فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب الجاسوس

( بابُُ الجاسوس)
أَي هَذَا بابُُ فِي بَيَان حكم الجاسوس إِذا كَانَ من جِهَة الْكفَّار ومشروعيته إِذا كَانَ من جِهَة الْمُسلمين والجاسوس على وزن فاعول من التَّجَسُّس وَهُوَ التفتيش عَن بواطن الْأُمُور ( التَّجَسُّس التبحث) هَكَذَا فسره أَبُو عُبَيْدَة والتبحث من بابُُ التفعل من الْبَحْث وَهُوَ التفتيش وَمِنْه بحث الْفَقِيه لِأَنَّهُ يفتش عَن أصل الْمسَائِل ( وَقَول الله تَعَالَى { لَا تَتَّخِذُوا عدوي وَعَدُوكُمْ أَوْلِيَاء} ) وَقَول الله بِالْجَرِّ عطفا على لفظ الجاسوس قَالَ الْمُفَسِّرُونَ نزلت فِي حَاطِب بن أبي بلتعة وقصته تَأتي عَن قريب ومناسبة ذكر هَذِه الْآيَة هُنَا هِيَ أَنه ينتزع مِنْهَا حكم جاسوس الْكفَّار يعلم ذَلِك من قصَّة حَاطِب قَوْله " عدوي " أَي عَدو ديني وَعَدُوكُمْ عطف عَلَيْهِ وأولياء مفعول ثَان لقَوْله لَا تَتَّخِذُوا والعدو فعول من عدا كعفو من عَفا ولكونه على زنة الْمصدر أوقع على الْجمع إِيقَاعه على الْوَاحِد

[ قــ :2874 ... غــ :3007 ]
- ( حَدثنَا عَليّ بن عبد الله قَالَ حَدثنَا سُفْيَان قَالَ حَدثنَا عَمْرو بن دِينَار سمعته مِنْهُ مرَّتَيْنِ قَالَ أَخْبرنِي حسن بن مُحَمَّد قَالَ أَخْبرنِي عبيد الله بن أبي رَافع قَالَ سَمِعت عليا رَضِي الله عَنهُ يَقُول بَعَثَنِي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنا وَالزُّبَيْر والمقداد بن الْأسود قَالَ انْطَلقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَة خَاخ فَإِن بهَا ظَعِينَة وَمَعَهَا كتاب فَخُذُوهُ مِنْهَا فَانْطَلَقْنَا تعادي بِنَا خَيْلنَا حَتَّى انتهينا إِلَى الرَّوْضَة فَإِذا نَحن بِالظَّعِينَةِ فَقُلْنَا أَخْرِجِي الْكتاب فَقَالَت مَا معي من كتاب فَقُلْنَا لتخْرجن الْكتاب أَو لنلقين الثِّيَاب فَأَخْرَجته من عقاصها فأتينا بِهِ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَإِذا فِيهِ من حَاطِب بن أبي بلتعة إِلَى أنَاس من الْمُشْركين من أهل مَكَّة يُخْبِرهُمْ بِبَعْض أَمر رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَا حَاطِب مَا هَذَا قَالَ يَا رَسُول الله لَا تعجل عَليّ إِنِّي كنت امْرَءًا مُلْصقًا فِي قُرَيْش وَلم أكن من أَنْفسهَا وَكَانَ من مَعَك من الْمُهَاجِرين لَهُم قَرَابَات بِمَكَّة يحْمُونَ بهَا أَهْليهمْ وَأَمْوَالهمْ فَأَحْبَبْت إِذْ فَاتَنِي ذَلِك من النّسَب فيهم أَن أَتَّخِذ عِنْدهم يدا يحْمُونَ بهَا قَرَابَتي وَمَا فعلت كفرا وَلَا ارْتِدَادًا وَلَا رضَا بالْكفْر بعد الْإِسْلَام فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لقد صدقكُم قَالَ عمر يَا رَسُول الله دَعْنِي أضْرب عنق هَذَا الْمُنَافِق قَالَ إِنَّه قد شهد بَدْرًا وَمَا يدْريك لَعَلَّ الله أَن يكون قد اطلع على أهل بدر فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُم فقد غفرت لكم قَالَ سُفْيَان وَأي إِسْنَاد هَذَا) مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ أَن تِلْكَ الظعينة الَّتِي مَعهَا كتاب كَانَ حكمهَا حكم الجاسوس وَاخْتلف الْعلمَاء فِي جَوَاز قتل جاسوس الْكفَّار.
( ذكر رِجَاله) وهم سِتَّة.
الاول عَليّ بن عبد الله الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ.
الثَّانِي سُفْيَان بن عُيَيْنَة.
الثَّالِث عَمْرو بن دِينَار الْمَكِّيّ.
الرَّابِع حسن بن مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة أَبُو مُحَمَّد الْهَاشِمِي الْمدنِي مَاتَ فِي زمن عبد الْملك بن مَرْوَان.
الْخَامِس عبيد الله بِضَم الْعين ابْن أبي رَافع واسْمه أسلم مولى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
السَّادِس عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ ( ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمَغَازِي عَن قُتَيْبَة وَفِي التَّفْسِير عَن الْحميدِي وَأخرجه مُسلم فِي الْفَضَائِل عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَمْرو النَّاقِد وَزُهَيْر بن حَرْب وَإِسْحَق بن إِبْرَاهِيم وَابْن أبي عمر وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْجِهَاد عَن مُسَدّد وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن ابْن أبي عمر وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن مَنْصُور وَعبيد الله بن سعد السَّرخسِيّ رَحِمهم الله تَعَالَى ( ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " رَوْضَة خَاخ " بخاءين معجمتين بَينهمَا ألف.

