فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب الهدية للمشركين

( بابُُ الهَدِيَّةِ لِلْمُشْرِكِينَ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان حكم الْهَدِيَّة الْوَاقِعَة للْمُشْرِكين، وَحكمهَا أَنَّهَا: تجوز للرحم مِنْهُم، كَمَا سَنذكرُهُ، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.

وقَوْلِ الله تعالَى: { لاَ يَنْهَاكُمُ الله عنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ ولَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أنْ تَبَرُّوهُمْ وتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ إنَّ الله يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} ( الممتحنة: 8) .


وَقَول الله، بِالْجَرِّ عطف على قَوْله: الْهَدِيَّة، أَي: وَفِي بَيَان قَول الله تَعَالَى: { لَا يَنْهَاكُم الله ... } ( الممتحنة: 8) .
إِلَى آخر الْآيَة فِي رِوَايَة أبي ذَر وَأبي الْوَقْت، وَفِي رِوَايَة البَاقِينَ ذكر إِلَى قَوْله: { وتقسطوا إِلَيْهِم} ( الممتحنة: 8) .
وَالْمرَاد من ذكر الْآيَة بَيَان من تجوز لَهُ الْهَدِيَّة من الْمُشْركين، وَمن لَا تجوز، وَلَيْسَ حكم الْهَدِيَّة إِلَيْهِم على الْإِطْلَاق.
ثمَّ الْآيَة الْكَرِيمَة نزلت فِي قتيلة امْرَأَة أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَكَانَ قد طَلقهَا فِي الْجَاهِلِيَّة، فَقدمت على ابْنَتهَا أَسمَاء بنت أبي بكر، فَأَهْدَتْ لَهَا قرظاً، وَأَشْيَاء، فَكرِهت قبُولهَا حَتَّى ذكرته لرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَنزلت الْآيَة الْمَذْكُورَة، كَذَا قَالَه الطَّبَرِيّ، وَقيل: نزلت فِي مُشْركي مَكَّة من لم يُقَاتل الْمُؤمنِينَ وَلم يخرجوهم من دِيَارهمْ،.

     وَقَالَ  مُجَاهِد: هُوَ خطاب للْمُؤْمِنين الَّذين بقوا بِمَكَّة وَلم يهاجروا، وَالَّذين قَاتلهم كفار أهل مَكَّة،.

     وَقَالَ  السّديّ: كَانَ هَذَا قبل أَن يؤمروا بِقِتَال الْمُشْركين كَافَّة، فَاسْتَشَارَ الْمُسلمُونَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قراباتهم من الْمُشْركين أَن يبروهم ويصلوهم، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة،.

     وَقَالَ  قَتَادَة وَابْن زيد: ثمَّ نسخ ذَلِك، وَلَا يجوز الإهداء للْمُشْرِكين إلاَّ لِلْأَبَوَيْنِ خَاصَّة، لِأَن الْهَدِيَّة فِيهَا تأنيس للمهدى إِلَيْهِ، وألطاف لَهُ، وتثبيت لمودته، وَقد نهى الله تَعَالَى عَن التودد للْمُشْرِكين بقوله: { لَا تَجِد قوما يُؤمنُونَ بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر يوأدون من حادَّ الله وَرَسُوله} ( المجادلة: 22) .
الْآيَة، وَقَوله تَعَالَى: { يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَّخِذُوا عدوي وَعَدُوكُمْ أَوْلِيَاء تلقونَ إِلَيْهِم بالمودة} ( الممتحنة: 1) .
قَوْله: ( أَن تبروهم وتقسطوا إِلَيْهِم) ، أَي: أَن تحسنوا إِلَيْهِم وتعاملوهم فِيمَا بَيْنكُم بِالْعَدْلِ وتقسطوا، بِضَم التَّاء من الإقساط، وَهُوَ الْعدْل، يُقَال: أقسط يقسط فَهُوَ مقسط إِذا عدل، وقسط يقسط فَهُوَ قاسط إِذا جَار، فَكَأَن الْهمزَة فِي أقسط للسلب، كَمَا يُقَال: شكا إِلَيْهِ فأشكاه أَي: أَزَال شكواه.



[ قــ :2504 ... غــ :2619 ]
- حدَّثنا خالدُ بنُ مَخْلَدٍ قَالَ حدَّثنا سُلَيْمَانُ بنُ بِلاَلٍ قَالَ حدَّثني عبْدُ الله بنُ دِينارٍ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما قَالَ رَأى عُمَرُ حُلَّةً علَى رَجُلٍ تُباعُ فَقَالَ لِلنَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ابْتَعْ هَذِهِ الحُلَّةَ تَلْبَسْها يَوْمَ الجُمْعَةِ وإذَا جاءَكَ الوَفْدُ فَقَالَ إنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ لاَ خَلاقَ لَهُ فِي الآخِرَةِ فأتِي رسولُ الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْهَا بِحُلَلٍ فأرْسَلَ إِلَى عُمَرَ مِنْهَا بِحُلَّةٍ فَقَالَ عُمَرَ كَيْفَ ألْبَسُها وقَدْ.

