فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب قول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} [التوبة: 119] وما ينهى عن الكذب

بابُُ قَوْلِ الله تَعَالَى: { يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اتَّقوا الله وَكُونُوا معع الصَّادِقين} ( التَّوْبَة: 119) وَمَا يُنْهاى عَنِ الكَذِبِ

أَي: هَذَا بابُُ فِي ذكر قَول الله عز وَجل: { يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا} ... الْآيَة، قَوْله: { وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقين} أَي: مثلهم أَو مِنْهُم، والصادقون هم الَّذين يصدقون فِي قَوْلهم وعملهم، وَقيل: فِي أَيْمَانهم يُوفونَ بِمَا عَاهَدُوا.
قَوْله: ( وَمَا ينْهَى) أَي: الْبابُُ أَيْضا فِي بابُُ مَا ينْهَى عَن الْكَذِب.

[ قــ :5765 ... غــ :6094 ]
- حدَّثنا عُثْمانُ بنُ أبي شَيْبَة حَدثنَا جَرِيرُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أبي وائِلٍ عَنْ عَبْدِ الله رَضِي الله عَنهُ، عَنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: إنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى البرِّ وإنَّ البِرَّ يَهْدِي إِلَى الجَنَّةِ وإنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يَكُونَ صِدِّيقاً، وإنَّ الكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الفُجُورِ وإنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّار وإنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ الله كَذَّاباً.


وَجه الْمُطَابقَة بَينه وَبَين الْآيَة الْمَذْكُورَة ظَاهر، وَهُوَ أَن الصدْق يهدي إِلَى الْجنَّة وَالْآيَة فِيهَا أَيْضا الْأَمر بالكون مَعَ الصَّادِقين والكون مَعَهم أَيْضا يهدي إِلَى الْجنَّة.

وَعُثْمَان بن أبي شيبَة أَخُو أبي بكر بن أبي شيبَة، وَاسم أبي شيبَة إِبْرَاهِيم وَهُوَ جد عُثْمَان لِأَنَّهُ ابْن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم، وَجَرِير هُوَ ابْن عبد الحميد، وَمَنْصُور هُوَ ابْن الْمُعْتَمِر، وَأَبُو وَائِل شَقِيق بن سَلمَة وَعبد الله هُوَ ابْن مَسْعُود.

والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْأَدَب أَيْضا عَن عُثْمَان وَعَن أَخِيه أبي بكر بن أبي شيبَة.

قَوْله: ( يهدي) من الْهِدَايَة وَهِي الدّلَالَة الموصلة إِلَى البغية.
قَوْله: ( إِلَى الْبر) بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَشْديد الرَّاء وَهُوَ الْعَمَل الصَّالح الْخَالِص من كل مَذْمُوم وَهُوَ إسم جَامع لِلْخَيْرَاتِ كلهَا.
قَوْله: ( صديقا) بِكَسْر الصَّاد وَتَشْديد الدَّال وَهُوَ صِيغَة الْمُبَالغَة.
قَوْله: ( إِلَى الْفُجُور) وَهُوَ الْميل إِلَى الْفساد، وَقيل: الانبعاث فِي الْمعاصِي وَهُوَ جَامع للشرور وهما متقابلان، قَالَ الله عز وَجل: { إِن الْأَبْرَار لفي نعيم.
.
لفي جحيم}
( الانفطار: 13 14) .
قَوْله: ( حَتَّى يكْتب) ، أَي: يحكم لَهُ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: حَتَّى يكون، وَالْمرَاد الْإِظْهَار للمخلوقين إِمَّا للملأ الْأَعْلَى وَإِمَّا أَن يلقى ذَلِك فِي قُلُوب النَّاس وألسنتهم، وإلاَّ فَحكم الله أزلي، وَالْغَرَض: أَنه يسْتَحق وصف الصديقين وثوابهم وَصفَة الْكَذَّابين وعقابهم، وَكَيف لَا وَإنَّهُ من عَلَامَات النِّفَاق، وَلَعَلَّه لم يقل فِي الصّديق بِلَفْظ يكْتب إِشَارَة إِلَى أَن الصّديق من جملَة الَّذين قَالَ الله فيهم: { الَّذين أنعم الله عَلَيْهِم من النَّبِيين وَالصديقين} ( النِّسَاء: 69) .
فَإِن قلت: حَدِيث عبد الله هَذَا يُعَارضهُ حَدِيث صَفْوَان بن سليم الَّذِي رَوَاهُ مَالك عَنهُ أَنه قيل للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَيكُون الْمُؤمن كذابا؟ قَالَ: لَا.
وَحَدِيث: يطبع الْمُؤمن على كل شَيْء لَيْسَ الْخِيَانَة وَالْكذب.
قلت: المُرَاد بِالْمُؤمنِ فِي حَدِيث صَفْوَان الْمُؤمن الْكَامِل أَي: لَا يكون الْمُؤمن المستكمل لأعلى دَرَجَات الْإِيمَان كذابا حَتَّى يغلبه الْكَذِب، لِأَن كذابا وَزنه فعال وَهُوَ من أبنية الْمُبَالغَة لمن يكثر الْكَذِب مِنْهُ ويتكرر حَتَّى يعرف بِهِ، وَكَذَلِكَ لكذوب، وَكَذَلِكَ الْكَلَام فِي الحَدِيث الآخر.





