فهرس الكتاب

دليل الفالحـــين - باب المنثورات والملح

رقم الحديث 1856 ( وعن عمرو بن العاص) بن وائل السهمي الصحابي المشهور ( رضي الله عنه) تقدمت ترجمته في باب فضل السحور، ( أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إذا حكم الحاكم فاجتهد) أي: وهو من أهل الاجتهاد فيما يسوغ الاجتهاد فيه ( ثم أصاب فله أجران) أجر لاجتهاده وأجر لإِصابته ( وإن حكم واجتهد) أي: وهو أهله ( فأخطأ فله أجر) لاجتهاده الذي هو من أهله وإن لم يصب فيه، أما من ليس أهلاً له فيأثم به أصاب أو أخطأ ( متفق عليه) .


رقم الحديث 1857 ( وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: الحمى من فيح) بفتح الفاء وسكون التحتية وبالمهملة أي: انتشار ( جهنم) وقوة لهبها ( فأبردوها) بوصل الهمزة وضم الراء لأنه ثلاثي من برد الماء حرارة جوفي أي: اسكن حرارتها.
وحكي كسر الراء، وحكى عياض قطع الهمزة وكسر الراء من أبرد الشيء إذا عالجه فصيره بارداً.
وقال الجوهري: إنها لغة رديئة ( بالماء.
متفق عليه)
وهذا محمول على ما كانت تصفه أسماء بنت أبي بكر من رش الماء على بدن المحموم من بدنه وثوبه، وليس المراد اغتسال المحموم بالماء أو انغماسه فيه، لأن ذلك مضر.
والصحابي لا سيما مثل أسماء التي كانت تلازم بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - أعلم بالمراد من غيرها أو الخطاب خاص بأهل الحجاز وما والاهم، إذ كانت أكثر الحميات التي تعرض لهم من العرضية الحادثة عن شدة الحرارة، وهذه ينفعها الماء البارد شرباً واغتسالاً ولا يحتاج صاحبها إلى علاج آخر.
قال ابن القيم: فالخطاب وإن كان لفظاً عاماً إلا أن المراد به خاص أي كما ذكرنا.
وقال القاضي: غير بعيد أن المراد بالحمى: الحمى الصفراوية، فإن الأطباء يسلمون أن صاحبها يبرد بسقي الماء البارد الشديد البرد نعم ويسقونه الثلج ويغسلون أطرافه بالماء البارد، وأن المراد بالغسل مثل ما قالوه أو قريب منه.
وقد كانت أسماء تصب الماء في جيب الموعوك.
قال عيسى بن دينار أي: بين طوقها وجسدها.
فهذه أسماء شاهدت الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهي في القرب منه على ما علم، فتأولت الحديث على نحو ما قلناه.
والحاصل: أن الحميات مختلفات، منها ما يناسبه الإِبراد ومنها ما لا يناسبه، والحديث محمول على الأول فيعمل ما يناسبه على ما لا يليق به.
وقيل يحتمل أن الحمى المأمور بالانغماس لها ما يكون سببها العين أو السم أو السحر فيكون ذلك من باب النشرة المأذون فيها، أخرج ابن أبي شيبة عن الأسود قال: سألت عائشة عن النشرة فقالت: ما تصنعون بهذا فهذا الفرات إلى جانبكم من أصابه نفس أو سم أو سحر فليأت الفرات فليستقبل، فينغمس فيه سبع مرات.


رقم الحديث 1862 ( وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - من نذر أن يطيع الله) بأن نذر صوماً أو صلاة أو غيرهما من أعمال البر تقرباً إلى الله تعالى ( فليطعه) حتماً لالتزامه بالنذر، فهو كالواجب بأصل الشرع في تحتم الإِتيان به، وإن اختلف الفقهاء في أنه يسلك به مسلك واجب الشرع أو جائزه ( ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه) ولا ينعقد الندر لأنه التزام قربة تقرباً إلى الله تعالى ( رواه البخاري) ورواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة.


رقم الحديث 1867 (وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - بأم إسماعيل) واسمها هاجر وقيل آجر بفتح الجيم فيهما قبطية وهبها لسارة ملك مصر الذي أراد سارة فمنعه الله منها وحديثه في البخاري (وبابنها إسماعيل وهي ترضعه) جملة حالية من أم إسماعيل (حتى وضعها) أي: هاجر وسكت عن إسماعيل لاستلزام وضعها ثمة وضعه معها إذ كان رضيعاً لا مرضع له غيرها (عند البيت) أي: الكعبة (عند دوحة) بفتح المهملتين وسكون الواو بينهما (فوق زمزم) صفة للدوحة أي: كائنة وثابتة فوقها (في أعلى المسجد وليس بمكة يومئذ أحد) أي: من الإِنس (وليس بها ماء فوضعهما) بضمير التثنية وأفرد أولاً تفنناً في التعبير وإلا فالمراد في الموضعين منه واحد (هناك) أي: عند الدوحة (ووضع عندهما جراباً) بكسر الجيم (فيه تمر وسقاء) بكسر المهملة وتخفيف القاف وبالمد إناء يكون للماء واللبن (فيه ماء ثم قفى) بتشديد الفاء (إبراهيم) أي: جعل قفاه لجهة هاجر (منطلقاً) إلى الشام (فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم أي تذهب وتتركنا) بالنصب بأن بعد الواو في جواب الاستفهام وبالرفع عطفاً على الفعل قبله (بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء) أي: مما يؤكل ويشرب (فقالت له ذلك) أي: يا إبراهيم أين تذهب إلخ (مراراً) أخرج عمرو بن شيبة من طريق أنها نادته بذلك ثلاثاً (وجعل لا يلتفت إليها) وانصرف إلى طريقه (فقالت له آلله) بمد الهمزة وهي للاستفهام (أمرك بهذا قال: نعم قالت إذاً) حرف جواب وجزاء (لا يضيعنا) بالنصب ولا يضر الفصل بلا، وبالرفع على إهمالها فإن أعمالها عند اجتماع شروطه جائز لا واجب (ثم رجعت) إلى ابنها (فانطلق إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا كان عند الثنية) بفتح المثلثة وكسر النون وتشديد التحتية وذلك عند الحجون بفتح المهملة (حيث لا يرونه) بدل من التثنية (استقبل) جواب ذا الوقتية المضمنة معنى الشرط (بوجهه البيت) فيه استحباب استقبال القبلة حال الدعاء (ثم دعا بهؤلاء الدعوات فرفع يديه فقال:) عطف على دعا كالعطف في قوله توضأ زيد فغسل وجهه ويديه، (رب إني أسكنت من ذريتي) أي: بعضهم (بواد غير ذي زرع) هو مكة وكونها كذلك ليتم التفرغ فيها للعبادة فإن الزرع والأكساب الدنيوية مانعة منه (عند بيتك) إضافة تشريف ووصفه بقوله (المحرم) لذلك أي: المحرم الصيد عنده وقطع الشجر والمقاتلة وغير ذلك (ربنا ليقيموا الصلاة) بمكة لإِسكانه لهم ثمة ففيه تحريض للمقيم بمكة على عبادة المولى والإِعراض عن أعراض الدنيا فإنها حينئذ تنقاد له (فاجعل أفئدة من الناس) أي: من افئدتهم (تهوي) أي: تسرع (إليهم) شوقاً.