قُلْتُ مَا.

قُلْتُ قَالَ إنِّي لَمْ أكْسُكَها لِتَلْبَسَهَا تَبِيعُها أوْ تَكْسُوهَا فأرْسَلَ بِها عُمَرُ إِلَى إخٍ لَهُ مِنْ أهْلِ مَكَّةَ قَبْلَ أنْ يُسْلِمَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من مَعْنَاهُ، وَهُوَ أَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أرسل تِلْكَ الْحلَّة الَّتِي أرسلها إِلَيْهِ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى أَخ لَهُ بِمَكَّة، وَهُوَ مُشْرك، فَدلَّ ذَلِك على جَوَاز الإهداء للرحم من الْمُشْركين، وَهَذَا أوضح الحكم فِي إِطْلَاق التَّرْجَمَة، وَأَنَّهَا لَيست على إِطْلَاقهَا، وَقد مضى الحَدِيث فِي كتاب الْجُمُعَة فِي: بابُُ يلبس أحسن مَا يجد، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك عَن نَافِع عَن ابْن عمر، وَمضى أَيْضا عَن قريب فِي: بابُُ هَدِيَّة مَا يكره لبسهَا، عَن عبيد الله بن مسلمة عَن مَالك عَن نَافِع عَن ابْن عمر، وَهنا أخرجه: عَن خَالِد بن مخلد، بِفَتْح الْمِيم وَاللَّام: البَجلِيّ الْكُوفِي، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مستقصىً.





[ قــ :505 ... غــ :60 ]
- حدَّثنا عُبَيْدُ بنُ إسْماعِيلَ قَالَ حَدَّثنا أبُو أُسَامَةَ عنْ هِشَامٍ عنْ أبِيهِ عنْ أسْماءَ بِنْتِ أبي بَكْرٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قالَتْ قَدِمَتْ علَيَّ أُمِّي وهْيَ مُشْرِكَةٌ فِي عِهْدِ رَسُولِ الله فاسْتَفْتَيْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.

قُلْتُ وهْيَ رَاغِبَةٌ أفأصِلُ أُمِّي قالَ نَعَمْ صِلي أُمَّكِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
وَعبيد، بِضَم الْعين مصغر عبد ابْن إِسْمَاعِيل، واسْمه فِي الأَصْل: عبد الله، يكنى أَبَا مُحَمَّد الْهَبَّاري الْقرشِي الْكُوفِي، وَهُوَ من أَفْرَاده، وَأَبُو أُسَامَة حَمَّاد بن أُسَامَة اللَّيْثِيّ، وَهِشَام بن عُرْوَة يروي عَن أَبِيه عُرْوَة بن الزبير.

والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْجِزْيَة عَن قُتَيْبَة، وَفِي الْأَدَب عَن الْحميدِي: وَأخرجه مُسلم فِي الزَّكَاة عَن أبي كريب وَعَن ابْن أبي شيبَة، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن أَحْمد بن أبي شُعَيْب.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: ( عَن هِشَام عَن أَبِيه) ، وَفِي رِوَايَة ابْن عُيَيْنَة الْآتِيَة فِي الْأَدَب: أَخْبرنِي أبي.
قَوْله: ( عَن أَسمَاء) ، وَفِي رِوَايَة ابْن عُيَيْنَة: أَخْبَرتنِي أَسمَاء، كَذَا قَالَ أَكثر أَصْحَاب ابْن هِشَام،.

     وَقَالَ  بعض أَصْحَاب ابْن عُيَيْنَة: عَنهُ عَن هِشَام عَن فَاطِمَة بنت الْمُنْذر عَن أَسمَاء، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ، وَهُوَ خطأ، وَحكى أَبُو نعيم أَن عمر بن عَليّ الْمُقدم وَيَعْقُوب الْقَارِي روياه عَن هِشَام كَذَلِك، وَإِذا كَانَ كَذَلِك يحْتَمل أَن يَكُونَا محفوظين، وَرَوَاهُ أَبُو مُعَاوِيَة وَعبد الحميد بن جَعْفَر عَن هِشَام، فَقَالَا: عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة، وَكَذَا أخرجه ابْن حبَان من طَرِيق الثَّوْريّ عَن هِشَام، قَالَ البرقاني: الأول أثبت وَأشهر.
قَوْله: ( قدمت على أُمِّي) ، وَفِي رِوَايَة اللَّيْث عَن هِشَام كَمَا يَأْتِي فِي الْأَدَب: قدمت أُمِّي مَعَ ابْنهَا، وَذكر الزبير: أَن اسْم ابْنهَا الْحَارِث بن مدرك بن عبيد بن عمر ابْن مَخْزُوم.

