوا) لأن في الحقيقة الدعوة وإنما هي منه، وما جاء به جابر لا يجدي في أولئك ( ولا تضاغطوا) بإعجام الضاد والغين وإهمال الطاء أي لا تزاحموا، زاد في رواية البخاري: فأخرجت له عجينتنا فبسق فيها وبارك، ثم عمد إلى برمتنا فبسق فيها وبارك ( فجعل يكسر الخبز عليه اللحم) إداماً له ونظيره ما في «الشمائل» للترمذي عن يوسف بن عبد الله بن سلام قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ كسرة من خبز الشعير فوضع عليها تمرة فقال: هذه إدام هذه وأكل.
قال بعض الشراح: يؤخذ من وضعها عليها أنه لا بأس بوضع الأدم على الخبز.
قال ابن حجر الهيثمي: ومحله إن سلم ما لم يقدر بحيث يعافه غيره ( ويخمر البرمة والتنور) أي يغطيهما ويستمر التخمير ( حتى إذا أخذ منه) أي إلى وقت أخذه منه ( ويقرب إلى أصحابه) الطعام المأخوذ ( ثم ينزع) أي يأخذ اللحم من البرمة ( فلم يزل بكسر) أي الخبز ( ويغرف) أي من البرمة ( وبقي منه) أي بعد شبع القوم بقية وحذف للأبهام على السامع وتعظيماً لقدر الباقي، ويصح كون «من» فاعلاً بناء على ما جرى عليه في «الكشاف» من أنها بمعنى بعض فحلت محله: أي وبقي بعضه ( فقال: كلي هذا وأهدي) بقطع الهمزة أمر للمخاطبة، ولعل تخصيصها بالخطاب دونه أنه أكل مع القوم دونها فكانت مشتغلة بالغرف والخبز، أو أنها وإن أكلت حينئذ أيضاً إلا أنها لما باشرت تعب ذلك أكثر منه جعل لها ذلك ( فإن الناس أصابهم مجاعة) هذه جملة مستأنفة لبيان قوله: وأهدي جاء في رواية: فلم نزل نأكل ونهدي يومنا أجمع.
وذكر الفعل لأن المسند إليه تأنيث مجازي وقد فضل بضمير المفعول فهو نظير قوله تعالى: { قد جاءكم موعظة} ( يونس: 57) وجاء التأنيث في التنزيل أيضاً قال تعالى: { كذلك أتتك آياتنا} ( طه: 126) قال البدر الدماميني: القوم على رجحان التذكير في ذلك على التأنيث إظهاراًلفضل المؤنث الحقيقي على غيره، لكن الذي يظهر لي أن التأنيث أحسن بدليل أكثريته في الكتاب العزيز وفشوه فيه جداً، وأكثرية أحد الاستعمالين دليل على أرجحيته، فينبغي المصير إلى القول بأن الإتيان بالسلامة في ذلك حسن وأفصح وتركها حسن فصيح اهـ ( متفق عليه) أي من حيث المعنى، وإلا فهو بهذا اللفظ للبخاري في «المغازي» .
( وفي رواية) هي لهما فرواها البخاري عقب الحديث قبله ومسلم في الأطعمة من «صحيحه» عن سعيد بن مينا ( قال جابر لما حفر الخندق) بالبناء للمفعول ( رأيت النبي خمصاً فانكفأت) وعند البخاري: فانكفيت بتحتية بدل الهمزة ( إلى امرأتي) بعد أن استأذنت النبي كما في الرواية قبله ( فقلت: هل عندك شيء) أي من الطعام والتنوين فيه للتقليل ( فإني رأيت) أي أبصرت ( برسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمصاً شديداً) وصف الخمص هنا تهييجاً على إظهار ما عندها إن كان كما هو من عادة النساء من إخفاء بعض المتاع عن الأزواج يعدونه لشدتهن: أي لا شدة يدخر لمثلها فوق هذا ( فأخرجت إلي جراباً فيه صاع من شعير) الصاع مكيال، وصاع النبيّ الذي بالمدينة أربعة أمداد وذلك خمسة أرطال وثلث بالبغدادي.
وقال أبو حنيفة: الصاع ثمانية أرطال لأنه الذي يعامل به أهل العراق ورد بأن الزيادة عرف طار على عرف الشرع وسبب الزيادة ما ذكر الخطابي أن الحجاج لما ولي العراق كبر الصاع ووسعه على أهل الأسواق للشعير فجعله ثمانية أرطال قال الخطابي وغيره: وصاع أهل الحرمين إنما هو خمسة أرطال وثلث، والصاع يذكر ويؤنث.
قال الفراء: أهل الحجاز يؤنثونه وبنو أسد وأهل نجد يذكرونه وربما أنثه بعض بني أسد.
قال الزجاج: التذكير أفصح عندالعلماء اهـ ملخصاً من «المصباح» والظاهر أن المراد من الصاع المعروف عند أهل المدينة وهو الصاع الشرعي.
و «من» في قوله من شعير.
بيانية للصاع: أي للمكيل به ( ولنا بهيمة) يتشديد التحتية بالتصغير لما تقدم ( داجن) أي ملازمة للبيت لا تفلت للرعي، ومن شأنها أن تكون سمينة ( فذبحتها) بضم التاء للمتكلم ( وطحنت الشعير) بكسر تاء التأنيث الساكنة لالتقاء الساكنين والفاعل ضمير يعود إلى المرأة ( ففرغت إلى) أي مع ( فراغي) أي فرغت من الطحن مع فراغي من ذبح الداجن وسلخها ( وقطعتها) كذا في الأصول بتخفيف الطاء المهملة ولعله لصغر جثتها وإلا فالأنسب بالتكثير التشديد ( في برمتها) متعلق بمحذوف:أي وألقيتها في برمتها ( ثم) كأن الإتيان بها لتأخره مشتغلاً بإيقاد النار وإصلاحها لسرعة النضج ( وليت) أي انصرفت عنها متوجهاً ( إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: لا تفضحني) بفتح الصاد المعجمة ( برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن معه) أي لا تكشف عواري وفاقتي بقلة ما يخرج إليهم المنبىء عن ذلك، أو لا تعبني بأن أنسب للبخل بذلك، ومرادها الكناية عن تقليل المدعو إليه لبيان الطعام فيهم ( فجئته فساررته) بالمهملة والرائين وصيغة المبالغة في إخفاء ذلك الأمر وكتمه لئلا يطلع عليه أحد فيحضر من غير طلب لما بالناس من المجاعة فيقع في الفضيحة، وفيه جواز المسارة بحضرة الجمع إنما نهى أن يتناجى اثنان دون الثالث، وقوله: ( فقلت: يا رسول الله ذبحنا) لعل الإتيان فيه بهذا الضمير لأنه شورك في ذبحها بإمساك الشاة وأخذ الشفرة ( بهيمة) بالتصغير ( لنا) وأتى بالظرف لما تقدم في نظيره من قوله طعيم لنا ( وطحنت) بضم الفوقية أي أمرت المرأة بطحن ( صاعاً من شعير) فالإسناد مجازي كقولهم بنى الأمير المدينة ( فتعال أنت ونفر) بفتح أوليه النون والفاء وهو كما في «المصباح» وغيره جماعة الرجال من ثلاثة إلى عشرة، وقيل: إلى سبعة، ولا يقال فيما زاد على عشرة اهـ ( معك) أتى به إعلاماً بأنه المقصود أصالة وغيره بالتبع ( فصاح النبي) يحتمل كون الإسناد حقيقاً وهو المتبادر، لأن الذي وصفه به أنس أنه ليس صخاباً في الأسواق، والخندق ليس منها، وأيضاً فالأمر دعا هنا إلى رفع الصوت ليسمع القوم فيجيئوا، ويحتمل أن يكون مجازياً: أي أمر بذلك فيهم، وعلى الوجهين فهناك مقدر تقديره فقال: ( يا أهل الخندق إن جابراً قد) للتحقيق ( صنع سؤراً فحيهلاً) بفتح الهاء المهملة وتشديد التحتية والهاء منوناً، وقيل: بلا تنوين: أي أقبلوا مسرعين ( بكم فقال النبي: لا تنزلن) رأيته في أصل مصحح من البخاري بفتح الفوقية وفتح الزاي مسنداً لقوله: ( برمتكم) وفي نسخة مصححة من الرياض بضم الفوقية واللام، فالفاعل ضمير الجماعة محذوف لالتقاء الساكنين، لدلالة الضمة عليه.
وفيه تغليب الحاضر على الغائب والمذكر على المؤنث فإن الأمر بذلك له ولأهله ( ولا تخبزنّ عجينكم) وفي نسخة من البخاري بضم الفوقيةوفي أخرى بتحتية مضمومة بدل الفوقية وفتح الباء والزاي فيهما مبني للمجهول نائب فاعله ما بعده، وهو على التحتية بحذف الفوقية من عجينتكم، وفي النسخة المذكورة بفتح أوله وكسر الموحدة وضم الزاي فالفاعل محذوف، وعجينكم بحذف الفوقية مفعوله ( حتى أجيء) غاية للكف عنهما المدلول عليه بالنهي عن فعل كل منهما ( فجئت وجاء النبي) أعاد العامل إيماء إلى أن الواو للاعتراض ببيان صفة مجيئه بينه قوله: ( يقدم الناس) إذ هو في محل الحال، قال المصنف: وإنما فعل هذا لأنه دعاهم فجاءوا تبعاً له كصاحب الطعام إذا دعا طائفة يمشي أمامهم، وكان في غير هذا الحال لا يتقدمهم ولا يمكنهم من وطء عقبه وفعله هنا لهذه المصلحة اهـ.
والجملة معترضة بين المغيا وهو مجيئه والغاية وهي قوله: ( حتى جئت امرأتي) أي وأعلمتها بندائه في أهل الخندق ( فقالت: بك وبك) بالموحدة فيهما وفتح الكاف، وتكلمت عليه أولاً لظنها أنه لم يخبر النبي بالأمر ولم يفصح له عنه فلذا قال: ( فقلت: قد فعلت) لا يخفى ما بين قوله: فقلت وفعلت من الجناس المصحف الخطي، وفيه إطلاق الفعل على القول ولعله للفرار عن التكرار المستثقل في السمع: أي قلت: ( الذي قلت) بكسر الفوقية فحينئذ سكن ما بها، وهذا كما تقدم من كمال عقلها ووفور فضلها ( فأخرجت عجينتنا) في «المصباح» : العجين فعيل بمعنى مفعول ( فبصق) بالموحدة والصاد المهملة، قال المصنف: كذا في أكثر الأصول، وفي بعضها بالسين وهي لغة قليلة والمشهور بصق وبزق، وحكى جماعة من أهل اللغة بسق لكنها قليلة اهـ ( فيه بارك فيه) أي دعا بالبركة وهي الخير الكثير الدائم ودوام كل شيء بحسبه ( ثم عمد إلى برمتنا فبصق وبارك) أتى بثم إيماء إلى أن تأخر ذلك منه في الجملة وكأنه لأمر اقتضى تأخير وصوله لمحل البرمة وحذف متعلق كل من الفعلين إيجازاً اكتفاء بدلالة الجملة الأولى عليه ( ثم قال) لعل تأخير القول عن البصق والدعاء أنه رأى الحاجة إلى ذلك بعد فأمر به عند ظهورها ( ادع خابزة فلتخبز معك) كذا في الرياض من غير ياء في ادع، وبالكاف في معك.
قال المصنف في «شرح مسلم» : هذه اللفظة وهي ادعي وقعت في بعض الأصول هكذا بعين ثم تحتية، وهو الصحيح الظاهر لأنه خطاب للمرأة، ولهذا قال: فلتخبز معك، وفي بعضها ادعوني، وفي بعضها ادعني وهما أيضاً صحيحان، وتقديرهما اطلبوا لي واطلب لي اهـ.