عن بعض السلف لو قال: الناس لازدحمت عليه الروم وفارس والناس كلهم، ولكن قال: من الناس فاختص به المسلمون (وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون) نعمتك وقد استجاب الله دعاءه (وجعلت أم إسماعيل ترضعه وتشرب من ذلك الماء) أي: وتأكل من ذلك الثمر (حتى إذا نفد) بكسر الفاء وبالدال المهملة (ما في السقاء) أي: من الماء (عطشت وعطش ابنها) بكسر الطاء (وجعلت تنظر إليه) أي: تبصره (يتلوى أو قال) أي: ابن عباس (يتلبط) بموحدة بعدها مهملة أي يتمرغ ويضرب بنفسه الأرض (فانطلقت كراهية) بتخفيف التحتية مفعول له (أن تنظر إليه) أي: وهو كذلك (فوجدت الصفا) بالقصر طرف جبل أبي قبيس (أقرب جبل في الأرض يليها فقامت عليه ثم استقبلت الوادي) أي مكة (تنظر هل ترى) أي: تبصر (أحداً بالمهملة والفاء، الذي يحوم على الماء ويرود ولا يمضي عنه (فقالوا إن هذا الطائر ليدور على ماء لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء فأرسلوا جرياً) بفتح الجيم وكسر الراء وتشديد التحتية أي: رسولاً سمي بذلك لأنه يجرى مجرى مرسله أو لأنه يجري مسرعاً في حوائجه (أو جريين) شك من الراوي (فإذا هم بالماء فرجعوا) فيه إطلاق ضمير الجمع على ما فوق الواحد.
وهذا يؤيد الرواية الثانية (فأخبروهم فأقبلوا وأم إسماعيل عند الماء فقالوا أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ قالت نعم ولكن لاحق لكم في الماء) أي: بل الحق فيه مختص بي فإن شئت منحت وإن شئت منعت (قالوا نعم قال ابن عباس: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فألفى) بالفاء أي: وجد (ذلك أم إسماعيل) بالنصب مفعول ألفى (وهي تحب الأنس) بضم الهمزة ضد الوحشة (فنزلوا فأرسلوا إلى أهليهم) فجاءوا (فنزلوا معهم حتى إذا كانوا بها أهل أبيات) حتى غاية لمقدر أي: وكثروا وكان بمعنى صار (وشب الغلام) أي: إسماعيل (وتعلم العربية منهم) قال السيوطي: فيه تضعيف لقول من روى أنه أول من تكلم بالعربية كما أخرجه الحاكم في المستدرك من حديث ابن عباس.
لكن أخرج الزبير بن بكار في النسب بسند حسن من حديث على أول من فتق الله لسانه بالعربية البينة إسماعيل.
قال الحافظ ابن حجر: وبهذا القيد يجمع بين الخبرين فيكون أوليته في ذلك بحسب الزيادة في البيان لا الأولية المطلقة فيكون بعد تعلمه من جرهم، ألهمه الله العربية الفصيحة البينة فنطق بها، ويؤيده ما حكى ابن هاشم عن الشرقي بن قطامي أن عربية إسماعيل كانت أفصح من عربية يعرب بن قحطان وبقايا حمير وجرهم.
قال: ويحتمل أن تكون الأولية مقيدة بإسماعيل بالنسبة إلى بقية إخوته من ولد إبراهيم.
وفي الوشاح لابن دريد أول من نطق بالعربية يعرب بن قحطان بن إسماعيل (وأنفسهم) بفتح الفاء من النفاسة أي: كثرت رغبتهم فيه وللإِسماعيلي وآنسهم من الإِنس (وأعجبهم حتى شب) أي كبر ونشأ (فلما أدرك) أي: بلغ (زوجوه امرأة منهم) قال: ابن إسحاق اسمها عمارة بنت سعد.