ثمَّ اخْتلف فِي هَذِه الْأُم؟ فَقيل: كَانَت ظِئْرًا لَهَا، وَقيل: كَانَت أمهَا من الرضَاعَة، وَقيل: كَانَت أمهَا من النّسَب، وَهُوَ الْأَصَح، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ ابْن سعد وَأَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ وَالْحَاكِم من حَدِيث عبد الله بن الزبير، قَالَ: قدمت قتيلة على ابْنَتهَا أَسمَاء بنت أبي بكر فِي الْمَدِينَة وَكَانَ أَبُو بكر طَلقهَا فِي الْجَاهِلِيَّة بِهَدَايَا زبيب وَسمن وقرظ، فَأَبت أَسمَاء أَن تقبل هديتها أَو تدْخلهَا بَيتهَا، فَأرْسلت إِلَى عَائِشَة: سَلِي رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: لتدخلها ... الحَدِيث، وَقد ذَكرْنَاهُ فِي: بابُُ قبُول الْهَدِيَّة من الْمُشْركين، وَاخْتلفُوا فِي اسْمهَا، فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: إِنَّهَا قتيلة، بِضَم الْقَاف وَفتح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف:.

     وَقَالَ  الزبير بن بكار أسمها قتلة، بِفَتْح الْقَاف وَسُكُون التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق،.

     وَقَالَ  الدَّاودِيّ: اسْمهَا أم بكر،.

     وَقَالَ  ابْن التِّين: لَعَلَّه كنيتها، وَالصَّحِيح: قتيلة، بِضَم الْقَاف على صِيغَة التصغير، بنت عبد الْعُزَّى بن أسعد بن جَابر بن نصر بن مَالك بن حسل، بِكَسْر الْحَاء وَسُكُون السِّين الْمُهْمَلَتَيْنِ: ابْن عَامر بن لؤَي، وَذكرهَا المستغفري فِي جملَة الصَّحَابَة.
.

     وَقَالَ  تَأَخّر إسْلَامهَا،.
.

     وَقَالَ  أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيّ: لَيْسَ فِي شَيْء من الحَدِيث ذكر إسْلَامهَا.
قَوْله: ( وَهِي مُشركَة) جملَة حَالية.
قَوْله: ( فِي عهد رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، أَي: فِي زَمَنه وأيامه، وَفِي رِوَايَة حَاتِم: فِي عهد قُرَيْش، إِذْ عاقدوا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَرَادَ بذلك مَا بَين الْحُدَيْبِيَة وَالْفَتْح.
قَوْله: ( وَهِي راغبة) ، قَالَ بَعضهم: أَي: فِي الْإِسْلَام،.

     وَقَالَ  بَعضهم: أَي: فِي الصِّلَة.
وَفِيه نظر لِأَنَّهَا جَاءَت أَسمَاء وَمَعَهَا هَدَايَا من زبيب وَسمن وَغير ذَلِك.
قلت: وَفِي النّظر نظر لِأَنَّهَا رُبمَا كَانَت تَأمل أَن تَأْخُذ أَكثر مِمَّا أَهْدَت.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: راغبة، أَي: عَن ديني، أَي كارهة لَهُ، وَعند أبي دَاوُد راغمة، بِالْمِيم أَي كارهة لِلْإِسْلَامِ وساخطة عَليّ،.

     وَقَالَ  بَعضهم: هاربة من الْإِسْلَام، وَعند مُسلم أَو راهبة، وَكَانَ أَبُو عَمْرو بن الْعَلَاء يُفَسر قَوْله: مراغماً بِالْخرُوجِ عَن الْعَدو على رغم أَنفه،.

     وَقَالَ  ابْن قرقول: راغبة، روينَاهُ نصبا على الْحَال، وَيجوز رَفعه على أَنه خبر مُبْتَدأ.
.

     وَقَالَ  ابْن بطال: لَو أَرَادَت بِهِ الْمُضِيّ لقالت مراغمة، وَهُوَ بِالْبَاء أظهر وَوَقع فِي كتاب ابْن التِّين: دَاعِيَة، ثمَّ فَسرهَا بقوله: طالبة، ويروي مُعْتَرضَة لَهُ.

وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ: جَوَاز صلَة الرَّحِم الْكَافِرَة كالرحم الْمسلمَة.
وَفِيه: مستدل لمن رأى وجوب، النَّفَقَة للْأَب الْكَافِر، وَالأُم الْكَافِرَة على الْوَلَد الْمُسلم.
وَفِيه: موادعة أهل الْحَرْب ومعاملتهم فِي زمن الْهُدْنَة.
وَفِيه: السّفر فِي زِيَارَة الْقَرِيب.
وَفِيه: فَضِيلَة أَسمَاء حَيْثُ تحرت فِي أَمر دينهَا، وَكَيف لَا وَهِي بنت الصّديق وَزوج الزبير بن الْعَوام، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
<