[ قــ :5766 ... غــ :6095 ]
- حدَّثنا ابنُ سَلاَمٍ حَدثنَا إسْماعِيلُ بنُ جَعْفَر عَنْ أبي سُهَيْلٍ نافِعِ بنِ مالِكِ بنِ أبي عامِرٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ: أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: آيَةُ المُنافِقِ ثَلاَثٌ: إذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذَا وَعَدَ أخْلَفَ، وإذَا اؤْتُمِنَ خانَ.

مطابقته لقَوْله: (وَمَا ينْهَى عَن الْكَذِب) الَّذِي هُوَ جُزْء التَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن مَعْنَاهُ يسْتَلْزم النَّهْي عَن الْكَذِب على مَا لَا يخفى.

وَابْن سَلام هُوَ مُحَمَّد بن سَلام، وَإِسْمَاعِيل بن جَعْفَر أَبُو إِبْرَاهِيم الْأنْصَارِيّ، كَانَ بِبَغْدَاد مَاتَ سنة ثَمَانِينَ وَمِائَة، وَسُهيْل بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْهَاء مصغر سهل واسْمه نَافِع يروي عَن أَبِيه مَالك بن أبي عَامر الأصبحي جد مَالك بن أنس.

والْحَدِيث مر فِي كتاب الْإِيمَان فِي: بابُُ عَلَامَات الْمُنَافِق، وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.

قَوْله: (آيَة الْمُنَافِق أَي: علامته.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: الْإِجْمَاع مُنْعَقد على أَن الْمُسلم لَا يحكم بنفاقه الْمُوجب لكَونه فِي الدَّرك الْأَسْفَل من النَّار بِوَاسِطَة الْكَذِب.
وأخويه، وَأجَاب بِأَن المُرَاد بِهِ أَنه يشابه الْمُنَافِق، أَو إِذا كَانَ مُعْتَادا بذلك أَو للتغليظ أَو الَّذين كَانُوا فِي عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْمُنَافِقين، أَو كَانَ منافقاً خَاصّا، أَو لَا يُرِيد بِهِ النِّفَاق الإيماني بل النِّفَاق الْعرفِيّ.





[ قــ :5767 ... غــ :6096 ]
- ح دَّثنا مُوسَى بنُ إسْماعِيلَ حَدثنَا جَرِيرٌ حَدثنَا أبُو رجاءٍ عَن سَمُرَةَ بن جُنْدبٍ رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رأيْتُ اللَّيْلَةَ رَجلَين أتَياني قَالَا: الَّذِي رأيْتَهُ يُشَقُّ شِدْقُهُ فَكَذَّابٌ يَكْذِبُ بالْكَذْبَةِ تُحْمَلُ عَنْهُ حَتَّى تَبْلُغَ الآفاقَ، فَيُصْنَعُ بِهِ إِلَى يَوْمِ القِيامَةِ.

وَجه الْمُطَابقَة مثل الَّذِي ذَكرْنَاهُ فِي الحَدِيث السَّابِق.
وَجَرِير هُوَ ابْن حَازِم، وَأَبُو رَجَاء بِالْجِيم اسْمه عمرَان العطاردي.

وَهَذَا طرف من حَدِيث مطول رَوَاهُ مقطعاً فِي الصَّلَاة وَفِي الْجَنَائِز وَفِي الْبيُوع وَفِي الْجِهَاد وَفِي بَدْء الْخلق وَفِي صَلَاة اللَّيْل وَهنا عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل، وَفِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء وَفِي التَّفْسِير وَفِي التَّعْبِير عَن مُؤَمل بن هِشَام.

قَوْله: ( رَأَيْت) ، أَي: فِي الْمَنَام وَلَيْسَ فِي كثير من النّسخ لَفظه: قَوْله: ( الَّذِي رَأَيْته يشق شدقه) وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، رأى رجلا جَالِسا ورجلاً قَائِما بِيَدِهِ كَلوب من حَدِيد يدْخلهُ فِي شدقه حَتَّى يبلغ قَفاهُ ثمَّ يفعل بشدقه الآخر مثل ذَلِك ويلتئم شدقه هَذَا فيصنع مثله، قلت: مَا هَذَا؟ فَقَالَا: الَّذِي رَأَيْته يشق شدقه فكذاب يصنع بِهِ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة.
قَوْله: ( فكذاب) فَإِن قيل: شَرط الْمَوْصُول الَّذِي يدْخل فِي خَبره الْفَاء أَن يكون مُبْهما بل عَاما، قيل لَهُ: جعل الْمعِين كالعام حَتَّى جَازَ دُخُول الْفَاء فِي الْخَبَر، وَإِنَّمَا جعل عَذَابه فِي مَوضِع الْمعْصِيَة وَهُوَ فَمه الَّذِي كَانَ يكذب بِهِ.