فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب ما جاء في الثوم الني والبصل والكراث

( بابُُ مَا جاءَ فِي الثُّومِ النَّيءِ والبَصعلِ والكُرَّاثِ وقَوْلِ النَّبي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَنْ أكَلَ الثُّومَ أوِ البَصَلِ مِنَ الجُوعِ أوْ غَيْرِهِ فَلا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان مَا جَاءَ فِي أكل الثوم النيء وَأكل البصل، والكراث.
الثوم، بِضَم الثَّاء الْمُثَلَّثَة.
وَقَوله: ( النىء) ، بِالْجَرِّ: صفته أَي: غير النضيج، هُوَ بِكَسْر النُّون بعْدهَا يَاء آخر الْحُرُوف ثمَّ همزَة.
وَقد تُدْغَم الْيَاء.
قَوْله: ( والبصل) أَي: وَمَا جَاءَ فِي البصل.
قَوْله: ( والكراث) ، أَي: وَمَا جَاءَ فِي الكراث، وَهُوَ بِضَم الْكَاف وَتَشْديد الرَّاء.
قَوْله: ( وَقَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) بِالْجَرِّ عطفا على قَوْله: ( مَا جَاءَ) ، أَي: وَمَا جَاءَ فِي قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( من أكل البصل.
.
)
إِلَى آخِره، وَهَذَا أَيْضا، من جملَة التَّرْجَمَة وَلَيْسَ لفظ الحَدِيث هَكَذَا، بل هَذَا من تصرف البُخَارِيّ وتجويزه، نقل الحَدِيث بِالْمَعْنَى.
فَإِن قلت: لَيْسَ فِي أَحَادِيث الْبابُُ ذكر الكراث فَلِمَ ذكره فِي التَّرْجَمَة؟ قلت: قَالَ بَعضهم: كَأَنَّهُ أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا وَقع فِي بعض طرق حَدِيث جَابر، وَهَذَا أولى من قَول بَعضهم: إِنَّه قاسه على البصل.
انْتهى.
قلت: روى مُسلم فِي ( صَحِيحه) من حَدِيث جَابر قَالَ: ( نهى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن أكل البصل والكراث، فغلبتنا الْحَاجة فأكلنا مِنْهُ، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: من أكل من هَذِه الشَّجَرَة المنتنة فَلَا يقربن مَسْجِدنَا) .
وَفِي ( مُسْند الْحميدِي) بِإِسْنَاد على شَرط الصَّحِيح: ( سُئِلَ جَابر عَن الثوم فَقَالَ: مَا كَانَ بأرضنا يَوْمئِذٍ ثوم، إِنَّمَا الَّذِي نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَنهُ البصل والكراث) .
وَفِي ( مُسْند السراج) : ( نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن أكل الكراث فَلم ينْتَهوا، ثمَّ لم يَجدوا بدا من أكلهَا فَوجدَ رِيحهَا، فَقَالَ: ألم أنهكم.
.
؟)
الحَدِيث.
فالكراث إِن لم يذكر صَرِيحًا فِي أَحَادِيث الْبابُُ فَيمكن أَن نقُول: إِنَّه مَذْكُور دلَالَة، فَإِن حَدِيث جَابر الَّذِي يَأْتِي فِيهِ: ( وَأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَتَى بِقدر فِيهِ خضرات من بقول فَوجدَ لَهَا ريحًا.
.
)
الحَدِيث، يدل على أَن من جملَة الخضرات الَّتِي لَهَا ريح هُوَ الكراث، وَهُوَ أَيْضا من الْبُقُول، فَحِينَئِذٍ تقع الْمُطَابقَة بَينه وَبَين قَوْله فِي التَّرْجَمَة: والكراث، وَوُجُود التطابق بَين التراجم وَالْأَحَادِيث لَا يلْزم أَن يكون صَرِيحًا دَائِما، يظْهر ذَلِك بِالتَّأَمُّلِ، وَهَذَا التَّوْجِيه أقرب من قَول هَذَا الْقَائِل، كَأَنَّهُ أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا وَقع فِي بعض طرق حَدِيث جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقَوله: هَذَا أولى من قَول بَعضهم، أَنه قاسه على البصل، أَرَادَ بِهِ صَاحب ( التَّوْضِيح) فَإِنَّهُ قَالَه هَكَذَا، وَهَذَا أبعد من الَّذِي قَالَه.
فَإِن قلت: قَوْله من الْجُوع لم يذكر صَرِيحًا فِي أَحَادِيث الْبابُُ؟ قلت: لِمَ يَقع هَذَا إلاّ فِي كَلَام الصَّحَابِيّ، وَهُوَ فِي حَدِيث جَابر الَّذِي ذَكرْنَاهُ الْآن، وَفِيه: ( فغلبتنا الْحَاجة) ، وَمن جملَة الْحَاجة: الْجُوع، وأصرح مِنْهُ مَا وَقع فِي حَدِيث أبي سعيد: ( لم نعدُ أَن فتحت خَيْبَر فوقعنا فِي هَذِه البقلة وَالنَّاس جِيَاع) ، الحَدِيث رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ وَزعم أَنه عِنْد مُسلم.
قَوْله: ( أَو غَيره) ، أَي: أَو غير الْجُوع، مثل الْأكل بالتشهي والتأدم بالخبز.



[ قــ :829 ... غــ :854 ]
- حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حدَّثنا أبُو عَاصِمٍ قَالَ أخبرنَا ابنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبرنِي عَطَاءٌ قَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بنَ عَبْدِ الله قَالَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَنْ أكَلَ منْ هاذِهِ الشَّجَرَةِ يُرِيدُ الثُّومَ فَلاَ يَغْشَانِا فِي مَسَاجِدِنَا.

قُلْتُ مَا يَعْنِي بِهِ قَالَ مَا أرَاهُ يَعْنِي إلاَّ نِيِّئَهُ.
.

     وَقَالَ  مَخْلَدُ بنُ يَزِيدَ عنِ ابنِ جُرَيْجٍ إلاّ نَتْنَهُ.


مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( مَا جَاءَ فِي الثوم) .

ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الله بن جَعْفَر ابْن الْيَمَان أَبُو جَعْفَر الْجعْفِيّ البُخَارِيّ الْمَعْرُوف بالمسندي، وَإِنَّمَا عرف بِهِ لِأَنَّهُ كَانَ وَقت الطّلب يتتبع الْأَحَادِيث المسندة وَلَا يرغب فِي المقاطيع والمراسيل، مَاتَ فِي ذِي الْقعدَة سنة تسع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ.
الثَّانِي: أَبُو عَاصِم النَّبِيل، واسْمه الضَّحَّاك بن مخلد.
الثَّالِث: عبد الْملك بن جريج.
الرَّابِع: عَطاء ابْن أبي رَبَاح.
الْخَامِس: جَابر بن عبد الله الْأنْصَارِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.

ذكر لطائف إِسْنَاده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع.
وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع أَيْضا فِي موضِعين وبصيغة الْإِفْرَاد من الْمَاضِي فِي مَوضِع.
وَفِيه: السماع.
وَفِيه: القَوْل فِي خَمْسَة مَوَاضِع.
وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بخاري وبصري ومكي.
وَفِيه: أَن شَيْخه المسندي من أَفْرَاده.
وَفِيه: أَن أَبَا عَاصِم أَيْضا شَيْخه.
فَإِنَّهُ روى عَنهُ بِوَاسِطَة، ويروي عَنهُ أَيْضا بِلَا وَاسِطَة.

ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة أَيْضا عَن مُحَمَّد بن حَاتِم، وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، وَعَن مُحَمَّد ابْن رَافع.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْأَطْعِمَة عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّلَاة وَفِي الْوَلِيمَة عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور بِهِ، وَعَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى.
وَلما روى التِّرْمِذِيّ حَدِيث جَابر هَذَا قَالَ: وَفِي الْبابُُ عَن عَمْرو أبي أَيُّوب وَأبي هُرَيْرَة وَأبي سعيد وَجَابِر بن سَمُرَة وقرة وَابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
قلت: وَفِي الْبابُُ أَيْضا عَن حُذَيْفَة وَأبي ثَعْلَبَة الْخُشَنِي والمغيرة بن شُعْبَة وَعلي وَأنس وَعبد الله بن زيد، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
فَحَدِيث عمر عِنْد مُسلم وَغَيره، وَحَدِيث أبي أَيُّوب عِنْد التِّرْمِذِيّ، وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة عِنْد مُسلم، وَحَدِيث أبي سعيد عَن مُسلم أَيْضا، وَحَدِيث جَابر بن سَمُرَة عِنْد التِّرْمِذِيّ، وَحَدِيث قُرَّة عِنْد الْبَيْهَقِيّ، وَحَدِيث ابْن عمر عِنْد البُخَارِيّ، وَمُسلم، وَحَدِيث حُذَيْفَة عِنْد ابْن حبَان، وَحَدِيث أبي ثَعْلَبَة عِنْد الطَّبَرَانِيّ فِي ( الْأَوْسَط) وَحَدِيث الْمُغيرَة عِنْد التِّرْمِذِيّ، وَحَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عِنْد أبي نعيم فِي ( الْحِلْية) : وَحَدِيث أنس عِنْد البُخَارِيّ وَغَيره، وَحَدِيث عبد الله بن زيد عِنْد الطَّبَرَانِيّ.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: ( من هَذِه الشَّجَرَة) الشَّجَرَة وَاحِدَة الشّجر وَالشَّجر النَّبَات الَّذِي لَهُ سَاق، والنجم النَّبَات الَّذِي ينجم فِي الأَرْض لَا سَاق لَهُ كالبقول، وَيُقَال عِنْد الْعَرَب: كل شَيْء ينْبت لَهُ أرومة فِي الأَرْض يخلف مَا قطع من ظَاهرهَا فَهُوَ شجر، وَمَا لَيْسَ لَهَا أرومة تبقى فَهُوَ نجم، والأرومة الأَصْل، فَإِن قلت: على مَا ذكر كَيفَ أطلق الشّجر على الثوم وَنَحْوه؟ قلت: قد يُطلق كل مِنْهُمَا على الآخر، وَتكلم أفْصح الفصحاء بِهِ من أقوى الدَّلَائِل.
.

