فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب من قال: إن صاحب الماء أحق بالماء حتى يروى لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يمنع فضل الماء»

( بابُُ منْ قالَ إنَّ صاحِبَ المَاءِ أحَقُّ بالمَاءِ حتَّى يَرْوَى)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان قَول من قَالَ ... إِلَى آخِره.
قَوْله: ( يرْوى) ، بِفَتْح الْوَاو: من الرّيّ،.

     وَقَالَ  ابْن بطال: لَا خلاف بَين الْعلمَاء أَن صَاحب المَاء أَحَق بِالْمَاءِ حَتَّى يَروى.

لِقَوْلِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لاَ يُمْنَعُ فَضْلُ المَاءِ
هَذَا تَعْلِيل للتَّرْجَمَة، وَوَجهه أَن منع فضل المَاء إِنَّمَا يتَوَجَّه إِذا فضل عَن حَاجَة صَاحبه، فَهَذَا يدل على أَنه أَحَق بمائه عِنْد عدم الْفضل، وَالْمرَاد من: حَاجَة صَاحبه، حَاجَة نَفسه وَعِيَاله وزرعه وماشيته، وَهَذَا فِي غير المَاء المحرز فِي الْإِنَاء، فَإِن المحرز فِيهِ لَا يجب بذل فَضله إلاَّ للْمُضْطَر، وَهُوَ الصَّحِيح.
ثمَّ قَوْله: ( لَا يمْنَع) على صِيغَة الْمَجْهُول، وبالرفع لِأَنَّهُ نفي بِمَعْنى النَّهْي، وَذكر عِيَاض أَنه فِي رِوَايَة أبي ذَر بِالْجَزْمِ بِلَفْظ النَّهْي، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله البُخَارِيّ عَقِيبه، كَمَا يجيىء الْآن.



[ قــ :2254 ... غــ :2353 ]
- حدَّثنا عبدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ أبِي الزِّنادِ عنِ الأعْرَجِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَا يُمْنَعُ فَضْلُ المَاءِ لِيُمْنَعَ بِهِ الكَلأُ.

مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن منع فضل المَاء يدل على أَن صَاحب المَاء أَحَق بِهِ عِنْد عدم الْفضل، وَأَبُو الزِّنَاد عبد الله بن ذكْوَان، والأعرج هُوَ عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز.

والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ فِي ترك الْحِيَل عَن إِسْمَاعِيل.
وَأخرجه مُسلم فِي الْبيُوع عَن يحيى بن يحيى.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي إحْيَاء الْموَات عَن مُحَمَّد بن سَلمَة عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم، أربعتهم عَن مَالك بِهِ.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد من رِوَايَة جرير عَن الْأَعْمَش عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة بِلَفْظ البُخَارِيّ، وَكَذَلِكَ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث قُتَيْبَة عَن اللَّيْث عَن أبي الزِّنَاد عَن الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة.
وَأخرجه ابْن مَاجَه من رِوَايَة سُفْيَان عَن أبي الزِّنَاد بِلَفْظ: لَا يمْنَع أحدكُم فضل المَاء يمْنَع بِهِ الْكلأ.
وَفِي لفظ بِهَذَا الْإِسْنَاد: ثَلَاث لَا يمنعن: المَاء والكلأ وَالنَّار.
وَأخرج ابْن مَاجَه أَيْضا من رِوَايَة حَارِث عَن عمْرَة عَن عَائِشَة، قَالَت: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا يمْنَع فضل المَاء وَلَا يمْنَع نفع الْبِئْر.
وَأخرج أَحْمد فِي ( مُسْنده) : حَدثنَا عَفَّان حَدثنَا حَمَّاد بن سَلمَة عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: من منع فضل مَائه أَو فضل كلائه مَنعه الله عز وَجل فَضله.
وَأخرج أَبُو يعلى فِي ( مُسْنده) من حَدِيث سعد بن أبي وَقاص، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: من منع فضل مَائه مَنعه الله فَضله يَوْم الْقِيَامَة.
وروى ابْن مرْدَوَيْه فِي ( تَفْسِيره) من رِوَايَة مَكْحُول عَن وَاثِلَة بن الْأَسْقَع، قَالَ: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا تمنعوا عباد الله فضل المَاء وَلَا كلأ وَلَا نَارا فَإِن الله جعلهَا مَتَاعا للموقين وَقُوَّة للمستضعفين.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: ( لَا يمْنَع) ، على صِيغَة الْمَجْهُول.
قَوْله: ( ليمنع بِهِ) ، اللَّام هَذِه، وَإِن كَانَ النُّحَاة يَقُولُونَ إِنَّهَا لَام كي فَهِيَ لبَيَان الْعَاقِبَة والمآل، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: { فالتقطه آل فِرْعَوْن ليَكُون لَهُم عدوا وحزناً} ( الْقَصَص: 8) .
قَوْله: ( الْكلأ) ، بِفَتْح الْكَاف وَاللَّام وبالهمزة: العشب، سَوَاء كَانَ يَابسا أَو رطبا.
وَفِي ( الْمُحكم) : هُوَ اسْم للنوع وَلَا وَاحِد لَهُ، وَمعنى هَذَا الْكَلَام مَا قَالَه الْخطابِيّ: هَذَا فِي الرجل يحْفر الْبِئْر فِي الْموَات فيملكها بِالْإِحْيَاءِ، وبقرب الْبِئْر موَات فِيهِ كلأ ترعاه الْمَاشِيَة، وَلَا يكون لَهُم مقَام إِذا منعُوا المَاء، فَأمر صَاحب المَاء أَن لَا يمْنَع الْمَاشِيَة فضل مائَة لِئَلَّا يكون مَانِعا للكلأ.
قلت: توضيح ذَلِك الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور: أَن يكون حول بِئْر رجل كلأ لَيْسَ عِنْده مَاء غَيره، وَلَا يُمكن أَصْحَاب الْمَوَاشِي رعيه إِلَّا إِذا مكنوا من سقِِي بهائمهم من تِلْكَ الْبِئْر لِئَلَّا يتضرروا بالعطش بعد الرَّعْي، فيستلزم مَنعهم من المَاء مَنعهم من الرَّعْي، وعَلى هَذَا يخْتَص الْبَذْل بِمن لَهُ مَاشِيَة، وَيلْحق بِهِ الرُّعَاة إِذا احتاجوا إِلَى الشّرْب لأَنهم إِذا منعُوا مِنْهُ امْتَنعُوا من الرَّعْي هُنَاكَ.
.

     وَقَالَ  ابْن بزيزة: منع المَاء بعد الرّيّ من الْكَبَائِر، ذكره يحيى فِي ( خراجه) .





[ قــ :55 ... غــ :354 ]
- حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ قَالَ حدَّثنا اللَّيْثُ عنْ عُقَيْلٍ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنِ ابنِ المُسَيَّبِ وأبِي سَلَمَةَ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَا تَمْنَعُوا فَضْلَ المَاءِ لِتَمْنَعُوا بِهِ فَضْلَ الْكَلأ.
( انْظُر الحَدِيث 353 وطرفه) .


مطابقته للتَّرْجَمَة مثل مُطَابقَة الحَدِيث السَّابِق.
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَعقيل، بِضَم الْعين: ابْن خَالِد الْأَيْلِي، ويروي عَن مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب عَن سعيد بن الْمسيب وَأبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن عَن أبي هُرَيْرَة.

والْحَدِيث أخرجه مُسلم من رِوَايَة هِلَال بن أُسَامَة عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة بِلَفْظ: لَا يُبَاع فضل المَاء ليباع بِهِ الْكلأ.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد من رِوَايَة جرير عَن الْأَعْمَش عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة بِلَفْظ: لَا يمْنَع فضل المَاء ليمنع بِهِ الْكلأ.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ من رِوَايَة اللَّيْث عَن أبي الزِّنَاد عَن الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة، نَحْو رِوَايَة أبي دَاوُد.

وَاخْتلف الْعلمَاء فِي أَن هَذَا النَّهْي للتَّحْرِيم أَو التَّنْزِيه؟ فَقَالَ الطَّيِّبِيّ: وبنوا ذَلِك على أَن المَاء يملك أم لَا؟ فَالْأولى حمله على الْكَرَاهَة.
وَفِي ( التَّوْضِيح) : وَالنَّهْي فِيهِ على التَّحْرِيم عِنْد مَالك وَالْأَوْزَاعِيّ، وَنَقله الْخطابِيّ وَابْن التِّين عَن الشَّافِعِي، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، واستحبه بَعضهم وَحمله على النّدب، وَالأَصَح عندنَا أَنه يجب بذله للماشية لَا للزَّرْع.
قلت: كَذَلِك مَذْهَب الْحَنَفِيَّة: الِاخْتِصَاص بالماشية، وَفرق الشَّافِعِي فِيمَا حَكَاهُ الْمُزنِيّ عَنهُ بَين الْمَوَاشِي وَالزَّرْع بِأَن الْمَاشِيَة ذَات أَرْوَاح يخْشَى من عطشها مَوتهَا بِخِلَاف الزَّرْع.

وَلَا خلاف بَين الْعلمَاء أَن صَاحب المَاء أَحَق بِهِ حَتَّى يُروى لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن بيع فضل المَاء، فَأَما من لَا يفضل لَهُ فَلَا يدْخل فِي هَذَا النَّهْي، لِأَن صَاحب الشَّيْء أولى بِهِ.
وَتَأْويل الْمَنْع عِنْد مَالك فِي ( الْمُدَوَّنَة) وَغَيره: مَعْنَاهُ فِي آبار الْمَاشِيَة فِي الصَّحرَاء يحفرها الْمَرْء وبقربها كلأ مُبَاح، فَإِذا منع المَاء اخْتصَّ بالكلأ، فَأمر أَن لَا يمْنَع فضل المَاء لِئَلَّا يكون مَانِعا للكلأ.
.

     وَقَالَ  القَاضِي فِي ( إشرافه) فِي حافر الْبِئْر فِي الْموَات: لَا يجوز لَهُ منع مَا زَاد على قدر حَاجته لغيره بِغَيْر عوض،.

     وَقَالَ  قوم: يلْزمه بِالْعِوَضِ، أما حافرها فِي ملكه فَلهُ منع مَا عمل من ذَلِك، وَيكون أَحَق بِمَائِهَا حَتَّى يرْوى، وَيكون للنَّاس مَا فضل إلاَّ من مر بهم لشفاههم ودوابهم فَإِنَّهُم لَا يمْنَعُونَ كَمَا يمْنَع من سواهُم.
.

     وَقَالَ  الْكُوفِيُّونَ: لَهُ أَن يمْنَع من دُخُول أرضه وَأخذ مَائه لَا أَن لَا يكون لشفاههم ودوابهم مَاء فيسقيهم، وَلَيْسَ عَلَيْهِ سقِِي زرعهم.
.

     وَقَالَ  الطَّيِّبِيّ، نَاقِلا عَن القَاضِي بعلامة ( قض) : اخْتلفت الرِّوَايَات فِي هَذَا الحَدِيث فروى البُخَارِيّ: لَا تمنعوا فضل المَاء لتمنعوا بِهِ فضل الْكلأ، مَعْنَاهُ: من كَانَ لَهُ بِئْر فِي موَات من الأَرْض لَا يمْنَع مَاشِيَة غَيره أَن ترد فضل مَائه الَّذِي زَاد على مَا احْتَاجَ إِلَيْهِ ليمنعها بذلك عَن فضل الْكلأ، فَإِنَّهُ إِذا مَنعهم عَن فضل مَاء من الأَرْض لَا مَاء بهَا ( مَا شيته) ، سواهُ لم يُمكن لَهُم الرَّعْي بهَا، فَيصير الْكلأ مَمْنُوعًا بِمَنْع المَاء.
وروى مُسلم: لَا يُبَاع فضل المَاء ليمنع بِهِ الْكلأ.
وَالْمعْنَى: لَا يُبَاع فضل المَاء ليباع بِهِ الْكلأ، أَي: لَا يُبَاع فضل المَاء ليصير بِهِ البَائِع لَهُ كالبائع للكلأ، فَإِن من أَرَادَ الرَّعْي فِي حوالي مَائه إِذا مَنعه من الْوُرُود على مَائه، إلاَّ بعوض اضْطر إِلَى شِرَائِهِ، فَيكون بَيْعه للْمَاء بيعا للكلأ.
.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: لَا يجب على صَاحب الْبِئْر بذل الْفَاضِل عَن حَاجته لزرع غَيره فِيمَا يملكهُ من المَاء، وَيجب بذله للماشية، وللوجوب شُرُوط: أَحدهَا: أَن لَا يجد صَاحب الْمَاشِيَة مَاء مُبَاحا.
وَالثَّانِي: إِن يكون الْبَذْل لحَاجَة الْمَاشِيَة.
وَالثَّالِث: أَن يكون هُنَاكَ مرعى، وَأَن يكون المَاء فِي مستقره، فالماء الْمَوْجُود فِي إِنَاء لَا يجب بذل فَضله على الصَّحِيح، ثمَّ عابروا السَّبِيل يبْذل لَهُم ولمواشيهم، وَلمن أَرَادَ الْإِقَامَة فِي الْموضع وَجْهَان، لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَة فِي الْإِقَامَة، وَالأَصَح الْوُجُوب، وَإِذا أَوجَبْنَا الْبَذْل هَل يجوز أَن يَأْخُذ عَلَيْهِ أجرا كإطعام الْمُضْطَر؟ وَجْهَان وَالصَّحِيح: لَا، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن بيع فضل المَاء.