فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب إذا لم يجد ماء ولا ترابا

( بابُُ إِذَا لَمْ يَجِدْ مَاء ولاَ تُرَاباً)

أَي: هَذَا بابُُ يذكر فِيهِ إِذا لم يجد الرجل مَاء ليتوضأ بِهِ وَلَا تُرَابا اليتيمم بِهِ، وَجَوَاب: إِذا مَحْذُوف تَقْدِيره: هَل يُصَلِّي بِلَا وضوء وَلَا تيَمّم أم لَا؟ وَفِيه: مَذَاهِب للْعُلَمَاء على مَا نذكرهُ عَن قريب إِن شَاءَ اتعالى.

وَجه الْمُنَاسبَة فِي تَقْدِيم هَذَا الْبابُُ على بَقِيَّة الْأَبْوَاب، بعد ذكر كتاب التَّيَمُّم، هُوَ أَنه صدر أَولا بِذكر مَشْرُوعِيَّة التَّيَمُّم عِنْد عدم المَاء، ثمَّ ذكر بعده حكم من لم يجد مَاء وَلَا تُرَابا، هَذَا على تَقْدِير كَون هَذَا الْبابُُ فِي هَذَا الْموضع، وَفِي بعض النّسخ ذكر بعد قَوْله: كتاب التَّيَمُّم بابُُ التَّيَمُّم فِي الْحَضَر، ثمَّ ذكر بعده بابُُ: إِذا لم يجد مَاء وَلَا تُرَابا، فعلى هَذَا الْمُنَاسبَة بَين الْبابَُُيْنِ من حَيْثُ إِنَّه ذكر أَولا حكم التَّيَمُّم فِي السّفر، ثمَّ ذكر حكمه فِي الْحَضَر، ثمَّ ذكر حكم عادم المَاء وَالتُّرَاب مَعًا، وَهُوَ على التَّرْتِيب كَمَا يَنْبَغِي، وَلم يتَعَرَّض لمثل هَذِه النُّكْتَة أحد من الشُّرَّاح.



[ قــ :333 ... غــ :336 ]
- حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بنُ يَحْيَى قالَ حدّثنا عَبْدُ اللَّهِ بنُ نُمَيْرٍ قالَ حدّثنا هِشامُ بنُ عُرْوَةَ عنْ أبِيهِ عنْ عائِشَةَ أنَّهَا اسْتَعَارَتْ منْ أسْماءَ قِلاَدةً فَهَلَكَتْ فَبَعَثَ رسولُ اللَّهِ رَجُلاً فَوَجَدَها فَأدْرَكَتْهُمُ الصَّلاةُ وَلَيْسَ مَعَهُمْ ماءٌ فَصَلَّوْا فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَى رسولِ الله فأنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ التَّيَمُّمِ فقالَ أسَيْدُ بنُ حُضَيرٍ لِعَائِشَةَ جَزَاكِ اللَّهُ خَيْراً فَوَاللَّهِ مَا نَزَلَ بِكِ أمْرٌ تَكْرَهِينَهُ إلاَّ جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ لَكِ وَلِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ خَيْراً.


وَجه مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهر فِي قَوْله: ( فأدركتهم الصَّلَاة وَلَيْسَ مَعَهم مَاء) .
وَأما وَجه زِيَادَة قَوْله فِي التَّرْجَمَة: وَلَا تُرَابا، فَهُوَ أَنهم لما صلوا بِلَا وضوء وَلم يتيمموا أَيْضا لعدم علمهمْ بِهِ، فكأنهم لم يَجدوا مَاء وَلَا تُرَابا، إِذْ كَانَ حكمه حكم الْعَدَم عِنْدهم، فصاروا كَأَنَّهُمْ لم يَجدوا مَاء وَلَا تُرَابا.
فَإِن قلت: روى الطَّحَاوِيّ من حَدِيث عُرْوَة عَن عَائِشَة قَالَت: ( أَقبلنَا مَعَ النَّبِي، من غَزْوَة كَذَا، حَتَّى إِذا كُنَّا بالمعرس، قَرِيبا من الْمَدِينَة، نَعَست من اللَّيْل، وَكَانَت على قلادة تدعى السمط، تبلغ السُّرَّة، فَجعلت أنعس فَخرجت من عنقِي، فَلَمَّا نزلت مَعَ النَّبِي، لصَلَاة الصُّبْح قلت: يَا رَسُول اخرت قلادتي، فَقَالَ للنَّاس: إِن أمكُم قد ضلت قلادتها فابتغوها، فابتغاها النَّاس وَلم يكن مَعَهم مَاء، فاشتغلوا بابُتغائها إِلَى أَن حَضرتهمْ الصَّلَاة، ووجدوا القلادة وَلم يقدروا على مَاء، فَمنهمْ من تيَمّم إِلَى الْكَفّ، وَمِنْهُم من تيَمّم إِلَى الْمنْكب، وَبَعْضهمْ تيَمّم على جلدَة، فَبلغ ذَلِك رَسُول الله فأنزلت آيَة التَّيَمُّم) .
انْتهى.
وَقد قلت: إِنَّهُم لم يتيمموا، وَهَذَا الحَدِيث فِيهِ تَصْرِيح بِأَنَّهُم تيمموا.
قلت: هَذَا التَّيَمُّم الْمُخْتَلف فِيهِ عِنْدهم كلا تيَمّم لعدم نزُول النَّص حينئذٍ، فَصَارَ كَأَنَّهُمْ صلوا بِغَيْر طهُور، وَيُؤَيّد ذَلِك مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي ( الْكَبِير) من حَدِيث هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه: ( عَن عَائِشَة أَنَّهَا استعارت قلادة من أَسمَاء، فَسَقَطت من عُنُقهَا فابتغوها فوجدوها، فَحَضَرت الصَّلَاة فصلوا بِغَيْر طهُور) ، الحَدِيث.

وَقَوله: ( بِغَيْر طهُور) ، يتَنَاوَل المَاء وَالتُّرَاب، فَدلَّ هَذَا أَن التَّيَمُّم الَّذِي تيمموا على اخْتِلَاف صفته كَانَ حكمه حكم الْعَدَم، أَلا يرى أَنه لَو كَانَ مُعْتَبرا بِهِ ومعتداً قبل نزُول الْآيَة لما سَأَلَ عمار رَضِي اتعالى عَنهُ، الَّذِي هُوَ أحد من تيَمّم ذَلِك التَّيَمُّم الْمُخْتَلف فِيهِ، رَسُول ا، عَن صفة التَّيَمُّم، فسؤاله هَذَا إِنَّمَا كَانَ بعد تيَمّمه بذلك التَّيَمُّم الْمُخْتَلف فِيهِ.
فَإِن قلت: هَذَا التَّيَمُّم الْمُخْتَلف فِيهِ هَل هُوَ عملوه بِاجْتِهَاد ورأي من عِنْدهم أم بِالسنةِ؟ قلت: الظَّاهِر أَنه كَانَ بِاجْتِهَاد مِنْهُم، فَيرجع هَذَا إِلَى الْمَسْأَلَة الْمُخْتَلف فِيهَا، وَهِي أَن الِاجْتِهَاد فِي عصره هَل يجوز أم لَا؟ فَمنهمْ من جوزه مُطلقًا، وَهُوَ الْمُخْتَار عِنْد الْأَكْثَرين، وَمِنْهُم من مَنعه مُطلقًا.
.

     وَقَالَ ت طَائِفَة: يجوز للغائبين عَن الرَّسُول دون الْحَاضِرين، وَمِنْهُم من جوزه إِذا لم يُوجد مَانع.

ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: زَكَرِيَّا بن يحيى، هَكَذَا وَقع فِي جَمِيع الرِّوَايَات: زَكَرِيَّا بن يحيى، من غير ذكر جده وَلَا نسبه وَلَا بِشَيْء هُوَ مشتهر بِهِ، وَالْحَال أَنه روى عَن اثْنَيْنِ كل مِنْهُمَا يُقَال لَهُ زَكَرِيَّا بن يحيى: أَحدهمَا: زَكَرِيَّا بن يحيى بن صَالح اللؤْلُؤِي الْبَلْخِي الْحَافِظ الْمُتَوفَّى بِبَغْدَاد سنة ثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَالْآخر: زَكَرِيَّا بن يحيى بن عمر الطَّائِي الْكُوفِي، أَبُو السكين، بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْكَاف، مَاتَ بِبَغْدَاد سنة إِحْدَى وَخمسين وَمِائَتَيْنِ، وَكِلَاهُمَا يرويان عَن عبد ابْن نمير، فزكريا هَذَا يحتملهما، فَأَيا كَانَ مِنْهُمَا فَهُوَ على شَرطه.
قَالَ الْكرْمَانِي: فَلَا يُوجب الِاشْتِبَاه بَينهمَا قدحاً فِي الحَدِيث وَصِحَّته، وميل الغساني والكلاباذي إِلَى الأول.
قَالَ الغساني: حدث البُخَارِيّ عَن زَكَرِيَّا الْبَلْخِي فِي التَّيَمُّم وَفِي غَيره، وَعَن زَكَرِيَّا بن سكين فِي الْعِيدَيْنِ.
.

     وَقَالَ  الكلاباذي: الْبَلْخِي يروي عَن عبد ابْن نمير فِي التَّيَمُّم.
انْتهى.
.

     وَقَالَ  ابْن عدي: هُوَ زَكَرِيَّا بن يحيى بن زَكَرِيَّا بن أبي زَائِدَة، وَإِلَى هَذَا مَال الدَّارَقُطْنِيّ لِأَنَّهُ كُوفِي.

الثَّانِي: عبد ابْن نمير، بِضَم النُّون: الْكُوفِي.

الثَّالِث: هِشَام بن عُرْوَة.

الرَّابِع: أَبوهُ عُرْوَة بن الزبير.

الْخَامِس: عَائِشَة رَضِي اتعالى عَنْهَا.

ذكر لطائف إِسْنَاده.
فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين.
وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين كُوفِي ومدني.

ذكر بَقِيَّة مَا فِيهِ من الْمعَانِي وَغَيرهَا: قَوْله: ( من أَسمَاء) هِيَ أُخْت عَائِشَة رَضِي اتعالى عَنْهَا، وَهِي الملقبة بِذَات النطاقين، تقدّمت فِي بابُُ من أجَاز الْفتيا بِإِشَارَة.
فَإِن قلت: قَالَت عَائِشَة فِي الْبابُُ السَّابِق: انْقَطع عقد لي، وَيفهم من هَذَا أَنه كَانَ لعَائِشَة، وَهَهُنَا أَنَّهَا استعارته من أَسمَاء.
قلت: إِنَّمَا أضافته إِلَى نَفسهَا هُنَاكَ بِاعْتِبَار أَنه كَانَ تَحت يَدهَا وتصرفها.
قَوْله: ( فَهَلَكت) ، أَي: ضَاعَت.
قَوْله: ( رجلا) هُوَ أسيد بن حضير.
قَوْله: ( فَوَجَدَهَا) أَي: أَصَابَهَا، وَلَا مُنَافَاة بَين قَوْلهَا فِيمَا مضى: فأصبنا العقد تَحت الْبَعِير، وَبَين قَوْله: ( فَوَجَدَهَا) لِأَن لفظ: أصبْنَا، عَام يَشْمَل عَائِشَة وَالرجل، فَإِذا وجد الرجل بعد رُجُوعه صدق قَوْله: ( أصبْنَا) .
قَوْله: ( فصلوا) أَي بِغَيْر وضوء.
وَقد صرح فِي صَحِيح مُسلم بذلك.