والذي في البخاري، وقال: ادع خابزة فلتخبز معي، ولعلهوقع مباشرة الخبز منه تارة، ومن المرأة أخرى فطلب في كل معيناً ( واقدحي) أي اغرفي ( من برمتكم ولا تنزلوها) فيه تغليب المذكر على المؤنث لشرفه فالخطاب لجابر والأمر له ولامرأته، وفيه إن لم يكونا أزيد من ذلك إطلاق الجمع على ما فوق الواحد، وكأن حكمه الإبقاء ستر السرّ الإلهي بايهام الحاضرين كثرتها فتستمرّ سحائب الفيض متواترة معجزة له، ولا يقع عليها نظرهم ابتداء فيستقلوها فيكون بسبب رفع البركة منها أخذاً مما يأتي عن التلمساني في قصة أبي طلحة ( وهم ألف) قال في «الفتح» : أي الذين أكلوا، وهذه الرواية محكوم بها لزيادة ما فيها على رواية إنهم كانوا سبعمائة أو ثمانمائة، ورواية أنهم كانوا ثمانمائة أو ثلثمائة، ورواية أنهم كانوا ثلاثمائة والقصة متحدة ( فأقسم با لأكلوا) أكد بعده مؤكدات دفعاً لاستبعاد العقل بحسب العادة اكتفاء هذا العدد الكثير بهذا القدر اليسير من الطعام ( حتى تركوه) أي المذكور من خبز العجين ولحم الشاة ( وانحرفوا) أي مالوا عن المنزل جهة مقصدهم ( وإن برمتنا لتغط) بكسر المعجمة وتشديد الطاء المهملة والجملة حالية، وقوله: ( كما هي) مفعول مطلق أي تغط بعد انصرافهم شباعاً مثل غطيطها قبل الأخذ منها ( وإن عجينتنا ليخبز كما هو) جملة معطوفة على الجملة الحالية، وهذه القصة علمان من أعلام النبوة: تكثير الطعام القليل، وعلمه بأنّ هذا الطعام القليل الذي يكفي في العادة خمسة أنفس أو نحوهم سيكثر فيكفي ألفاً وزيادة، فدعا له ألفاً قبل أن يصل إليه وقد علم أنه صاح شعير وبهيمة والله أعلم ( قوله: عرضت كدية هي) في رواية الإسماعيلي ( بضم الكاف وإسكان الدال) المهملة ( وبالمثناة تحت، وهي قطعة غليظة صلبة) بضم الصاد المهملة: أي شديدة قوية ( من الأرض) مثله في «المصباح» وفي «فتح الباري» هي القطعة الصلبة الصماء وقوله: ( لا يعمل فيها الفأس) بيان لتلك، لا أنه داخل في مفهوم الكدية كما تقدم عن «المصباح» وغيره، وعند أبي ذرّ أحد رواه البخاري أيضاً كيدة بفتح الكاف وسكون التحتية، قيل: هي القطعة الشديدة الصلبة من الأرض، وقال عياض: كأن المراد بها واحدة الكيد، كأنهم أرادوا أن الكيد وهو الحيلة أعجزهم، فلجئوا إلى النبيّ.
وعن ابن السكن: كتدة بفوقية بدلالتحتية.
قال عياض: لا أعلم لها معنى ( والكثيب) بوزن قريب بمثلثة وتحتية فموحدة ( أصله تل الرمل والمراد هنا صارت) هذا تفسير عادت فإنه يأتي كذلك.
ومنه قول الكفرة لشعيب { أو لتعودنّ في ملتنا} ( الأعراف: 88) فإن الأنبياء معصومون من الكفر قبل النبوة وبعدها قولاً واحداً، ويأتي عاد بمعنى رجوع الشيء لما كان عليه، وقد حمل بعضهم عليه الآية وقال: إنه باعتبار تغليب قومه لكثرتهم عليه وهي هنا في الخبر لم يكن رملاً ثم انعقدت كدية بل الكدية أصلها فصارت بضربه معجز له ( تراباً ناعماً) يسيل ولا يتماسك قال تعالى: { وكانت الجبال كثيباً مهيلاً} ( المزمل: 18) أي رملاً سائلاً ( وهو معنى أهيل) والاقتصار على أهيل الذي جرى عليه الشيخ هو ما في رواية الإسماعيلي، وكذا عند أحمد «كثيباً يهال» وفي رواية للبخاري كما تقدم «أهيل» أو «أهيم» بالشك ( والأثافي) تقدم ضبطه ( الأحجار التي تكون عليها القدر) قال في «النهاية» : هي جمع أثفية وقد تخفف الياء في الجمع يقال: أثفيت القدر إذا جعلت لها الأثافي، وثفيّتها: إذا وضعتها عليها، والهمزة فيه زائدة اهـ ( وتضاغطوا) بتخفيف الضاد المعجمة على أن إحدى التاءين حذفت تخفيفاً وبتشديدها على الإدغام ( تزاحموا) بالوجهين، قال في «المصباح» : ضغطه ضغطاً من باب نفع: دفعه إلى حائط أو غيره ( والمجاعة الجوع) فهي مصدر ميمي ( وهي بفتح الميم) وتخفيف الجيم، قال في «النهاية» : مفعلة من الجوع، وفي «المصباح» إنها اسم مصدر كالجوع بضم الجيم المشترك بينه وبين مصدر جاع ( والخمص بفتح الخاء المعجمة والميم) مثله في «شرح مسلم» لكن في «فتح الباري» وقد تسكن الميم ( الجوع) في «الفتح» وهو ضمور البطن ولا منافاة فبأحدهما يلزم الآخر ( وانكفأت) أي بالهمزة في رواية مسلم، قال المصنف: ووقع في نسخ فانكفيت وهو خلاف المعروف في اللغة، بل الصواب انكفأت بالهمزة اهـ.