     وَقَالَ  الْخطابِيّ، فِيهِ: إِنَّه جعل الثوم من جملَة الشّجر، والعامة إِنَّمَا يسمون الشّجر مَا كَانَ لَهُ سَاق يحمل أغصانه دون مَا يسْقط على الأَرْض.
قَوْله: ( فَلَا يغشانا) من الغشيان، وَهُوَ الْمَجِيء والإتيان أَي: فَلَا يأتنا، وَإِنَّمَا أَثْبَتَت الْألف لِأَن الأَصْل: فَلَا يغشنا، كَمَا هُوَ فِي رِوَايَة كَذَا لِأَنَّهُ أجْرى المعتل مجْرى الصَّحِيح، كَمَا فِي قَول الشَّاعِر:
( إِذا الْعَجُوز غضِبت فَطلق ... وَلَا ترضاها وَلَا تملق)

وَإِمَّا أَن تكون الْألف مولدة من إشباع الفتحة بعد سُقُوط الْألف الْأَصْلِيَّة بِالْجَزْمِ.
قَوْله: ( فِي مَسْجِدنَا) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني وَأبي الْوَقْت: ( فِي مَسَاجِدنَا) ، بِصِيغَة الْجمع.
قَوْله: ( قلت: مَا يَعْنِي بِهِ؟) أَي: مَا يقْصد الْقَائِل هُوَ عَطاء ابْن أبي رَبَاح، يَعْنِي قَالَ عَطاء: قلت لجَابِر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: مَا يَعْنِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِهِ، أَي: بالثوم أنضيجا أم نيا؟ قَالَ جَابر: مَا أرَاهُ، بِضَم الْهمزَة أَي: مَا أَظُنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَعْنِي أَي يقْصد نيه، أَي: ني الثوم.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: وأظن السَّائِل ابْن جريج والمسؤول عَطاء.
قلت: الَّذِي قُلْنَا هُوَ الْأَقْرَب وَالْأَوْجه على مَا لَا يخفى، وَبِه جزم الْكرْمَانِي.

قَوْله: ( قَالَ مخلد) ، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْخَاء الْمُعْجَمَة: ابْن يزِيد من الزِّيَادَة أَبُو الْحسن الْحَرَّانِي، مَاتَ سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَمِائَة.
قَوْله: ( عَن ابْن جريج) يَعْنِي: يروي عَن عبد الْملك بن جريج: ( إِلَّا نَتنه) بِفَتْح النونين بَينهمَا تَاء مثناة من فَوق سَاكِنة، يَعْنِي: قَالَ بدل: نيه نَتنه.
وَهُوَ الرَّائِحَة الكريهة، وَهَذَا التَّعْلِيق يُخَالف مَا رَوَاهُ جمَاعَة عَن ابْن جريج، فَإِن أَبَا عوَانَة رَوَاهُ فِي ( صَحِيحه) من طَرِيق روح ابْن عبَادَة: عَن ابْن جريج كَمَا رَوَاهُ أَبُو عَاصِم عَن ابْن جريج، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق عَن ابْن جريج نَحوه، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَبُو نعيم فِي ( الْمُسْتَخْرج) من طَرِيق ابْن أبي عدي عَن ابْن جريج، فَلفظ الْكل: النيء، لَا النتن.

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: كَرَاهَة أكل الثوم النىء، وَلَا يحرم، أما الْكَرَاهَة فلرائحته الكريهة، وَلِهَذَا قَالَ: ( من أكل من هَذِه الشَّجَرَة فَلَا يغشانا فِي مَسْجِدنَا) ، وَأما عدم الْحُرْمَة فَلقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَدِيث جَابر الَّذِي يَأْتِي فِي هَذَا الْبابُُ: ( كل فَإِنِّي أُنَاجِي من لَا تناجي) .
.

     وَقَالَ  ابْن بطال.
قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( من أكل) يدل على إِبَاحَة أكل الثوم، لِأَنَّهُ لفظ يدل على الْإِبَاحَة، وَتعقب بِأَن هَذِه الصِّيغَة إِنَّمَا تُعْطِي الْوُجُود لَا الحكم، لِأَن مَعْنَاهُ من وجد مِنْهُ الْأكل، وَهُوَ أَعم من كَونه مُبَاحا أَو غير مُبَاح.
قلت: فَلَا حَاجَة إِلَى الِاسْتِدْلَال على الْإِبَاحَة بِهَذِهِ الطَّرِيقَة، فَإِن حَدِيث جَابر يدل على إِبَاحَته صَرِيحًا، وَكَذَلِكَ حَدِيث أبي أَيُّوب.
رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ: حَدثنَا مَحْمُود بن غيلَان حَدثنَا أَبُو دَاوُد أَنبأَنَا شُعْبَة عَن سماك بن حَرْب سمع جَابر بن سَمُرَة يَقُول: ( نزل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على أبي أَيُّوب، وَكَانَ إِذا أكل طَعَاما بعث إِلَيْهِ بفضله، فَبعث إِلَيْهِ يَوْمًا بِطَعَام وَلم يَأْكُل مِنْهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلَمَّا أَتَى أَبُو أَيُّوب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَذكر ذَلِك لَهُ فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: فِيهِ الثوم، فَقَالَ: يَا رَسُول الله أحرام هُوَ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنِّي أكرهه من أجل رِيحه) .
.

     وَقَالَ  التِّرْمِذِيّ أَيْضا: حَدثنَا مُحَمَّد بن حميد حَدثنَا زيد بن الْخَبَّاب عَن أبي خلدَة عَن أبي الْعَالِيَة قَالَ: الثوم من طَيّبَات الرزق، وَأَبُو خلدَة اسْمه: خَالِد بن دِينَار، وَهُوَ ثِقَة عِنْد أهل الحَدِيث، وَقد أدْرك أنس بن مَالك وَسمع مِنْهُ، وَأَبُو الْعَالِيَة اسْمه: رفيع وَهُوَ الرباحي، وَهُوَ الَّذِي ذكرنَا أكله فِي الثوم النىء لأجل رَائِحَته، وَأما الثوم الْمَطْبُوخ مِنْهُ فَلَا يكره، لما روى أَبُو دَاوُد: حَدثنَا مُسَدّد قَالَ: حَدثنَا الْجراح أَبُو وَكِيع عَن أبي إِسْحَاق عَن شريك عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: ( نهى عَن أكل الثوم إلاّ مطبوخا) .
وروى أَيْضا عَن حَدِيث مُعَاوِيَة بن قُرَّة عَن أَبِيه: ( أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن هَاتين الشجرتين،.

     وَقَالَ : من أكلهما فَلَا يقربن مَسْجِدنَا،،.

     وَقَالَ : إِن كُنْتُم لَا بُد آكليهما فأميتوهما طبخا)
.
ثمَّ إِن حَدِيث الْبابُُ فِي الثوم فَقَط، وَسَيَجِيءُ حَدِيث جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي هَذَا الْبابُُ: أَن البصل مثل الثوم، وَأَن الخضرات من الْبُقُول الَّتِي لَهَا رَائِحَة كَذَلِك، وَيدخل فِيهِ الكراث والفجل أَيْضا، وَنَصّ على الفجل فِي ( المعجم الصَّغِير) للطبراني، وَذكره مَعَ الثوم والكراث، وَنقل ابْن التِّين عَن مَالك قَالَ: الفجل، إِن كَانَ يظْهر رِيحه فَهُوَ كالثوم، وَقَيده عِيَاض بالجشاء.
وَفِي ( التَّوْضِيح) : وشذ أهل الظَّاهِر فحرموا هَذِه الْأَشْيَاء لإفضائها إِلَى ترك الْجَمَاعَة، وَهِي عِنْدهم فرض عين، وَتَقْرِيره أَن يُقَال: صَلَاة الْجَمَاعَة فرض عين، وَلَا يتم إلاّ بترك أكلهَا.
وَمَا لَا يتم الْوَاجِب إلاّ بِهِ فَهُوَ وَاجِب، فَترك أكلهَا وَاجِب، فَتكون حَرَامًا.
قلت: صرح ابْن حزم مِنْهُم بِأَن أكلهَا حَلَال مَعَ قَوْله بِأَن الْجَمَاعَة فرض عين.
وَفِيه: ترك الْإِتْيَان إِلَى الْمَسْجِد عِنْد أكل الثوم وَنَحْوه، وَهُوَ بِعُمُومِهِ يتَنَاوَل المجامع: كمصلى الْعِيد والجنازة وَمَكَان الْوَلِيمَة، وَحكم رحبة الْمَسْجِد حكمه، لِأَنَّهَا مِنْهُ، وَخص القَاضِي عِيَاض الْكَرَاهَة بِمَا إِذا كَانَ مَعَهم غَيرهم، أما إِذا كَانَ كلهم أكلوه فَلَا، وَلَكِن يَنْبَغِي احترام الْمَلَائِكَة، وَلَيْسَ المُرَاد بِالْمَلَائِكَةِ الْحفظَة.
قلت: الْعلَّة أَذَى الْمَلَائِكَة وأذى الْمُسلمين، فَيخْتَص النَّهْي بالمساجد وَمَا فِي مَعْنَاهَا، وَلَا يخْتَص بمسجده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بل الْمَسَاجِد كلهَا سَوَاء عملا بِرِوَايَة: مَسَاجِدنَا، بِالْجمعِ وشذ من خصّه بمسجده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَيلْحق بِمَا نَص عَلَيْهِ فِي الحَدِيث كل مَا لَهُ رَائِحَة كريهة من المأكولات وَغَيرهَا، وَإِنَّمَا خص الثوم هُنَا بِالذكر، وَفِي غَيره أَيْضا بالبصل والكراث لِكَثْرَة أكلهم بهَا، وَكَذَلِكَ ألحق بذلك بَعضهم من بِفِيهِ بخر، أَو بِهِ جرح لَهُ رَائِحَة، وَكَذَلِكَ القصاب والسماك والمجذوم والأبرص أولى بالإلحاق، وَصرح بالمجذوم ابْن بطال، وَنقل عَن سَحْنُون، لَا أرى الْجُمُعَة عَلَيْهِ، وَاحْتج بِالْحَدِيثِ.
وَألْحق بِالْحَدِيثِ: كل من آذَى النَّاس بِلِسَانِهِ فِي الْمَسْجِد، وَبِه أفتى ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَهُوَ أصل فِي نفي كل مَا يتَأَذَّى بِهِ وَلَا يبعد أَن يعْذر من كَانَ مَعْذُورًا بِأَكْل مَا لَهُ ريح كريهة، لما روى ابْن حبَان فِي ( صَحِيحه) : عَن الْمُغيرَة بن شُعْبَة: ( انْتَهَيْت إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَوجدَ مني ريح الثوم فَقَالَ من أكل الثوم؟ قَالَ: فَأخذت يَده فأدخلتها، فَوجدَ صَدْرِي معصوبا فَقَالَ: إِن لَك عذرا) .
وَفِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ فِي ( الْأَوْسَط) : ( اشتكيت صَدْرِي فأكلته) .
وَفِيه: ( فَلم يعنفه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) .





[ قــ :830 ... غــ :855 ]
- ح دَّثنا سَعِيدُ بنُ عُفَيْرٍ قَالَ حدَّثنا ابنُ وِهَبٍ عَنْ يُونُس عنِ ابنِ شِهَابٍ زَعَمَ عَطَاءٌ أنَّ جابِرَ بنَ عَبْدِ الله زعَمَ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ منْ أكَلَ ثُوما أوْ بَصَلاً فلْيَعْتَزِلْنَا أوْ قَالَ فَلْيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا وَلْيَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أُتِيَ بِقِدْرٍ فيهِ خَضِرَاتٌ مِنْ بُقُولٍ فَوَجَدَ لَهَا ريحًا فَسَألَ فَأُخْبِرَ بِمَا فِيها مِنَ البُقُولِ فقالَ قَرِّبُوهَا إلَى بَعْضِ أصْحَابِهِ كانَ مَعَهُ فلَمَّا رَآهُ كَرِهَ أكلَهَا قالَ كُلْ فَإنِّي أنَاجِي منْ لاَ تُنَاجِي
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي الثوم والبصل.

ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: سعيد هُوَ ابْن كثير بن عفير أَبُو عُثْمَان الْمصْرِيّ، وَابْن وهب هُوَ عبد الله بن وهب الْمصْرِيّ، وَيُونُس بن يزِيد وَابْن شهَاب هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ وَعَطَاء ابْن أبي رَبَاح.

ذكر لطائف إِسْنَاده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين.
وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين.
وَفِيه: زعم فِي موضِعين، قَالَ الْخطابِيّ: لم يقل زعم على وَجه التُّهْمَة، لكنه لما كَانَ أمرا مُخْتَلفا فِيهِ أَتَى بِلَفْظ: زعم، لِأَن هَذَا اللَّفْظ لَا يكَاد يسْتَعْمل إلاّ فِي أَمر يرتاب فِيهِ أَو يخْتَلف فِيهِ،.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: زعم، أَي: قَالَ، لِأَن الزَّعْم يسْتَعْمل لِلْقَوْلِ الْمُحَقق، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: عَن عَطاء، وَفِي رِوَايَة لمُسلم من وَجه آخر: عَن ابْن وهب حَدثنِي عَطاء، وَفِي رِوَايَة أَحْمد بن صَالح الْآتِيَة عَن جَابر لم يقل: زعم.
قلت: دلّت هَذِه الرِّوَايَات أَن: زعم، هَهُنَا بِمَعْنى: قَالَ، كَمَا ذكره الْكرْمَانِي.
وَفِيه: أَن الْإِثْنَيْنِ الْأَوَّلين من الروَاة مصريان، وَالثَّالِث وَالرَّابِع مدنيان وَالْخَامِس مكي.

ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الِاعْتِصَام عَن عَليّ بن عبد الله وَعَن أَحْمد بن صَالح.
وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن أبي الطَّاهِر وحرملة بن يحيى.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْأَطْعِمَة عَن أَحْمد بن صَالح.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْوَلِيمَة عَن يُونُس بن عبد الْأَعْلَى.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أَو قَالَ: فليعتزل مَسْجِدنَا) شكّ من الرَّاوِي، وَهُوَ الزُّهْرِيّ، وَلم تخْتَلف الروَاة عَنهُ فِي ذَلِك.
قَوْله: (وليقعد) بواو الْعَطف، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: (أَو ليقعد) ، بِالشَّكِّ وَهُوَ أخص من الاعتزال، لِأَنَّهُ أَعم من أَن يكون فِي الْبَيْت أَو غَيره.
قَوْله: (وَأَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، عطف على الْإِسْنَاد الْمَذْكُور، وَالتَّقْدِير: وَحدثنَا سعيد بن عفير بِإِسْنَادِهِ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
.
فَيكون هَذَا حَدِيثا آخر،.

     وَقَالَ  بَعضهم: وَقد تردد البُخَارِيّ فِيهِ، هَل مَوْصُول أَو مُرْسل؟ قلت: على التَّقْدِير الَّذِي ذكرنَا لَا تردد فِيهِ أَنه مَوْصُول، لِأَن الْمَعْطُوف فِي حكم الْمَعْطُوف عَلَيْهِ.
قَوْله: (أُتِي بِقدر) ، بِكَسْر الْقَاف، وَهُوَ الْقدر الَّذِي يطْبخ فِيهِ الطَّعَام، وَيجوز فِيهِ التَّذْكِير والتأنيث.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: والتأنيث أشهر، لَكِن الضَّمِير فِي قَوْله: (فِيهِ خضرات) يعود إِلَى الطَّعَام الَّذِي فِي الْقدر، فالتقدير: أُتِي بِقدر من طَعَام فِيهِ خضرات، وَلِهَذَا لما أعَاد الضَّمِير على الْقدر أَعَادَهُ بالتأنيث حَيْثُ قَالَ: (فَأخْبر بِمَا فِيهَا) ، وَحَيْثُ قَالَ: (قربوها) انْتهى.
قلت: هَذَا تصرف فِيهِ تعسف فَلَا يحْتَاج إِلَى تَطْوِيل الْكَلَام، وَلما جَازَ فِي الْقدر التَّذْكِير والتأنيث أعَاد الضَّمِير إِلَيْهِ تَارَة بالتذكير وَتارَة بالتأنيث نظرا إِلَى جَوَاز الْوَجْهَيْنِ.
قَوْله: (خضرات) ، بِضَم الْخَاء وَفتح الضَّاد المعجمتين: جمع خضرَة، كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة غَيره بِفَتْح أَوله وَكسر ثَانِيه،.

     وَقَالَ  ابْن التِّين: روينَاهُ بِفَتْح الْخَاء وَكسر الضَّاد،.

     وَقَالَ  ابْن قرقول: ضَبطه الْأصيلِيّ بِضَم الْخَاء وَفتح الضَّاد، وَالْمَعْرُوف الأول.
قَوْله: (من يَقُول) كلمة: من، فِيهِ بَيَانِيَّة، وَيجوز أَن تكون للتَّبْعِيض.
قَوْله: (فَوجدَ) أَي: النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
قَوْله: (فَذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: فَأخْبر) على صِيغَة الْمَجْهُول أَي: أخبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَا فِي الْقدر.
قَوْله: (قربوها) الضَّمِير فِيهِ يجوز أَن يرجع إِلَى الخضرات، وَيجوز أَن يرجع إِلَى الْقدر، وَيجوز أَن يرجع إِلَى الْبُقُول.
قَوْله: (إِلَى بعض أَصْحَابه) .
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: هَذَا اللَّفْظ نقل بِالْمَعْنَى، إِذْ الرَّسُول، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لم يقل بِهَذِهِ الْعبارَة، بل قَالَ: قربوها إِلَى فلَان، مثلا أَو فِيهِ مَحْذُوف، أَي: قَالَ قربوها مُشِيرا أَو أَشَارَ إِلَى بعض أَصْحَابه.
انْتهى.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: وَالْمرَاد بِالْبَعْضِ أَبُو أَيُّوب الْأنْصَارِيّ فَفِي (صَحِيح مُسلم) من حَدِيث أبي أَيُّوب فِي قصَّة نزُول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (فَكَانَ يصنع للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم طَعَاما فَإِذا جِيءَ بِهِ إِلَيْهِ.
.
) أَي بعد أَن يَأْكُل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْهُ، (سَأَلَ عَن مَوضِع أَصَابِع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَصنعَ ذَلِك مرّة، فَقيل لَهُ: لم تَأْكُل،، وَكَانَ الطَّعَام فِيهِ ثوم، فَقَالَ: أحرام هُوَ يَا رَسُول الله؟ قَالَ: لَا وَلَكِن أكرهه) .
قلت: لَيْسَ فِيهِ دَلِيل على أَن المُرَاد من الْبَعْض أَبُو أَيُّوب، لمَ لَا يجوز أَن يكون غَيره من أَصْحَابه؟ بل الظَّاهِر أَنه غَيره، لِأَن رد طَعَامه إِلَيْهِ فِيهِ مَا فِيهِ.
فَإِن قلت: قَوْله: (كل) ، خطاب لأبي أَيُّوب، فَذا يدل على أَن المُرَاد من الْبَعْض أَبُو أَيُّوب.
قلت: لَا نسلم ذَلِك، لِأَنَّهُ يجوز أَن يَأْمر بالتقريب إِلَى غَيره، وَيَأْمُر بِالْأَكْلِ مَعَه.
على أَنه جَاءَ فِي حَدِيث أم أَيُّوب، (قَالَت: نزل علينا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فتكلفنا لَهُ طَعَاما فِيهِ بعض الْبُقُول) فَذكر الحَدِيث نَحوه.
.

     وَقَالَ  وَفِيه: (فَكُلُوا فَإِنِّي لست كَأحد مِنْكُم، أَخَاف أَن أوذي صَاحِبي) ، فههنا أَمر بِالْأَكْلِ للْجَمَاعَة، وَأَبُو أَيُّوب مِنْهُم، وَلَيْسَ بمتعين.
قَوْله: ((فَإِنِّي أُنَاجِي من لَا تناجي) أَي: الْمَلَائِكَة، ويوضح ذَلِك مَا رَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان من وَجه آخر: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أرسل إِلَيْهِ بِطَعَام من خضرات فِيهِ بصل أَو كراث، فَلم ير فِيهِ أثر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَأبى أَن يَأْكُل فَقَالَ لَهُ: مَا مَنعك؟ قَالَ: لم أر أثر يدك.
قَالَ: أستحي من مَلَائِكَة الله وَلَيْسَ بِمحرم) .

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: من ذَلِك أَن الْبَعْض اسْتدلَّ بِهِ على أَن إِقَامَة الْفَرْض بِالْجَمَاعَة لَيست بِفَرْض، لِأَن أكل الثوم وَنَحْوه جَائِز، وَمن لوازمه الشَّرْعِيَّة ترك الصَّلَاة بِالْجَمَاعَة، وَترك الْجَمَاعَة فِي حق آكله جَائِز، ولازم الْجَائِز جَائِز.
وَفِيه: مَا يدل على أَن أكل الثوم وَنَحْوه من الْأَعْذَار المرخصة فِي ترك حُضُور الْجَمَاعَة.
فَإِن قلت: لِمَ لَا يجوز أَن يكون النَّهْي خرج مخرج الزّجر عَن أكل هَذِه الْأَشْيَاء، فَلَا يَقْتَضِي ذَلِك أَن يكون عذرا فِي ترك الْجَمَاعَة إلاّ أَن تَدْعُو إِلَى أكلهَا ضَرُورَة، وَعَن هَذَا قَالَ الْخطابِيّ: توهم بَعضهم أَن أكل الثوم عذر فِي التَّخَلُّف عَن الْجَمَاعَة، وَإِنَّمَا هُوَ عُقُوبَة لَا يحكم على فَاعله إِذا حرم فضل الْجَمَاعَة.
قلت: قَوْله: صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (قربوها إِلَى بعض أَصْحَابه) يَنْفِي الزّجر.
فَإِن قلت: الزّجر مُتَأَخّر عَن الْأَمر بالتقريب بِمدَّة كَثِيرَة، لِأَن الْأَمر بالتقريب كَانَ حِين قدم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَدِينَة، وَمن جملَة أَحَادِيث الزّجر حَدِيث ابْن عمر، وَهُوَ كَانَ فِي غَزْوَة خَيْبَر فِي سنة سِتّ قلت: سلمنَا ذَلِك، وَلَكِن قَوْله: صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (وليقعد فِي بَيته) صَرِيح على أَن كل هَذِه الْأَشْيَاء عذر فِي التخليف عَن الْجَمَاعَة، وَأَيْضًا هَهُنَا عِلَّتَانِ: إِحْدَاهمَا: أَذَى الْمُسلمين.
وَالثَّانيَِة: أَذَى الْمَلَائِكَة، فبالنظر إِلَى الْعلَّة الأولى يعْذر فِي ترك الْجَمَاعَة وَحُضُور الْمَسْجِد، وبالنظر إِلَى الثَّانِيَة يعْذر فِي ترك حُضُور الْمَسْجِد، وَلَو كَانَ وَحده.
وَمِنْه: مَا اسْتدلَّ بِهِ الْمُهلب، وَهُوَ قَوْله: (فَإِنِّي أُنَاجِي من لَا تناجي) : على أَن الْمَلَائِكَة أفضل من الْبشر، وَلَيْسَ ذَلِك بِصَحِيح، لِأَنَّهُ لَا يلْزم من تَفْضِيل بعض أَفْرَاد الشَّيْء على بعضه تَفْضِيل الْجِنْس على الْجِنْس، وَقد علم فِي مَوْضِعه.
وَمِنْه: مَا اسْتدلَّ بِهِ بَعضهم على أَن أكل الثوم وَنَحْوه كَانَ حَرَامًا على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَيْسَ ذَلِك بِصَحِيح، لِأَن قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَدِيث أبي أَيُّوب الْمَذْكُور: (وَلَيْسَ بِمحرم) ، يدل بِعُمُومِهِ على عدم التَّحْرِيم مُطلقًا.

