فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب ما جاء في قول الله تعالى: {إن رحمة الله قريب من المحسنين}

( بابُُ مَا جاءَ فِي قَوْلِ الله تَعَالَى: { وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الاَْرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} )

أَي: هَذَا بابُُ فِي قَول الله عز وَجل: { إِن رَحْمَة الله قريب من الْمُحْسِنِينَ}
إِنَّمَا قَالَ: قريب، وَالْقِيَاس: قريبَة، لِأَن الفعيل الَّذِي بِمَعْنى الْفَاعِل قد يحمل على الَّذِي بِمَعْنى الْمَفْعُول أَو الرَّحْمَة بِمَعْنى الترحم أَو صفة لموصوف مَحْذُوف أَي: شَيْء قريب، أَو لما كَانَ وَزنه وزن الْمصدر نَحْو: شهيق وزفير أعْطى لَهُ حكمه فِي اسْتِوَاء الْمُذكر والمؤنث.
.

     وَقَالَ  ابْن التِّين: هُوَ من التَّأْنِيث الْمجَازِي كطلع الشَّمْس وَفِيه نظر لِأَن شَرطه تقدم الْفِعْل.
.

     وَقَالَ  ابْن بطال: الرَّحْمَة تَنْقَسِم إِلَى صفة ذَات فَيكون مَعْنَاهُ إِرَادَة إثابة الطائعين، وَإِلَى صفة فعل فَيكون مَعْنَاهُ أَن فضل الله بسوق السَّحَاب وإنزال الْمَطَر قريب من الْمُحْسِنِينَ، فَكَانَ ذَلِك رَحْمَة لَهُم لكَونه بقدرته وإرادته وَنَحْوه وَتَسْمِيَة الْجنَّة رَحْمَة لكَونهَا فعلا من أَفعاله حَادِثَة بقدرته.



[ قــ :7050 ... غــ :7448 ]
- حدّثنا مُوسَى بنُ إسْماعِيلَ، حدّثنا عَبْدُ الوَاحِدِ، حَدثنَا عاصِمٌ، عنْ أبي عُثْمانَ عنْ أُسامَةَ قَالَ: كانَ ابنٌ لِبَعْضِ بَناتِ النبيِّ يَقْضِي، فأرْسَلَتْ إلَيْهِ أنْ يَأْتِيَها، فأرْسَل: إنَّ مَا أخَذَ ولهُ مَا أعْطَى، وكُلٌّ إِلَى أجَل مُسَمًّى فَلْتَصْبِرْ ولْتَحْتَسِبْ فأرْسَلَتْ إلَيْهِ فأقْسَمَتْ عَلَيْهِ فقامَ رسولُ الله وقُمْتُ مَعَهُ ومُعاذُ بنُ جَبَلٍ وأُبَيُّ بنُ كَعْبٍ وعُبادَةُ بنُ الصَّامِتِ فَلمَّا دَخَلْنا ناوَلُوا رسولَ الله الصَّبيَّ ونَفْسُهُ تُقَلْقَلُ فِي صَدْرِهِ حَسِبْتُهُ قَالَ: كأنَّها شَنّةٌ فَبَكَى رسولُ الله فقالَ سَعْدُ بنُ عُبادَةً أتَبْكِي؟ فَقَالَ: إنَّما يَرْحَمُ الله مِنْ عِبادِهِ الرُّحَمَاء
ا
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي آخر الحَدِيث.

وَعبد الْوَاحِد بن زِيَاد الْعَبْدي، وَعَاصِم هُوَ الْأَحول، وَأَبُو عُثْمَان هُوَ عبد الرَّحْمَن بن مل النَّهْدِيّ، وَأُسَامَة بن زيد بن حَارِثَة.

والْحَدِيث مضى فِي الْجَنَائِز عَن عَبْدَانِ وَفِي الطِّبّ عَن حجاج بن منهال وَفِي النذور عَن حَفْص بن عَمْرو، وَمضى الْكَلَام فِيهِ.

قَوْله: كَانَ ابْن وَفِي النذور: أَنه بنت.
قَوْله: يقْضِي أَي: يَمُوت أَي: كَانَ فِي النزع.
قَوْله: تقلقل أَي: تصوت اضطراباً.
قَوْله: الرُّحَمَاء جمع رَحِيم كالكرماء جمع كريم.





[ قــ :7051 ... غــ :7449 ]
- حدّثنا عُبَيْدُ الله بنُ سَعْدِ بنِ إبْرَاهِيمَ، حدّثنا يَعْقُوبُ، حَدثنَا أبي عنْ صالِحِ بنِ كَيْسانَ، عنِ الأعْرَجِ، عنْ أبي هُرَيْرَةَ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: اخْتَصَمَتِ الجَنَّةُ والنَّارُ إِلَى ربِّهما، فقالَتِ الجَنَّةُ: يَا رَبِّ مَا لَهَا لَا يَدْخُلُها إلاَّ ضُعَفاءُ النَّاسِ وسَقَطُهُمْ؟ وقالَتِ: النَّارُ: يَعْنِي أُوثِرْتُ بالمُتَكَبِّرِينَ؟ فَقَالَ الله تَعَالَى لِلْجَنَّةِ: أنْتِ رحْمَتِي،.

     وَقَالَ  لِلنَّارِ: أنْتِ عَذَابِي أصِيبُ بِكِ مَنْ أشاءُ، ولِكُلِّ واحِدَةٍ مِنْكُما مِلْؤُها.
قَالَ: فأمَّا الجَنَّةُ فإنَّ الله لَا يَظْلِمُ مِنْ خَلْقِهِ أحَداً، وإنَّهُ يُنْشِىءُ لِلنَّار مَنْ يَشاءُ، فَيُلْقَوْنَ فِيها فَتَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ثَلاَثاً حتَّى يَضَعَ فِيها قَدَمَهُ فَتَمْتَلِىءُ، ويُرَدُّ بَعْضُها إِلَى بَعْضٍ وتَقُولُ: قَطْ قَطْ قَطْ
انْظُر الحَدِيث 4849 وطرفه
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: أَنْت رَحْمَتي
وَعبيد الله بن سعد بن إِبْرَاهِيم بن سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف الزُّهْرِيّ الْقرشِي الْمدنِي، سمع عَمه يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم بن سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف أَصله مدنِي كَانَ بالعراق سمع يَعْقُوب هَذَا أَبَاهُ، إِبْرَاهِيم بن سعد وَكَانَ على قَضَاء بَغْدَاد، وَسمع هُوَ صَالح بن كيسَان الْغِفَارِيّ مؤدب ولد عمر بن عبد الْعَزِيز، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَسمع هُوَ عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز الْأَعْرَج.

والْحَدِيث رَوَاهُ مُسلم من طَرِيق أبي الزِّنَاد عَن الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.

تصمت الْجنَّة وَالنَّار إِمَّا مجَاز عَن حَالهمَا المشابهة للخصومة، وَإِمَّا حَقِيقَة بِأَن يخلق الله فيهمَا الْحَيَاة والنطق وَنَحْوهمَا، واختصامهما افتخار بعضهما على بعض بِمن يسكنهما، وَفِي رِوَايَة مُسلم: احتجت النَّار وَالْجنَّة، وَفِي لفظ آخر: تَحَاجَّتْ النَّار وَالْجنَّة.
قَوْله: فَقَالَت الْجنَّة: يَا رب مَا لَهَا هُوَ على طَريقَة الِالْتِفَات، وَإِلَّا فَمُقْتَضى الظَّاهِر: مَا لي.
قَوْله: وَسَقَطهمْ بالفتحتين الضُّعَفَاء الساقطون من أعين النَّاس، وَفِي رِوَايَة مُسلم بعد قَوْله: وَسَقَطهمْ وعجزهم، وَفِي رِوَايَة بعده: وغرتهم وعجزهم، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَالْجِيم جمع عَاجز أَي: العاجزون عَن طلب الدُّنْيَا والتمكن فِيهَا، وَضبط أَيْضا بِضَم الْعين وَتَشْديد الْجِيم الْمَفْتُوحَة وَهُوَ أَيْضا جمع عَاجز، وغرتهم بِكَسْر الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الرَّاء وبالتاء الْمُثَنَّاة من فَوق، قَالَ النَّوَوِيّ: هَذَا هُوَ الْأَشْهر فِي نسخ بِلَادنَا أَي: البله الغافلون الَّذين لَيْسَ لَهُم حذق فِي أُمُور الدُّنْيَا.
قَوْله:.

     وَقَالَ ت النَّار: يَعْنِي أُوثِرت على صِيغَة الْمَجْهُول أَي: اختصصت، وَهَذَا مقول القَوْل أبرزه فِي بعض النّسخ بقوله: يَعْنِي أُوثِرت بِالْمُتَكَبِّرِينَ؟ وَلم يَقع هَذَا فِي كثير من النّسخ حَتَّى قَالَ ابْن بطال: سقط قَوْله: أُوثِرت هُنَا من جَمِيع النّسخ.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: أَيْن مقول القَوْل؟ ثمَّ قَالَ: قلت: مُقَدّر مَعْلُوم من سَائِر الرِّوَايَات وَهُوَ أُوثِرت بِالْمُتَكَبِّرِينَ.
قَوْله: وَإنَّهُ ينشىء للنار من يَشَاء أَي: يُوجد ويخلق،.

     وَقَالَ  الْقَابِسِيّ: الْمَعْرُوف فِي هَذَا الْموضع أَن الله ينشىء للجنة خلقا، وَأما النَّار فَيَضَع فِيهَا قدمه قَالَ: وَلَا أعلم فِي شَيْء من الْأَحَادِيث أَنه ينشىء للنار خلقا، وَأما النَّار فَيَضَع فِيهَا قدمه قَالَ: وَلَا أعلم فِي شَيْء من الْأَحَادِيث أَنه ينشيء للنار خلقا، إلاَّ هَذَا.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: وَاعْلَم أَن هَذَا الحَدِيث مر فِي سُورَة ق بعكس هَذِه الرِّوَايَة، قَالَ ثمَّة: وَأما النَّار فتمتلىء وَلَا يظلم الله من خلقه أحدا.
وَأما الْجنَّة فَإِن الله ينشىء لَهَا خلقا، كَذَا فِي صَحِيح مُسلم وَقيل: هَذَا وهم من الرَّاوِي إِذْ تَعْذِيب غير العَاصِي لَا يَلِيق بكرم الله تَعَالَى، بِخِلَاف الإنعام على غير الْمُطِيع، ثمَّ قَالَ الْكرْمَانِي: لَا محذوراً فِي تَعْذِيب الله من لَا ذَنْب لَهُ إِذا الْقَاعِدَة القائلة بالْحسنِ والقبح العقليين بَاطِلَة، فَلَو عذبه لَكَانَ عدلا والإنشاء للجنة لَا يُنَافِي الْإِنْشَاء للنار، وَالله يفعل مَا يَشَاء فَلَا حَاجَة إِلَى الْحمل على الْوَهم.
قَوْله: فيلقون فِيهَا على صِيغَة الْمَجْهُول.
قَوْله: هَل من مزِيد قَالَهَا ثَلَاث مَرَّات، قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: الْمَزِيد إِمَّا مصدر كالمجيد، وَإِمَّا اسْم مفعول كَالْمَبِيعِ، وَقيل: هَذَا اسْتِفْهَام إِنْكَار وَإنَّهُ لَا يحْتَاج إِلَى زيادتها.
قَوْله: حَتَّى يضع فِيهَا قدمه هَذَا لفظ من المتشابهات، وَالْحكم فِيهِ إِمَّا التَّفْوِيض وَإِمَّا التَّأْوِيل، فَقيل: المُرَاد بِهِ التَّقَدُّم أَي: يضع الله فِيهَا من قدمه لَهَا من أهل الْعَذَاب أَو ثمَّة مَخْلُوق اسْمه الْقدَم، أَو وضع الْقدَم عبارَة عَن الزّجر والتسكين لَهَا كَمَا يُقَال: جعلته تَحت رجْلي وَوَضَعته تَحت قدمي.
قَوْله: وَيرد ويروى: يزوى، أَي: يضم.
قَوْله: قطّ قطّ قطّ ثَلَاث مَرَّات كَذَا وَقع فِي بعض النّسخ، وَفِي بَعْضهَا مرَّتَيْنِ وَهُوَ الْأَظْهر، وَمعنى: قطّ، حسب وتكرارها للتَّأْكِيد وَهِي سَاكِنة الطَّاء مُخَفّفَة، ويروى: قطي قطي، أَي: حسبي.





[ قــ :705 ... غــ :7450 ]
- حدّثنا حَفْصُ بنُ عُمَرَ، حدّثنا هِشامٌ، عنْ قَتادَةَ، عنْ أنَسٍ، رَضِي الله عَنهُ، عَن النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: لَيُصيبَنَّ أقْواماً سَفْعٌ مِنَ النَّارِ بِذُنُوبٍ أصابُوها عُقُوبَةً، ثُمَّ يُدْخِلُهُمُ الله الجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ، يُقالُ لَهُمُ: الجَهَنَّمِيُّونَ
انْظُر الحَدِيث 6559
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: بِفضل رَحمته
وَهِشَام هُوَ ابْن أبي عبد الله الدسّتوائي.

والْحَدِيث بِهَذَا الْوَجْه من أَفْرَاده.

قَوْله: ليصيبن مُؤَكدَة بالنُّون الثَّقِيلَة وَاللَّام فِيهِ مَفْتُوحَة للتَّأْكِيد.
وَقَوله: سفع بِالرَّفْع فَاعله بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون الْفَاء وبالعين الْمُهْملَة وَهُوَ اللفح واللهب كَذَا، قَالَه الْكرْمَانِي، وَهُوَ تَفْسِير الشَّيْء بِمَا هُوَ أخْفى مِنْهُ.
.

     وَقَالَ  ابْن الْأَثِير: السفع عَلامَة تغير ألوانهم، يُقَال: سفعت الشَّيْء إِذا جعلت عَلَيْهِ عَلامَة يُرِيد أثرا من النَّار.
قلت: اللفح بِفَتْح اللَّام وَسُكُون الْفَاء وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة حر النَّار ووهجها.
قَوْله: عُقُوبَة نصب على التَّعْلِيل أَي: لأجل الْعقُوبَة.
قَوْله: الجهنميون جمع جهنمي نِسْبَة إِلَى جَهَنَّم.

وَقَالَ هَمَّامٌ: حدّثنا قتادَةُ حدّثنا أنَسٌ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث أنس عَن همام بن يحيى عَن قَتَادَة عَن أنس، وَقيل: هِشَام، فِي بعض النّسخ قَالَ الْكرْمَانِي: قيل: هُوَ الصَّحِيح وَالْفرق بَين الطَّرِيقَيْنِ أَن الأولى بِلَفْظ العنعنة، وَالثَّانيَِة بِلَفْظ التحديث، وَتَعْلِيق همام هَذَا تقدم مَوْصُولا فِي كتاب الرقَاق.