وتقدم أنه بالياء عند البخاري وتوجيهه كما في «الفتح» كأنه سهل الهمزة وقلبها ياء ( انقلبت ورجعت.
والبهيمة بضم الباء)
الموحدة وتشديد التحتية ( تصغير بهمة) بفتح الموحدة وسكون الهاء، قال في «المصباح» : ولد الضأن تطلق على الذكر والأنثى وجمعها بهم كتمرة وتمر، وجمع البهم بهام كسهموسهام، ويطلق البهام على أولاد الضأن والمعز إذا اجتمعت تغليباً، فإذا انفردت قيل: لأولاد الضأن بهام لأولاد المعز سخال.
وقال ابن فارس: إليهم صغار الغنم.
وقال أبو زيد يقال لأولاد الغنم سائمة تضعها الضأن والمعز ذكراً كان الولد أو أنثى سخلة ثم هي بهيمة وجمعها بهم اهـ ( وهي) أي المراد منها كما جاء التصريح به في الروايات السابقة عن جابر في الحديث السابق ( العناق بفتح العين) المهملة وتخفيف النون آخره قاف قال في «المصباح» : هي الأنثى من ولد المعز قبل استكمالها الحول اهـ، والمراد ما قاربها ليحصل به قرى الضيف ( والداجن) بالدال المهملة والجيم والنون ( هي التي ألفت البيوت) ولم تفلت للمرعى وذلك للاعتناء بها المنبىء عن كرمها وسمنها ( والسؤر) بضم السين المهملة وإسكان الواو مهموز ( الطعام الذي يدعى الناس إليه) قال في «شرح مسلم» وقيل: الطعام مطلقاً ( وهو بالفارسية) مثله في «شرح مسلم» ، وخالفه الحافظ في «الفتح» فقال: وسكون الواو بغير همز، أما بالهمز فهو البقية قلت: ويؤيده أنه ذكره في «النهاية» في مادة السين والواو بغير همز، واقتصر على أنه الطعام المدعو إليه.
قال في «الفتح» وهو هنا الصنيع بالحبشة.
وقيل: العرس بالفارسية، ويطلق على البناء الذي يحيط بالمدينة اهـ.
ويؤخذ منه أن إطلاقه على الطعام المذكور مجار مرسل، إذ هو بالفارسية العرس الملازم له عادة فأطلق اللازم وأريد الملزوم ( وحيهلاً) بتنوين هلا.
وقيل: بلا تنوين.
ويقال: حيهل ( أي تعالوا) وقال في «الفتح» : هي كلمة استدعاء فيها حث: أي هلموا مسرعين وهذا تفسير مراد.
وأما معناه ففي «شرح مسلم» للمصنف: قيل عليك بكذا أو دع بكذا، هكذا قاله أبو عبيد وغيره، وقيل: معناه أعجل به وقال الهروي: معناه هات وعجل به اهـ.
وفي «النهاية» هي كلمتان جعلتا كلمة واحدة فحي معناه أقبل، وهلا أسرع.