     وَقَالَ  السُّهيْلي كَانَ هشيم يصحفها فَيَقُول خاج بخاء وجيم وَذكر البُخَارِيّ أَن أَبَا عوَانَة كَانَ يَقُولهَا كَمَا يَقُول هشيم وَذكر ياقوت مائَة وَثَلَاثِينَ رَوْضَة فِي بِلَاد الْعَرَب مِنْهَا رَوْضَة خَاخ وَهُوَ مَوضِع بَين مَكَّة وَالْمَدينَة قَوْله " ظَعِينَة " بِفَتْح الظَّاء الْمُعْجَمَة وَكسر الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح النُّون وَهِي الْمَرْأَة فِي الهودج وَلَا يُقَال ظَعِينَة إِلَّا وَهِي كَذَلِك لِأَنَّهَا تظعن بارتحال الزَّوْج وَقيل أَصْلهَا الهودج وَسميت بِهِ الْمَرْأَة لِأَنَّهَا تكون فِيهِ.

     وَقَالَ  ابْن فَارس الظعينة الْمَرْأَة وَهُوَ من بابُُ الِاسْتِعَارَة وَأما الظعائن فالهوادج كَانَت فِيهَا نسَاء أَو لم تكن وَكَانَ اسْمهَا سارة وَقيل أم سارة وَقيل كنُود مولاة لقريش وَقيل لعمران بن صَيْفِي وَقيل كَانَت من مزينة من أهل العرج وَفِي الإكليل للْحَاكِم وَكَانَت مغنية نواحة تغني بِهِجَاء رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأمر بهَا يَوْم الْفَتْح فقتلت وَذكرهَا أَبُو نعيم وَابْن مَنْدَه فِي جملَة الصحابيات وَوَقع فِي كتاب الْأَحْكَام للْقَاضِي إِسْمَاعِيل فِي قصَّة حَاطِب قَالَ للَّذين أرسلهم أَن بهَا امْرَأَة من الْمُسلمين مَعهَا كتاب إِلَى الْمُشْركين وَأَنَّهُمْ لما أَرَادوا أَن يخلعوا ثِيَابهَا قَالَت أولستم مُسلمين انْتهى وَهَذَا مُشكل لِأَن سيدنَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما دخل مَكَّة ذكرهَا فِي المستثنين بِالْقَتْلِ وَبِمَا قَالَ الْحَاكِم أَيْضا وَيُؤَيِّدهُ مَا ذكر أَبُو عبيد الْبكْرِيّ فَإِن بهَا امْرَأَة من الْمُشْركين.

     وَقَالَ  الواحدي قَالَ جمَاعَة الْمُفَسّرين أَن هَذِه الْآيَة يَعْنِي قَوْله تَعَالَى { يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَّخِذُوا عدوي وَعَدُوكُمْ أَوْلِيَاء} نزلت فِي حَاطِب بن أبي بلتعة وَذَلِكَ أَن سارة مولاة أبي عَمْرو بن صَيْفِي بن هَاشم بن عبد منَاف أَتَت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى الْمَدِينَة من مَكَّة وَهُوَ يتجهز لفتح مَكَّة فَقَالَ مَا جَاءَ بك قَالَت الْحَاجة قَالَ فَأَيْنَ أَنْت عَن شبابُ أهل مَكَّة وَكَانَت مغنية قَالَت مَا طلب مني شَيْء بعد وقْعَة بدر فكساها وَحملهَا وأتاها حَاطِب بن أبي بلتعة كتب مَعهَا كتابا إِلَى أهل مَكَّة وَأَعْطَاهَا عشرَة دَنَانِير وَكتب فِي الْكتاب إِلَى أهل مَكَّة أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُرِيدكُمْ فَخُذُوا حذركُمْ فَنزل جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بخبرها فَبعث عليا وَعمَّارًا وَعمر وَالزُّبَيْر وَطَلْحَة والمقداد بن الْأسود وَأَبا مرْثَد وَكَانُوا كلهم فُرْسَانًا.

     وَقَالَ  انْطَلقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَة خَاخ فَإِن بهَا ظَعِينَة مَعهَا كتاب إِلَى الْمُشْركين فَخُذُوهُ وخلوا سَبِيلهَا فَإِن لم تَدْفَعهُ إِلَيْكُم فاضربوا عُنُقهَا وَفِي تَفْسِير النَّسَفِيّ أَتَت سارة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة بعد بدر بِسنتَيْنِ وَرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يتجهز لفتح مَكَّة فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَمُسْلِمَة جِئْت قَالَت لَا قَالَ أمهاجرة جِئْت قَالَت لَا قَالَ فَمَا حَاجَتك قَالَت ذهب الموَالِي يَعْنِي قتلوا يَوْم بدر فَاحْتَجت حَاجَة شَدِيدَة فَقدمت عَلَيْكُم لتعطوني وتكسوني وتحملوني فَحَث عَلَيْهَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بني عبد الْمطلب وَبني الْمطلب فَكَسَوْهَا وَحملُوهَا وأعطوها نَفَقَة فَأَتَاهَا حَاطِب فَكتب مَعهَا إِلَى أهل مَكَّة وَأَعْطَاهَا عشرَة دَنَانِير وَكَسَاهَا بردا واستحملها كتابا إِلَى أهل مَكَّة نسخته من حَاطِب بن أبي بلتعة إِلَى أهل مَكَّة اعلموا أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُرِيدكُمْ فَخُذُوا حذركُمْ.

     وَقَالَ  السُّهيْلي الْكتاب أما بعد فَإِن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قد توجه إِلَيْكُم فِي جَيش كالليل يسير كالسيل وَأقسم بِاللَّه لَو لم يسر إِلَيْكُم إِلَّا وَحده لأظفره الله بكم وأنجز لَهُ بوعده فِيكُم فَإِن الله وليه وناصره " وَفِي تَفْسِير ابْن سَلام " أَن فِيهِ أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قد نفر إِمَّا إِلَيْكُم وَإِمَّا إِلَى غَيْركُمْ فَعَلَيْكُم الحذر " وَقيل كَانَ فِيهِ أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - آذن فِي النَّاس بالغزو وَلَا أرَاهُ يُرِيد غَيْركُمْ فقد أَحْبَبْت أَن يكون لي عنْدكُمْ يَد بكتابي إِلَيْكُم قَوْله " تعادى بِنَا خَيْلنَا " بِلَفْظ الْمَاضِي أَي تبَاعد وتجارى وبالمضارع بِحَذْف إِحْدَى التَّاءَيْنِ قَوْله " أَو لتلْقين الثِّيَاب " قَالَ ابْن التِّين صَوَابه فِي الْعَرَبيَّة بِحَذْف الْيَاء ( قلت) الْقيَاس مَا قَالَه لَكِن صحت الرِّوَايَة بِالْيَاءِ فَتَنَاول الكسرة بِأَنَّهَا لمشاكلة لتخْرجن وَبابُُ المشاكلة وَاسع فَيجوز كسر الْيَاء وَفتحهَا فالفتحة بِالْحملِ على الْمُؤَنَّث الْغَائِب على طَرِيق الِالْتِفَات من الْخطاب إِلَى الْغَيْبَة قَالَ الْكرْمَانِي ويروى بِفَتْح الْقَاف وَرفع الثِّيَاب قَوْله " فَأَخْرَجته " أَي الْكتاب من عقاصها بِكَسْر الْعين الْمُهْملَة وبالقاف وبالصاد الْمُهْملَة وَهُوَ الشّعْر المضفور وَيُقَال هِيَ الَّتِي تتَّخذ من شعرهَا مثل الْوِقَايَة وكل خصْلَة مِنْهُ عقيصة والعقص لي خصلات الشّعْر بعضه على بعض.

     وَقَالَ  الْمُنْذِرِيّ هُوَ لي الشّعْر بعضه على بعض على الرَّأْس وَيدخل أَطْرَافه فِي أُصُوله قَالَ وَيُقَال هِيَ الَّتِي تتَّخذ من شعرهَا مثل الرمانة قَالَ وَقيل العقاص هُوَ الْخَيط الَّذِي يجمع فِيهِ أَطْرَاف الذوائب وعقص الشّعْر ضفره وَيُقَال العقاص السّير الَّذِي يجمع بِهِ شعرهَا على رَأسهَا والعقص الضفر والضفر الفتل.

     وَقَالَ  ابْن بطال وَفِي رِوَايَة أخرجته من حجزَتهَا قَوْله " فأتينا بِهِ " أَي بِالْكتاب ويروى بهَا أَي بالصحيفة قَالَ الْكرْمَانِي أَو بِالْمَرْأَةِ قلت فِيهِ نظر لأَنا قد ذكرنَا عَن الواحدي أَن فِي رِوَايَته مَعهَا كتاب إِلَى الْمُشْركين فَخُذُوهُ فَخلوا سَبِيلهَا قَوْله " إِلَى أنَاس من الْمُشْركين " قَالَ الْكرْمَانِي هُوَ كَلَام الرَّاوِي وضع مَوضِع إِلَى فلَان وَفُلَان الْمَذْكُورين فِي الْكتاب قلت لم يطلع الْكرْمَانِي على أَسمَاء الْمَكْتُوب إِلَيْهِم فَلذَلِك قَالَ هَكَذَا وَالَّذين كتب إِلَيْهِم هم صَفْوَان بن أُميَّة وَسُهيْل بن عَمْرو وَعِكْرِمَة بن أبي جهل قَوْله " مُلْصقًا فِي قُرَيْش " أَي مُضَافا إِلَيْهِم وَلست مِنْهُم وأصل ذَلِك من إلصاق الشَّيْء بِغَيْرِهِ لَيْسَ مِنْهُ وَلذَلِك قيل للدعي فِي الْقَوْم ملصق وَقيل مَعْنَاهُ حليفا وَلم يكن من نفس قُرَيْش وأقربائهم قَوْله " وَكَانَ مَعَك " كَذَا فِي الرِّوَايَة الصَّحِيحَة وَعند مُسلم مِمَّن مَعَك بِزِيَادَة من وَالصَّوَاب إِسْقَاطهَا لِأَن من لَا تزاد فِي الْمُوجب عِنْد الْبَصرِيين وَأَجَازَهُ بعض الْكُوفِيّين قَوْله " إِذْ فَاتَنِي ذَلِك " كلمة إِذْ بِمَعْنى حِين وَذَلِكَ إِشَارَة إِلَى قَوْله لَهُم قَرَابَات يحْمُونَ بهَا أَهْليهمْ وأمولهم قَوْله " أَن أَتَّخِذ " كلمة أَن مَصْدَرِيَّة فِي مَحل النصب لِأَنَّهُ مفعول أَحْبَبْت قَوْله " يدا " أَي نعْمَة ومنة عَلَيْهِم قَوْله " كفرا " نصب على التَّمْيِيز وَمَا بعده عطف عَلَيْهِ قَوْله " هَذَا الْمُنَافِق " إِنَّمَا أطلق عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ اسْم النِّفَاق عَلَيْهِ لِأَنَّهُ والى كفار قُرَيْش وَبَاطِنهمْ وَإِنَّمَا فعل حَاطِب ذَلِك متأولا فِي غير ضَرَر لرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَعلم الله صدق نِيَّته فَنَجَّاهُ من ذَلِك.

     وَقَالَ  الْحَافِظ قَالَ عمر دَعْنِي أضْرب عُنُقه يَعْنِي كفر.

     وَقَالَ  الباقلاني فِي قَضِيَّة هَذَا الْكتاب هَذِه اللَّفْظَة لَيست بمعروفة قيل يحْتَمل أَن يكون المُرَاد بهَا كفر النِّعْمَة.

     وَقَالَ  ابْن التِّين يحْتَمل أَن يكون قَول عمر هَذَا قبل قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لقد صدقكُم وَقد أثبت الله لَهُ الْإِيمَان فِي قَوْله { يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَّخِذُوا عدوي وَعَدُوكُمْ} الْآيَة وَكَانَت أمه بِمَكَّة فَأَرَادَ أَن يحفظوها فِيهَا وَعَن الطَّبَرِيّ كَانَ هَذَا من حَاطِب هفوة وَقد قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيمَا روته عمْرَة عَن عَائِشَة أقيلوا ذَوي الهيئات عثراتهم قَالَ فَإِن ظن ظان أَن صفحه عَنهُ كَانَ لما أعلم الله من صدقه فَلَا يجوز لمن بعد الرَّسُول أَن يعلم ذَلِك فَإِن ظن فقد ظن خطأ لِأَن أَحْكَام الله عز وَجل فِي عباده إِنَّمَا تجْرِي على مَا ظهر مِنْهُم لَا بِمَا يظنّ قَوْله " لَعَلَّ الله " كلمة لَعَلَّ اسْتعْملت اسْتِعْمَال عَسى قَالَ النَّوَوِيّ معنى الترجي فِيهَا رَاجع إِلَى عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ لِأَن وُقُوع هَذَا الْأَمر مُحَقّق عِنْده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَمَا يدْريك على التَّحْقِيق بعثا لَهُ على التفكر والتأمل وَمَعْنَاهُ أَن الغفران لَهُم فِي الْآخِرَة وَإِلَّا فَلَو توجه على أحد مِنْهُم حد استوفي مِنْهُ قَوْله " اعْمَلُوا مَا شِئْتُم " ظَاهره الِاسْتِقْبَال.

     وَقَالَ  ابْن الْجَوْزِيّ لَيْسَ هُوَ على الِاسْتِقْبَال وَإِنَّمَا هُوَ للماضي تَقْدِيره اعْمَلُوا مَا شِئْتُم أَي عمل كَانَ لكم فقد غفر وَيدل على هَذَا شَيْئا أَحدهمَا أَنه لَو كَانَ للمستقبل كَانَ جَوَابه فسأغفر وَالثَّانِي أَنه يكون إطلاقا فِي الذُّنُوب وَلَا وَجه لذَلِك.

     وَقَالَ  الْقُرْطُبِيّ هَذَا التَّأْوِيل وَإِن كَانَ حسنا لَكِن فِيهِ بعد لِأَن اعْمَلُوا صِيغَة أَمر وَهِي مَوْضُوعَة للاستقبال وَلم تضع الْعَرَب قطّ صِيغَة الْأَمر مَوضِع الْمَاضِي لَا بِقَرِينَة وَلَا بِغَيْر قرينَة كَذَا نَص عَلَيْهِ النحويون وَصِيغَة الْأَمر إِذا وَردت بِمَعْنى الْإِبَاحَة إِنَّمَا هِيَ بِمَعْنى الْإِنْشَاء والابتداء لَا بِمَعْنى الْمَاضِي فَكَانَ كَقَوْل الْقَائِل أَنْت وَكيلِي وَقد جعلت لَك التَّصَرُّف كَيفَ شِئْت فَإِنَّمَا يَقْتَضِي إِطْلَاق التَّصَرُّف من وَقت التَّوْكِيل لَا قبل ذَلِك قَالَ وَقد ظهر لي وَجه وَهُوَ أَن هَذَا الْخطاب خطاب إكرام وتشريف يتَضَمَّن أَن هَؤُلَاءِ الْقَوْم حصلت لَهُم حَالَة غفرت بهَا ذنوبهم السالفة وتأهلوا أَن يغْفر لَهُم ذنُوب مستأنفة إِن وَقعت مِنْهُم لَا أَنهم نجزت لَهُم فِي ذَلِك الْوَقْت مغْفرَة الذُّنُوب اللاحقة بل لَهُم صَلَاحِية أَن يغْفر لَهُم مَا عساه أَن يَقع وَلَا يلْزم من وجود الصلاحية لشَيْء مَا وجود ذَلِك الشَّيْء إِذْ لَا يلْزم من وجود أَهْلِيَّة الْخلَافَة وجودهَا لكل من وجدت مِنْهُ أهليتها وَكَذَلِكَ الْقَضَاء وَغَيره وعَلى هَذَا فَلَا يَأْمَن من حصلت لَهُ أَهْلِيَّة الْمَغْفِرَة من الْمُؤَاخَذَة على مَا عساه أَن يَقع من الذُّنُوب ثمَّ أَن الله عز وَجل أظهر صدق رَسُوله فِي كل من أخبر عَنهُ بِشَيْء من ذَلِك فَإِنَّهُم لم يزَالُوا على أَعمال أهل الْجنَّة إِلَى أَن توفوا وَمن وَقع مِنْهُم فِي أَمر مَا أَو مُخَالفَة لَجأ إِلَى تَوْبَة ولازمها حَتَّى لَقِي الله عَلَيْهَا يعلم ذَلِك قطعا من حَالهم من طالع سيرهم وأخبارهم قَوْله " قَالَ سُفْيَان " وَأي إِسْنَاد هَذَا أَرَادَ بِهِ سُفْيَان بن عُيَيْنَة تَعْظِيم هَذَا الْإِسْنَاد وَصِحَّته وقوته لِأَن رِجَاله هم الأكابر الْعُدُول الثِّقَات الْحفاظ ( ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ) فِيهِ هتك سر الجاسوس رجلا كَانَ أَو امْرَأَة إِذا كَانَت فِي ذَلِك مصلحَة أَو كَانَ فِي السّتْر مفْسدَة.

     وَقَالَ  الدَّاودِيّ الجاسوس يقتل وَإِنَّمَا نفى الْقَتْل عَن حَاطِب لما علم النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْهُ وَلَكِن مَذْهَب الشَّافِعِي وَطَائِفَة أَن الجاسوس الْمُسلم يُعَزّر وَلَا يجوز قَتله وَإِن كَانَ ذَا هَيْئَة عُفيَ عَنهُ لهَذَا الحَدِيث وَعَن أبي حنيفَة وَالْأَوْزَاعِيّ يوجع عُقُوبَة ويطال حَبسه.

     وَقَالَ  ابْن وهب من الْمَالِكِيَّة يقتل إِلَّا أَن يَتُوب وَعَن بَعضهم أَنه يقتل إِذا كَانَت عَادَته ذَلِك وَبِه قَالَ ابْن الْمَاجشون.

     وَقَالَ  ابْن الْقَاسِم يضْرب عُنُقه لِأَنَّهُ لَا تعرف تَوْبَته وَبِه قَالَ سَحْنُون وَمن قَالَ بقتْله فقد خَالف الحَدِيث وأقوال الْمُتَقَدِّمين.

     وَقَالَ  الْأَوْزَاعِيّ فَإِن كَانَ كَافِرًا يكون ناقضا للْعهد.

     وَقَالَ  أصبغ الجاسوس الْحَرْبِيّ يقتل وَالْمُسلم وَالذِّمِّيّ يعاقبان إِلَّا أَن يظاهرا على الْإِسْلَام فيقتلان وَفِيه كَمَا قَالَ الطَّبَرِيّ إِذا ظهر للْإِمَام رجل من أهل السّتْر أَنه قد كَاتب عدوا من الْمُشْركين ينذره مِمَّا أسره الْمُسلمُونَ فيهم من عزم وَلم يكن مَعْرُوفا بالغش لِلْإِسْلَامِ وَأَهله وَكَانَ ذَلِك من فعله هفوة وزلة من غير أَن يكون لَهَا أَخَوَات يجوز الْعَفو عَنهُ كَمَا فعل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بحاطب من عَفوه عَن جرمه بَعْدَمَا اطلع عَلَيْهِ من فعله وَفِيه الْبَيَان عَن بعض أَعْلَام النُّبُوَّة وَذَلِكَ إِعْلَام الله تَعَالَى نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِخَبَر الْمَرْأَة الحاملة كتاب حَاطِب إِلَى قُرَيْش ومكانها الَّذِي هِيَ بِهِ وَذَلِكَ كُله بِالْوَحْي وَفِيه هتك ستر الْمُرِيب وكشف الْمَرْأَة العاصية وَفِيه أَن الجاسوس لَا يُخرجهُ تجسسه من الْإِيمَان وَفِيه الْحجَّة لترك إِنْفَاذ الْوَعيد من الله لمن شَاءَ ذَلِك لقَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَعَلَّ الله اطلع على أهل بدر فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُم فقد غفرت لكم وَفِيه جَوَاز غفران مَا تَأَخّر من الذُّنُوب قبل وُقُوعه وَفِيه جَوَاز تَجْرِيد الْعَوْرَة عَن الستْرَة عِنْد الْحَاجة قَالَه ابْن الْعَرَبِيّ وَفِيه دلَالَة على أَن حكم المتأول فِي اسْتِبَاحَة الْمَحْظُور خلاف حكم الْمُتَعَمد لاستحلاله من غير تَأْوِيل قَالَه ابْن الْجَوْزِيّ وَفِيه أَن من أَتَى مَحْظُورًا وَادّعى فِي ذَلِك مَا يحْتَمل التَّأْوِيل كَانَ القَوْل قَوْله فِي ذَلِك وَإِن كَانَ غَالب الظَّن خِلَافه