قَالَ النَّوَوِيّ فِيهِ دَلِيل على أَن من عدم المَاء وَالتُّرَاب يُصَلِّي على حَاله، وَهَذِه الْمَسْأَلَة فِيهَا خلاف، وَهُوَ أَرْبَعَة أَقْوَال: وأصحها: عِنْد أَصْحَابنَا: أَنه يجب عَلَيْهِ أَن يُصَلِّي وَيُعِيد الصَّلَاة.
وَالثَّانِي: أَنه لَا يجب عَلَيْهِ الصَّلَاة، وَلَكِن يسْتَحبّ، وَيجب عَلَيْهِ الْقَضَاء سَوَاء صلى أَو لم يصل.
وَالثَّالِث: تحرم عَلَيْهِ الصَّلَاة لكَونه مُحدثا، وَتجب عَلَيْهِ الْإِعَادَة، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة رَضِي اتعالى عَنهُ.
وَالرَّابِع: تجب الصَّلَاة وَلَا تجب الْإِعَادَة، وَهُوَ مَذْهَب الْمُزنِيّ، وَهُوَ أقوى الْأَقْوَال دَلِيلا.
ويعضده هَذَا الحَدِيث، فَإِنَّهُ لم ينْقل عَن النَّبِي إِيجَاب إِعَادَة مثل هَذِه الصَّلَاة.
.

     وَقَالَ  ابْن بطال: الصَّحِيح من مَذْهَب مَالك أَنه لَا يُصَلِّي وَلَا إِعَادَة عَلَيْهِ، قِيَاسا على الْحَائِض.
.

     وَقَالَ  أَبُو عمر: قَالَ ابْن خواز منداد: الصَّحِيح من مَذْهَب مَالك أَن كل من لم يقدر على المَاء، وَلَا على الصَّعِيد حَتَّى خرج الْوَقْت أَنه لَا يُصَلِّي، وَلَا شَيْء عَلَيْهِ.
وَرَوَاهُ المدنيون عَن مَالك وَهُوَ الصَّحِيح.

قَالَ أَبُو عمر: كَيفَ أقدم على أَن أجعَل هَذَا صَحِيحا وعَلى خِلَافه جُمْهُور السّلف وَعَامة الْفُقَهَاء وَجَمَاعَة المالكيين؟ فَكَأَنَّهُ قاسه على مَا رُوِيَ عَن مَالك فِيمَن كتفه الْوَالِي وحبسه فَمَنعه من الصَّلَاة حَتَّى خرج وَقتهَا.
أَنه لَا إِعَادَة عَلَيْهِ، ثمَّ قَالَ: والأسير المغلول، وَالْمَرِيض الَّذِي لَا يجد من يناوله المَاء وَلَا يَسْتَطِيع التَّيَمُّم لَا يُصَلِّي، وَإِن خرج الْوَقْت، حَتَّى يجد إِلَى الْوضُوء أَو التَّيَمُّم سَبِيلا.
وَعَن الشَّافِعِي رِوَايَتَانِ.
إِحْدَاهمَا: هَكَذَا، وَالْأُخْرَى: يُصَلِّي وَأعَاد إِذا قدر، وَهُوَ الْمَشْهُور عَنهُ.
.

     وَقَالَ  أَبُو حنيفَة، فِي الْمَحْبُوس فِي الْمصر إِذا لم يجد مَاء وَلَا تُرَابا نظيفاً: لم يصل، وَإِذا وجده صلى.
.

     وَقَالَ  أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَالشَّافِعِيّ وَالثَّوْري ومطرف: يُصَلِّي وَيُعِيد.
.

     وَقَالَ  أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَالشَّافِعِيّ: إِن وجد الْمَحْبُوس فِي الْمصر تُرَابا نظيفاً صلى وَأعَاد.
.

     وَقَالَ  زفر: لَا يتَيَمَّم وَلَا يُصَلِّي، وَإِن وجد تُرَابا نظيفاً، بِنَاء على أَن عِنْده لَا تيَمّم فِي الْحَضَر.
.

     وَقَالَ  ابْن الْقَاسِم: لَو تيَمّم على التُّرَاب النَّظِيف أَو على وَجه الأَرْض لم يكن عَلَيْهِ إِعَادَة إِذا صلى ثمَّ وجد المَاء.
.

     وَقَالَ  أَبُو عمر: أما الزَّمِن، قَالُوا: إِن لم يقدر على المَاء وَلَا على الصَّعِيد صلى كَمَا هُوَ وَأعَاد إِذا قدر على الطَّهَارَة.