وقال ابن عيش في «شرح المفصل» : هو من أسماء الأفعال مركب من حي وهل، وهما صوتان معناهما الحثّ والاستعجال وجمع بينهما وسمي به للمبالغة، وكان الوجه ألا ينصرف كحضرموت وبعلبك إلا أنه وقع موقع فعل الأمر فبنى كصه ومه وفيه لغات، وتارة يستعمل حيّ وحده نحو حيّ على الصلاة وتارة هلا وحدها، واستعمال حي وحده أكثر من استعمال هلا وحده اهـ.
وقال صاحب «البسيط» : فيه سبع لغات حيهل بفتح الياء المشددة والهاء كخمسة عشر، وحيهلا بالتنوين لإرداة التنكير، وحيهلا بالألف من غير تنوين، وحيهلا بإسكانها مع التنوين وإيكان الهاء كراهة لاجتماع الحركات، وجاءمتعدياً بنفسه كحيهلا الثريد: أي ائته أو أحضره وقربه وبالباء كحيهلا بعمرو: أي ائت به وبإلى كحيهلا إلى كذا: أي سارع وبادر إليه وبعلى كحيهلا على كذا: أي أقبل عليه.
كذا في مرقاة الصعود للسيوطي، ويؤخذ منه تفسير المتعدي بالباء بائت به أن معنى قوله كحيهلا بكم: أي أقبلوا بأنفسكم ( وقولها: بك وبك) بالموحدة وفتح الكاف فيهما ( أي خاصمته وسبته) قال في «شرح مسلم» : أي ذمته ودعت عليه.
وقيل: معناه: بك تلحق الفضيحة وبك يتعلق الدم، وقيل: معناه: جرى هذا برأيك وسوء نظرك وبسببك ( لأنها اعتقدت أن الذي عندها لا يكفيهم) وأن جابراً لم يخبر النبيّ بقدره فاستحيت وخفي عليها ما أكرم الله سبحانه وتعالى به نبيه من هذه المعجزة الظاهرة والآية العلامة الدالة على نبوّته ( الباهرة) من بهرت الشمس غلب نورها على كل ذي نور إذ كفى بهذا الطعام اليسير ذلك العدد الكثير، ولا تخالف بين ما في هذه الرواية من كونها ثالت له ما ذكر من السبّ وما تقدم في الرواية قبلها من أن رفع جابر إنما كان بقولها: هل هن كان سألك الخ، لما في «الفتح» للحافظ من الجمع بينهما بأنها أوصته أو لا ألا يعلمه بالصورة فلما قال لها: إنه جاء بالجميع ظنت أنه لم يعلمه فخاصمته، فلما أعلمها أنه أعلمه سكن ماعندها لعلمها بإمكان خرق العادة.
l ثم اختلف العلماء فيما في القصة من اكتفاء ذلك الجمع بذلك النزر اليسير هل مع بقاء الطعام على قلته، ولكن ببركته أجرى الطعام القليل مجرى الكثير، فيكفي كفايته وتوقف الشبع على كثرة المأكول أمر عادي، وأن الله زاد فيه وكثره، ويعبر عن القول الأول بتكثير الموجود، وعن الثاني بإيجاد المعدوم، والثاني أقرب ( بسق) بالسين المهملة، وفي «المصباح» : أن السين بدل من الصاد، قال: ومنعه بعضهم وقال: لا يقال بسق بالسين إلا لزيادة الطول كالنخلة وغيرها وعزاه إلى الخليل ( ويقال) له: ( أيضاً بزق) بالزاي بدل الصاد ( ثلاث لغات) وهذا لا يخالف ما ذكر في «المصباح» من أن الأصل الصاد وأن السين والزاي بدلان منها ( وعمد بفتح الميم) من باب ضرب كما في «المصباح» أي قصد ( واقدحي) بوصل الهمزة وفتح الدال المهملة ( أي اغرفي والمقدحة) بكسر أوله وسكون ثانيه وفتح ثالثه ورابعه المهملين ( المغرفة) بالغين المعجمة والفاء ووزن ما قبلهوهما اسما آلة ( وتغط) تقدم ضبطها ( أي لغليانها صوت) وذلك كناية عن كثرة ما فيها إذ القليل يضعف غليانه عن رفع الصوت، ( والله أعلم) .