فهرس الكتاب

شرح النووى على مسلم - بَابُ الطِّيبِ لِلْمُحْرِمِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ

باب الطِّيبِ لِلْمُحْرِمِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ
[ سـ :2127 ... بـ :1189]
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحُرْمِهِ حِينَ أَحْرَمَ وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ

قَوْلُهَا : ( طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحُرْمِهِ حِينَ أَحْرَمَ وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ ) ضَبَطُوا ( لِحُرْمِهِ ) بِضَمِّ الْحَاءِ وَكَسْرِهَا ، وَقَدْ سَبَقَ فِي شَرْحِ مُقَدِّمَةِ مُسْلِمٍ ، وَالضَّمُّ أَكْثَرُ ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْهَرَوِيُّ وَآخَرُونَ غَيْرَهُ ، وَأَنْكَرَ ثَابِتٌ الضَّمَّ عَلَى الْمُحَدِّثِينَ ، وَقَالَ : الصَّوَابُ الْكَسْرُ ، وَالْمُرَادُ بِحُرْمِهِ : الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ .

وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ الطِّيبِ عِنْدَ إِرَادَةِ الْإِحْرَامِ ، وَأَنَّهُ لَا بَأْسَ بِاسْتِدَامَتِهِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ ، وَإِنَّمَا يَحْرُمُ ابْتِدَاؤُهُ فِي الْإِحْرَامِ ، وَهَذَا مَذْهَبُنَا ، وَبِهِ قَالَ خَلَائِقُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَجَمَاهِيرُ الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاءِ ، مِنْهُمْ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَمُعَاوِيَةُ وَعَائشَةُ وَأُمُّ حَبِيبَةَ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَأَحْمَدُ وَدَاوُدُ وَغَيْرُهُمْ ، وَقَالَ آخَرُونَ بِمَنْعِهِ مِنْهُمُ : الزُّهْرِيُّ وَمَالِكٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ ، وَحُكِيَ أَيْضًا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ، قَالَ الْقَاضِي : وَتَأَوَّلَ هَؤُلَاءِ حَدِيثَ عَائِشَةَ هَذَا عَلَى أَنَّهُ تَطَيَّبَ ثُمَّ اغْتَسَلَ بَعْدَهُ ، فَذَهَبَ الطِّيبُ قَبْلَ الْإِحْرَامِ ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى : ( طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ إِحْرَامِهِ ثُمَّ طَافَ عَلَى نِسَائِهِ ثُمَّ أَصْبَحَ مُحْرِمًا ) فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ إِنَّمَا تَطَيَّبَ لِمُبَاشَرَةِ نِسَائِهِ ، ثُمَّ زَالَ بِالْغُسْلِ بَعْدَهُ ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ نُقِلَ أَنَّهُ كَانَ يَتَطَهَّرُ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ قَبْلَ الْأُخْرَى ، وَلَا يَبْقَى مَعَ ذَلِكَ ، وَيَكُونُ قَوْلُهَا : ( ثُمَّ أَصْبَحَ يَنْضَخُ طِيبًا ) أَيْ قَبْلَ غُسْلِهِ ، وَقَدْ سَبَقَ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ أَنَّ ذَلِكَ الطِّيبَ كَانَ ذَرَّةً ، وَهِيَ مِمَّا يُذْهِبُهُ الْغُسْلُ . قَالَ : وَقَوْلُهَا : ( كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ الطِّيبِ فِي مَفَارِقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ ) الْمُرَادُ بِهِ أَثَرُهُ لَا جِرْمُهُ . هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي ، وَلَا يُوَافَقُ عَلَيْهِ ؛ بَلِ الصَّوَابُ مَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ أَنَّ الطِّيبَ مُسْتَحَبٌّ لِلْإِحْرَامِ ؛ لِقَوْلِهَا : ( طَيَّبْتُهُ لِحُرْمِهِ ) ، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الطِّيبَ لِلْإِحْرَامِ لَا لِلنِّسَاءِ ، وَيُعَضِّدُهُ قَوْلُهَا : ( كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ الطِّيبِ ) وَالتَّأْوِيلُ الَّذِي قَالَهُ الْقَاضِي غَيْرُ مَقْبُولٍ ؛ لِمُخَالَفَتِهِ الظَّاهِرَ بِلَا دَلِيلٍ يَحْمِلُنَا عَلَيْهِ ، وَأَمَّا قَوْلُهَا : ( وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ ) فَالْمُرَادُ بِهِ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ ، فَفِيهِ دَلَالَةٌ لِاسْتِبَاحَةِ الطِّيبِ بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَالْحَلْقِ ، وَقَبْلَ الطَّوَافِ ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَالْعُلَمَاءِ كَافَّةً إِلَّا مَالِكًا كَرِهَهُ قَبْلَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ ، وَهُوَ مَحْجُوجٌ بِهَذَا الْحَدِيثِ .

وَقَوْلُهَا : ( لِحِلِّهِ ) دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ حَصَلَ لَهُ تَحَلُّلٌ ، وَفِي الْحَجِّ تَحَلُّلَانِ يَحْصُلَانِ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ ، وَطَوَافِ الْإِفَاضَةِ مَعَ سَعْيِهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ سَعَى قَبْلَ طَوَافِ الْقُدُومِ ، فَإِذَا فَعَلَ الثَّلَاثَةَ ، حَصَلَ التَّحَلُّلَانِ ، وَإِذَا فَعَلَ اثْنَيْنِ مِنْهُمَا حَصَلَ التَّحَلُّلُ الْأَوَّلُ أَيِ اثْنَيْنِ كَانَا ، وَيَحِلُّ بِالتَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ جَمِيعُ الْمُحَرَّمَاتِ إِلَّا الِاسْتِمْتَاعَ بِالنِّسَاءِ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ إِلَّا بِالثَّانِي ، وَقِيلَ : يُبَاحُ مِنْهُنَّ غَيْرُ الْجِمَاعِ بِالتَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِنَا ، وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلٌ : إِنَّهُ لَا يَحِلُّ بِالْأَوَّلِ إِلَّا اللُّبْسُ وَالْحَلْقُ وَقَلْمُ الْأَظْفَارِ ، وَالصَّوَابُ مَا سَبَقَ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .




[ سـ :2128 ... بـ :1189]
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ حَدَّثَنَا أَفْلَحُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِي لِحُرْمِهِ حِينَ أَحْرَمَ وَلِحِلِّهِ حِينَ أَحَلَّ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ

قَوْلُهَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى : ( وَلِحِلِّهِ حِينَ حَلَّ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ ) فِيهِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ التَّحَلُّلَ الْأَوَّلَ يَحْصُلُ بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَالْحَلْقِ قَبْلَ الطَّوَافِ ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .




[ سـ :2131 ... بـ :1189]
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ قَالَ عَبْدٌ أَخْبَرَنَا وَقَالَ ابْنُ حَاتِمٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرْوَةَ أَنَّهُ سَمِعَ عُرْوَةَ وَالْقَاسِمَ يُخْبِرَانِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِي بِذَرِيرَةٍ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ لِلْحِلِّ وَالْإِحْرَامِ

قَوْلُهَا : ( بِذَرِيرَةٍ ) هِيَ بِفَتْحِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ ، وَهِيَ فُتَاتُ قَصَبِ طَيِّبٍ يُجَاءُ بِهِ مِنَ الْهِنْدِ .




[ سـ :2135 ... بـ :1190]
وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَأَبُو الرَّبِيعِ وَخَلَفُ بْنُ هِشَامٍ وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ يَحْيَى أَخْبَرَنَا وَقَالَ الْآخَرُونَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ الطِّيبِ فِي مَفْرِقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَلَمْ يَقُلْ خَلَفٌ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَلَكِنَّهُ قَالَ وَذَاكَ طِيبُ إِحْرَامِهِ

قَوْلُهَا : ( وَبِيصِ الطِّيبِ فِي مَفْرِقِهِ ) الْوَبِيصُ : الْبَرِيقُ وَاللَّمَعَانُ . وَالْمَفْرِقُ : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الرَّاءِ .




[ سـ :2143 ... بـ :1192]
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَأَبُو كَامِلٍ جَمِيعًا عَنْ أَبِي عَوَانَةَ قَالَ سَعِيدٌ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْتَشِرِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ الرَّجُلِ يَتَطَيَّبُ ثُمَّ يُصْبِحُ مُحْرِمًا فَقَالَ مَا أُحِبُّ أَنْ أُصْبِحَ مُحْرِمًا أَنْضَخُ طِيبًا لَأَنْ أَطَّلِيَ بِقَطِرَانٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَفْعَلَ ذَلِكَ فَدَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَأَخْبَرْتُهَا أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ مَا أُحِبُّ أَنْ أُصْبِحَ مُحْرِمًا أَنْضَخُ طِيبًا لَأَنْ أَطَّلِيَ بِقَطِرَانٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَفْعَلَ ذَلِكَ فَقَالَتْ عَائِشَةُ أَنَا طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ إِحْرَامِهِ ثُمَّ طَافَ فِي نِسَائِهِ ثُمَّ أَصْبَحَ مُحْرِمًا

قَوْلُهُ : ( عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَا أُحِبُّ أَنْ أُصْبِحَ مُحْرِمًا أَنْضَخُ طِيبًا ) يَنْضَخُ طِيبًا بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ يَفُورُ مِنْهُ الطِّيبُ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ أَنَّهُ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْقَاضِي غَيْرُهُ ، وَضَبَطَهُ بَعْضُهُمْ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ ، وَهُمَا مُتَقَارِبَانِ فِي الْمَعْنَى . قَالَ الْقَاضِي : قِيلَ : النَّضْخُ بِالْمُعْجَمَةِ أَقَلُّ مِنَ النَّضْحِ بِالْمُهْمَلَةِ ، وَقِيلَ : عَكْسُهُ ، وَهُوَ أَشْهَرُ وَأَكْثَرُ .

قَوْلُهَا : ( ثُمَّ يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ ) قَدْ يُقَالُ : قَدْ قَالَ الْفُقَهَاءُ : أَقَلُّ الْقَسْمِ لَيْلَةٌ لِكُلِّ امْرَأَةٍ فَكَيْفَ طَافَ عَلَى الْجَمِيعِ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ ؟ وَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ هَذَا كَانَ بِرِضَاهُنَّ ، وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِهِ بِرِضَاهُنَّ كَيْفَ كَانَ ، وَالثَّانِي : أَنَّ الْقَسْمَ فِي حَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ كَانَ وَاجِبًا فِي الدَّوَامِ ؟ فِيهِ خِلَافٌ لِأَصْحَابِنَا ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ : لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا ، وَإِنَّمَا كَانَ يَقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ ، وَيُقْرِعُ بَيْنَهُنَّ تَكَرُّمًا وَتَبَرُّعًا لَا وُجُوبًا ، وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ : كَانَ وَاجِبًا ، فَعَلَى قَوْلِ الْإِصْطَخْرِيِّ لَا إِشْكَالَ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .