فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب رثاء النبي صلى الله عليه وسلم سعد ابن خولة

( بابٌُ رَثَا النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَعْدَ بنَ خَوْلَةَ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان رثاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
الرثاء، بِكَسْر الرَّاء وَتَخْفِيف الثَّاء الْمُثَلَّثَة ممدودا: من رثيت الْمَيِّت مرثية إِذا عددت محاسنه، ورثأت، بِالْهَمْزَةِ: لُغَة فِيهِ.
ويروى: بابُُ رثى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، سعد بن خَوْلَة، بِلَفْظ الْمَاضِي، فعلى هَذَا لفظ: بابُُ، منون مَقْطُوع عَن الْإِضَافَة، ويروى: بابُُ رثى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِالْقصرِ، و: سعد بن خَوْلَة مَنْصُوب على كل حَال على المفعولية، وَفِي الْوَجْهَيْنِ: الْمصدر مُضَاف إِلَى فَاعله، وَهُوَ لفظ النَّبِي مجرور بِالْإِضَافَة.
وَفِي الْوَجْه الثَّالِث، وَهُوَ كَونه مَاضِيا، يكون لفظ النَّبِي مَرْفُوعا على الفاعلية، وَذكر الْكرْمَانِي وَجها آخر: وَهُوَ أَن تكون الرَّاء مَفْتُوحَة والثاء سَاكِنة وَفِي آخِره يَاء، مصدر من رثى يرثي رثيا.
فَإِن قلت: روى أَحْمد وَابْن مَاجَه من حَدِيث عبد الله بن أبي أوفى، قَالَ: ( نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن المراثي) ، وَصَححهُ الْحَاكِم فَإِذا نهي عَنهُ كَيفَ يَفْعَله؟ قلت: لَيْسَ مُرَاده من هَذِه التَّرْجَمَة أَنه من بابُُ المراثي وَإِنَّمَا هُوَ إشفاق من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من موت سعد بن خَوْلَة بِمَكَّة بعد هجرته مِنْهَا، فَكَأَنَّهُ توجع عَلَيْهِ وتحزن من ذَلِك، وَهَذَا مثل قَول الْقَائِل للحي: أَنا أرثي لَك مِمَّا يجْرِي عَلَيْك كَأَنَّهُ يتحزن لَهُ، وَأَيْضًا فقد ذكر الْقُرْطُبِيّ أَن الَّذِي قَالَ يرثى لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غير النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذَا ظَاهره، وَقيل: هُوَ من قَول سعد بن أبي وَقاص: جَاءَ ذَلِك فِي بعض طرقه، وَأكْثر النَّاس أَن ذَلِك من قَول الزُّهْرِيّ، وَسعد بن خَوْلَة، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْوَاو: من بني عَامر بن لؤَي، وَقيل: حَلِيف لَهُم، وَقيل: مولى ابْن أبي رهم العامري من السَّابِقين، بَدْرِي توفّي عَن سبيعة الأسْلَمِيَّة سنة عشر بِمَكَّة.



[ قــ :1247 ... غــ :1295 ]
- حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ عامِرِ بنِ سَعْدِ بنِ أبِي وَقَّاصٍ عنْ أبِيهِ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ كانَ رَسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَعُودُنِي عامَ حَجَّةِ الوَدَاعِ مِنْ وَجَعٍ اشْتَدَّ بِي فَقُلْتُ إنِّي قَدْ بَلَغَ بِي مِنَ الوَجَعِ وَأنا ذُو مَال وَلاَ يَرِثُنِي إلاَّ ابْنَةٌ أفأتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي قالَ لاَ فَقُلْتُ بِالشَّطْرِ فَقالَ لاَ ثُمَّ قَالَ الثُّلُثُ وَالثّلُثُ كَبِيرٌ أوْ كَثِيرٌ إنَّكَ أنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أنْ تَذَرَهُمْ عالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ وَإنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقةً تَبْتَغِي وَجْهَ الله إلاَّ أُجِرْتَ بِهَاحَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأتِكَ فَقُلْتُ يَا رَسولَ الله أُخَلَّفُ بَعْدَ أصْحَابِي.
قالَ إنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعْمَلَ عَمَلاً صالِحا إلاَّ ازْدَدْتَ بِهِ دَرَجَةً وَرِفْعَةً ثُمَّ لَعَلَّكَ أنْ تُخَلَّفَ حَتَّى يَنْتَفِعَ بِكَ أقْوَامٌ وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ اللَّهُمَّ أمْضِ لأِصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ وَلاَ تَرُدُّهُمْ عَلَى أعْقَابِهِم لاكِنِ البَائِسُ سَعْدُ بنُ خَوْلَةَ يَرْثِي لَهُ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنْ مَات بِمَكَّةَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( لَكِن البائس سعد بن خَوْلَة.
.
)
إِلَى آخِره، هَذَا التطابق إِنَّمَا يُوجد إِذا كَانَ الَّذِي يرثي سعد ابْن خَوْلَة هُوَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَإِمَّا إِذا كَانَ غَيره، كَمَا ذكرنَا، فَلَا تطابق إلاَّ إِذا قُلْنَا: إِنَّه من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَن الْمَعْنى: هُوَ الاشفاق والتوجع وَإِظْهَار التحزن كَمَا ذكرنَا.

وَرِجَال الحَدِيث قد تكَرر ذكرهم وَابْن شهَاب هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ، وعامد وَسعد تقدما فِي بابُُ إِذا لم يكن الْإِسْلَام على الْحَقِيقَة.

ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ فِي عشرَة مَوَاضِع: فِي الْمَغَازِي عَن أَحْمد بن يُونُس، وَفِي الدَّعْوَات عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل، وَفِي الْهِجْرَة عَن يحيى بن قزعة، وَفِي الطِّبّ عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل، وَفِي الْفَرَائِض عَن أبي الْيَمَان، وَفِي الْوَصَايَا عَن أبي نعيم، وَفِي النَّفَقَات عَن مُحَمَّد بن كثير، وَفِي الْوَصَايَا أَيْضا عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحِيم عَن زَكَرِيَّا بن عدي، وَفِي الطِّبّ أَيْضا عَن مكي بن إِبْرَاهِيم.
وَأخرجه مُسلم فِي الْوَصَايَا عَن يحيى بن يحيى وَعَن قُتَيْبَة وَأبي بكر بن أبي شيبَة وَعَن أبي الطَّاهِر بن السَّرْح وحرملة بن يحيى وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعبد بن حميد.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن يحيى.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عَمْرو بن عُثْمَان وَفِي عشرَة النِّسَاء عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَفِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَن مُحَمَّد بن سَلمَة.
وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْوَصَايَا أَيْضا عَن هِشَام بن عمار وَالْحسن بن أبي الْحسن الْمروزِي وَسَهل بن أبي سهل الرَّازِيّ، ثَلَاثَتهمْ عَن سُفْيَان بِهِ.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: ( يعودنِي) من العيادة وَهِي الزِّيَارَة.
وَلَا يُقَال ذَلِك إلاَّ لزيارة الْمَرِيض.
قَوْله: ( عَام حجَّة الْوَدَاع) ، نصب على الظّرْف، وَهِي السّنة الْعَاشِرَة من الْهِجْرَة، وَسميت حجَّة الْوَدَاع لِأَنَّهُ ودعهم فِيهَا.
وَسمي أَيْضا الْبَلَاغ، لِأَنَّهُ قَالَ: هَل بلغت؟ وَحجَّة الْإِسْلَام: لِأَنَّهَا الْحجَّة الَّتِي فِيهَا حج الْإِسْلَام لَيْسَ فِيهَا مُشْرك، هَذَا قَول الزُّهْرِيّ.
.

     وَقَالَ  سُفْيَان بن عُيَيْنَة: كَانَ ذَلِك يَوْم فتح مَكَّة حِين عَاد، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، سَعْدا.
وَهُوَ من أَفْرَاده.
.

     وَقَالَ  الْبَيْهَقِيّ: خَالف سُفْيَان الْجَمَاعَة، فَقَالَ: عَام الْفَتْح، وَالصَّحِيح فِي حجَّة الْوَدَاع.
قَوْله: ( من وجع) ، الوجع اسْم لكل مرض.
قَالَ الْجَوْهَرِي: الوجع الْمَرَض، وَالْجمع: أوجاع ووجاع، مثل جبل وأجبال وجبال، ووجع فلَان يوجع وييجع ويأجع فَهُوَ وجع، وَقوم وجعون ووجعى، مثل: مرضى ووجاعى، وَنسَاء وجاعى أَيْضا ووجعات، وَبَنُو أَسد يَقُولُونَ: ييجع، بِكَسْر الْيَاء.
قَوْله: ( اشْتَدَّ بِي) أَي: قوي عَليّ.
قَوْله: ( قد بلغ بِي) أَي: بلغ أثر الوجع فِي، وَوصل غَايَته وَفِي رِوَايَة: ( أشفيت مِنْهُ على الْمَوْت) أَي: قاربت، وَلَا يُقَال: أشفى، إلاَّ فِي الشَّرّ، بِخِلَاف أشرف، وقارب.
قَوْله: ( وَلَا ترثني إلاَّ ابْنة) اسْمهَا: عَائِشَة، كَذَا ذكرهَا الْخَطِيب وَغَيره، وَلَيْسَت بِالَّتِي روى عَنْهَا مَالك، تيك أُخْت هَذِه، وَهِي تابعية وَعَائِشَة لَهَا صُحْبَة، وَكَانَ قد زعم بعض من لَا علم عِنْده أَن مَالِكًا تَابِعِيّ بروايته عَنْهَا، وَلَيْسَ كَذَلِك.
وَقَوله: ( إلاَّ ابْنة لي) أَي: من الْوَلَد وخواص الْوَرَثَة، وإلاَّ فقد كَانَ لَهُ عصبَة.
وَقيل: مَعْنَاهُ لَا يَرِثنِي من أَصْحَاب الْفُرُوض سواهَا.
وَقيل: من النِّسَاء، وَهَذَا قَالَه قبل أَن يُولد لَهُ الذُّكُور.
قَوْله: ( أفأتصدق بِثُلثي مَالِي؟) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام على سَبِيل الاستخبار، وَيحْتَمل أَن يُرِيد بِهِ مُنجزا أَو مُعَلّقا، بِمَا بعد الْمَوْت، وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ تَأتي ( أفأوصى) يدل: ( أفأتصدق؟) .
قَوْله: ( قَالَ: لَا) أَي: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا تَتَصَدَّق بالثلثين.
قَوْله: ( فَقلت: بالشطر؟) أَي: اتصدق بالشطر.
أَي: بِالنِّصْفِ؟ بِدَلِيل رِوَايَة أُخْرَى للْبُخَارِيّ تَأتي: ( فأوصي بِالنِّصْفِ) ويروى: ( فَالشَّطْر؟) بِالْفَاءِ وَرفع الشّطْر.
فَإِن قلت: بِمَاذَا ارْتِفَاع: فَالشَّطْر؟ قلت: مَرْفُوع على الِابْتِدَاء، وَخَبره مَحْذُوف، تَقْدِيره: فَالشَّطْر أَتصدق بِهِ.
قَوْله: ( ثمَّ قَالَ: الثُّلُث، وَالثلث) يجوز فِي الثُّلُث الأول النصب وَالرَّفْع، فالنصب على الإغراء أَو على تَقْدِير: أعْط الثُّلُث وَالرَّفْع، على أَنه فَاعل، أَي: يَكْفِيك الثُّلُث، أَو على أَنه مُبْتَدأ مَحْذُوف الْخَبَر أَو عَكسه.
وَالثلث الثَّانِي: مُبْتَدأ، و: كثير، خَبره، وَهُوَ: بالثاء الْمُثَلَّثَة وَقَوله: كَبِير، بِالْبَاء الْمُوَحدَة.
قَوْله: ( إِنَّك إِن تذر) أَي: إِن تتْرك، وَهَذَا من الَّذِي أميت ماضيه.
قَالَ عِيَاض: روينَاهُ بِفَتْح الْهمزَة وَكسرهَا.
وَكِلَاهُمَا صَحِيح،.

     وَقَالَ  ابْن الْجَوْزِيّ: سمعناه من رُوَاة الحَدِيث بِكَسْر: إِن،.

     وَقَالَ  لنا عبد الله بن أَحْمد النَّحْوِيّ: إِنَّمَا هُوَ بِفَتْح الْألف، وَلَا يجوز الْكسر، لِأَنَّهُ لَا جَوَاب لَهُ.
.

     وَقَالَ  الْقُرْطُبِيّ: روايتنا بِفَتْح الْهمزَة، وَقد وهم من كسرهَا بَين أَن جعلهَا شرطا لَا جَوَاب لَهُ، أَو يبْقى خَبرا إِلَّا رَافع لَهُ.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: وَلَا يَصح كسرهَا لِأَنَّهَا تكون شَرْطِيَّة، وَالشّرط لما يسْتَقْبل وَهُوَ فقد كَانَ فَاتَ.
انْتهى.
قلت: التَّحْقِيق فِيهِ مَا قَالَه ابْن مَالك: إِن الأَصْل: إِن تركت وَرثتك أَغْنِيَاء فَهُوَ خير لَك، فَحذف الْفَاء، والمبتدأ وَنَظِيره قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأبي بن كَعْب: ( فَإِن جَاءَ صَاحبهَا وإلاَّ فاستمتع بهَا) .
وَقَوله: لهِلَال بن أُميَّة: ( الْبَيِّنَة وإلاَّ حدٌّ فِي ظهرك) ، وَذَلِكَ مِمَّا زعم النحويون أَنه مَخْصُوص بِالضَّرُورَةِ، وَلَيْسَ مَخْصُوصًا بهَا، بل يكثر اسْتِعْمَاله فِي الشّعْر ويقل فِي غَيره.
وَمن خص هَذَا الْحَذف بالشعر حاد عَن الطَّرِيق وضيق حَيْثُ لَا تضييق.
قَوْله: ( عَالَة) أَي: فُقَرَاء،.

     وَقَالَ  ابْن التِّين: العالة، جمع عائل، وَقيل: العائل الْكثير الْعِيَال، حَكَاهُ الْكسَائي وَلَيْسَ بِمَعْرُوف، بل العائل الْفَقِير.
وَقيل: العيل والعالة الْفقر.
قَوْله: ( يَتَكَفَّفُونَ النَّاس) أَي: يطْلبُونَ الصَّدَقَة من أكف النَّاس وَقيل: يَسْأَلُونَهُمْ بأكفهم.
قَوْله: ( وَإنَّك لن تنْفق) عطف على قَوْله: ( إِنَّك إِن تذر) ، وَهُوَ عِلّة للنَّهْي عَن الْوَصِيَّة بِأَكْثَرَ من الثُّلُث، كَأَنَّهُ قيل: لَا تفعل لِأَنَّك إِن مت وَتَذَر وَرثتك أَغْنِيَاء خير من أَن تذرهم فُقَرَاء فَإِن عِشْت تَصَدَّقت بِمَا بَقِي من الثُّلُث وأنفقت على عِيَالك يكن خير لَك.
قَوْله: ( إلاَّ أجرت) على صِيغَة الْمَجْهُول.
قَوْله: ( بهَا) ، أَي: بِتِلْكَ النَّفَقَة.
قَوْله: ( حَتَّى مَا تجْعَل) أَي: الَّذِي تَجْعَلهُ.
قَالَ ابْن بطال: تجْعَل، بِرَفْع اللَّام، و: مَا، كَافَّة كفت: حَتَّى عَن عَملهَا.
قَوْله: ( فِي فِي امْرَأَتك) أَي: فِي فَم امْرَأَتك، وأصل فَم: فوه، لِأَن الْجمع: أَفْوَاه، وَعند الْإِفْرَاد لَا يحْتَمل الْوَاو التَّنْوِين فحذفوها وعوضوا من الْهَاء ميما، وَقَالُوا: هَذَا فَم وفمان وفموان، وَلَو كَانَ الْمِيم عوضا من الْوَاو لما اجْتمعَا.
قَوْله: ( أخلف) على صِيغَة الْمَجْهُول، يَعْنِي أخلف فِي مَكَّة بعد أَصْحَابِي الْمُهَاجِرين المنصرفين مَعَك؟ قَالَ أَبُو عمر: يحْتَمل أَن يكون لما سمع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: إِنَّك لن تنْفق نَفَقَة، وتنفق فعل مُسْتَقْبل، أَيقَن أَنه لَا يَمُوت من مَرضه ذَلِك.
أَو أَظن ذَلِك فاستفهمه: هَل يبْقى بعد أَصْحَابه؟ فَأَجَابَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِضَرْب من قَوْله: ( لن تنْفق نَفَقَة تبتغي بهَا وَجه الله) .
وَهُوَ قَوْله: ( إِنَّك لن تخلف فتعمل عملا صَالحا إلاَّ ازددت بِهِ رفْعَة ودرجة) ،.

     وَقَالَ  الْقُرْطُبِيّ: هَذَا الِاسْتِفْهَام إِنَّمَا صدر من سعد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مَخَافَة الْمقَام بِمَكَّة إِلَى الْوَفَاة، فَيكون قادحا فِي هجرته، كَمَا نَص عَلَيْهِ فِي بعض الرِّوَايَات، إِذْ قَالَ: ( خشيت أَن أَمُوت بِالْأَرْضِ الَّتِي هَاجَرت مِنْهَا) .
فَأَجَابَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَن ذَلِك لَا يكون وَإنَّهُ يطول عمره.

     وَقَالَ  عِيَاض كَانَ حكم الْهِجْرَة بَاقِيا بعد الْفَتْح بِهَذَا الحَدِيث وَقيل إِنَّمَا كَانَ ذَلِك لمن هَاجر قبل الْفَتْح، فَأَما من هَاجر بعده فَلَا.
قَوْله: ( إلاَّ ازددت بِهِ) أَي: بِالْعَمَلِ الصَّالح.
قَوْله: ( ثمَّ لَعَلَّك أَن تخلف) المُرَاد بتخلفه طول عمره، وَكَانَ كَذَلِك عَاشَ زِيَادَة على أَرْبَعِينَ سنة، فَانْتَفع بِهِ قوم وتضرر بِهِ آخَرُونَ.
.

     وَقَالَ  ابْن بطال: لما أَمر سعد على الْعرَاق أَتَى بِقوم ارْتَدُّوا فاستتابهم فَتَابَ بَعضهم وأصر بَعضهم فَقَتلهُمْ، فَانْتَفع بِهِ من تَابَ وتضرر بِهِ الْآخرُونَ، وَحكى الطَّحَاوِيّ هَذَا عَن بكير بن الْأَشَج عَن أَبِيه عَن عَامر أَنه سَأَلَهُ عَن معنى قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَلِك القَوْل، وَأَن الْمُرْتَدين كَانُوا يسجعون سجعة مُسَيْلمَة، قَالَ الطَّحَاوِيّ: وَمثل هَذَا لم يقلهُ عَامر استنباطا، وَإِنَّمَا هُوَ تَوْقِيف إِمَّا أَن يكون سَمعه من أَبِيه أَو مِمَّن يصلح لَهُ أَخذ ذَلِك عَنهُ، وَاعْلَم أَن كلمة: لَعَلَّ، مَعْنَاهَا للترجي إلاَّ إِذا وَردت عَن الله أَو رَسُوله أَو أوليائه، فَإِن مَعْنَاهَا التَّحْقِيق.
قَوْله: ( اللَّهُمَّ أمض) بِقطع الْهمزَة، يُقَال: أمضيت الْأَمر أَي أنفذته أَي: تممها لَهُم وَلَا تنقصها عَلَيْهِم فيرجعون إِلَى الْمَدِينَة.
قَوْله: ( وَلَا تردهم على أَعْقَابهم) أَي: بترك هجرتهم ورجوعهم عَن مُسْتَقِيم حالم المرضية، فيخيب قصدهم ويسوء حَالهم.
وَيُقَال لكل من رَجَعَ إِلَى حَال دون مَا كَانَ عَلَيْهِ: رَجَعَ على عقبه، وحار.
وَمِنْه الحَدِيث: ( أعوذ بك من الْحور بعد الكور) ، أَي من النُّقْصَان بعد الزِّيَادَة.
قَوْله: ( لَكِن البائس) بِالْبَاء الْمُوَحدَة، وَفِي آخِره سين مُهْملَة، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ أثر الْبُؤْس.
أَي: الْفقر والعيلة،.

     وَقَالَ  الْأصيلِيّ: البائس الَّذِي ناله الْبُؤْس، وَقد يكون بِمَعْنى مفعول، كَقَوْلِه: { عيشة راضية} ( الحاقة: 12، القارعة: 7) .
أَي: مرضية.
قَوْله: ( سعد بن خَوْلَة) ، مَرْفُوع لِأَنَّهُ خبر لقَوْله: ( البائس) ، وَعَامة المؤرخين يَقُولُونَ: ابْن خَوْلَة، إلاَّ أَبَا معشر، فَإِنَّهُ يَقُول: ابْن خولى،.

     وَقَالَ  ابْن التِّين: خَوْلَة، سَاكِنة الْوَاو عِنْد أهل اللُّغَة والعربية، وَكَذَا رَوَاهُ بَعضهم.
وَقل الشَّيْخ أَبُو الْحسن: مَا سمعنَا قطّ أحدا قَرَأَهُ إِلَّا بِفَتْحِهَا، والمحدثون على ذَلِك، قيل: إِنَّه أسلم وَلم يُهَاجر من مَكَّة حَتَّى مَاتَ بهَا، وَذكره البُخَارِيّ فِيمَن هَاجر وَشهد بَدْرًا وَغَيرهَا، وَتُوفِّي بِمَكَّة فِي حجَّة الْوَدَاع كَمَا ذَكرْنَاهُ.
قَوْله: ( يرثي لَهُ) أَي: يرق لَهُ ويترحم عَلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
قَوْله: ( إِن مَاتَ) ، بِفَتْح الْهمزَة أَي: لِأَنَّهُ مَاتَ بِالْأَرْضِ الَّتِي هَاجر مِنْهَا، وَهَذَا كَلَام سعد ابْن أبي وَقاص، صرح بِهِ البُخَارِيّ فِي كتاب الدَّعْوَات.
.

     وَقَالَ  ابْن بطال: وَأما: ( يرثي لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) فَهُوَ من كَلَام الزُّهْرِيّ، وَهُوَ تَفْسِير لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( لَكِن البائس سعد بن خَوْلَة) ، أَي: رثي لَهُ حِين مَاتَ بِمَكَّة، وَكَانَ يهوى أَن يَمُوت بغَيْرهَا.

