فهرس الكتاب

شرح النووى على مسلم - بَابُ بَيَانِ الصَّلَوَاتِ الَّتِي هِيَ أَحَدُ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ

باب تَغْلِيظِ الْكَذِبِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[ سـ :2 ... بـ :1]
وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ عَنْ شُعْبَةَ ح وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى وَابْنُ بَشَّارٍ قَالَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ أَنَّهُ سَمِعَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَخْطُبُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَكْذِبُوا عَلَيَّ فَإِنَّهُ مَنْ يَكْذِبْ عَلَيَّ يَلِجْ النَّارَ

بَابُ تَغْلِيظِ الْكَذِبِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

فِيهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لَا تَكْذِبُوا عَلَيَّ فَإِنَّهُ مَنْ يَكْذِبْ عَلَيَّ يَلِجِ النَّارَ وَفِي رِوَايَةٍ : مَنْ تَعَمَّدَ عَلَيَّ كَذِبًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنِ النَّارِ وَفِي رِوَايَةٍ : مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا وَفِي رِوَايَةٍ : إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ فَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ .

أَمَّا أَسَانِيدُهُ فَفِيهِ ( غُنْدَرٌ ) بِضَمِّ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَإِسْكَانِ النُّونِ وَفَتْحِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِيهِ ، وَذَكَرَ الْجَوْهَرِيُّ فِي صِحَاحِهِ أَنَّهُ يُقَالُ : بِفَتْحِ الدَّالِ وَضَمِّهَا وَاسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْهُذَلِيُّ مَوْلَاهُمُ الْبَصْرِيُّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ، وَقِيلَ أَبُو بَكْرٍ ، وَغُنْدَرٌ لَقَبٌ لَقَّبَهُ بِهِ ابْنُ جُرَيْجٍ ، رُوِّينَا عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَائِشَةَ عَنْ بَكْرِ بْنِ كُلْثُومٍ السُّلَمِيِّ قَالَ : قَدِمَ عَلَيْنَا ابْنُ جُرَيْجٍ الْبَصْرَةَ فَاجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَيْهِ فَحَدَّثَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ بِحَدِيثٍ ، فَأَنْكَرَهُ النَّاسُ عَلَيْهِ ، فَقَالَ ابْنُ عَائِشَةَ : إِنَّمَا سَمَّاهُ غُنْدَرًا ابْنُ جُرَيْجٍ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ كَانَ يُكْثِرُ الشَّغْبُ عَلَيْهِ ، فَقَالَ : اسْكُتْ يَا غُنْدَرُ ، وَأَهْلُ الْحِجَازِ يُسَمُّونَ الْمُشْغِبَ غُنْدَرًا . وَمِنْ طُرَفِ أَحْوَالِ غُنْدَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ بَقِيَ خَمْسِينَ سَنَةً يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا وَمَاتَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ وَقِيلَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ .

وَفِيهِ ( رِبْعِيُّ بْنُ حِرَاشٍ ) بِكَسْرِ الرَّاءِ وَإِسْكَانِ الْمُوَحَّدَةِ وَحِرَاشٍ بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالرَّاءِ وَآخِرُهُ شِينٌ مُعْجَمَةٌ ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي آخِرِ الْفُصُولِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الصَّحِيحَيْنِ حِرَاشٌ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ سِوَاهُ . وَمَنْ عَدَاهُ بِالْمُعْجَمَةِ . وَهُوَ رِبْعِيُّ بْنُ حِرَاشِ بْنِ جَحْشٍ الْعَبْسِيُّ بِالْمُوَحَّدَةِ الْكُوفِيُّ أَبُو مَرْيَمَ ، أَخُو مَسْعُودٍ الَّذِي تَكَلَّمَ بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَأَخُوهُمَا رَبِيعٌ ، وَرِبْعِيٌّ تَابِعِيٌّ كَبِيرٌ جَلِيلٌ لَمْ يَكْذِبْ قَطُّ ، وَحَلَفَ أَنَّهُ لَا يَضْحَكُ حَتَّى يَعْلَمَ أَيْنَ مَصِيرُهُ فَمَا ضَحِكَ إِلَّا بَعْدَ مَوْتِهِ ، وَكَذَلِكَ حَلَفَ أَخُوهُ رَبِيعٌ أَنْ لَا يَضْحَكَ حَتَّى يَعْلَمَ أَفِي الْجَنَّةِ هُوَ أَوْ فِي النَّارِ قَالَ غَاسِلُهُ : فَلَمْ يَزَلْ مُبْتَسِمًا عَلَى سَرِيرِهِ وَنَحْنُ نُغَسِّلُهُ حَتَّى فَرَغْنَا . تُوُفِّيَ رِبْعِيٌّ سَنَةَ إِحْدَى وَمِائَةٍ وَقِيلَ : سَنَةَ أَرْبَعٍ وَمِائَةٍ وَقِيلَ : تُوُفِّيَ فِي وِلَايَةِ الْحَجَّاجِ ، وَمَاتَ الْحَجَّاجُ سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ .




[ سـ :3 ... بـ :2]
وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا إِسْمَعِيلُ يَعْنِي ابْنَ عُلَيَّةَ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ إِنَّهُ لَيَمْنَعُنِي أَنْ أُحَدِّثَكُمْ حَدِيثًا كَثِيرًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ تَعَمَّدَ عَلَيَّ كَذِبًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ

وَأَمَّا قَوْلُهُ : ( حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ يَعْنِي ابْنُ عُلَيَّةَ ) فَإِنَّمَا قَالَ : يَعْنِي لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِي الرِّوَايَةِ ابْنُ عُلَيَّةَ فَأَتَى بِيَعْنِي ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا فِي الْفُصُولِ ، وَأَوْضَحْتُ هُنَاكَ مَقْصُودَهُ ، وَعُلَيَّةُ هِيَ أُمِّ إِسْمَاعِيلَ ، وَأَبُوهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَهْمِ بْنِ مِقْسَمٍ الْأَسَدِيُّ أَسَدُ خُزَيْمَةَ مَوْلَاهُمْ ، وَإِسْمَاعِيلُ بَصْرِيٌّ وَأَصْلُهُ مِنَ الْكُوفَةِ كُنْيَتُهُ أَبُو بِشْرٍ . قَالَ شُعْبَةُ : إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ رَيْحَانَةُ الْفُقَهَاءِ وَسَيِّدُ الْمُحَدِّثِينَ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ : عُلَيَّةُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ هِيَ عُلَيَّةُ بِنْتُ حَسَّانٍ مَوْلَاةٌ لِبَنِي شَيْبَانَ ، وَكَانَتِ امْرَأَةً نَبِيلَةً عَاقِلَةً وَكَانَ صَالِحٌ الْمُرِّيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ وَجْه الْبَصْرَةِ وَفُقَهَائِهَا يَدْخُلُونَ عَلَيْهَا فَتَبْرُزُ فَتُحَادِثُهُمْ وَتُسَائِلُهُمْ . وَمِنْ طُرَفِ مَا يَتَعَلَّقُ بِإِسْمَاعِيلَ ابْنِ عُلَيَّةَ مَا ذَكَرَهُ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ قَالَ : حَدَّثَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ ابْنِ عُلَيَّةَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَمُوسَى بْنُ سَهْلٍ الْوَشَّاءُ وَبَيْنَ وَفَاتَيْهِمَا مِائَةٌ وَتِسْعٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً وَقِيلَ : سَبْعٌ وَعِشْرُونَ ، قَالَ : وَحَدَّثَ عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ وَبَيْنَ وَفَاتِهِ وَوَفَاةِ الْوَشَّاءِ مِائَةٌ وَعَشْرُ سِنِينَ وَقِيلَ : مِائَةٌ وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً ، قَالَ : وَحَدَّثَ عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ شُعْبَةُ وَبَيْنَ وَفَاتِهِ وَوَفَاةِ الْوَشَّاءِ مِائَةٌ وَثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً ، وَحَدَّثَ عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ وَبَيْنَ وَفَاتِهِ وَوَفَاةِ الْوَشَّاءِ إِحْدَى وَثَمَانُونَ سَنَةً . مَاتَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوَّلَ ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ .




[ سـ :4 ... بـ :3]
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْغُبَرِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي حَصِينٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ

وَقَوْلُهُ فِي الْإِسْنَادِ الْآخَرِ : ( حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْغُبَرِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ) أَمَّا ( الْغُبَرِيُّ ) فَبِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ مَضْمُومَةٍ ثُمَّ بَاءٍ مُوَحَّدَةٍ مَفْتُوحَةٍ مَنْسُوبٌ إِلَى غُبَرَ : أَبِي قَبِيلَةٍ مَعْرُوفَةٍ فِي بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ ، وَمُحَمَّدٌ هَذَا بَصْرِيٌّ .

وَأَمَّا ( أَبُو عَوَانَةَ ) فَبِفَتْحِ الْعَيْنِ وَبِالنُّونِ وَاسْمُهُ الْوَضَّاحُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْوَاسِطِيُّ .

وَأَمَّا ( أَبُو حُصَيْنٍ ) فَبِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الصَّادِ . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي آخِرِ الْفُصُولِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الصَّحِيحَيْنِ لَهُ نَظِيرٌ وَأَنَّ مَنْ سِوَاهُ حُصَيْنٌ بِضَمِّ الْحَاءِ وَفَتْحِ الصَّادِ إِلَّا حُضَيْنَ بْنَ الْمُنْذِرِ فَإِنَّهُ بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ . وَاسْمُ أَبِي حُصَيْنٍ عُثْمَانُ بْنُ عَاصِمٍ الْأَسَدِيُّ الْكُوفِيُّ التَّابِعِيُّ .

وَأَمَّا ( أَبُو صَالِحٍ ) فَهُوَ السَّمَّانُ وَيُقَالُ : الزَّيَّاتُ وَاسْمُهُ ذَكْوَانُ ، كَانَ يَجْلِبُ الزَّيْتَ وَالسَّمْنَ إِلَى الْكُوفَةِ وَهُوَ مَدَنِيٌّ تُوُفِّيَ سَنَةَ إِحْدَى وَمِائَةٍ وَفِي دَرَجَتِهِ وَقَرِيبٌ مِنْهُ جَمَاعَةٌ يُقَالُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ : أَبُو صَالِحٍ .

وَأَمَّا ( أَبُو هُرَيْرَةَ ) فَهُوَ أَوَّلُ مَنْ كُنِّيَ بِهَذِهِ الْكُنْيَةِ وَاخْتُلِفَ فِي اسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ عَلَى نَحْوٍ مِنْ ثَلَاثِينَ قَوْلًا وَأَصَحُّهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ صَخْرٍ . قَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : لِكَثْرَةِ الِاخْتِلَافِ فِيهِ لَمْ يَصِحَّ عِنْدِي فِيهِ شَيْءٌ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ إِلَّا أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ هُوَ الَّذِي يَسْكُنُ إِلَيْهِ الْقَلْبُ فِي اسْمِهِ فِي الْإِسْلَامِ ، قَالَ : وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ : اسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ صَخْرٍ ، قَالَ : وَعَلَى هَذَا اعْتَمَدَتْ طَائِفَةٌ صَنَّفَتْ فِي الْأَسْمَاءِ وَالْكُنَى ، وَكَذَا قَالَ الْحَاكِمُ أَبُو أَحْمَدَ : أَصَحُّ شَيْءٍ عِنْدنَا فِي اسْمِهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ صَخْرٍ ، وَأَمَّا سَبَبُ تَكْنِيَتِهِ أَبَا هُرَيْرَةَ فَإِنَّهُ كَانَتْ لَهُ فِي صِغَرِهِ هُرَيْرَةٌ صَغِيرَةٌ يَلْعَبُ بِهَا .

وَلِأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَنْقَبَةٌ عَظِيمَةٌ وَهِيَ أَنَّهُ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - رِوَايَةً عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .

وَذَكَرَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ بَقِيُّ بْنُ مَخْلَدٍ الْأَنْدَلُسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ لِأَبِي هُرَيْرَةَ خَمْسَةَ آلَافِ حَدِيثٍ وَثَلَاثَمِائَةٍ وَأَرْبَعَةً وَسَبْعِينَ حَدِيثًا وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - هَذَا الْقَدْرِ وَلَا مَا يُقَارِبهُ ، قَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : أَبُو هُرَيْرَةَ أَحْفَظُ مَنْ رَوَى الْحَدِيثَ فِي دَهْرِهِ ، وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَنْزِلُ الْمَدِينَةَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ وَلَهُ بِهَا قَبْرٌ ، مَاتَ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ وَمَاتَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ وَصَلَّى عَلَيْهَا ، وَقِيلَ : إِنَّهُ مَاتَ سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ ، وَقِيلَ : سَنَةَ ثَمَانٍ ، وَالصَّحِيحُ سَنَةَ تِسْعٍ وَكَانَ مِنْ سَاكِنِي الصُّفَّةِ وَمُلَازِمِيهَا ، قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي حِلْيَةِ الْأَوْلِيَاءِ : كَانَ عَرِّيفَ أَهْلِ الصُّفَّةِ وَأَشْهَرَ مَنْ سَكَنَهَا . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

وَأَمَّا مَتْنُ الْحَدِيثِ فَهُوَ حَدِيثٌ عَظِيمٌ فِي نِهَايَةٍ مِنَ الصِّحَّةِ وَقِيلَ : إِنَّهُ مُتَوَاتِرٌ . ذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ أَنَّهُ رَوَاهُ عَنِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نَحْوٌ مِنْ أَرْبَعِينَ نَفْسًا مِنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَحَكَى الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ فِي شَرْحِهِ لِرِسَالَةِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - أَنَّهُ رَوَى عَنْ أَكْثَرَ مِنْ سِتِّينَ صَحَابِيًّا مَرْفُوعًا وَذَكَرَ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَنْدَهْ عَدَدَ مَنْ رَوَاهُ فَبَلَغَ بِهِمْ سَبْعَةً وَثَمَانِينَ ثُمَّ قَالَ : وَغَيْرُهُمْ ، وَذَكَرَ بَعْضُ الْحُفَّاظِ أَنَّهُ رُوِيَ عَنِ اثْنَيْنِ وَسِتِّينَ صَحَابِيًّا وَفِيهِمُ الْعَشَرَةُ الْمَشْهُودُ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ ، قَالَ : وَلَا يُعْرَفُ حَدِيثٌ اجْتَمَعَ عَلَى رِوَايَتِهِ الْعَشَرَةُ إِلَّا هَذَا وَلَا حَدِيثٌ يُرْوَى عَنْ أَكْثَرَ مِنْ سِتِّينَ صَحَابِيًّا إِلَّا هَذَا ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : رَوَاهُ مِائَتَانِ مِنَ الصَّحَابَةِ ثُمَّ لَمْ يَزَلْ فِي ازْدِيَادٍ وَقَدِ اتَّفَقَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَلَى إِخْرَاجِهِ فِي صَحِيحَيْهِمَا مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ وَالزُّبَيْرِ وَأَنَسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِمْ وَأَمَّا إِيرَادُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْحُمَيدِيِّ صَاحِبِ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ حَدِيثَ أَنَسٍ فِي أَفْرَادِ مُسْلِمٍ فَلَيْسَ بِصَوَابٍ ، فَقَدِ اتَّفَقَا عَلَيْهِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

وَأَمَّا لَفْظُ مَتْنِهِ فَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ ، قَالَ الْعُلَمَاءُ : مَعْنَاهُ فَلْيَنْزِلْ : وَقِيلَ فَلْيَتَّخِذْ مَنْزِلَهُ مِنَ النَّارِ ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ : أَصْلُهُ مِنْ مَبَاءَةِ الْإِبِلِ وَهِيَ أَعْطَانُهَا ثُمَّ قِيلَ : إِنَّهُ دُعَاءٌ بِلَفْظِ الْأَمْرِ أَيْ بَوَّأَهُ اللَّهُ ذَلِكَ ، وَكَذَا فَلْيَلِجِ النَّارَ ، وَقِيلَ : هُوَ خَبَرٌ بِلَفْظِ الْأَمْرِ أَيْ مَعْنَاهُ : فَقَدِ اسْتَوْجَبَ ذَلِكَ فَلْيُوَطِّنْ نَفْسَهُ عَلَيْهِ ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى يَلِجِ النَّارَ وَجَاءَ فِي رِوَايَةٍ بُنِيَ لَهُ بَيْتٌ فِي النَّارِ . ثُمَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ : أَنَّ هَذَا جَزَاؤُهُ وَقَدْ يُجَازَى بِهِ ، وَقَدْ يَعْفُو اللَّهُ الْكَرِيمُ عَنْهُ وَلَا يُقْطَعُ عَلَيْهِ بِدُخُولِ النَّارِ ، وَهَكَذَا سَبِيلُ كُلِّ مَا جَاءَ مِنَ الْوَعِيدِ بِالنَّارِ لِأَصْحَابِ الْكَبَائِرِ غَيْرَ الْكُفْرِ ، فَكُلُّهَا يُقَالُ فِيهَا هَذَا جَزَاؤُهُ وَقَدْ يُجَازَى وَقَدْ يُعْفَى عَنْهُ ، ثُمَّ إِنْ جُوزِيَ وَأُدْخِلَ النَّارَ فَلَا يُخَلَّدُ فِيهَا ; بَلْ لَا بُدَّ مِنْ خُرُوجِهِ مِنْهَا بِفَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَحْمَتِهِ وَلَا يَخْلُدُ فِي النَّارِ أَحَدٌ مَاتَ عَلَى التَّوْحِيدِ . وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَسَيَأْتِي دَلَائِلُهَا فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ قَرِيبًا - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