وقال السهيلي حدا بنت سعد وقال: عمر بن شعبة حيي بنت أسعد (وماتت أم إسماعيل) ظاهر السياق أن موتها بعد تزوج ابنها (فجاء إبراهيم بعد ما) مصدرية (تزوج إسماعيل) أي: بعد تزوجه (يطالع تركته) أي: يتفقد حال ما تركه هذا وقد ورد أنه كان يزور هاجر وإسماعيل كل شهر على البراق يغدو غدوة ثم يأتي مكة ثم يرجع فيقيل في منزله في الشام، أخرجه الفاكهي من حديث علي بسند حسن (فلم يجد إسماعيل) عطف على جاء (فسأل امرأته عنه) أي: أين هو (فقالت خرج يبتغي) أي: يطلب (لنا) رزقاً أي: بالصيد كما قال المصنف (وفي رواية) أي: للبخاري كما صرح به آخر (يصيد لنا) أي: بدل قولها يبتغي لنا رزقاً يعني والروايات يفسر بعضها بعضاً (ثم سألها عن عيشهم) ما يعيشهم من الطعام والشراب (وهيئتهم) أي: حالتهم (فقالت نحن بشر) أي: متلبسين به وفسرت الشر بقولها (نحن في ضيق وشدة) أي: في ضيق من المعاش وشدة من أمره (وشكت إليه) أي: من ذلك.
ولما رأى مزيد التبرم وشدة الضجر مما ابتلاها الله تعالى به زيادة في الدرجات خشي أن يسري حالها إلى ولده فيقع في مثل حالها فأمره بفراقها كما قال (قال) أي: إبراهيم (فإذا جاء زوجك اقرئي عليه السلام) أي: أبلغيه سلامي، وجملة الأمر جواب الشرط غير الجازم وليس في أولها رابط من الفاء، ولا بدلها من إذا الفجائية (وقولي له يغير عتبة بابه) كناية عن طلاق امرأته.
واستنبط منه البلقيني عند ذلك من كنايات الطلاق وكنى عن المرأة بعتبة الباب لما فيها من الصفات الموافقة لها وهي حفظ الباب وصون ما في داخله وكونها محل الوطء (فلما جاء إسماعيل) من صيده (كأنه آنس) بالمد أي: أحس (شيئاً فقال هل جاءكم من أحد) مزيدة لتقدم الاستفهام (قالت نعم جاءنا شيخ) بالتنوين وقوله (كذا وكذا) كناية عن صفته (فسألنا عنك فأخبرته فسألني) عبرت عن نفسها أولاً بضمير الجمع تأكيداً ثم بضمير الواحد تفنناً في التعبير ودفعاً لاستكراره ثقل تكرير اللفظ بعينه (كيف عيشنا فأخبرته أنا في جهد) بفتح الجيم أي مشقة (وشدة) أي: قوة فهو كعطف للرديف (قال: فهل أوصاك بشيء؟ قالت نعم أمرني أن أقرأ عليك السلام ويقول) لك عطف على أمرني (غير عتبة بابك قال: ذاك) بكسر الكاف خطاب المؤنثة (أبي وقد أمرني) بتغيير عتبة الباب (أن أفارقك) يحتمل أن يكون على تقدير الباء أي: بمفارقتك وألا يقدر لأن أمر يصل إلى المفعول الثاني تارة بالجار، وأخرى بنفسه (الحقي بأهلك) بفتح المهملة وهو من كنايات الطلاق، والسياق يقضي بأنه نوى الطلاق الذي أمر به وصرح به بقوله (فطلقها) وفيه استحباب مفارقة من لا صبر لها عنده عند تعاور الشدائد، وبر الوالد وتنفيذ أمره والمسارعة إليه (وتزوج منهم امرأة أخرى) قال الواقدي وغيره: اسمها سامة بنت مهلهل.
وقيل: اسمها عاتكة.
وقيل رغلة بنت نصاص.
وقيل جرة.
وقيل هالة بنت الحارث.
وقيل سلمى وقيل الحنفاء وقيل السند بنت مضاض وقيل رغلة بنت يسحب بن يعرب بن لود بن جرهم (فلبث عندهم إبراهيم ما شاء الله) أي: قدر مشيئته أو قدر الذي شاءه الله (ثم أتاهم بعد) بالبناء على الضم لحذف المضاف إليه ونية معناه.
وفي نسخة بعد ذلك بنصب بعد لإِضافته لفظاً (فلم يجده فدخل على امرأته فسأل عنه قالت) أتى بالفاء فيما تقدم لبيان أن إجابتها عقب سؤاله فوراً وحذفت هنا لعدم تعلق القصد بفورية جوابها.
أو ترتبه أو استئناف بياني أشار إليه البيضاوي في سورة المؤمنين حيث قال: تعالي في آية (فقال الملأ) وفي أخرى (وقال الملأ) بالفاء في الأولى وبحذفها في الثانية (خرج يبتغي لنا قال: كيف أنتم وسألها عن عيشهم وهيئتهم فقالت نحن بحير) أي: في خير إلهي وفيض رباني.
ويحتمل أن الباء للملابسة (وسعة) بفتح المهملة الأولى (وأثنت على الله تعالى) أي: حمدته (فقال: ما طعامكم قالت اللحم قال: فما شرابكم قالت الماء) أي: ماء زمزم ويحتمل وهو وغيره من باقي المياه كماء مطر ومحمول من خارجها (قال: اللهم بارك لهم في اللحم والماء قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن لهم يومئذ حب) أي: شيء من أي نوع منه (ولو كان لهم دعا لهم فيه) أي: لتعمه البركة بدعائه (قال) ابن عباس: (فهما لا يخلو) بالمعجمة يقال خلوت بالشيء إذا لم أخلط به غيره (عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه) في رواية أخرى إلا اشتكي بطنه (وفي رواية) هي للبخاري، وهي في سياق مجيئه المرأة الثانية السابقة فيما قبله (فجاء) أي: إبراهيم (فقال أين إسماعيل فقالت امرأته ذهب يصيد فقالت امرأته) كرره للتأكيد ولزيادة الإِيضاح (ألا) بتخفيف اللام أداة عرض (تنزل فتطعم وتشرب) بفتح الفوقية فيهما وبالنصب بأن في جواب العرض (قال: وما طعامكم وما شرابكم؟ قالت: طعامنا اللحم وشرابنا الماء) أعادت ذكر الطعام والشراب المستغني كنهما بذكرهما في السؤال تلذذاً بطول الخطاب واستعذاباً بالإِطناب، ودفعاً لإِيهام أن الماء قد يكون لهم طعاماً وشراباً، وإن كان ذلك في زمزم (قال اللهم بارك لهم في طعامهم وشرابهم قال) أي: ابن عباس (فقال أبو القاسم) كنية النبي (- صلى الله عليه وسلم -) كني بولده القاسم ولا يجوز تكنية غيره بها مطلقاً كما تقدم (بركة دعوة إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -) أي: الاحتزاء بهما بمكة فهو مبتدأ أو خبر وثاني الخبرين محذوف لدلالة المقام عليه (قال) أي: إبراهيم (فإذا جاء زوجك) أي: من الصيد (فاقرئي عليه السلام ومريه يثبت) بتشديد الموحدة (عتبة بابه فلما جاء إسماعيل) من الصيد كأنه آنس شيئاً كما جاء في رواية وجد ريح أبيه (فقال: هل أتاكم من أحد؟ قالت: نعم) أي أتانا (شيخ حسن الهيئة) وفي نسخة بإثباته (وأثنت عليه) أي: ذكرت بعض أوصاف كمال إبراهيم (فسألني سمعت رجلاً يقول بكيا حتى أجابهما الطير أي: لتباعد لقائهما.
زاد الفاكهي وكان عمر إيراهيم يومئذ مائة سنة، وعمر إسماعيل ثلاثين سنة (قال يا إسماعيل إن الله تعالى أمرني بأمر قال: فامنع ما أمرك ربك قال وتعينني) ، هو داخل في حيز الأمر كما في رواية أخرى إنه أمرني أن تعينني عليه (قال وأعينك) وللكشميهني بالفاء بدل الواو (قال فإن الله تعالى أمرني أن أبني بيتاً ها هنا وأشار) بقوله ها هنا (إلى أكمة) بفتحتين تل.