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: قَالَ أَبُو عمر: هَذَا حَدِيث اتّفق أهل الْعلم على صِحَة سَنَده، وَجعله جُمْهُور الْفُقَهَاء أصلا فِي مِقْدَار الْوَصِيَّة وَأَنه لَا يتَجَاوَز بهَا الثُّلُث، إلاَّ أَن فِي بعض أَلْفَاظه اخْتِلَافا عِنْد نقلته، فَمن ذَلِك ابْن عُيَيْنَة، قَالَ فِيهِ عَن الزُّهْرِيّ: عَام الْفَتْح، انْفَرد بذلك عَن ابْن شهَاب فِيمَا علمت، وَقد روينَا هَذَا الحَدِيث من طَرِيق معمر وَيُونُس بن يزِيد وَعبد الْعَزِيز ابْن أبي سَلمَة وَيحيى ابْن سعيد الْأنْصَارِيّ وَابْن أبي عَتيق وَإِبْرَاهِيم بن سعد، فكلهم قَالَ: عَن ابْن شهَاب: عَام حجَّة الْوَدَاع، كَمَا قَالَ مَالك، وَكَذَلِكَ قَالَ شُعَيْب، قَالَ ابْن الْمُنْذر: الَّذين قَالُوا: حجَّة الْوَدَاع، أصوب.
قَالَ أَبُو عمر: وَكَذَا رَوَاهُ عَفَّان بن مُسلم عَن وهيب بن خَالِد عَن عبد الله بن عُثْمَان عَن عمرٍ وبن القاريء ( أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قدم مَكَّة عَام الْفَتْح فخلف سَعْدا مَرِيضا حَتَّى خرج إِلَى جَنِين، فَلَمَّا قدم من الْجِعِرَّانَة مُعْتَمِرًا دخل عَلَيْهِ وَهُوَ وجع مغلوب، فَقَالَ سعد: يَا رَسُول الله إِن لي مَالا ... .
)
الحَدِيث، وَالْعَمَل على هَذَا الحَدِيث أَن أهل الْعلم لَا يرَوْنَ أَن يُوصي الرجل بِأَكْثَرَ من الثُّلُث، ويستحبون أَن ينقص من الثُّلُث.
.

     وَقَالَ  الثَّوْريّ: كَانُوا يستحبون فِي الْوَصِيَّة الْخمس بعد الرّبع، وَالرّبع دون الثُّلُث، فَمن أوصى بِالثُّلثِ فَلم يتْرك شَيْئا، فَلَا يجوز لَهُ إلاَّ الثُّلُث، وَأجْمع عُلَمَاء الْمُسلمين على أَنه لَا يجوز لأحد أَن يُوصي بِأَكْثَرَ من ثلثه إِذا ترك وَرَثَة من بَنِينَ وعصبة، وَاخْتلفُوا إِذا لم يتركهما وَلَا وَارِثا بِنسَب أَو نِكَاح، فَقَالَ ابْن مَسْعُود: إِذا كَانَ كَذَلِك جَازَ لَهُ أَن يُوصي بِمَالِه كُله، وَعَن أبي مُوسَى مثله،.

     وَقَالَ  بقولهمَا قوم، مِنْهُم: مَسْرُوق وَعبيدَة وَإِسْحَاق، وَاخْتلف فِي ذَلِك قَول أَحْمد، وَذهب إِلَيْهِ جمَاعَة من الْمُتَأَخِّرين مِمَّن لَا يَقُول بقول زيد بن ثَابت فِي هَذِه الْمَسْأَلَة.
وَعَن عُبَيْدَة: إِذا مَاتَ الرجل وَلَيْسَ عَلَيْهِ عقد لأحد وَلَا عصبَة تَرثه فَإِنَّهُ يُوصي بِمَالِه كُله حَيْثُ شَاءَ.
وَعَن مَسْرُوق وَشريك، مثله.
وَعَن الْحسن وَأبي الْعَالِيَة مثله، ذكره فِي ( المُصَنّف) قَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَإِلَيْهِ ذهب أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه وَأحمد وَإِسْحَاق وَمَالك فِي أحد قوليهما.
.

     وَقَالَ  زيد بن ثَابت: لَا يجوز لأحد إِن يُوصي بِأَكْثَرَ من ثلثه إِذا كَانَ لَهُ بنُون أَو وَرَثَة كَلَالَة أَو ورث جمَاعَة الْمُسلمين، لِأَن بَيت مَا لَهُم عصبَة من لَا عصبَة لَهُ، وَإِلَيْهِ ذهب جمَاعَة.
وَأجْمع فُقَهَاء الْأَمْصَار أَن الْوَصِيَّة بِأَكْثَرَ من الثُّلُث إِذا أجازها الْوَرَثَة جَازَت، وَإِن لم تجزها الْوَرَثَة لم يجز مِنْهَا إلاَّ الثُّلُث.
وأبى ذَلِك أهل الظَّاهِر فمنعوها وَإِن أجازتها الْوَرَثَة، وَهُوَ قَول عبد الرَّحْمَن بن كيسَان، وَكَذَلِكَ قَالُوا: إِن الْوَصِيَّة للْوَارِث لَا تجوز، وَإِن أجازها الْوَرَثَة لحَدِيث: ( لَا وَصِيَّة لوَارث) ، وَسَائِر الْفُقَهَاء يجيزون ذَلِك إِذا أجازها الْوَرَثَة، ويجعلونها هبة.
وَفِي الحَدِيث دلَالَة على أَن الثُّلُث هُوَ الْغَايَة تَنْتَهِي إِلَيْهَا الْوَصِيَّة، وَإِن التَّقْصِير عَنهُ أفضل.

وَكره جمَاعَة من أهل الْعلم الْوَصِيَّة بِجَمِيعِ الثُّلُث.
قَالَ طَاوُوس: إِذا كَانَت ورثته قَلِيلا وَمَاله كثيرا فَلَا بَأْس إِن يبلغ الثُّلُث، وَاسْتحبَّ طَائِفَة الْوَصِيَّة بِالربعِ، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن ابْن عَبَّاس.
.

     وَقَالَ  إِسْحَاق: السّنة الرّبع، لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( الثُّلُث كثير) إلاَّ أَن يكون رجل يعرف فِي مَاله شُبْهَة، فَيجوز لَهُ الثُّلُث.
قَالَ أَبُو عمر: لَا أعلم لإسحاق حجَّة فِي قَوْله: السّنة الرّبع،.

     وَقَالَ  ابْن بطال: أوصى عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بِالربعِ.
وَاخْتَارَ آخَرُونَ السُّدس،.

     وَقَالَ  إِبْرَاهِيم: كَانُوا يكْرهُونَ أَن يوصوا بِمثل نصيب أحد الْوَرَثَة حَتَّى يكون أقل، رَوَاهُ عَنهُ ابْن أبي شيبَة بِسَنَد صَحِيح، وَكَانَ السُّدس أحب إِلَيْهِ من الثُّلُث.
وَأوصى أنس، فِيمَا ذكره فِي ( المُصَنّف) من حَدِيث عبَادَة الصيدلاني عَن ثَابت عَنهُ، بِمثل نصيب أحد وَلَده، وَأَجَازَ آخَرُونَ الْعشْر، وَعَن أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه يفضل الْوَصِيَّة بالخمس، وَبِذَلِك أوصى،.

     وَقَالَ : رضيت لنَفْسي مَا رَضِي الله لنَفسِهِ: يَعْنِي خمس الْغَنِيمَة.

وَاسْتحبَّ جمَاعَة الْوَصِيَّة بِالثُّلثِ محتجين بِحَدِيث الْبابُُ، وَبِحَدِيث ضَعِيف رَوَاهُ ابْن وهب عَن طَلْحَة بن عَمْرو، وَتفرد بِذكرِهِ مَعَ ضعفه عَن عَطاء عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( جعل الله لكم فِي الْوَصِيَّة ثلث أَمْوَالكُم زِيَادَة فِي أَعمالكُم) .
وَفِيه جَوَاز ذكر الْمَرِيض مَا يجده لغَرَض صَحِيح من مداواة أَو دُعَاء أَو وَصِيَّة أَو نَحْو ذَلِك، وَإِنَّمَا يكره من ذَلِك مَا كَانَ على سَبِيل التسخط وَنَحْوه، فَإِنَّهُ قَادِح فِي أجر مَرضه.

وَفِيه: فِي قَوْله: ( أفأتصدق مَالِي كُله؟) فِي رِوَايَة إِن صحت حجَّة قَاطِعَة لما ذهب إِلَيْهِ جُمْهُور أهل الْعلم فِي هبات الْمَرِيض وصدقته وعتقه، أَن ذَلِك من ثلثه لَا من جَمِيع مَاله، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَأَصْحَابه وَمَالك وَاللَّيْث وَالْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْري وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَعَامة أهل الحَدِيث والرأي، محتجين بِحَدِيث عمرَان بن حُصَيْن فِي الَّذِي اعْتِقْ سِتَّة أعبد، فِي مَرضه وَلَا مَال لَهُ غَيرهم، ثمَّ توفّي فَأعتق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْهُم اثْنَيْنِ وأرق أَرْبَعَة،.

     وَقَالَ ت فرقة من أهل النّظر وَأهل الظَّاهِر، فِي هبة الْمَرِيض؛ إِنَّهَا من جَمِيع المَال،.

     وَقَالَ  ابْن بطال: هَذَا القَوْل لَا نعلم أحدا من الْمُتَقَدِّمين قَالَ بِهِ،.

     وَقَالَ  أَبُو عمر: قد قَالَ بعض أهل الْعلم إِن عَامر بن سعد هُوَ الَّذِي قَالَ فِي حَدِيث سعد: ( أفأتصدق) وَأما مُصعب بن سعد فَإِنَّمَا قَالَ: أفأوصي، وَلم يقل: أفأتصدق، قَالَ أَبُو عَمْرو: الَّذِي أقوله أَن ابْن شهَاب رَوَاهُ عَن سعد، فَقَالَ: أفأوصي؟ كَمَا قَالَ مُصعب وَهُوَ الصَّحِيح إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَقد روى شُعْبَة وَالثَّوْري عَن سعد بن إِبْرَاهِيم عَن عَامر عَن سعد: أفأوصي بِمَالي كُله؟ وَكَذَا روى عبد الْملك بن عُمَيْر عَن مُصعب.

وَفِيه: اسْتِحْبابُُ عِيَادَة الْمَرِيض للْإِمَام وَغَيره.
إِبَاحَة جمع المَال وَأَنه لَا عيب فِي ذَلِك كَمَا يَدعِيهِ بعض المتصوفة.
وَفِيه: الْحَث على صلَة الرَّحِم وَالْإِحْسَان إِلَى الْأَقَارِب واستحبابُ الْإِنْفَاق فِي وُجُوه الْخَيْر، وَأَن الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ وَأَن الْمُبَاح إِذا قصد بِهِ وَجه الله صَار طَاعَة، ويثاب بِهِ، وَقد نبه عَلَيْهِ بِأَحْسَن الحظوظ الدُّنْيَوِيَّة الَّتِي تكون فِي الْعَادة عِنْد المداعبة، وَهُوَ وضع اللُّقْمَة فِي فَم الزَّوْجَة، فَإِذا قصد بأبعد الْأَشْيَاء عَن الطَّاعَة وَجه الله تَعَالَى فَيحصل بِهِ الْأجر، فَغَيره بِالطَّرِيقِ الأولى.
فَإِن قلت: مَا الْحِكْمَة فِي تَخْصِيص ذكر الزَّوْجَة دون غَيرهَا؟ قلت: لِأَن زَوْجَة الْإِنْسَان من أخص حظوظه الدُّنْيَوِيَّة وشهواته.
وَفِيه: من أَعْلَام نبوته، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حَيْثُ أطلعه الله تَعَالَى: أَن سَعْدا لَا يَمُوت حَتَّى يخلف جمَاعَة، كَمَا أطلعه أَنه لَا يَمُوت حَتَّى ينْتَفع بِهِ قوم ويتضرر بِهِ آخَرُونَ، على مَا ذَكرْنَاهُ، حَتَّى إِنَّه عَاشَ وَفتح الْعرَاق وَغَيره.
وَفِيه: أَن الْإِنْفَاق إِنَّمَا يحصل فِيهِ الْأجر إِذا أُرِيد بِهِ وَجه الله، وَالنَّفقَة على الْعِيَال تحْتَمل وَجْهَيْن.
الأول: أَن يكون الْمَعْنى يكْتب لَهُ بذلك أجر الصَّدَقَة.
الثَّانِي: أَنه لما أَرَادَ أَن يتَصَدَّق بِمَالِه أخبرهُ أَن مَا يَنَالهُ الْعِيَال فِيهِ أجر كَمَا فِي الصَّدَقَة.
قَالَ الْقُرْطُبِيّ: يُفِيد منطوقه أَن الْأجر فِي النَّفَقَات لَا يحصل إلاَّ بِقصد الْقرْبَة، وَإِن كَانَت وَاجِبَة، وَمَفْهُومه أَن من لم يقْصد الْقرْبَة لم يُؤجر على شَيْء مِنْهَا، والمعنيان صَحِيحَانِ، وَهل إِذا أنْفق نَفَقَة وَاجِبَة على الزَّوْجَة أَو الْوَلَد الْفَقِير، وَلم يقْصد التَّقَرُّب هَل تَبرأ ذمَّته أم لَا؟ فَالْجَوَاب أَنَّهَا تَبرأ ذمَّته من الْمُطَالبَة، لِأَن وجوب النَّفَقَة من الْعِبَادَات المعقولة الْمَعْنى، فتجزىء بِغَيْر نِيَّة: كالديون وَأَدَاء الْأَمَانَات وَغَيرهَا من الْعِبَادَات، لَكِن إِذا لم ينْو لم يحصل لَهُ أجر.
وَفِيه: فَضِيلَة طول الْعُمر، للازدياد من الْخَيْر.
وَفِيه: وجوب اسْتِدَامَة حكم الْهِجْرَة، وَلكنه ارْتَفع يَوْم الْفَتْح، واستبعد القَاضِي عِيَاض ارْتِفَاع حكم الْهِجْرَة بعد الْفَتْح، قَالَ: وَحكمه بَاقٍ بعد الْفَتْح لهَذَا الحَدِيث.
وَقيل: إِنَّمَا لزم الْمُهَاجِرين الْمقَام بِالْمَدِينَةِ بعد الْهِجْرَة لنصرة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأخذ الشَّرِيعَة عَنهُ وَشبه ذَلِك، فَلَمَّا مَاتَ ارتحل أَكْثَرهم مِنْهَا.
.

     وَقَالَ  عِيَاض: قيل لَا يحبط أجر هِجْرَة المُهَاجر بَقَاؤُهُ بِمَكَّة وَمَوته بهَا إِذا كَانَ لضَرُورَة، وَإِنَّمَا يحبطه مَا كَانَ بِالِاخْتِيَارِ،.

     وَقَالَ  قوم: المُهَاجر بِمَكَّة تحبط هجرته كَيفَ مَا كَانَ، وَقيل: لم تفرض الْهِجْرَة إلاَّ على أهل مَكَّة خَاصَّة.
وَفِيه: أَن طلب الْغَنِيّ للْوَرَثَة أرجح على تَركهم عَالَة، وَمن هُنَا أَخذ تَرْجِيح الْغَنِيّ على الْفَقِير.
وَفِيه: جَوَاز تَخْصِيص عُمُوم الْوَصِيَّة الْمَذْكُورَة فِي الْقُرْآن بِالسِّنِّ، وَهُوَ قَول الْجُمْهُور، وَالله أعلم.



( بابُُ مَا يُنْهى مِنَ الحَلْقِ عِنْدَ المُصِيبَةِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان مَا ينْهَى من الْحلق، وَكلمَة: مَا، يجوز أَن تكون مَوْصُولَة، وَيجوز أَن تكون مَصْدَرِيَّة.



[ قــ :147 ... غــ :196 ]
- قالَ الحَكَمُ بنُ مُوسى احدَّثنا يَحْيى بنُ حَمْزَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ جابِرٍ أنَّ القَاسِمَ بنَ مخَيْمِرَةَ حدَّثَهُ.
قَالَ حدَّثني أبُو بُرْدَةَ بنُ مُوسى رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ وَجِعَ أبُو مُوسى وَجَعا فَغُشِيَ عليهِ وَرَأسُهُ فِي حجْرِ امْرَأةٍ مِنْ أهْلِهِ فَلَمْ يَسْتَطِعْ أنْ يَرُدَّ عَلَيْهَا شَيْئا فَلَمَّا أفَاقَ قَالَ أَنا بَرِىءٌ مِمَّنْ بَرِيءٌ مِنْهُ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَرِيءٌ مِنَ الصَّالِقةِ وَالحالِقَةِ والشَّاقَّةِ.

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( والحالقة) ، وَإِنَّمَا خص الْحلق بِالذكر، وَإِن كَانَ حَدِيث الْبابُُ مُشْتَمِلًا على ثَلَاثَة أَشْيَاء لكَونه أبشعها فِي حق النِّسَاء.

ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: الحكم، بِفتْحَتَيْنِ: ابْن مُوسَى أَبُو صَالح الْقَنْطَرِي، بِفَتْح الْقَاف وَسُكُون النُّون الزَّاهِد، مَاتَ سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ.
الثَّانِي: يحيى بن حَمْزَة أَبُو عبد الرَّحْمَن قَاضِي دمشق، مَاتَ سنة ثَمَانِينَ وَمِائَة.
الثَّالِث: عبد الرَّحْمَن بن جَابر هُوَ عبد الرَّحْمَن بن يزِيد بن جَابر الْأَزْدِيّ، مَاتَ سنة أَربع وَخمسين وَمِائَة.
الرَّابِع: الْقَاسِم بن مخيمرة، بِضَم الْمِيم وَفتح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالراء: أَبُو عُرْوَة.
الْخَامِس: أَبُو بردة، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة، واسْمه: عَامر.
وَقيل: الْحَارِث.
السَّادِس: أَبوهُ، أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، واسْمه: عبد الله بن قيس.

ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: أَنه صدر الحَدِيث بقوله: قَالَ الحكم، بِدُونِ التحديث أَو الْإِخْبَار، وَوَقع فِي رِوَايَة أبي الْوَقْت: حَدثنَا الحكم، قَالَ بَعضهم: هُوَ وهم فَإِن الَّذين جمعُوا رجال البُخَارِيّ فِي ( صَحِيحه) أطبقوا على ترك ذكره فِي شُيُوخه، فَدلَّ على أَن الصَّوَاب رِوَايَة الْجَمَاعَة بِصِيغَة التَّعْلِيق.
قلت: قيل: روى عَنهُ وَيُؤَيِّدهُ رِوَايَة أبي الْوَقْت وَالدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا ذكر الحكم وَالقَاسِم ابْن مخيمرة فِيمَن خرج لَهما البُخَارِيّ،.

     وَقَالَ  ابْن التِّين: إِنَّمَا لم يسْندهُ البُخَارِيّ لِأَنَّهُ لَا يخرج للقاسم بن مخيمرة، وَزعم بَعضهم أَنه لَا يخرج للْحكم أَيْضا إلاَّ هَكَذَا غير مُحْتَج بهما.
وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد وبصيغة الْإِفْرَاد فِي موضِعين.
وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد.
وَفِيه: القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع لِأَن فِي بعض النّسخ: قَالَ،.

     وَقَالَ  الحكم: أَي: قَالَ البُخَارِيّ: قَالَ الحكم.
وَفِيه: أَن الحكم بغدادي وَيحيى بن حَمْزَة شَامي بيتلهي من أهل بَيت لهيا، قَرْيَة بِالْقربِ من دمشق، كَانَ قَاضِيا بِدِمَشْق، وَعبد الرَّحْمَن أَيْضا شَامي، وَالقَاسِم كُوفِي سكن الشَّام وَأَبُو بردة كُوفِي.
وَفِيه: رِوَايَة الابْن عَن الْأَب، وَفِيه: من هُوَ مَذْكُور باسم جده.
وَفِيه: من هُوَ مَذْكُور بكنيته، مُخْتَلف فِي اسْمه.

وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله مُسلم، رَحمَه الله تَعَالَى، فِي كتاب الْإِيمَان فَقَالَ: حَدثنَا الحكم بن مُوسَى الْقَنْطَرِي، قَالَ: حَدثنَا يحيى بن حَمْزَة عَن عبد الرَّحْمَن بن يزِيد بن جَابر أَن الْقَاسِم بن مخيمرة حَدِيثه، قَالَ: حَدثنِي أَبُو بردة بن أبي مُوسَى الحَدِيث، وَكَذَا وَصله ابْن حبَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَقَالَ: أخبرنَا أَبُو يعلى حَدثنَا الحكم.
.
إِلَى آخِره.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: ( وجع أَبُو مُوسَى) ، بِكَسْر الْجِيم، أَي: مرض.
قَوْله: ( وجعا) ، بِفَتْح الْجِيم أَيْضا مصدر، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ عَن قريب، ويروى: ( وجعا شَدِيدا) .
قَوْله: ( فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ) ، ويروى ( فَغشيَ عَلَيْهِ) .
قَوْله: ( وَرَأسه فِي حجر امْرَأَة) ، الْوَاو فِيهِ للْحَال، وَالْحجر، بِفَتْح الْحَاء وَكسرهَا.
.

     وَقَالَ  الْجَوْهَرِي: جمعه حجور.
وَفِي ( الْمُحكم) : حجره وحجره: حضنه، وَفِي رِوَايَة لمُسلم: ( أُغمي على أبي مُوسَى وَأَقْبَلت امْرَأَته أم عبد الله تصيح برنة.
.
)
وَذكر فِي كتاب النَّسَائِيّ إمرأة أبي مُوسَى هِيَ: أم عبد الله بنت أبي دومة، وَذكر عمر بن شبة فِي ( تَارِيخ الْبَصْرَة) أَن اسْمهَا: صَفِيَّة بنت دمون، وَأَنَّهَا وَالِدَة أبي بردة بن مُوسَى، وَأَن ذَلِك وَقع حَيْثُ كَانَ أَبُو مُوسَى أَمِيرا على الْبَصْرَة من قبل عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
قَوْله: ( إِنِّي بَرِيء) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: ( أَنا بَرِيء) ، وَكَذَا فِي رِوَايَة مُسلم.
قَوْله: ( مِمَّن بَرِيء مِنْهُ مُحَمَّد) ، ويروى: ( مِمَّن بَرِيء مِنْهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) وأصل الْبَرَاءَة: الِانْفِصَال، وَهُوَ يحْتَمل أَن يُرَاد بِهِ ظَاهره، وَهُوَ الْبَرَاءَة من فَاعل ذَلِك الْفِعْل،.

     وَقَالَ  الْمُهلب بَرِيء مِنْهُ، أَي: أَنه لم يرض بِفِعْلِهِ فَهُوَ مِنْهُ بَرِيء فِي وَقت ذَلِك الْفِعْل، لَا أَنه بَرِيء من الْإِسْلَام.
قَوْله: ( من الصالقة) ، الصالقة والسالقة لُغَتَانِ هِيَ الَّتِي ترفع صَوتهَا عِنْد الْمُصِيبَة.
وَفِي ( الْمُحكم) : الصلقة والصلق والصلق: الصياح، والولولة، وَقد صلقوا وأصلقوا، وَصَوت صلاق ومصلاق شَدِيد.
وَعَن ابْن الْأَعرَابِي: الصلق ضرب الْوَجْه.
قَوْله: ( والحالقة) الَّتِي: تحلق شعرهَا.
قَوْله: ( والشاقة) الَّتِي: تشق ثِيَابهَا عِنْد الْمُصِيبَة.
وَفِي رِوَايَة لمُسلم من طَرِيق أبي صَخْرَة: ( أَنا بَرِيء مِمَّن حلق وسلق وخرق) .
أَي: حلق شعره، وسلق صَوته، أَي: رَفعه، وخرق ثَوْبه.
.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: النّدب والنياحة وَلَطم الخد وشق الجيب وخمش الْوَجْه وَنشر الشّعْر وَالدُّعَاء بِالْوَيْلِ وَالثُّبُور، كلهَا محرم بِاتِّفَاق الْأَصْحَاب، وَوَقع فِي كَلَام بَعضهم لفظ الْكَرَاهَة؟ قلت: هَذِه كلهَا حرَام عندنَا، وَالَّذِي يذكرهُ بِالْكَرَاهَةِ فمراده كَرَاهَة التَّحْرِيم.