وَأَمَّا الْكَذِبُ فَهُوَ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا : الْإِخْبَارُ عَنِ الشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ ، عَمْدًا كَانَ أَوْ سَهْوًا ، هَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ ، وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ : شَرْطُهُ الْعَمْدِيَّةُ وَدَلِيلُ خِطَابِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ لَنَا ، فَإِنَّهُ قَيَّدَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْعَمْدِ لِكَوْنِهِ قَدْ يَكُونُ عَمْدًا وَقَدْ يَكُونُ سَهْوًا ، مَعَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ وَالنُّصُوصَ الْمَشْهُورَةَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مُتَوَافِقَةٌ مُتَظَاهِرَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا إِثْمَ عَلَى النَّاسِي ، فَلَوْ أَطْلَقَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْكَذِبَ لَتُوُهِّمَ أَنَّهُ يَأْثَمُ النَّاسِي أَيْضًا فَقَيَّدَهُ .

وَأَمَّا الرِّوَايَاتُ الْمُطْلَقَةُ فَمَحْمُولَةٌ عَلَى الْمُقَيَّدَةِ بِالْعَمْدِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يَشْتَمِلُ عَلَى فَوَائِدَ وَجُمَلٍ مِنَ الْقَوَاعِدِ :

إِحْدَاهَا : تَقْرِيرُ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ لِأَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ الْكَذِبَ يَتَنَاوَلُ إِخْبَارُ الْعَامِدِ وَالسَّاهِي عَنِ الشَّيْءِ بِخِلَافِ مَا هُوَ .

الثَّانِيَةُ : تَعْظِيمُ تَحْرِيمِ الْكَذِبِ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَّهُ فَاحِشَةٌ عَظِيمَةٌ وَمُوبِقَةٌ كَبِيرَةٌ وَلَكِنْ لَا يَكْفُرُ بِهَذَا الْكَذِبِ إِلَّا أَنْ يَسْتَحِلَّهُ . هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ مِنَ الطَّوَائِفِ . وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ وَالِدُ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَبِي الْمَعَالِي مِنْ أَئِمَّةِ أَصْحَابِنَا : يَكَفُرُ بِتَعَمُّدِ الْكَذِبِ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، حَكَى إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ وَالِدِهِ هَذَا الْمَذْهَبَ وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي دَرْسِهِ كَثِيرًا : مَنْ كَذَبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَمْدًا كَفَرَ وَأُرِيقَ دَمُهُ ، وَضَعَّفَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ هَذَا الْقَوْلَ ، وَقَالَ : إِنَّهُ لَمْ يَرَهُ لِأَحَدٍ مِنَ الْأَصْحَابِ وَإِنَّهُ هَفْوَةٌ عَظِيمَةٌ . وَالصَّوَابُ مَا قَدَّمْنَاهُ عَنِ الْجُمْهُورِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

ثُمَّ إِنَّ مَنْ كَذَبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَمْدًا فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ فَسَقَ وَرُدَّتْ رِوَايَتُهُ كُلُّهَا وَبَطَلَ الِاحْتِجَاجُ بِجَمِيعِهَا ، فَلَوْ تَابَ وَحَسُنَتْ تَوْبَتُهُ ، فَقَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَأَبُو بَكْرٍ الْحُمَيْدِيُّ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ وَصَاحِبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ مِنْ فُقَهَاءِ أَصْحَابِنَا الشَّافِعِيِّينَ وَأَصْحَابِ الْوُجُوهِ مِنْهُمْ وَمُتَقَدِّمَيْهِمْ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ : لَا تُؤَثِّرُ تَوْبَتُهُ فِي ذَلِكَ ، وَلَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ أَبَدًا ، بَلْ يُحَتَّمُ جَرْحُهُ دَائِمًا ، وَأَطْلَقَ الصَّيْرَفِيُّ وَقَالَ : كُلُّ مَنْ أَسْقَطْنَا خَبَرَهُ مِنْ أَهْلِ النَّقْلِ بِكَذِبٍ وَجَدْنَاهُ عَلَيْهِ لَمْ نَعُدْ لِقَبُولِهِ بِتَوْبَةٍ تَظْهَرُ وَمَنْ ضَعَّفْنَا نَقْلَهُ لَمْ نَجْعَلْهُ قَوِيًّا بَعْدَ ذَلِكَ ، قَالَ : وَذَلِكَ مِمَّا افْتَرَقَتْ فِيهِ الرِّوَايَةُ وَالشَّهَادَةُ وَلَمْ أَرَ دَلِيلًا لِمَذْهَبِ هَؤُلَاءِ وَيَجُوزُ أَنْ يُوَجَّهَ بِأَنَّ ذَلِكَ جُعِلَ تَغْلِيظًا وَزَجْرًا بَلِيغًا عَنِ الْكَذِبِ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعِظَمِ مَفْسَدَتِهِ فَإِنَّهُ يَصِيرُ شَرْعًا مُسْتَمِرًّا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِخِلَافِ الْكَذِبِ عَلَى غَيْرِهِ وَالشَّهَادَةِ ، فَإِنَّ مَفْسَدَتَهُمَا قَاصِرَةٌ لَيْسَتْ عَامَّةٌ . قُلْتُ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ ضَعِيفٌ مُخَالِفٌ لِلْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْمُخْتَارُ الْقَطْعُ بِصِحَّةِ تَوْبَتِهِ فِي هَذَا ، وَقَبُولِ رِوَايَاتِهِ بَعْدَهَا إِذَا صَحَّتْ تَوْبَتُهُ بِشُرُوطِهَا الْمَعْرُوفَةِ ، وَهِيَ الْإِقْلَاعُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ وَالنَّدَمِ عَلَى فِعْلِهَا وَالْعَزْمِ عَلَى أَنْ لَا يَعُودَ إِلَيْهَا فَهَذَا هُوَ الْجَارِي عَلَى قَوَاعِدِ الشَّرْعِ ، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى صِحَّةِ رِوَايَةِ مَنْ كَانَ كَافِرًا فَأَسْلَمَ وَأَكْثَرُ الصَّحَابَةِ كَانُوا بِهَذِهِ الصِّفَةِ ، وَأَجْمَعُوا عَلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ فِي هَذَا . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

الثَّالِثَةُ : أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي تَحْرِيمِ الْكَذِبِ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ مَا كَانَ فِي الْأَحْكَامِ وَمَا لَا حُكْمَ فِيهِ كَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ وَالْمَوَاعِظِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، فَكُلُّهُ حَرَامٌ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ وَأَقْبَحِ الْقَبَائِحِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يُعْتَدُّ بِهِمْ فِي الْإِجْمَاعِ ، خِلَافًا لِلْكَرَّامِيَّةِ الطَّائِفَةِ الْمُبْتَدِعَةِ فِي زَعْمِهِمُ الْبَاطِلِ أَنَّهُ يَجُوزُ وَضْعُ الْحَدِيثِ فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ ، وَتَابَعَهُمْ عَلَى هَذَا كَثِيرُونَ مِنَ الْجَهَلَةِ الَّذِينَ يَنْسُبُونَ أَنْفُسَهُمْ إِلَى الزُّهْدِ أَوْ يَنْسُبهُمْ جَهَلَةٌ مِثْلُهمْ ، وَشُبْهَةُ زَعْمِهِمُ الْبَاطِلِ أَنَّهُ جَاءَ فِي رِوَايَةٍ : مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا لِيُضِلَّ بِهِ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ . وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذَا كَذِبٌ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا كَذِبٌ عَلَيْهِ ، وَهَذَا الَّذِي انْتَحَلُوهُ وَفَعَلُوهُ وَاسْتَدَلُّوا بِهِ غَايَةَ الْجَهَالَةِ وَنِهَايَةِ الْغَفْلَةِ ، وَأَدَلُّ الدَّلَائِلِ عَلَى بُعْدِهِمْ مِنْ مَعْرِفَةِ شَيْءٍ مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ ، وَقَدْ جَمَعُوا فِيهِ جُمَلًا مِنَ الْأَغَالِيطِ اللَّائِقَةِ بِعُقُولِهِمُ السَّخِيفَةِ وَأَذْهَانِهِمُ الْبَعِيدَةِ الْفَاسِدَةِ فَخَالَفُوا قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ، وَخَالَفُوا صَرِيحَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَالْأَحَادِيثَ الصَّرِيحَةَ الْمَشْهُورَةَ فِي إِعْظَامِ شَهَادَةِ الزُّورِ ، وَخَالَفُوا إِجْمَاعَ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ . وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الدَّلَائِلِ الْقَطْعِيَّاتِ فِي تَحْرِيمِ الْكَذِبِ عَلَى آحَادِ النَّاسِ فَكَيْفَ بِمَنْ قَوْلُهُ شَرْعٌ وَكَلَامُهُ وَحْيٌ ، وَإِذَا نَظَرَ فِي قَوْلِهِمْ وَجَدَ كَذِبًا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى وَمِنْ أَعْجَبِ الْأَشْيَاءِ قَوْلُهُمْ : هَذَا كَذِبٌ لَهُ ، وَهَذَا جَهْلٌ مِنْهُمْ بِلِسَانِ الْعَرَبِ وَخِطَابِ الشَّرْعِ فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ كَذِبٌ عَلَيْهِ .

وَأَمَّا الْحَدِيثَ الَّذِي تَعَلَّقُوا بِهِ ; فَأَجَابَ الْعُلَمَاءُ عَنْهُ بِأَجْوِبَةٍ أَحْسَنُهَا وَأَخْصَرُهَا أَنَّ قَوْلَهُ لِيُضِلَّ النَّاسَ ، زِيَادَةٌ بَاطِلَةٌ اتَّفَقَ الْحُفَّاظُ عَلَى إِبْطَالِهَا وَأَنَّهَا لَا تُعْرَفُ صَحِيحَةً بِحَالٍ .

الثَّانِي : جَوَابُ أَبِي جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهَا لَوْ صَحَّتْ لَكَانَتْ لِلتَّأْكِيدِ كَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ .

الثَّالِثُ : أَنَّ اللَّامَ فِي لِيُضِلَّ لَيْسَتْ لَامَ التَّعْلِيلِ بَلْ هِيَ لَامُ الصَّيْرُورَةِ وَالْعَاقِبَةِ ، مَعْنَاهُ أَنَّ عَاقِبَةَ كَذِبِهِ وَمَصِيرِهِ إِلَى الْإِضْلَالِ بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا وَنَظَائِرُهُ فِي الْقُرْآنِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ وَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَعْنَاهُ فَقَدْ يَصِيرُ أَمْرُ كَذِبِهِ إِضْلَالًا ، وَعَلَى الْجُمْلَةِ مَذْهَبُهُمْ أَرَكُّ مِنْ أَنْ يُعْتَنَى بِإِيرَادِهِ وَأَبْعَدُ مِنْ أَنْ يُهْتَمَّ بِإِبْعَادِهِ وَأَفْسَدُ مِنْ أَنْ يُحْتَاجَ إِلَى إِفْسَادِهِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

الرَّابِعَةُ : يَحْرُمُ رِوَايَةُ الْحَدِيثِ الْمَوْضُوعِ عَلَى مَنْ عَرَفَ كَوْنَهُ مَوْضُوعًا أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ وَضْعُهُ فَمَنْ رَوَى حَدِيثًا عَلِمَ أَوْ ظَنَّ وَضْعَهُ وَلَمْ يُبَيِّنْ ـ حَالَ رِوَايَتِهِ ـ وَضْعَهُ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي هَذَا الْوَعِيدِ ، مُنْدَرِجٌ فِي جُمْلَةِ الْكَاذِبِينَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا الْحَدِيثُ السَّابِقُ مَنْ حَدَّثَ عَنِّي بِحَدِيثٍ يُرَى أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبِينَ .

وَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ : يَنْبَغِي لِمَنْ أَرَادَ رِوَايَةِ حَدِيثٍ أَوْ ذَكَرَهُ أَنْ يَنْظُرَ فَإِنْ كَانَ صَحِيحًا أَوْ حَسَنًا قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَذَا أَوْ فَعَلَهُ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنْ صِيَغِ الْجَزْمِ وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا فَلَا يَقُلْ : قَالَ أَوْ فَعَلَ أَوْ أَمَرَ أَوْ نَهَى وَشِبْهَ ذَلِكَ مِنْ صِيَغِ الْجَزْمِ بَلْ يَقُولُ : رُوِيَ عَنْهُ كَذَا أَوْ جَاءَ عَنْهُ كَذَا أَوْ يُرْوَى أَوْ يُذْكَرُ أَوْ يُحْكَى أَوْ يُقَالُ أَوْ بَلَغَنَا وَمَا أَشْبَهَهُ . وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .

قَالَ الْعُلَمَاءُ : وَيَنْبَغِي لِقَارِئِ الْحَدِيثِ أَنْ يَعْرِفَ مِنَ النَّحْوِ وَاللُّغَةِ وَأَسْمَاءَ الرِّجَالِ مَا يَسْلَمُ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ مَا لَمْ يَقُلْ ، وَإِذَا صَحَّ فِي الرِّوَايَةِ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ خَطَأٌ فَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجَمَاهِيرُ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ أَنَّهُ يَرْوِيهِ عَلَى الصَّوَابِ وَلَا يُغَيِّرهُ فِي الْكِتَابِ ، لَكِنْ يَكْتُبُ فِي الْحَاشِيَةِ أَنَّهُ وَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ كَذَا وَأَنَّ الصَّوَابَ خِلَافُهُ وَهُوَ كَذَا ، وَيَقُولُ عِنْدَ الرِّوَايَةِ : كَذَا وَقَعَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَوْ فِي رِوَايَتنَا وَالصَّوَابُ كَذَا ، فَهُوَ أَجْمَعُ لِلْمَصْلَحَةِ فَقَدْ يَعْتَقِدهُ خَطَأً وَيَكُونُ لَهُ وَجْهٌ يَعْرِفهُ غَيْرُهُ وَلَوْ فُتِحَ بَابُ تَغْيِيرِ الْكِتَابِ لَتَجَاسَرَ عَلَيْهِ غَيْرُ أَهْلِهِ .

قَالَ الْعُلَمَاءُ : وَيَنْبَغِي لِلرَّاوِي وَقَارِئِ الْحَدِيثِ ، إِذَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ لَفْظَةٌ فَقَرَأَهَا عَلَى الشَّكِّ أَنْ يَقُولَ عَقِبَهُ أَوْ كَمَا قَالَ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي الْفُصُولِ السَّابِقَةِ الْخِلَافَ فِي جَوَازِ الرِّوَايَةِ بِالْمَعْنَى لِمَنْ هُوَ كَامِلُ الْمَعْرِفَةِ . قَالَ الْعُلَمَاءُ : وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ رَوَى بِالْمَعْنَى أَنْ يَقُولَ بَعْدَهُ أَوْ كَمَا قَالَ أَوْ نَحْوَ هَذَا كَمَا فَعَلَتْهُ الصَّحَابَةُ فَمَنْ بَعْدَهُمْ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

وَأَمَّا تَوَقُّفُ الزُّبَيْرِ وَأَنَسٍ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي الرِّوَايَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْإِكْثَارِ مِنْهَا ، فَلِكَوْنِهِمْ خَافُوا الْغَلَطَ وَالنِّسْيَانَ . وَالنَّاسِي وَإِنْ كَانَ لَا إِثْمَ عَلَيْهِ ، فَقَدْ يُنْسَبُ إِلَى تَفْرِيطٍ لِتَسَاهُلِهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ . وَقَدْ تَعَلَّقَ بِالنَّاسِي بَعْضُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ كَغَرَامَاتِ الْمُتْلَفَاتِ وَانْتِقَاضٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمَعْرُوفَاتِ . وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .



باب بَيَانِ الصَّلَوَاتِ الَّتِي هِيَ أَحَدُ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ
[ سـ :38 ... بـ :11]
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ جَمِيلِ بْنِ طَرِيفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيُّ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ فِيمَا قُرِئَ عَلَيْهِ عَنْ أَبِي سُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ يَقُولُ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ ثَائِرُ الرَّأْسِ نَسْمَعُ دَوِيَّ صَوْتِهِ وَلَا نَفْقَهُ مَا يَقُولُ حَتَّى دَنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنْ الْإِسْلَامِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ فَقَالَ هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُنَّ قَالَ لَا إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ وَصِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ فَقَالَ هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُ فَقَالَ لَا إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزَّكَاةَ فَقَالَ هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا قَالَ لَا إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ قَالَ فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ وَاللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلَا أَنْقُصُ مِنْهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ جَمِيعًا عَنْ إِسْمَعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِي سُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا الْحَدِيثِ نَحْوَ حَدِيثِ مَالِكٍ غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْلَحَ وَأَبِيهِ إِنْ صَدَقَ أَوْ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَأَبِيهِ إِنْ صَدَقَ

بَابُ بَيَانِ الصَّلَوَاتِ الَّتِي هِيَ أَحَدُ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ

فِيهِ ( قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ الثَّقَفِيُّ ) اخْتُلِفَ فِيهِ ، فَقِيلَ . قُتَيْبَةُ اسْمُهُ ، وَقِيلَ : بَلْ هُوَ لَقَبٌ وَاسْمُهُ عَلِيٌّ ، قَالَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مَنْدَهْ . وَقِيلَ : اسْمُهُ يَحْيَى . قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ . وَأَمَّا قَوْلُهُ ( الثَّقَفِيُّ ) فَهُوَ مَوْلَاهُمْ قِيلَ : إِنَّ جَدَّهُ جَمِيلًا كَانَ مَوْلًى لِلْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ الثَّقَفِيِّ .

