فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب إذا وهب هبة أو وعد عدة، ثم مات قبل أن تصل إليه

(بابٌُ إذَا وهَبَ أوْ وَعَدَ ثُمَّ ماتَ قَبْلَ أنْ تَصِلَ إلَيْهِ)

أَي: هَذَا بابُُ يذكر فِيهِ إِذا وهب الرجل هبة لآخر، أَو وعد لآخر، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: أَو وعد عدَّة ثمَّ مَاتَ أَي: الَّذِي وهب أَو الَّذِي وعد.
قَوْله: (قبل أَن تصل) أَي: الْهِبَة أَو الْعدة إِلَيْهِ أَي: إِلَى الْمَوْهُوب لَهُ أَو الْمَوْعُود لَهُ، وَيجوز أَن يكون الضَّمِير فِي: مَاتَ، رَاجعا إِلَى الَّذِي وهب لَهُ أَو وعد لَهُ، أَي: أَو مَاتَ الَّذِي وهب لَهُ أَو مَاتَ الَّذِي وعد لَهُ، قبل أَن يصل مَا وهب لَهُ إِلَيْهِ، أَو مَاتَ قبل أَن يصل مَا وعد لَهُ إِلَيْهِ.
وَجَوَاب: إِذا، مَحْذُوف لم يظهره لأجل الْخلاف فِيهِ، بَيَان ذَلِك أَن التَّرْجَمَة مُشْتَمِلَة على شَيْئَيْنِ: أَحدهمَا: الْهِبَة.
وَالْآخر: الْوَعْد.

أما الْهِبَة: فَالشَّرْط فِيهَا الْقَبْض عِنْد أَكثر الْفُقَهَاء وَالتَّابِعِينَ، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأحمد، إلاَّ أَن أَحْمد يَقُول: إِن كَانَت الْهِبَة عينا تصح بِدُونِ الْقَبْض فِي الْأَصَح، وَفِي الْمكيل وَالْمَوْزُون لَا تصح بِدُونِ الْقَبْض، وَعند مَالك: يثبت الْملك فِيهَا قبل الْقَبْض اعْتِبَارا بِالْبيعِ، وَبِه قَالَ أَبُو ثَوْر وَالشَّافِعِيّ فِي الْقَدِيم، وَهُوَ قَول ابْن أبي ليلى.
وَفِي كتاب (التَّفْرِيع) لأَصْحَاب مَالك: وَمن وهب شَيْئا من مَاله لزمَه دَفعه إِلَى الْمَوْهُوب لَهُ إِذا طَالبه بِهِ، فَإِن أَبى ذَلِك حكم بِهِ عَلَيْهِ إِذا أقرّ وَقَامَت عَلَيْهِ الْبَيِّنَة، وَإِن أنكر حلف عَلَيْهَا وبرىء مِنْهَا، وَإِن نكل عَن الْيَمين حلف الْمَوْهُوب لَهُ فيأخذها مِنْهُ، وَإِن مَاتَ الْوَاهِب قبل دَفعهَا إِلَى الْمَوْهُوب لَهُ فَلَا شَيْء لَهُ إِذا كَانَ قد أمكنه أَخذهَا، ففرط فِيهَا، وَإِن مَاتَ الْمَوْهُوب لَهُ قبل قبضهَا، قَامَ ورثته مقَامه فِي مُطَالبَة الْوَاهِب بهبته، وَاسْتدلَّ أَصْحَابنَا وَأَصْحَاب الشَّافِعِي فِي اشْتِرَاط الْقَبْض بِحَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: أَن أَبَا بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، نحلهَا جدَاد عشْرين وسْقا ... الحَدِيث ذَكرْنَاهُ عَن قريب.
وَاسْتدلَّ صَاحب (الْهِدَايَة) فِي ذَلِك بقوله: وَلنَا.
قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا تجوز الْهِبَة إلاَّ مَقْبُوضَة.
قلت: هَذَا حَدِيث مُنكر لَا أصل لَهُ، بل هُوَ من قَول إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ، رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق فِي (مُصَنفه) ،.

     وَقَالَ : أخبرنَا سُفْيَان الثَّوْريّ عَن مَنْصُور عَن إِبْرَاهِيم، قَالَ: لَا تجوز الْهِبَة حَتَّى تقبض، وَالصَّدَََقَة تجوز قبل أَن تقبض.

وَأما الْوَعْد: فَاخْتلف الْفُقَهَاء فِيهِ، فَقَالَ أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ: لَا يلْزم من الْعدة.
لِأَنَّهَا مَنَافِع لم تقبض، فلصاحبها الرُّجُوع فِيهَا.
.

     وَقَالَ  مَالك: أما الْعدة، مثل أَن يسْأَل الرجل الرجل أَن يهب لَهُ هبة، فَيَقُول: نعم، ثمَّ يَبْدُو لَهُ أَن لَا يفعل، فَلَا أرى ذَلِك يلْزمه.
قَالَ: وَلَو كَانَ فِي قَضَاء دين فَسَأَلَهُ أَن يقْضِي عَنهُ، فَقَالَ: نعم، وَثمّ رجال يشْهدُونَ عَلَيْهِ، فَمَا أحراه أَن يلْزمه إِذا شهد عَلَيْهِ اثْنَان.
.

     وَقَالَ  سَحْنُون: الَّذِي يلْزمه فِي الْعدة فِي السّلف، وَالْعَارِية أَن يَقُول لرجل: إهدم دَارك وَأَنا أسلفك مَا تبنيها بِهِ، أَو أخرج إِلَى الْحَج وَأَنا أسلفك أَو أشتر سلْعَة كَذَا، أَو تزوج وَأَنا أسلفك، كل ذَلِك مِمَّا يدْخلهُ فِيهِ.
ويتشبه بِهِ، فَهَذَا كُله يلْزمه، وَأما أَن يَقُول: أَنا أسلفك أَو أُعْطِيك فَلَيْسَ بِشَيْء،.

     وَقَالَ  أصبغ: يلْزمه فِي ذَلِك مَا وعد بِهِ.

وَقَالَ عبيدَةُ إنْ ماتَا وكانتْ فُصِلَتِ الهَدِيَّةُ والْمُهْداى لَهُ حَيٌّ فَهْيَ لِوَرَثَتِهِ وإنْ لَمْ تَكُنْ فُصِلَتْ فَهِيَ فَهْيَ لِوَرَثَةِ الَّذِي أهْداى عُبَيْدَة بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن عَمْرو السَّلمَانِي، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون اللَّام: الْحَضْرَمِيّ.
قَوْله: (إِن مَاتَا) أَي: الْمهْدي والمهدى إِلَيْهِ.
قَوْله: (وَكَانَت فصلت الْهَدِيَّة) ، بالصَّاد الْمُهْملَة من الْفَصْل، وَالْمرَاد مِنْهُ: الْقَبْض، ويروى: وصلت الْهَدِيَّة من الْوَصْل، فالوصول بِالنّظرِ إِلَى المهدى إِلَيْهِ، والفصل بِالنّظرِ إِلَى الْمهْدي، إِذْ حَقِيقَة الْإِقْبَاض لَا بُد لَهَا من فصل الْمَوْهُوب عَن الْوَاهِب، وَوَصله إِلَى الْمُتَّهب وتفصيله بَين أَن يكون انفصلت أم لَا مصير مِنْهُ إِلَى أَن قبض الرَّسُول يقوم مقَام المهدى إِلَيْهِ، وَذهب الْجُمْهُور إِلَى أَن الْهَدِيَّة لَا تنْتَقل إِلَى المهدى إِلَيْهِ إلاَّ بِأَن يقبضهَا أَو وَكيله.

وَقَالَ الحَسَنُ أيُّهُما ماتَ قَبْلُ فَهْيَ لِورَثَةِ الْمُهداى لَهُ إذِا قبَضَها الرَّسُولُ
الْحسن هُوَ الْبَصْرِيّ.
قَوْله: (أَيهمَا) أَي: أَي وَاحِد من الْمهْدي والمهدى إِلَيْهِ مَاتَ قبل الآخر.
قَوْله: (فَهِيَ) ، أَي: الْهَدِيَّة لوَرَثَة المهدى لَهُ،.

     وَقَالَ  ابْن بطال: إِن كَانَ بعث بهَا الْمهْدي مَعَ رَسُوله، فَمَاتَ الَّذِي أهديت إِلَيْهِ فَإِنَّهَا ترجع إِلَيْهِ، وَإِن كَانَ أرسل بهَا مَعَ رَسُول الَّذِي أهديت إِلَيْهِ فَمَاتَ المهدى إِلَيْهِ، فَهِيَ لوَرثَته، هَذَا قَول الحكم وَأحمد وَإِسْحَاق.



[ قــ :2485 ... غــ :2598 ]
- حدَّثنا عليُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ قَالَ حدَّثنا ابنُ الْمُنْكَدِرِ سَمِعْتُ جابِراً رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ لي النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَوْ جاءَ مالُ البَحْرَيْنِ أَعْطَيْتُكَ هكَذَا ثَلاثاً فلَمْ يَقْدَمْ حَتَّى تُوُفِيَّ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأمَرَ أبُو بَكْرٍ مُنادِياً فَنادى مَنْ كانَ لَهُ عِنْدَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِدَّةٌ أَو دَيْنٌ فَلْيَأْتِنَا فأتَيْتُهُ فقُلْتُ إنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعَدَنِي فَحَثاى لِي ثَلاثاً..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعد جَابِرا بِشَيْء وَمَات قبل الْوَفَاء بِهِ، وَالْحكم فِيهِ إِن وَقع مثل هَذَا من غير النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فالهبة لوَرَثَة الْوَاهِب، وَكَذَلِكَ لم يكن فِي حق النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لَازِما وَلَكِن أَبَا بكر فعل ذَلِك على سَبِيل التَّطَوُّع، وَلم يكن يلْزم فِي ذَلِك شَيْء الشَّارِع، وَلَا أَبَا بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَإِنَّمَا أنفذ الصّديق ذَلِك بعد مَوته، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، اقْتِدَاء بطريقة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ولفعله، فَإِنَّهُ كَانَ أوفى النَّاس بعده وأصدقهم لوعده، فَإِن قلت: التَّرْجَمَة هَدِيَّة، وَالَّذِي قَالَه النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: وعد؟ قلت: لما كَانَ وعد النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لَا يجوز أَن يخلف نزلُوا وعده منزلَة الضَّمَان فِي الصِّحَّة، فرقا بَينه وَبَين غَيره من الْأمة مِمَّن يجوز أَن يَفِي وَأَن لَا يَفِي، وَقد تنزل الْهِبَة الَّتِي لم تقبض منزلَة الْوَعْد بهَا،.

     وَقَالَ  الْمُهلب: إنجاز الْوَعْد مَنْدُوب إِلَيْهِ، وَلَيْسَ بِوَاجِب، وَالدَّلِيل على ذَلِك اتِّفَاق الْجَمِيع على أَن من وعد بِشَيْء لم يضْرب بِهِ مَعَ الْغُرَمَاء، وَلَا خلاف أَنه مستحسن وَمن مَكَارِم الْأَخْلَاق.
انْتهى.
وَقيل: لم يرو عَن أحد من السّلف وجوب لقَضَاء بالعدة.
قلت: فِيهِ نظر، لِأَن البُخَارِيّ ذكر أَن ابْن الأشوع وَسمرَة قضيا بِهِ.
وَفِي تَارِيخ الْمُسْتَمْلِي) : أَن عبد الله بن شبْرمَة قضى على رجل بوعد وحبسه فِيهِ، وتلا: { كبر مقتاً عِنْد الله أَن تَقولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (الصَّفّ: 03) .

وَرِجَال الحَدِيث أَرْبَعَة: عَليّ بن عبد الله الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ، وسُفْيَان بن عُيَيْنَة وَمُحَمّد بن الْمُنْكَدر، مر فِي الْوضُوء، وَجَابِر بن عبد الله، والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي فَضَائِل النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن عَمْرو النَّاقِد.
قَوْله: (الْبَحْرين) على لفظ تَثْنِيَة بَحر مَوضِع بَين الْبَصْرَة وعمان، وَالنِّسْبَة إِلَيْهِ: بحراني.
قَوْله: (ثَلَاثًا) أَي: ثَلَاث حثيات، من: حثيت الشَّيْء حثياً، وحثوت حثوا، إِذا قَبضته ورميته، والحثية الغرف بكف.