فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب الوضوء قبل الغسل

(كتاب الغسْلِ)
بِسم الله الرحمن الرَّحِيم
أَي: هَذَا كتاب فِي بَيَان أَحْكَام الْغسْل، هُوَ بِضَم الْغَيْن لِأَنَّهُ اسْم للاغتسال، وَهُوَ: إسالة المَاء وإمراه على الْجِسْم، وبفتح الْغَيْن مصدر.
وَفِي (الْمُحكم) غسل الشَّيْء يغسلهُ غسلا وغسلاً، وَهَذَا لم يفرق بَين الْفَتْح وَالضَّم وَجعل كِلَاهُمَا مصدرا وَغَيره يَقُول بِالْفَتْح مصدر، وبالضم اسْم، وبالكسر اسْم لما يَجْعَل مَعَ المَاء كالأسنان وَنَحْوه، وَوَقع فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: بَاب الْغسْل وَهَذَا أوجه لِأَن الْكتاب يجمع الْأَنْوَاع وَالْغسْل نوع وَاحِد من أَنْوَاع الطَّهَارَة وَإِن كَانَ فِي نَفسه يَتَعَدَّد: وَكَذَا حذفت الْبَسْمَلَة فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ وَفِي رِوَايَة غَيره الْبَسْمَلَة.
ثمَّ كتاب الْغسْل.
ثمَّ إِنَّه لما فرغ من بَيَان الطَّهَارَة الصُّغْرَى بأنواعها شرع فِي بَيَان الطَّهَارَة الْكُبْرَى بأنواعها، وَتَقْدِيم الصُّغْرَى ظَاهر لِكَثْرَة دوراتها بِخِلَاف الْكُبْرَى.
وَقَول اللَّهِ تَعَالَى { وَأَنْ كُنْتُمْ جُنُباً فاطَّهَّرُوا وَإِنْ تتُمْ مَرْضَى إِوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاء فَتَيَمَّمُوا صَعيِداً طَيِباً فامْسَحُوا بِوُوجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يِرِيدُ اللَّهُ ليَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدْ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَلَلَّكُمْ تَشْكَرُونَ} .
وقوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ { يَا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وإنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ علَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءَ فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِباً فامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إنَّ اللَّهَ كانَ عَفُواً غَفُوراً} (سُورَة النِّسَاء: 43) .
افْتتح كتاب الْغسْل بالآيتين الكريمتين إشعاراً بِأَن وجوب الْغسْل على الْجنب بِنَصّ الْقُرْآن قَوْله تَعَالَى: { وَإِن كُنْتُم جنبا فاطهروا} (سُورَة الْمَائِدَة: 6) أَي: إغسلوا أبدانكم على وَجه الْمُبَالغَة، وَالْجنب يَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِد والإثنان وَالْجمع والمذكر والمؤنث لِأَنَّهُ اسْم جرى مجْرى الْمصدر الَّذِي هُوَ الإجناب، يُقَال: أجنب يجنب إجناباً، والجنابة الِاسْم، وَهُوَ فِي اللُّغَة الْبعد، وَسمي الْإِنْسَان جنبا لِأَنَّهُ نهي أَن يقرب من مَوَاضِع الصَّلَاة مَا لم يتَطَهَّر، وَيجمع على أجناب وجنبين.
وَقَوله: { فاطهروا} الْقَاعِدَة تَقْتَضِي أَن يكون أَصله، تطهروا فَلَمَّا قصدُوا الْإِدْغَام قلبت التَّاء طاء فأدغم فِي الطَّاء، واجتلبت همزَة الْوَصْل، وَمَعْنَاهُ: طهروا أبدانكم.
قلت: أَصله من بَاب التفعل ليدل على التَّكَلُّف والاعتمال، وَكَذَلِكَ بَاب الافتعال يدل عَلَيْهِ، نَحْو: اطهر أَصله من: طهر يطهر، فَنقل طهر، إِلَى بَاب الافتعال، فَصَارَ: أطهر، على وزن افتعل فقلبت التَّاء طاء وأدغمت الطَّاء فِي الطَّاء وَفِيه من التَّكَلُّف مَا لَيْسَ فِي طهر، وَتَمام الْآيَة { وَإِن كُنْتُم مرضى أَو على سفر أَو جَاءَ أحد مِنْكُم من الْغَائِط أَو لامستم النِّسَاء فَلم تَجدوا مَاء فَتَيَمَّمُوا صَعِيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيد الله ليجعل عَلَيْكُم من حرج وَلَكِن يُرِيد ليطهركم وليتم نعْمَته عَلَيْكُم لَعَلَّكُمْ تشكرون} (سُورَة النِّسَاء:) وفيهَا من الْأَحْكَام مَا استنبط مِنْهَا الْفُقَهَاء على مَا عرف فِي مَوْضِعه.
وَالْآيَة الثَّانِيَة فِي سُورَة النِّسَاء.
{ يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تقربُوا الصَّلَاة وَأَنْتُم سكارى حَتَّى تعلمُوا مَا تَقولُونَ وَلَا جنبا إلاَّ عابري سَبِيل حَتَّى تغتسلوا وَإِن كُنْتُم مرضى أَو على سفر أَو جَاءَ أحد مِنْكُم من الْغَائِط أَو لامستم النِّسَاء فَلم تَجدوا مَاء فَتَيَمَّمُوا صَعِيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وَأَيْدِيكُمْ إِن الله كَانَ عفوا غَفُورًا} (سُورَة النِّسَاء: 2) قَوْله: { وَلَا جنبا إِلَّا عابري سَبِيل حَتَّى تغتسلوا} (سُورَة النِّسَاء: 43) يدل على فَرضِيَّة الِاغْتِسَال من الْجَنَابَة، فَقَالَ بَعضهم: قدم الْآيَة الَّتِي من سرة الْمَائِدَة على الْآيَة الَّتِي من سُورَة النِّسَاء لدقيقة.
وَهِي أَن لَفظه.
{ فاطهروا} (سُورَة الْمَائِدَة: 6) الَّتِي فِي الْمَائِدَة فِيهَا إجنال وَلَفظه { } حَتَّى تغتسلوا الَّتِي فِي النِّسَاء فِيهَا تَصْرِيح بالاغتسال، وَبَيَان للتطهر الْمَذْكُور.
قلت: لَا إِجْمَال فِي { فاطهروا} لِأَن معنى { فاطهروا} أغسلوا أبدانكم كَمَا ذكرنَا، وتطهر الْبدن هُوَ الِاغْتِسَال فَلَا إِجْمَال لَا لُغَة وَلَا اصْطِلَاحا على مَا لَا يخفى.


(بابُُ الوُضوءِ قَبْلَ الغُسْلِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان حكم الْوضُوء قبل أَن يشرع فِي الِاغْتِسَال، هَل هُوَ وَاجِب أَو مُسْتَحبّ أم سنة؟.

     وَقَالَ  بَعضهم: بابُُ الْوضُوء قبل الْغسْل، أَي: اسْتِحْبابُُه قَالَ الشَّافِعِي فِي (الْأُم) فرض الله تَعَالَى الْغسْل مُطلقًا لم يذكر فِيهِ شَيْئا يبْدَأ بِهِ قبل شَيْء فكيفما جَاءَ بِهِ المغتسل أَجزَأَهُ إِذا أَتَى بِغسْل جَمِيع بدنه.
انْتهى قلت: إِن كَانَ النَّص مُطلقًا وَلم يذكر فِيهِ شَيْئا يبْدَأ بِهِ فعائشة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، ذكرت عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه كَانَ يتَوَضَّأ كَمَا يتَوَضَّأ للصَّلَاة قبل غسله فَيكون سنة غير وَاجِب.
أما كَونه سنة فلفعله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأما كَونه غير وَاجِب فَلِأَنَّهُ يدْخل فِي الْغسْل، كالحائض إِذا اجنبت يكفيها غسل وَاحِد، وَمِنْهُم من أوجبه إِذا كَانَ مُحدثا قبل الْجَنَابَة.
.

     وَقَالَ  دَاوُد: يجب الْوضُوء وَالْغسْل فِي الْجَنَابَة الْمُجَرَّدَة بِأَن أَتَى الْغُلَام أَو الْبَهِيمَة أَو لف ذكره بِخرقَة فَأنْزل، وَفِي أحد قولي الشَّافِعِي: يلْزمه الْوضُوء فِي الْجَنَابَة مَعَ الْحَدث، وَفِي قَوْله الآخر: يقْتَصر على الْغسْل لَكِن يلْزم أَن يَنْوِي الْحَدث والجنابة، وَفِي قَول: يَكْفِي نِيَّة الْغسْل، وَمِنْهُم من أوجب الْوضُوء بعد الْغسْل، وَأنْكرهُ عَليّ وَابْن مَسْعُود، رَضِي الله عَنْهُمَا، وَعَن عَائِشَة قَالَت: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يتَوَضَّأ بعد الْغسْل) رَوَاهُ مُسلم وَالْأَرْبَعَة.



[ قــ :244 ... غــ :248 ]
- حدّثنا عَبْدُ اللَّهِ بنُ يُوسُفَ قالَ أخبرنَا مالِكُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ زَوْج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ إذَا اغْتَسَل مِنَ الجَنَابَةِ بَدَأَ فَغَسَلَ يَدَيْهِ ثُمَّ تَوَضَّأ كمَا يَتَوَضأُ لِلصَّلاَةِ ثُمَّ يُدْخِلِ أَصَابَعَهُ فِي الماءِ فَيُحَلِّلُ بِها أُصُولَ شَعْرِهِ ثُمَّ يَصُبُّ عَلَى رَأْسِهِ ثَلاَث غُرَفٍ بِيَدَيْهِ ثُمَّ يُفِيضُ الماءَ عَلَى جِلْدِهِ كُلِّهِ.

مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة طَاهِرَة ذكر رِجَاله ولطائف إِسْنَاده فرجا لَهُ خَمْسَة كلهم قد ذكرُوا فِي كتاب الْوَحْي، وَعبد الله هُوَ التنيسِي، وَأَبُو هِشَام هُوَ عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَفِيه التحديث صِيغَة الْجمع فِي مَوضِع والإحبار كَذَلِك فِي مَوضِع وَاحِد.
وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاث مَوَاضِع.
وَفِيه: التنيسِي والكوفي.

والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا مثله فِي الطَّهَارَة، وَأخرجه مُسلم من حَدِيث أبي مُعَاوِيَة عَن هِشَام فَذكره، وَفِي آخِره.
(ثمَّ غسل رجلَيْهِ) قَالَ وَرَوَاهُ جمَاعَة عَن هِشَام وَلَيْسَ فِي حَدِيثهمْ، غسل الرجلَيْن وَعند مُسلم، (فيفرغ بِيَمِينِهِ على مَاله شِمَاله فَيغسل فرجه) وَعند ابْن خُزَيْمَة وَيصب من الْإِنَاء على يَده الْيُمْنَى فيفرغ عَلَيْهَا فيغسلها، ثمَّ يصب على شِمَاله فَيغسل فرجه وَيتَوَضَّأ وضوءه للصَّلَاة، وَنحن نحث على رأْسنا ثَلَاث حثيات أَو قَالَت: ثَلَاثَة غرفات) وَفِي (الْمُوَطَّأ) سُئِلت عَن غسل الْمَرْأَة فَقَالَت لتحفن على رَأسهَا ثَلَاث حفنات، ولتضغث رَأسهَا بِيَدِهَا يَعْنِي تضمه وتجمعه وتعمه بِيَدِهَا لتدخله المَاء وَعند الْبَزَّار (كَانَ يخلل رَأسه مرَّتَيْنِ فِي غسل الْجَنَابَة) وَعند أبي دَاوُد من حَدِيث رجل مِمَّن سَأَلَهُ عَنْهَا (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يغسل رَأسه الخطمي وَهُوَ جنب يجتزىء بذلك وَلَا يصب عَلَيْهِ المَاء) .
وَفِي لفظ: (حَتَّى إِذا رأى أَنه قد أصَاب الْبشرَة) ، أَو أنقى الْبشرَة، أفرغ على رَأسه ثَلَاثًا، وَإِذا فضلت فضلَة صبها عَلَيْهِ) وَعند الطوسي مصححاً.
(ثمَّ يشرب شعره المَاء ثمَّ يحثي على رَأسه ثَلَاث حثيات) وَفِي لفظ: (ثمَّ غسل مرافقه وأفاض عَلَيْهِ المَاء فَإِذا أنقاهما أَهْوى إِلَى حَائِط ثمَّ يسْتَقْبل الْوضُوء ثمَّ يفِيض المَاء على رَأسه) ، وَفِي لفظ: (إِن شِئْتُم لأريكم أثر يَده فِي الْحَائِط حَيْثُ كَانَ يغْتَسل من الْجَنَابَة) وَعند ابْن مَاجَه: (كَانَ يفِيض على كفيه ثَلَاث مَرَّات ثمَّ يدخلهَا الْإِنَاء، ثمَّ يغسل رَأسه ثَلَاث مَرَّات، وَأما نَحن فنغسل رؤوسنا خمس مرَارًا من أجل الضفر) .

ذكر لغاته وَإِعْرَابه ومعانيه قَوْله: (كَانَ إِذا اغْتسل) أَي: كَانَ إِذا الثَّانِي: راد أَن يغْتَسل، وَكلمَة من فِي قَوْله: (من الْجَنَابَة) سبيبة يَعْنِي لأجل الْجَنَابَة فَإِن قلت: لم ذكر فِي ثَلَاث مَوَاضِع وَاضع بِلَفْظ الْمَاضِي وَهِي قَوْله: (بَدَأَ) و (فَغسل) و (ثمَّ تَوَضَّأ) وَذكر الْبَوَاقِي بِلَفْظ الْمُضَارع وَهِي قَوْله: (يدْخل) و (فيخال) و (يصب وَيفِيض) .
قلت: النُّكْتَة فِيهِ أَن إِذا كَانَت شَرْطِيَّة الْمَاضِي بِمَعْنى الْمُسْتَقْبل، وَالْكل مُسْتَقْبل معنى، وَأما الِاخْتِلَاف فِي اللَّفْظ فللإشعار بِالْفرقِ بِمَا هُوَ خَارج من الْغسْل وَمَا لَيْسَ كذكل، وَإِن كَانَتَا ظرفية فَمَا جَاءَ مَاضِيا فَهُوَ على أَصله، وَعدل عَن الأَصْل إِلَى الْمُضَارع لاستحضار صورته للسامعين.
قَوْله: (بَدَأَ فَغسل يَدَيْهِ) هَذَا الْغسْل يحْتَمل وَجْهَيْن: الأول: أَن يكون لأجل التَّنْظِيف مِمَّا بِهِ يكره.
الثَّانِي: أَن يكون هُوَ الْغسْل الْمَشْرُوع عِنْد الْقيام من النّوم، وَيشْهد لَهُ مَا فِي رِوَايَة ابْن عُيَيْنَة فِي هَذَا الحَدِيث عَن هِشَام.
(قبل أَن يدخلهما فِي الْإِنَاء) .
قَوْله: (كَمَا يتَوَضَّأ للصَّلَاة) احْتَرز بِهِ عَن الْوضُوء اللّغَوِيّ الَّذِي هُوَ غسل الْيَدَيْنِ فَقَط.
فَإِن قلت: روى الْحسن عَن أبي حنيفَة أَنه لَا يمسح رَأسه فِي هَذَا الْوضُوء، وَهُوَ خلاف مَا فِي الحَدِيث.
قلت: الصَّحِيح فِي الْمَذْهَب أَنه يمسحها، نَص عَلَيْهِ فِي (الْمَبْسُوط) لِأَنَّهُ أتم للْغسْل.
قَوْله: (فيخلل بهَا) أَي بأصابعه الَّتِي أدخلها فِي المَاء قَوْله: (أصُول الشّعْر) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: أصُول شعره، أَي شعر رَأسه، وتدل عَلَيْهِ رِوَايَة حَمَّاد بن سَلمَة عَن هِشَام: (يحلل بهَا شقّ رَأسه الْأَيْمن فَيتبع بهَا أصُول الشّعْر، ثمَّ يفعل بشق رَأسه الْأَيْسَر) كَذَلِك رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ.
قَوْله: (ثَلَاث غرف) بِضَم الْغَيْن الْمُعْجَمَة، جمع غرفَة بِالضَّمِّ أَيْضا، وَهِي قدر مَا يغْرف من المَاء بالكف، وَفِي بعض النّسخ: غرفات وَالْأول رِوَايَة الْكشميهني، وَهَذَا هُوَ الْأَصَح لِأَن مُمَيّز الثَّلَاثَة يَنْبَغِي أَن يكون من جموع الْقلَّة، وَلَكِن وَجه ذكر: الغرف، أَن جمع الْكَثْرَة يقوم مقَام جمع الْقلَّة وَبِالْعَكْسِ، وَعند الْكُوفِيّين.
فعل: بِضَم الْفَاء وَكسرهَا من بابُُ جموع الْقلَّة: لقَوْله تَعَالَى: { فَأتوا بِعشر سور} (سُورَة هود: 13) وَقَوله تَعَالَى: { وَثَمَانِية حجج} (سُورَة الْقَصَص: 27) قَوْله: (ثمَّ يفِيض) أَي: يسيل من الْإِفَاضَة وَهِي الإسالة.
قَوْله: (على جلده كُله) هَذَا التَّأْكِيد بِلَفْظ، الْكل، يدل على أَنه عمم جَمِيع جسده بِالْغسْلِ.

بَيَان استنباط الْأَحْكَام مِنْهَا: أَن قَوْله (كَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) يدل على الْمُلَازمَة والتكرار فَدلَّ ذَلِك على اسْتِحْبابُُ غسل يَدَيْهِ قبل الشُّرُوع فِي الْوضُوء، وَالْغسْل إِلَّا إِذا كَانَ عَلَيْهَا شَيْء مِمَّا يجب إِزَالَته فَحِينَئِذٍ يكون وَاجِبا.
وَمِنْهَا: أَن تَقْدِيم الْوضُوء قبل الْغسْل سنة، وَقد ذكرنَا الْخلاف فِيهِ عَن قريب.
وَمِنْهَا: أَن ظَاهر قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (كَمَا يتَوَضَّأ للصَّلَاة) يدل على أَنه لَا يؤخلا غسل رجلَيْهِ وَهُوَ الْأَصَح من قَول لشافعي.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه يُؤَخر عملا بِظَاهِر حَدِيث ميمونه رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، كَمَا يَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَله قَول ثَالِث: إِن كَانَ الْموضع نظيفاً فَلَا يُؤَخر، وَإِن كَانَ وسخاً أَو المَاء قَلِيلا أخر جمعا بَين الْأَحَادِيث، وَعند أَصْحَابنَا إِن كَانَ فِي مستنقع المَاء يُؤَخر وإلاَّ فَلَا وَهُوَ مَذْهَب مَالك أَيْضا.
وَمِنْهَا: التَّخْلِيل فِي شعر الرَّأْس واللحية لظَاهِر قَوْله: (فيخلل أصُول الشّعْر) وَهُوَ وَاجِب عِنْد أَصْحَابنَا، وَسنة فِي الْوضُوء، وَعند الشَّافِعِيَّة وَاجِب فِي قَول: وَسنة فِي قَول.
وَقيل: وَاجِب فِي الرَّأْس وَفِي اللِّحْيَة قَولَانِ للماليكة، فروى ابْن الْقَاسِم عدم الْوُجُوب، وروى أَشهب الْوُجُوب، وَنقل ابْن بطال فِي بابُُ: تَخْلِيل الشّعْر، الْإِجْمَاع على تَخْلِيل شعر الرَّأْس، وقاسوا اللِّحْيَة عَلَيْهَا.
وَمِنْهَا: أَنه يصب على رَأسه ثَلَاث غرف بيدَيْهِ كَمَا هُوَ فِي الحَدِيث، وَعَن الشَّافِعِيَّة اسْتِحْبابُُ ذَلِك فِي الرَّأْس، وَبَاقِي الْجَسَد مثله.
.

     وَقَالَ  الْمَاوَرْدِيّ والقرطبي من الماليكة: لَا يسْتَحبّ التَّثْلِيث فِي الْغسْل،.

     وَقَالَ  الْقُرْطُبِيّ: لَا يفهم من هَذِه الثَّلَاث أَنه غسل رَأسه ثَلَاث مَرَّات، لِأَن التّكْرَار فِي الْغسْل غير مَشْرُوع لما فِي ذَلِك من الْمَشَقَّة، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِك الْعدَد لِأَنَّهُ بَدَأَ بِجَانِب رَأسه الْأَيْمن ثمَّ الْأَيْسَر ثمَّ على وسط رَأسه، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قَالَت: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا اغْتسل من الْجَنَابَة دَعَا بِشَيْء نحوالحلاب، فَأخذ بكفه فَبَدَأَ بشق رَأسه الْأَيْمن ثمَّ الْأَيْسَر ثمَّ أَخذ بكفيه، فَقَالَ بهما على رَأسه) رَوَاهُ البُخَارِيّ وَأَبُو دَاوُد على مَا يَجِيء.
وَمِنْهَا: أَن قَوْلهَا (ثمَّ يفِيض المَاء على جلده كُله) لَا يفهم مِنْهُ الدَّلْك، وَهُوَ مُسْتَحبّ عندنَا وَعند الشَّافِعِي وَعند أَحْمد وَبَعض الْمَالِكِيَّة وَخَالف مَالك والمزني فذهبا إِلَى وُجُوبه بِالْقِيَاسِ على الوضو،.

     وَقَالَ  ابْن بطال وَهَذَا لَازم.
قلت: لَيْسَ بِلَازِم، إِذْ لَا نسلم وجوب الدَّلْك فِي الْوضُوء وَمِنْهَا جَوَاز إِدْخَال الْأَصَابِع فِي المَاء.





[ قــ :45 ... غــ :49 ]
- حدّثنا مُحَمَّدُ بنُ يُوسُفَ قَالَ حدّثنا سُفْيانُ عنْ الأَعْمَشِ عَنْ سَالِمِ بنِ أبي الجَعْدِ عَنْ كُرَيْبٍ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالَتْ تَوَضِّأَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وُضُوءَ بِلصَّلاةِ غَيْرَ رَجْلَيهِ وَغَسَلَ فَرْجِهُ وَما أَصَابهُ مِنَ الأَذَى ثُمَّ أَفَاضَ عَلَيْهِ الماءَ ثُمَّ نَحَّى رِجْلَيْهِ فَغسلَهُمَا هَذِهِ غُسْلَهُ مِنَ الجَنابَة..
هَذَا الثَّانِي من حَدِيثي التَّرْجَمَة.

ذكر رِجَاله وهم سَبْعَة: مُحَمَّد بن يُوسُف اليكندي، وسُفْيَان الثَّوْريّ، وَسليمَان الْأَعْمَش ابْن مهْرَان، تقدمُوا مرَارًا، وَسَالم بن أبي الْجَعْد، بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة.
مر فِي بابُُ التَّسْمِيَة.
وَالْخَامِس: كريب، بِضَم الْكَاف، تقدم فِي بابُُ التَّخْفِيف فِي الْوضُوء.
وَالسَّادِس: عبد الله بن عَبَّاس.
وَالسَّابِع: ميمونه بنت الْحَارِث زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَخَالَة ابْن عَبَّاس.

ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وَفِيه العنعنة فِي خَمْسَة مَوَاضِع: وَفِيه: سُفْيَان غير مَنْسُوب، قَالَت جمَاعَة من الشُّرَّاح وَغَيرهم: إِنَّه سُفْيَان الثَّوْريّ،.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: سُفْيَان بن عُيَيْنَة.
.

     وَقَالَ  الْحَافِظ الْمزي فِي كِتَابه (الْأَطْرَاف) حَدِيث فِي غسل النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من الْجَنَابَة مِنْهُم من طوله، وَمِنْهُم من اختسره، ثمَّ وضع صُورَة (خَ) بالأحمر بِمَعْنى: أخرجه البُخَارِيّ فِي الطَّهَارَة عَن مُحَمَّد بن يُوسُف، وَعَن عَبْدَانِ عَن عبد الله بن الْمُبَارك، كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان الثَّوْريّ وَعَن الْحميدِي عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، فَهَذَا دلّ على أَن سُفْيَان فِي رِوَايَة مُحَمَّد بن يُوسُف الَّذِي هَاهُنَا هُوَ الثَّوْريّ، وَأما ابْن عُيَيْنَة فروايته عَن عَبْدَانِ عَن ابْن الْمُبَارك، وَلم يُمَيّز الْكرْمَانِي ذَلِك فخلط.
وَأخرج البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث أَيْضا عَن مُوسَى ابْن إِسْمَاعِيل وَمُحَمّد بن مَحْبُوب، كِلَاهُمَا عَن عبد الْوَاحِد، وَعَن مُوسَى عَن أبي عوَانَة، وَعَن عمر بن حَفْص بن غياث عَن أَبِيه، وَعَن يُوسُف بن عِيسَى عَن الْفضل بن مُوسَى، وَعَن عَبْدَانِ عَن أبي حَمْزَة، سبعتهم عَن الْأَعْمَش عَن سَالم بن أبي الْجَعْد عَن كريب عَن ابْن عَبَّاس بِهِ، وَمن لطائف هَذَا الْإِسْنَاد أَن فِيهِ: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ على التَّابِعِيّ عَن الْوَلَاء وَفِيه: صحابيان.

ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره قد مر الْآن أَن البُخَارِيّ أخرجه فِي مَوَاضِع عشرَة أَو نَحْوهَا.
وَأخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة أَيْضا عَن مُحَمَّد بن الصَّباح وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَأبي بكر بن أبي شيبَة وَأبي كريب وَأبي سعيد الْأَشَج، خمستهم عَن وَكِيع، وَعَن يحيى بن يحيى وَأبي كريب كِلَاهُمَا عَن أبي مُعَاوِيَة، وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن عبد الله بن إِدْرِيس، وَعَن عَليّ بن حجر، وَعَن عِيسَى بن يُونُس، وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَن مُوسَى القارىء عَن زَائِدَة، خمستهم عَن الْأَعْمَش بِهِ وَأخرجه أَبُو دَاوُد عَن عبد الله بن دَاوُد عَن الْأَعْمَش بِهِ، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ عَن هناد عَن وَكِيع بِهِ وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عَليّ بن حجر بِهِ، وَعَن يُوسُف بن عِيسَى بِهِ، وَعَن مُحَمَّد بن الْعَلَاء عَن أبي مُعَاوِيَة بِهِ، وَعَن مُحَمَّد بن عَليّ بن مَيْمُون عَن مُحَمَّد بن يُوسُف بِهِ، وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَن جرير، وَعَن قُتَيْبَة عَن عُبَيْدَة بن حميد، كِلَاهُمَا عَن الْأَعْمَش بِهِ، وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن عَليّ بن مُحَمَّد وَأبي بكر بن أبي شيبَة، كِلَاهُمَا عَن وَكِيع بِقصَّة، نفض المَاء وَترك التنشيف.

ذكر بَيَان مَا فِيهِ لم يذكر فِي حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قَوْله: (غير رجلَيْهِ) فِيهِ التَّصْرِيح بِتَأْخِير الرجلَيْن فِي وضوء الْغسْل، وَبِه احْتج أَصْحَابنَا، على أَن المغتسل إِذا تَوَضَّأ أَو لَا يُؤَخر رجلَيْهِ، وَلَكِن أَكثر أَصْحَابنَا حملوه على أَنَّهُمَا إِن كَانَت فِي مُجْتَمع المَاء تَوَضَّأ ويؤخرهما وَإِن لم تَكُونَا فِيهِ لَا يؤخرهما، وكل مَا جَاءَ من الرِّوَايَات الَّتِي فِيهَا تَأْخِير الرجلَيْن صَرِيحًا مَحْمُول على مَا قُلْنَا: وَهَذَا هُوَ التَّوْفِيق بَين الرِّوَايَات الَّتِي فِي بَعْضهَا تَأْخِير الرجلَيْن صَرِيحًا لَا مثل مَا قَالَه بَعضهم، وَيُمكن الْجمع بِأَن تحمل رِوَايَة عَائِشَة على الْمجَاز وَأما على حَالَة أُخْرَى.
قلت: هَذَا خطأ لِأَن الْمجَاز إِلَيْهِ إلاَّ عِنْد الضَّرُورَة وَمَا الدَّاعِي لَهَا فِي رِوَايَة عَائِشَة حَتَّى يحمل كَلَامهَا على الْمجَاز؟ وَمَا الصَّوَاب الَّذِي يرجع إِلَيْهِ إلاَّ مَا قُلْنَا:.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: غير رجلَيْهِ.
فَإِن قلت: بالتوفيق بَينه وَبَين رِوَايَة عَائِشَة؟ قلت: زِيَادَة الثِّقَة مَقْبُول فَيحمل الْمُطلق على الْمُقَيد، فرواية عَائِشَة مَحْمُولَة على أَن المُرَاد بِوضُوء الصَّلَاة أَكْثَره، وَهُوَ مَا سوى الرجلَيْن.
قلت: قد ذكرنَا الْآن مَا يرد مَا ذكره، ثمَّ قَالَ الْكرْمَانِي: وَيحْتَمل أَن يُقَال: إنَّهُمَا كَانَا فِي وَقْتَيْنِ مُخْتَلفين فَلَا مُنَافَاة بَينهمَا.
قلت: هَذَا فِي الْحَقِيقَة حَاصِل مَا ذكرنَا عَن قريب عِنْد قَوْلنَا: لَكِن أَكثر أَصْحَابنَا إِلَخ.
قَوْله: (وَغسل فرجه) أَي: ذكره فَدلَّ هَذَا على صِحَة إِطْلَاق الْفرج على الذّكر.
قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: غسل الْفرج مقدم على التوضىء فَلم آخِره؟ قلت: لَا يجب التَّقْدِيم إِذْ الْوَاو، لَيْسَ للتَّرْتِيب، أَو أَنه للْحَال انْتهى.
قلت: كَيفَ يَقُول: لَا يجب التَّقْدِيم وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْء، وَقَوله إِذْ الْوَاو وَلَيْسَ للتَّرْتِيب، حجَّة عَلَيْهِ لأَنهم يدعونَ أَن الْوَاو فِي الأَصْل للتَّرْتِيب، وَلم يقل بِهِ أحد مِمَّن يعْتَمد عَلَيْهِ؟ وَقَوله: أَو أَنه للْحَال، غير سديد وَلَا موجه، ونه كَيفَ يتَوَضَّأ فِي حَالَة غسل فرجه؟.

     وَقَالَ  بَعضهم: فِيهِ تَقْدِيم وَتَأْخِير، لِأَن غسل الْفرج كَانَ قبل الْوضُوء إِذْ الْوَاو لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيب انْتهى.
قلت: هَذَا تعسف وَهُوَ أَيْضا حجَّة عَلَيْهِ، مَعَ أَن مَا ذكره خلاف الأَصْل، وَالصَّوَاب أَن الْوَاو للْجمع فِي أصل الْوَضع، وَالْمعْنَى: أَنه جمع بَين الْوضُوء وَغسل الْفرج، وَهُوَ، وَإِن كَانَ لَا يَقْتَضِي تَقْدِيم أَحدهمَا على الآخر على التَّعْيِين، فقد بَين ذَلِك فِيمَا رَوَاهُ البُخَارِيّ من طَرِيق ابْن الْمُبَارك عَن الثَّوْريّ، فَذكر أَولا غسل الْيَدَيْنِ ثمَّ غسل الْفرج ثمَّ مسح يَده على الْحَائِط ثمَّ الْوضُوء غير رجلَيْهِ وَذكره ب ثمَّ، الدَّالَّة على التَّرْتِيب فِي جَمِيع ذَلِك، وَالْأَحَادِيث يُفَسر بَعْضهَا بَعْضًا قَوْله: (وَمَا أَصَابَهُ من الْأَذَى) أَي: المستقذر الطَّاهِر،.

     وَقَالَ  بَعضهم: قَوْله: (وَمَا أَصَابَهُ من الْأَذَى) لَيْسَ بِظَاهِر فِي النَّجَاسَة.
قلت: هَذَا مُكَابَرَة فِيمَا قَالَه.
قَوْله: (هَذَا غسله) هَكَذَا فِي رِوَايَة الْكشميهني وَهِي على الأَصْل، وَعند غَيره (هَذِه غسله) بالتأنيث، فَيكون إشار إِلَى الْأَفْعَال الْمَذْكُورَة أَي: الْأَفْعَال الْمَذْكُور صفة غسله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِضَم الْغَيْن.

وَمِمَّا لم يذكر فِي حَدِيث عَائِشَة، وَذكر فِي حَدِيث مَيْمُونَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، من الزِّيَادَة: تَأْخِير الرجلَيْن إِلَى الْفَرَاغ من الِاغْتِسَال، وَقد ذكرنَا عَن قريب.
وَفِيه: التَّعَرُّض لغسل الْفرج.
وَفِيه: غسل مَا أَصَابَهُ من الْأَذَى وَمِمَّا ذكره البُخَارِيّ من حَدِيث مَيْمُونَة على مَا يَأْتِي: (ثمَّ ضرب بِشمَالِهِ الأَرْض فدلكها دلكا شَدِيدا، ثمَّ تَوَضَّأ وضوءه للصَّلَاة، ثمَّ أفرغ على رَأسه ثَلَاث حفنات ملْء كَفه) وَفِي آخِره: (ثمَّ أَتَى بالمنديل فَرده) ، وَفِي رِوَايَة (وَجعل يَقُول بِالْمَاءِ هَكَذَا ينْقضه) .
وَفِي لفظ.
(ثمَّ غسر فرجه ثمَّ مَال بِيَدِهِ إِلَى الأَرْض فمسحها بِالتُّرَابِ ثمَّ غسلهَا) وَفِي لفظ (وضعت لَهُ غسلا فَسترته بِثَوْب) وَفِي لفظ: (فأكفا بِيَمِينِهِ على شِمَاله مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا) وَفِي لفظ: (ثمَّ أفرغ بِيَمِينِهِ على شِمَاله فَغسل مذاكيره) وَفِيه (ثمَّ غسل رَأسه ثَلَاثًا) وَفِي لفظ: (فَلَمَّا فرغ من غسل غسل رجلَيْهِ) ، وَفِي لفظ: (فَغسل كفيه مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا) وَعند مُسلم: (فَغسل فرجه وَمَا أَصَابَهُ ثمَّ مسخ يَده بِالْحَائِطِ أَو الأَرْض) ، وَفِي (صَحِيح) الإسماعيل: (مسح يَده بالجدار، وَحين قضى غسله غسل رجلَيْهِ) وَفِي لفظ: (فَلَمَّا أفرغ من غسل فرجه ذَلِك يَده بِالْحَائِطِ ثمَّ غسلهَا، فَلَمَّا فرغ من غسلهَا غسل قَدَمَيْهِ) قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: وَقد بَين زَائِدَة أَن قَوْله: (من الْجَنَابَة) ، لَيْسَ من قَول مَيْمُونَة وَلَا ابْن عَبَّاس، إِنَّمَا هُوَ عَن سَالم، وَعند ابْن خُزَيْمَة (ثمَّ أفرغ على رَأسه ثَلَاث حفنات ملْء كفيه، فَأتى بمنديل فَأبى أَن يقبله) وَعند أبي عَليّ الطوسي فِي كتاب (الْأَحْكَام) مصححاً (فأنيته بِثَوْب فَقَالَ بِيَدِهِ هَكَذَا) وَعند الدَّارَقُطْنِيّ: (ثمَّ غسل سَائِر جسده قبل كفيه) وَعند أبي مُحَمَّد الدَّارمِيّ: (فأعطيته ملحفة فَأبى) قَالَ أَبُو مُحَمَّد: هَذَا أحب إِلَيّ من حَدِيث عَائِشَة.
وَعند ابْن مَاجَه: (فأكفا الْإِنَاء بِشمَالِهِ على يَمِينه فَغسل كفيه ثَلَاثًا، ثمَّ أَفَاضَ على فرجه ثمَّ دلك يَده بِالْأَرْضِ ثمَّ تمضمض واستنشق وَغسل وَجهه ثَلَاثًا وذراعيه ثَلَاثًا، ثمَّ أَفَاضَ على سَائِر جسده، ثمَّ انتحى فَغسل رجلَيْهِ) .

وَفِي هَذِه الرِّوَايَات.
إستحبابُ الإفراغ بِالْيَمِينِ على الشمَال للمغترف من المَاء.
وفيهَا: مَشْرُوعِيَّة الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق فِي غسل الْجَنَابَة.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: وَتمسك الْحَنَفِيَّة لِلْقَوْلِ: بوجوبهما، وَتعقب بِأَن الْفِعْل الْمُجَرّد لَا يدل على الْوُجُوب إلاَّ إِذا كَانَ بَيَانا لمجمل تعلق بِهِ الْوُجُوب، وَلَيْسَ الْأَمر هُنَا كَذَلِك.
قلت: لَيْسَ الْأَمر هُنَا كَذَلِك لأَنهم أَنما أوجبوهما فِي الْغسْل بِالنَّصِّ لقَوْله تَعَالَى: { وَإِن كُنْتُم جنبا فاطهروا} (سُورَة الْمَائِدَة: 6) أَي: طهروا أبدانكم، وَهَذَا يَشْمَل الْأنف والفم، وَقد حققناه فِيمَا مضى.
وفيهَا: اسْتِحْبابُُ مسح الْيَد بِالتُّرَابِ فِي الْحَائِط وَفِي الأَرْض،.

     وَقَالَ  بَعضهم: وَأبْعد من اسْتدلَّ بِهِ على نجاس الْمَنِيّ أَو على نَجَاسَة رُطُوبَة الْفرج.
قلت: هَذَا الْقَائِل هُوَ الَّذِي أبعده، لِأَن من اسْتدلَّ بِنَجَاسَة الْمَنِيّ أَو على نَجَاسَة رُطُوبَة الْفرج مَا اكْتفى بِهَذَا فِي احتجاجه، وَقد ذَكرْنَاهُ فِيمَا مضى مستقصى.
وفيهَا: اسْتِحْبابُُ التستر فِي الْغسْل وَلَو كَانَ فِي الْبَيْت.
وفيهَا: جَوَاز الِاسْتِعَانَة بإحضار مَاء الْغسْل أَو الْوضُوء.
وفيهَا: خدمَة الزَّوْجَات للأزواج.
وفيهَا: الصب بِالْيَمِينِ على الشمَال.
وفيهَا: كَرَاهَة التنشيف بالمنديل وَنَحْوه.

وَقَالَ النَّوَوِيّ: اخْتلف أَصْحَابنَا فِيهِ على خَمْسَة أوجه أشهرها: أَن الْمُسْتَحبّ تَركه، وَقيل: مَكْرُوه وَقيل مُبَاح وَقيل مُسْتَحبّ وَقيل مَكْرُوه فِي الصَّيف مُبَاح فِي الشتَاء، وَيُقَال لَا حجَّة فِي الحَدِيث لكَرَاهَة التنشيف لاحْتِمَال أَن إباءه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أَخذ مَا يتنشف بِهِ لأمر آخر يتَعَلَّق بالخرقة، أَو لكَونه كَانَ مستعجلاً أَو غير ذَلِك.
.

     وَقَالَ  الْمُهلب: يحْتَمل تَركه الثوبة لإبقاء تَركه بَلل المَاء أَو للتواضع أَو لشَيْء رَآهُ فِي الثَّوْب من حَرِير أَو وسخ وَقد وَقع عِنْد أَحْمد والإسماعيلي من رِوَايَة أبي عوَانَة فِي هَذَا الحَدِيث عَن الْأَعْمَش، قَالَ فَذكرت ذَلِك لإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ، فَقَالَ: لَا بَأْس بالمنديل وَإِنَّمَا رده مَخَافَة أَن يصير عَادَة.

     وَقَالَ  التَّيْمِيّ فِي شَرحه لهَذَا الحَدِيث فِيهِ دَلِيل على أَنه كَانَ يتنشف، وَلَوْلَا ذَلِك لم يَأْته بالمنديل.
.

     وَقَالَ  ابْن دَقِيق الْعِيد، نفضه المَاء بِيَدِهِ يدل على أَن لَا كَرَاهَة فِي التنشيف، لِأَن كلاًّ مِنْهُمَا إِزَالَة قلت: لَيْسَ فِيهِ دَلِيل على ذَلِك، لِأَن التنشيف من عَادَة المتكبرين ورده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الثَّوْب لأجل التَّوَاضُع مُخَالفَة لَهُم.

وَقد ورد أَحَادِيث فِي هَذَا الْبابُُ.
مِنْهَا: حَدِيث أم هانىء عِنْد الشَّيْخَيْنِ: (قَامَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى غسله، فسترت عَلَيْهِ فَاطِمَة ثمَّ أَخذ ثَوْبه فالتحف بِهِ) هَذَا ظَاهر فِي التنشيف.
وَمِنْهَا: حَدِيث قيس بن سعد رَوَاهُ أَبُو دَاوُد: أَتَانَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَوَضَعْنَا لَهُ مَاء فاغتسل ثمَّ أتيناه بملحفة ورسية فَاشْتَمَلَ بهَا، فَكَأَنِّي أنظر إِلَى أثر الورس عَلَيْهِ، وَصَححهُ ابْن حزم.
وَمِنْهَا: حَدِيث الْوَضِين بن عطار رَوَاهُ ابْن مَاجَه عَن مَحْفُوظ بن عَلْقَمَة عَن سلمَان: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَوَضَّأ فَقلب جُبَّة صوف كَانَت عَلَيْهِ فَمسح بهَا وَجهه وَهَذَا ضَعِيف عِنْد جمَاعَة.
وَمِنْهَا: حَدِيث عَائِشَة: (كَانَت للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرقَة يتنشف بهَا بعد الْوضُوء) رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ.
وَضَعفه، وَصَححهُ الْحَاكِم.
وَمِنْهَا: حَدِيث معَاذ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا تَوَضَّأ مسح وَجهه بِطرف ثَوْبه) رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَضَعفه.
وَمِنْهَا: حَدِيث أبي بكر: (كَانَت للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرقَة يتنشف بهَا بعد الْوضُوء) رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ.
.

     وَقَالَ : إِسْنَاده غير قوي.
وَمِنْهَا: حَدِيث أنس مثله وَأعله.
وَمِنْهَا: حَدِيث أبي مَرْيَم، إِيَاس بن جَعْفَر، عَن فلَان رجل من الصَّحَابَة: (إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ لَهُ منديل أَو خرقَة يمسح بهَا وَجهه إِذا تَوَضَّأ) رَوَاهُ النَّسَائِيّ فِي (الكنى) بِسَنَد صَحِيح.
وَمِنْهَا: حَدِيث منيب ابْن مدرك الْمَكِّيّ الْأَزْدِيّ قَالَ) (رَأَيْت جَارِيَة تحمل وضوأ ومنديلاً فَأخذ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المَاء فَتَوَضَّأ وَمسح بالمنديل وَجه) أسْندهُ الإِمَام مغلطاي فِي شَرحه،.

     وَقَالَ  ابْن الْمُنْذر: أَخذ المنديل بعد الْوضُوء عُثْمَان وَالْحسن بن عَليّ وَأَنِّي وَبشير بن أبي مَسْعُود، وَرخّص فِيهِ الْحسن، وَابْن سِيرِين وعلقمة وَالْأسود ومسروق وَالضَّحَّاك، وَكَانَ مَالك وَالثَّوْري وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَصْحَاب الرَّأْي لَا يرَوْنَ بِهِ بَأْسا وَكره عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى وَالنَّخَعِيّ وَابْن الْمسيب وَمُجاهد وَأَبُو الْعَالِيَة.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: اسْتدلَّ بِهِ على طَهَارَة المَاء المتقاطر من أَعْضَاء المتطهر، خلافًا لمن غلا من الْحَنَفِيَّة، فَقَالَ بنجاستة: قلت: هَذَا الْقَائِل هُوَ الَّذِي أَتَى بالغلو حَيْثُ لم يدْرك حَقِيقَة مَذْهَب الْحَنَفِيَّة، لِأَن الَّذِي عَلَيْهِ الْفَتْوَى فِي مَذْهَبهم: أَن المَاء الْمُسْتَعْمل طَاهِر حَتَّى يجوز شربه واستعماله فِي الطبيخ والعجين، وَالَّذِي ذهب إِلَى نَجَاسَته لم يقل بِأَنَّهُ نجس فِي حَالَة التقاطر، وَإِنَّمَا يكون ذَلِك إِذا سَالَ من أَعْضَاء المتطهر، وَاجْتمعَ فِي مَكَان.