وقيل شرفة كالرابية وهو: ما اجتمع من الحجارة في مكان واحد، وربما غلظ وربما لم يغلظ، والجمع أكم كقصب وأكمات كقصبات، وجمع الأكم إكام مثل جبل وجبال وجمع الأكام أكم بضمتين ككتاب وكتب، وجمع الأكم آكام مثل عنق وأعناق كذا في المصباح (مرتفعة على ما حولها) من الأرض وتقدم أن السيول كانت لا تعلوها (فعند ذلك رفع) إبراهيم (القواعد) أي: الأساس (من البيت) ورفعها البناء عليها وقال السيوطي: القواعد أي التي كانت قواعد البيت قبل ذلك كما أخرجه أحمد عن ابن عباس وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد أن القواعد كانت في الأرض السابعة (فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة) وإبراهيم على المقام ينزل به لأخذ الحجر من إسماعيل، ثم يعلو به فيضعه محله من البناء كما قال (وإبراهيم يبني) عطف معمولين على معمولي عامل واحد (حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر) يعني المقام زاد في حديث عثمان أنه نزل عليه الركن والمقام من الجنة فكان يقوم على المقام ويبني عليه، فلما بلغ الموضع الذي فيه الركن وضعه يومئذ موضعه وأخذ المقام فجعله لاصقاً بالبيت، فلما فرغ من بناء الكعبة جاء جبريل فأراه المناسك كلها، ثم قام إبراهيم وإسماعيل تلك المواقف، وحجه وإسحاق وسارة من بيت المقدس، ثم رجع إبراهيم إلى الشام فمات بالشام كذا بالتوشيح (فوضعه له فقام عليه) أي: على المقام (وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان ربنا تقبل منا) بناء البيت (إنك أنت السميع) لدعائنا (العليم) ببناء بيتنا (وفي رواية أن إبراهيم خرج بإسماعيل وأم إسماعيل) بالجر عطف على إسماعيل وقوله (معهم شنة) بالمعجمة والنون المشددة، هي الجلدة البالية، والمراد: هنا السقاء الذي عبر به عنها في الرواية السابقة حال من فاعل خرج، وجملة (فيها ماء) في محل الصفة (فجعلت أم إسماعيل تشرب من الشنة) أي: من مائها (فيدر لبنها) بفتح التحتية وكسر الدال المهملة وضمها.
في المصباح: در اللبن دراً من بابي ضرب وقتل (على صبيها) أي: إسماعيل (حتى قدم) أي: إبراهيم (مكة) وهي بولدها معه (فوضعهما تحت دوحة ثم رجع إبراهيم إلى أهله) سارة بالشام (فاتبعته أم إسماعيل حتى لما بلغوا نادته من ورائه يا إبراهيم إلى من تتركنا؟ قال: إلى الله قالت رضيت بالله) كذا في جميع نسخ الرياض التي وقفت عليها بحذف مفعول بلغوا وهو مصرح به في البخاري ففيه حتى لما بلغوا كداء نادته، غايته أن نسخ البخاري مختلفة الضبط أهو بضم فقصر أم بفتح فمد (فرجعت) عنه إلى محلها (وجعلت تشرب من الشنة فيدر لبنها على صبيها) يجوز في جملة تدر أن تعطف على خبر جعل، وأن تعطف على جملة جعلت (حتى لما فني الماء قالت لو ذهبت) حرف تمن فلا جواب لها أو شرط حذف جوابها أي: لكان أولى اكتفاء بدلالة الحال عليه (فنظرت لعلي أحس) أي: أجد (أحداً قال: فذهبت فصعدت) بكسر المهملة الثانية (الصفا فنظرت) أي: تأملت (ونظرت) أي: كررت النظر وفي نسخة الاقتصار على نظرت الأول (هل تحس أحداً فلم تحس) أي: لم تر (أحداً) ولم تشعر به (فلما بلغت الوادي) المسيل، وفيه انخفاض امتنع به رؤيتها لولدها فخافت عليه فأسرعت كما قال (وسعت) أي: أسرعت كما قال: في الرواية السابقة فسعت سعي المجهود (وأتت المروة) أي: بعد تركها السعي وعودها لعادتها قبل وصولها الوادي، كما ولي) وعبر عنه به لأنه تولى قفاه حال انصرافه (والجري) بفتح الجيم وكسر الراء وتشديد التحتية (الرسول) تقدم، وأنه سمي بذلك لجرأته على مرسله أو لجريه إسراعاً في حاجته (وألفي) بالفاء (معناه وجد) فهو من أفعال القلوب (وقوله ينشغ) بضبطه السابق قريباً (أي: يشهق) ويعلو صوته وينخفض كالذي ينازع.
وقال بعضهم: النشغ الشهق من الصدر، حتى يكاد يبلغ به الغشي.


رقم الحديث 1868 ( وعن سعيد بن زيد) بن عمرو بن نفيل القرشي العدوي، نسبة إلى عدي بن كعب بن لؤي، وهو ابن عم عمر يجتمعان في نفيل، وكان أبوه اعتزل الجاهلية وجهالاتهم ووحد الله تعالى بغير واسطة.
وقيل نزل فيه وفي سلمان وأبي قوله تعالى ( والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها) الآية.
أمه فاطمة بنت ربعي الخزاعية، أسلم هو وزوجته أم جميل فاطمة بنت الخطاب أخت عمر أول الإِسلام وبسببها كان إسلامه، أحد العشرة المبشرة بالجنة ( رضي الله عنه) بعثه - صلى الله عليه وسلم - مع طلحة يتجسسان الأخبار في طريق الشام، فقدما المدينة يوم وقعة بدر فأثبت - صلى الله عليه وسلم - سهمهما وأجرهما، فلذا عدا في البدريين، وكان مجاب الدعوة، وقصته مشهورة مع أروى بنت قيس، لما شكته إلى مروان بن الحكم وادعت عليه أنه غصبها شيئاً من أرضها فعميت، ثم تردت في مرقا دارها فكانت فيها .
روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانية وأربعون حديثاً، منها في الصحيحين ثلاثة، اتفقا على اثنين منها، والثالث للبخاري وحده.
وكان سعيد موصوفاً بالزهد محترماً عند الولاة.
روى عنه قيس بن أبي حازم وأبو عثمان النهدي.
توفي رضي الله عنه بمنزله بالعقيق وحمل على أعناق الرجال فدفن بالبقيع سنة إحدى وخمسين أو خمسين، وهو ابن بضع وسبعين سنة وصلى عليه ابن عمر وكان له من الولد ثلاثة عشر ذكراً وثماني عشرة أنثى ( قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول الكمأة) بفتح الكاف والهمزة وسكون الميم آخره هاء واحده كمء بحذف الهاء ولا نظير له في ذلك إلا خبأة وخبء قاله ابن الأعرابي ( من المن) الذي أنزله الله على بني إسرائيل كما جاء كذلك في رواية وامتن به عليهم ( وماؤها شفاء للعين) أي: من دائها.
واختلف هل يستعمل صوفاً أو تربي به الأكحال.
وهل المراد بمائها ما يعتصر بها، أو الماء الذي تنبت به ( متفق عليه) قال في الجامع الصغير: ورواه أحمد والترمذي من حديث سعيد.
ورواه أحمد والنسائي وابن ماجة من حديث عائشة.
ورواه أبو نعيم أيضاً من حديث أبي سعيد بلفظ "الكمأة من المن والمن من الجنة وماؤها شفاء العين".
كتاب الاستغفار أي: سؤال غفر الذنب، أي: بعض ما ورد في طلبه من الكتاب والسنة.
وشرط قبول الاستغفار الاقلاع عن الذنب المستغفر منه وإلا فالاستغفار منه مع التلبس به كالتلاعب، كما يشير إليه قوله تعالى ( ولم يصروا على ما فعلوا) .
وسيأتي الكلام على الآية منقولاً من الفتح ويأتي في حديث ابن مسعود مزيد في ذلك ( قال الله تعالى واستغفر لذنبك) قال الا يجيء: ذكره للتوطئة والتمهيد، لقوله: ( للمؤمنين والمؤمنات) فالمقصود الاستغفار لهم أو أمره به أمته اهـ.
( قال تعالى واستغفر الله) أي: سله غفر ذنوب المذنبين، كما يومىء إليه تعميم حذف المعمول، والدعاء كلما كان أعم كان أتم ( إن الله كان غفوراً رحيماً) لمن استغفر وأناب فيغفر له ويفيض عليه منته ( وقال تعالى فسبح بحمد ربك) أي: متلبساً بحمده، فلذا كان - صلى الله عليه وسلم - يكثر من قوله سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي في صلاته، كما تقدم في باب الحث على الازدياد من الخير أواخر العمر ( واستغفره) أي: عما فرط منك من التقصير أو عن أمتك ( إنه كان تواباً) استئناف بياني عن حكمة الأمر بالاستغفار، والمبالغة في القبح.
وقيل الفاحشة الزنى أو الكبائر ( أو ظلموا أنفسهم) بالصغائر أو ما دون الزنى ( ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم) قال في فتح الباري: قيل هو تفسير لقوله ( اذكروا الله) وقيل: على حذف مضاف أي: ذكروا عقابه أي: تفكروا في أنفسهم أن الله يسألهم فاستغفروه لذنوبهم وقد ورد في حديث حسن صفة الاستغفار المشار إليه في الآية أخرجه أحمد والأربعة وصححه ابن حبان من حديث علي بن أبي طالب قال: حدثني أبو بكر الصديق رضي الله عنهما وصدق أبو بكر، سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما من رجل يذنب ذنباً ثم يقوم فيتطهر فيحسن الطهور ثم يستغفر الله عز وجل إلا غفر له ثم تلا والذين إذا فعلوا فاحشة" الآية ( ومن يغفر الذنوب إلا الله) استفهام بمعنى النفي، معترض بين المعطوف والمعطوف عليه دال على سعة رحمته ( ولم يصروا على ما فعلوا) أي: لم يقيموا على ذنوبهم بل أقروا واستغفروا به.
وفي الحديث ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة.
قال الحافظ في فتح الباري: وفي إشارة إلى أن شرط قبول الاستغفار الإِقلاع عن الذنب، وإلا فالاستغفار باللسان مع التلبس بالذنب كالتلاعب.
قال الحافظ في أثناء كتاب التوحيد من الفتح: ويشهد لهذا أي: اعتبار التوبة في نفع الاستغفار، وما أخرجه ابن أبي الدنيا من حديث ابن عباس مرفوعاً للتائب من الذنب كما لا ذنب له والمستغفر من الذنب وهو مقيم عليه كالمستهزىء بربه".
والراجح أن قوله والمستغفر إلخ موقوف وأوله عند ابن ماجة والطبراني من حديث ابن مسعود وسنده حسن قال في الفتح المبين: هو حجة، وإن فرض أنه موقوف لأن مثله لا يقال من قبل الرأي وكل موقوف كذلك له حكم المرفوع ( وهم يعلمون) أنها معصية أو أن الإِصرار ضار أو أن الله يملك مغفرة الذنوب أو أنهم إن استغفروا واغفر لهم ( والآيات في الباب) .
أي باب الاستغفار ( كثيرة معلومة) وفيما ذكر كفاية.