وَقَالَ أحْمَدُ بنُ صَالِحٍ عنِ ابنِ وَهْبٍ أُتِيَ بِبَدْرٍ قَالَ ابنُ وَهَبٍ يعْنِي طَبَقا فِيهِ خَضِرَات ٌ ولَمْ يَذْكُرُ اللَّيْثُ وأبُو صَفْوَان عنْ يُونُسَ قِصَّةَ القدْرِ فَلاَ أدْرِي هُوَ مِنْ قَوْلِ الزْهْرِيِّ أوْ فِي الحَدِيثَ
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن أَحْمد بن صَالح الْمصْرِيّ وَهُوَ أحد مشايخه، وَمن الْأَفْرَاد قد خَالف سعيد بن عفير شَيْخه الَّذِي روى عَنهُ الحَدِيث الْمَذْكُور فِي لَفظه: قدر، بِالْقَافِ حَيْثُ روى عَن عبد الله بن وهب،.

     وَقَالَ : أُتِي ببدر، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الدَّال وَفِي آخِره رَاء، ومخالفته إِيَّاه فِي هَذِه اللَّفْظَة فَقَط، وَوَافَقَهُ فِي بَقِيَّة الحَدِيث عَن ابْن وهب.

وَقد أخرجه البُخَارِيّ فِي الِاعْتِصَام.

     وَقَالَ : حَدثنَا أَحْمد بن صَالح، وَذكر قَول ابْن وهب يَعْنِي طبقًا فِيهِ خضرات وَكَذَا أخرجه أَبُو دَاوُد، وَلَكِن أخر تَفْسِير ابْن وهب، فَذكره بعد فرَاغ الحَدِيث.
.

     وَقَالَ : حَدثنَا أَحْمد بن صَالح، قَالَ: حَدثنَا ابْن وهب، قَالَ: أَخْبرنِي يُونُس عَن ابْن شهَاب، قَالَ: حَدثنِي عَطاء بن أبي رَبَاح أَن جَابر بن عبد الله، قَالَ: إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (من أكل ثوما أَو بصلاً فليعتزلنا، أَو فليعتزل مَسْجِدنَا، أَو ليقعد فِي بَيته، وَأَنه أَتَى ببدر فِيهِ خضرات من الْبُقُول فَوجدَ لَهَا ريحًا، فَسَأَلَ، فَأخْبر بِمَا فِيهَا من الْبُقُول، فَقَالَ: قربوها، إِلَى بعض أَصْحَابه كَانَ مَعَه، فَلَمَّا رَآهُ كره أكلهَا، قَالَ: فَإِنِّي أُنَاجِي من لَا تناجي) ، قَالَ أَحْمد ابْن صَالح: ببدر، وَفَسرهُ ابْن وهب: بطبق.
انْتهى.
وَرجح جمَاعَة من الشُّرَّاح رِوَايَة أَحْمد بن صَالح لكَون عبد الله بن وهب فسر الْبَدْر بالطبق، فَدلَّ على أَنه حدث بِهِ كَذَلِك، وَزعم بَعضهم أَن لَفْظَة: بِقدر، بِالْقَافِ تَصْحِيف، لِأَنَّهَا تشعر بالطبخ، وَقد ورد الْإِذْن بِأَكْل الْبُقُول مطبوخة، بِخِلَاف الطَّبَق فَظَاهره أَن الْبُقُول كَانَت فِيهِ نِيَّة.
قلت: أخرجه مُسلم عَن أبي الطَّاهِر وحرملة، كِلَاهُمَا عَن ابْن وهب، فَقَالَ: بِقدر، بِالْقَافِ وَالِاسْتِدْلَال على التَّصْحِيف بِلَفْظ: الطَّبَق، لَا يتم لِأَنَّهُ يُمكن أَن مَا كَانَ فِيهِ كَانَ مطبوخا، فَإِنَّهُ لَا مَانع من ذَلِك.
فَافْهَم.
وَسمي الطَّبَق بالبدر لاستدارته، تَشْبِيها بالقمر عِنْد كَمَاله.

قَوْله: (وَلم يذكر اللَّيْث وَأَبُو صَفْوَان عَن يُونُس قصَّة الْقدر) أَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن اللَّيْث بن سعد وَأَبا صَفْوَان عبد الله بن سعيد بن عبد الله بن مَرْوَان الْأمَوِي رويا هَذَا الحَدِيث عَن يُونُس بن يزِيد عَن عَطاء عَن جَابر، وَلم يذكرَا قصَّة الْقدر، وَأما رِوَايَة اللَّيْث فَإِن الذهلي وَصلهَا فِي (الزهريات) وَأما رِوَايَة أبي صَفْوَان فوصلها البُخَارِيّ فِي الْأَطْعِمَة عَن عَليّ بن الْمَدِينِيّ عَنهُ، واقتصرا على الحَدِيث الأول.
قَوْله: (وَلَا أَدْرِي) هُوَ من قَول الزُّهْرِيّ، أَو فِي الحَدِيث، أَشَارَ بِهَذَا الْكَلَام إِلَى أَن ذكر قصَّة الْقدر هَل هُوَ من قَول الزُّهْرِيّ، بِأَن يكون مدرجا؟ أَو هُوَ مَرْوِيّ فِي الحَدِيث الْمَذْكُور؟.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: لفظ: (لَا أَدْرِي) يحْتَمل أَن يكون قَول ابْن وهب أَو البُخَارِيّ أَو سعيد بن عفير شيخ البُخَارِيّ.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: هُوَ كَلَام البُخَارِيّ، وَوهم من زعم أَنه كَلَام أَحْمد بن صَالح.
قلت: إِن كَانَ مُرَاده من هَذَا الزاعم هُوَ الْكرْمَانِي فَلَيْسَ كَذَلِك، فَإِن الْكرْمَانِي ردد فِي القَوْل بَين الثَّلَاثَة الْمَذْكُورين، وَلم يذكر أَحْمد بن صَالح إلاّ عِنْد قَوْله: وَلم يذكر، قَالَ: وَلَعَلَّه قَول أَحْمد، وَإِن كَانَ مُرَاده غير الْكرْمَانِي من الشُّرَّاح فَهُوَ مَحل الِاحْتِمَال، وَلَيْسَ مَحل الزَّعْم.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: مَا معنى كَونه قَول الزُّهْرِيّ: أَو كَونه فِي الحَدِيث؟ قلت: مَعْنَاهُ أَن الزُّهْرِيّ نَقله مُرْسلا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلِهَذَا لم يروه يُونُس عَن اللَّيْث وَأبي صَفْوَان، أَو مُسْندًا كَمَا فِي الحَدِيث، وَلِهَذَا نَقله ابْن وهب عَن يُونُس عَن الزُّهْرِيّ.





[ قــ :83 ... غــ :856 ]
- حدَّثنا أبُو مَعْمَرٍ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الوَارِثِ عنْ عَبْدِ العَزِيزِ قَالَ سألَ رَجُلٌ أنسا مَا سَمِعْتَ نَبِيَّ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ فِي الثُّومِ فَقَالَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم منْ أكَلَ مِنْ هاذِهِ الشَّجَرَةِ فَلاَ يَقْرَبَنَّ أوْ لاَ يُصَلِّيَنَّ مَعَنَا.
( الحَدِيث 856 طرفه فِي: 5451) .


مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.

ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: أَبُو معمر، بِفَتْح الميمين: عبد الله بن عَمْرو بن أبي الْحجَّاج المقعد الْبَصْرِيّ.
الثَّانِي: عبد الْوَارِث بن سعيد الْعَنْبَري الْبَصْرِيّ.
الثَّالِث: عبد الْعَزِيز بن صُهَيْب الْبنانِيّ الْبَصْرِيّ.
الرَّابِع: أنس بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.

ذكر لطائف إِسْنَاده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين.
وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد.
وَفِيه: السُّؤَال.
وَفِيه: القَوْل فِي خَمْسَة مَوَاضِع.
وَفِيه: أَن رِجَاله كلهم بصريون.
وَفِيه: ذكر رجل لم يعرف اسْمه.

وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَطْعِمَة عَن مُسَدّد.
وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن شَيبَان.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: ( مَا سَمِعت؟) بِلَفْظ الْخطاب، وَكلمَة: مَا، استفهامية.
قَوْله: ( يَقُول فِي الثوم) ويروى: ( يذكر فِي الثوم) .
قَوْله: ( هَذِه الشَّجَرَة) ، قد ذكرنَا وَجه إِطْلَاق الشَّجَرَة على الثوم.
قَوْله: ( فَلَا يقربن) ، بِفَتْح الرَّاء وَالْبَاء الْمُوَحدَة وبنون التَّأْكِيد الْمُشَدّدَة.
قَوْله: ( وَلَا يصلين) ، عطف عَلَيْهِ بنُون التَّأْكِيد الْمُشَدّدَة أَيْضا.
قَوْله: ( مَعنا) ، بِسُكُون الْعين وَفتحهَا، وَمَعْنَاهُ مصاحبا لنا.

وَيُسْتَفَاد مِنْهُ: أَن آكل الثوم لَا يقرب أحدا حَتَّى لَا يتَأَذَّى برائحته، سَوَاء فِي الصَّلَاة أَو خَارِجهَا.
وَيُسْتَفَاد من قَوْله: ( وَلَا يصلين مَعنا) جَوَاز ترك الْجَمَاعَة فِي الْمَسْجِد وَغَيره، وَلَيْسَ فِيهِ تَقْيِيد النَّهْي بِالْمَسْجِدِ، وَلَا تَخْصِيص مَسْجِد النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بذلك.