وَفِيهِ ( أَبُو سُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ ) اسْمُ أَبِي سُهَيْلٍ نَافِعُ بْنُ مَالِكِ بْنِ أَبِي عَامِرٍ الْأَصْبَحِيُّ ، وَنَافِعٌ عَمُّ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ الْإِمَامِ ، وَهُوَ تَابِعِيٌّ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ .

قَوْلُهُ : ( رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ ثَائِرُ الرَّأْسِ ) هُوَ بِرَفْعِ ثَائِرٍ صِفَةٌ لِرَجُلٍ وَقِيلَ يَجُوزُ نَصْبُهُ عَلَى الْحَالِ . وَمَعْنَى ثَائِرَ الرَّأْسِ قَائِمٌ شَعْرُهُ مُنْتَفِشُهُ .

وَقَوْلُهُ : ( نَسْمَعُ دَوِيَّ صَوْتِهِ وَلَا نَفْقَهُ مَا يَقُولُ ) رُوِيَ نَسْمَعُ وَنَفْقَهُ بِالنُّونِ الْمَفْتُوحَةِ فِيهِمَا ، وَرُوِيَ بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتُ الْمَضْمُومَةِ فِيهِمَا . وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَشْهَرُ الْأَكْثَرُ الْأَعْرَفُ .

وَأَمَّا ( دَوِيَّ صَوْتِهِ ) فَهُوَ بُعْدُهُ فِي الْهَوَاءِ وَمَعْنَاهُ شِدَّةُ صَوْتٍ لَا يُفْهَمُ ، وَهُوَ بِفَتْحِ الدَّالِ وَكَسْرِ الْوَاوِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ . وَحَكَى صَاحِبُ ( الْمَطَالِعِ ) فِيهِ ضَمَّ الدَّالِ أَيْضًا .

قَوْلُهُ : ( هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا قَالَ : لَا إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ ) الْمَشْهُورُ فِيهِ ( تَطَّوَّعَ ) بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ عَلَى إِدْغَامِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ فِي الطَّاءِ وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ مُحْتَمِلٌ لِلتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ عَلَى الْحَذْفِ . قَالَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ : قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ " اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ ، وَمَعْنَاهُ : لَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَكَ أَنْ تَطَّوَّعَ . وَجَعَلَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ اسْتِثْنَاءً مُتَّصِلًا وَاسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى مَنْ شَرَعَ فِي صَلَاةِ نَفْلٍ أَوْ صَوْمِ نَفْلٍ وَجَبَ عَلَيْهِ إِتْمَامُهُ ، وَمَذْهَبُنَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْإِتْمَامُ وَلَا يَجِبُ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

قَوْلُهُ : ( فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ : وَاللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلَا أَنْقُصُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ ) قِيلَ : هَذَا الْفَلَاحُ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهُ لَا أَنْقُصُ خَاصَّةً . وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْمَجْمُوعِ بِمَعْنَى أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَزِدْ وَلَمْ يَنْقُصْ كَانَ مُفْلِحًا لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا عَلَيْهِ ، وَمَنْ أَتَى بِمَا عَلَيْهِ فَهُوَ مُفْلِحٌ ، وَلَيْسَ فِي هَذَا أَنَّهُ إِذَا أَتَى بِزَائِدٍ لَا يَكُونُ مُفْلِحًا لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يُعْرَفُ بِالضَّرُورَةِ فَإِنَّهُ إِذَا أَفْلَحَ بِالْوَاجِبِ فَلَأَنْ يُفْلِحَ بِالْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ أَوْلَى . فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ قَالَ : لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا ، وَلَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ جَمِيعُ الْوَاجِبَاتِ وَلَا الْمَنْهِيَّاتِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَا السُّنَنِ الْمَنْدُوبَاتِ ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ جَاءَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ فِي آخِرِ هَذَا الْحَدِيثِ زِيَادَةٌ تُوَضِّحُ الْمَقْصُودَ قَالَ : فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ ، فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ : وَاللَّهِ لَا أَزِيدُ وَلَا أَنْقُصُ مِمَّا فَرَضَ اللَّهُ - تَعَالَى - عَلَيَّ شَيْئًا . فَعَلَى عُمُومِ قَوْلِهِ بِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ ، وَقَوْلِهِ : مِمَّا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ يَزُولُ الْإِشْكَالُ فِي الْفَرَائِضِ .

وَأَمَّا النَّوَافِلُ ، فَقِيلَ : يُحْتَمَلُ أَنَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ شَرْعِهَا ، وَقِيلَ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ لَا أَزِيدُ فِي الْفَرْضِ بِتَغْيِيرِ صِفَتِهِ كَأَنَّهُ يَقُولُ لَا أُصَلِّي الظُّهْرَ خَمْسًا وَهَذَا تَأْوِيلٌ ضَعِيفٌ . وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي النَّافِلَةَ مَعَ أَنَّهُ لَا يُخِلُّ بِشَيْءٍ مِنَ الْفَرَائِضِ وَهَذَا مُفْلِحٌ بِلَا شَكٍّ وَإِنْ كَانَتْ مُوَاظَبَتُهُ عَلَى تَرْكِ السُّنَنِ مَذْمُومَةٌ وَتُرَدُّ بِهَا الشَّهَادَةُ إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِعَاصٍ بَلْ هُوَ مُفْلِحٌ نَاجٍ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ذِكْرُ الْحَجِّ ، وَلَا جَاءَ ذِكْرُهُ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَكَذَا غَيْرُ هَذَا مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ لَمْ يُذْكَرْ فِي بَعْضِهَا الصَّوْمُ ، وَلَمْ يُذْكَرُ فِي بَعْضِهَا الزَّكَاةُ ، وَذُكِرَ فِي بَعْضِهَا صِلَةُ الرَّحِمِ ، وَفِي بَعْضِهَا أَدَاءُ الْخُمُسِ ، وَلَمْ يَقَعْ فِي بَعْضِهَا ذِكْرُ الْإِيمَانِ ، فَتَفَاوَتَتْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ فِي عَدَدِ خِصَالِ الْإِيمَانِ زِيَادَةً وَنَقْصًا وَإِثْبَاتًا وَحَذْفًا . وَقَدْ أَجَابَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - عَنْهَا بِجَوَابٍ لَخَّصَهُ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَهَذَّبَهُ فَقَالَ : لَيْسَ هَذَا بِاخْتِلَافٍ صَادِرٍ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلْ هُوَ مِنْ تَفَاوُتِ الرُّوَاةِ فِي الْحِفْظِ وَالضَّبْطِ ; فَمِنْهُمْ مَنْ قَصَّرَ فَاقْتَصَرَ عَلَى مَا حَفِظَهُ فَأَدَّاهُ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِمَا زَادَهُ غَيْرُهُ بِنَفْيٍ وَلَا إِثْبَاتٍ إِنْ كَانَ اقْتِصَارُهُ عَلَى ذَلِكَ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ الْكُلُّ فَقَدْ بَانَ بِمَا أَتَى بِهِ غَيْرُهُ مِنَ الثِّقَاتِ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِالْكُلِّ ، وَأَنَّ اقْتِصَارَهُ عَلَيْهِ كَانَ لِقُصُورِ حِفْظِهِ عَنْ تَمَامِهِ . أَلَا تَرَى حَدِيثَ النُّعْمَانِ بْنِ قَوْقَلٍ الْآتِي قَرِيبًا اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ فِي خِصَالِهِ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ مَعَ أَنَّ رَاوِيَ الْجَمِيعِ رَاوٍ وَاحِدٍ وَهُوَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي قَضِيَّةٍ وَاحِدَةٍ . ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنْ إِيرَادِ الْجَمِيعِ فِي الصَّحِيحِ لِمَا عُرِفَ فِي مَسْأَلَةِ زِيَادَةِ الثِّقَةِ مِنْ أَنَّا نَقْبَلُهَا هَذَا آخِرُ كَلَامِ الشَّيْخِ وَهُوَ تَقْرِيرٌ حَسَنٌ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : ( أَفْلَحَ وَأَبِيهِ إِنْ صَدَقَ ) هَذَا مِمَّا جَرَتْ عَادَتُهُمْ أَنْ يَسْأَلُوا عَنِ الْجَوَابِ عَنْهُ مَعَ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ وَجَوَابُهُ أَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : أَفْلَحَ وَأَبِيهِ لَيْسَ هُوَ حَلِفًا إِنَّمَا هُوَ كَلِمَةٌ جَرَتْ عَادَةُ الْعَرَبِ أَنْ تُدْخِلَهَا فِي كَلَامِهَا غَيْرَ قَاصِدَةٍ بِهَا حَقِيقَةَ الْحَلِفِ . وَالنَّهْيُ إِنَّمَا وَرَدَ فِيمَنْ قَصَدَ حَقِيقَةَ الْحَلِفِ لِمَا فِيهِ مِنْ إِعْظَامِ الْمَحْلُوفِ بِهِ وَمُضَاهَاتِهِ بِهِ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى . فَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ الْمُرْضِي . وَقِيلَ : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا قَبْلَ النَّهْيِ عَنِ الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَاللَّهُ أَعْلَمُ . وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الصَّلَاةَ الَّتِي هِيَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ الَّتِي أُطْلِقَتْ فِي بَاقِي الْأَحَادِيثِ هِيَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَأَنَّهَا فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ بِهَا ، وَقَوْلُنَا بِهَا احْتِرَازٌ مِنَ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ فَإِنَّهَا مُكَلَّفَةٌ بِأَحْكَامِ الشَّرْعِ إِلَّا الصَّلَاةَ وَمَا أُلْحِقَ بِهَا مِمَّا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ . وَفِيهِ أَنَّ وُجُوبَ صَلَاةِ اللَّيْلِ مَنْسُوخٌ فِي حَقِّ الْأُمَّةِ ، وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ ، وَاخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي نَسْخِهِ فِي حَقِّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْأَصَحُّ نَسْخُهُ . وَفِيهِ أَنَّ صَلَاةَ الْوِتْرِ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ ، وَأَنَّ صَلَاةَ الْعِيدِ أَيْضًا لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ وَهَذَا مَذْهَبُ الْجَمَاهِيرِ ، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَطَائِفَةٌ إِلَى وُجُوبِ الْوِتْرِ ، وَذَهَبَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إِلَى أَنَّ صَلَاةَ الْعِيدِ فَرْضُ كِفَايَةٍ . وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ صَوْمُ عَاشُورَاءَ وَلَا غَيْرِهِ سِوَى رَمَضَانَ . وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ كَانَ صَوْمُ عَاشُورَاءَ وَاجِبًا قَبْلَ إِيجَابِ رَمَضَانَ أَمْ كَانَ الْأَمْرُ بِهِ نَدْبًا ؟ وَهُمَا وَجْهَانِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَظْهَرُهُمَا : لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا . وَالثَّانِي كَانَ وَاجِبًا ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ . وَفِيهِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ عَلَى مَنْ مَلَكَ نِصَابًا وَفِيهِ غَيْرُ ذَلِكَ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .