فهرس الكتاب

شرح النووى على مسلم - بَابُ إِثْبَاتِ الْقِصَاصِ فِي الْأَسْنَانِ ، وَمَا فِي مَعْنَاهَا

باب إِثْبَاتِ الْقِصَاصِ فِي الْأَسْنَانِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا
[ سـ :3276 ... بـ :1675]
حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ أَخْبَرَنَا ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ أُخْتَ الرُّبَيِّعِ أُمَّ حَارِثَةَ جَرَحَتْ إِنْسَانًا فَاخْتَصَمُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِصَاصَ الْقِصَاصَ فَقَالَتْ أُمُّ الرَّبِيعِ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُقْتَصُّ مِنْ فُلَانَةَ وَاللَّهِ لَا يُقْتَصُّ مِنْهَا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُبْحَانَ اللَّهِ يَا أُمَّ الرَّبِيعِ الْقِصَاصُ كِتَابُ اللَّهِ قَالَتْ لَا وَاللَّهِ لَا يُقْتَصُّ مِنْهَا أَبَدًا قَالَ فَمَا زَالَتْ حَتَّى قَبِلُوا الدِّيَةَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ

قَوْلُهُ : ( عَنْ أَنَسٍ أَنَّ أُخْتَ الرُّبَيِّعِ أُمَّ حَارِثَةَ جَرَحَتْ إِنْسَانًا فَاخْتَصَمُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْقِصَاصَ الْقِصَاصَ ، فَقَالَتْ أُمُّ الرُّبَيِّعِ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُقْتَصُّ مِنْ فُلَانَةَ؟ وَاللَّهِ لَا يُقْتَصُّ مِنْهَا ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : سُبْحَانَ اللَّهِ يَا أُمَّ الرُّبَيِّعِ الْقِصَاصُ كِتَابُ اللَّهِ قَالَتْ : لَا وَاللَّهِ لَا يُقْتَصُّ مِنْهَا أَبَدًا ، قَالَ : فَمَا زَالَتْ حَتَّى قَبِلُوا الدِّيَةَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ ) . هَذِهِ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ ، وَخَالَفَهُ الْبُخَارِيُّ فِي رِوَايَتِهِ فَقَالَ : عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ عَمَّتَهُ الرُّبَيِّعَ كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ ، وَطَلَبُوا إِلَيْهَا الْعَفْوَ فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَبَوْا إِلَّا الْقِصَاصَ ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقِصَاصِ ، فَقَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُكْسَرُ ثَنِيَّةُ الرُّبَيِّعِ ؟ لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ ، فَرَضِيَ الْقَوْمُ فَعَفَوْا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ هَذَا لَفْظُ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ ، فَحَصَلَ الِاخْتِلَافُ فِي الرِّوَايَتَيْنِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ أَنَّ الْجَارِيَةَ أُخْتُ الرُّبَيِّعِ ، وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهَا الرُّبَيِّعُ بِنَفْسِهَا .

وَالثَّانِي : أَنَّ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ : أَنَّ الْحَالِفَ لَا تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا هِيَ أُمُّ الرَّبِيعِ بِفَتْحِ الرَّاءِ ، وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ : أَنَّهُ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ ، قَالَ الْعُلَمَاءُ : الْمَعْرُوفُ فِي الرِّوَايَاتِ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ ، وَقَدْ ذَكَرَهَا مِنْ طُرُقِهِ الصَّحِيحَةِ كَمَا ذَكَرْنَا عَنْهُ ، وَكَذَا رَوَاهُ أَصْحَابُ كُتُبِ السُّنَنِ ، قُلْتُ : إِنَّهُمَا قَضِيَّتَانِ ، أَمَّا ( الرُّبَيِّعُ ) الْجَارِيَةُ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ ، وَأُخْتُ الْجَارِيَةِ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فَهِيَ بِضَمِّ الرَّاءِ وَفَتْحِ الْبَاءِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ .

وَأَمَّا ( أُمُّ الرَّبِيعِ ) الْحَالِفَةُ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فَبِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرِ الْبَاءِ وَتَخْفِيفِ الْيَاءِ .

وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى : ( الْقِصَاصَ الْقِصَاصَ ) هُمَا مَنْصُوبَانِ أَيْ : أَدُّوا الْقِصَاصَ وَسَلِّمُوهُ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ .

وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ ) أَيْ : حُكْمُ كِتَابِ اللَّهِ وُجُوبُ الْقِصَاصِ فِي السِّنِّ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ : ( وَاللَّهِ لَا يُقْتَصُّ مِنْهَا ) فَلَيْسَ مَعْنَاهُ رَدَّ حُكْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; بَلِ الْمُرَادُ بِهِ الرَّغْبَةُ إِلَى مُسْتَحِقِّ الْقِصَاصِ أَنْ يَعْفُوَ ، وَإِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشَّفَاعَةِ إِلَيْهِمْ فِي الْعَفْوِ ، وَإِنَّمَا حَلَفَ ثِقَةً بِهِمْ أَلَّا يُحْنِثُوهُ ، أَوْ ثِقَةً بِفَضْلِ اللَّهِ وَلُطْفِهِ أَلَّا يُحْنِثَهُ ; بَلْ يُلْهِمُهُمُ الْعَفْوَ .

وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ مَعْنَاهُ : لَا يُحْنِثُهُ لِكَرَامَتِهِ عَلَيْهِ .

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ فَوَائِدُ : مِنْهَا : جَوَازُ الْحَلِفِ فِيمَا يَظُنُّهُ الْإِنْسَانُ .

وَمِنْهَا : جَوَازُ الثَّنَاءِ عَلَى مَنْ لَا يَخَافُ الْفِتْنَةَ بِذَلِكَ ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ هَذَا مَرَّاتٍ .

وَمِنْهَا : اسْتِحْبَابُ الْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ .

وَمِنْهَا : اسْتِحْبَابُ الشَّفَاعَةِ فِي الْعَفْوِ .

وَمِنْهَا : أَنَّ الْخِيَرَةَ فِي الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ لَا إِلَى الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ .

وَمِنْهَا : إِثْبَاتُ الْقِصَاصِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ ، وَفِيهِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ :

أَحَدُهَا : مَذْهَبُ عَطَاءٍ وَالْحَسَنِ : أَنَّهُ لَا قِصَاصَ بَيْنَهُمَا فِي نَفْسٍ وَلَا طَرَفٍ ; بَلْ تَتَعَيَّنُ دِيَةُ الْجِنَايَةِ ؛ تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى .

الثَّانِي : وَهُوَ مَذْهَبُ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ ثُبُوتُ الْقِصَاصِ بَيْنَهُمَا فِي النَّفْسِ وَفِيمَا دُونَهَا مِمَّا يَقْبَلُ الْقِصَاصَ ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : النَّفْسَ بِالنَّفْسِ إِلَى آخِرِهَا ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ شَرْعًا لِمَنْ قَبْلَنَا ، وَفِي الِاحْتِجَاجِ بِهِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ لِلْأُصُولِيِّينَ ، فَإِنَّمَا الْخِلَافُ إِذَا لَمْ يَرِدْ شَرْعُنَا بِتَقْرِيرِهِ وَمُوَافَقَتِهِ . فَإِنْ وَرَدَ كَانَ شَرْعًا لَنَا بِلَا خِلَافٍ ، وَقَدْ وَرَدَ شَرْعُنَا بِتَقْرِيرِهِ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ هَذَا . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

وَالثَّالِثُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ يَجِبُ الْقِصَاصُ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي النَّفْسِ ، وَلَا يَجِبُ فِيمَا دُونَهَا . وَمِنْهَا وُجُوبُ الْقِصَاصِ فِي السِّنِّ ، وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ إِذَا أَقَلَّهَا كُلَّهَا ، فَإِنْ كَسَرَ بَعْضَهَا فَفِيهِ وَفِي كَسْرِ سَائِرِ الْعِظَامِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ لِلْعُلَمَاءِ ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا قِصَاصَ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .