فهرس الكتاب

شرح النووى على مسلم - بَابُ إِذَا هَمَّ الْعَبْدُ بِحَسَنَةٍ كُتِبَتْ ، وَإِذَا هَمَّ بِسَيِّئَةٍ لَمْ

باب إِذَا هَمَّ الْعَبْدُ بِحَسَنَةٍ كُتِبَتْ وَإِذَا هَمَّ بِسَيِّئَةٍ لَمْ تُكْتَبْ
[ سـ :212 ... بـ :128]
حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَإِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَاللَّفْظُ لِأَبِي بَكْرٍ قَالَ إِسْحَقُ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ وَقَالَ الْآخَرَانِ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا هَمَّ عَبْدِي بِسَيِّئَةٍ فَلَا تَكْتُبُوهَا عَلَيْهِ فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا سَيِّئَةً وَإِذَا هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا فَاكْتُبُوهَا حَسَنَةً فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا عَشْرًا

فِيهِ أَبُو الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ أَمَّا أَبُو الزِّنَادِ فَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ذَكْوَانَ كُنْيَتُهُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَأَمَّا أَبُو الزِّنَادِ فَلَقَبٌ غَلَبَ عَلَيْهِ وَكَانَ يَغْضَبُ مِنْهُ وَأَمَّا الْأَعْرَجُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ هُرْمُزَ وَهَذَانِ وَإِنْ كَانَا مَشْهُورَيْنِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُمَا إِلَّا أَنَّهُ قَدْ تَخْفَى أَسْمَاؤُهُمَا عَلَى بَعْضِ النَّاظِرِينَ فِي الْكِتَابِ




[ سـ :214 ... بـ :129]
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ أَحَادِيثَ مِنْهَا قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا تَحَدَّثَ عَبْدِي بِأَنْ يَعْمَلَ حَسَنَةً فَأَنَا أَكْتُبُهَا لَهُ حَسَنَةً مَا لَمْ يَعْمَلْ فَإِذَا عَمِلَهَا فَأَنَا أَكْتُبُهَا بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا وَإِذَا تَحَدَّثَ بِأَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً فَأَنَا أَغْفِرُهَا لَهُ مَا لَمْ يَعْمَلْهَا فَإِذَا عَمِلَهَا فَأَنَا أَكْتُبُهَا لَهُ بِمِثْلِهَا وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ الْمَلَائِكَةُ رَبِّ ذَاكَ عَبْدُكَ يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً وَهُوَ أَبْصَرُ بِهِ فَقَالَ ارْقُبُوهُ فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ بِمِثْلِهَا وَإِنْ تَرَكَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً إِنَّمَا تَرَكَهَا مِنْ جَرَّايَ وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَحْسَنَ أَحَدُكُمْ إِسْلَامَهُ فَكُلُّ حَسَنَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ وَكُلُّ سَيِّئَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ بِمِثْلِهَا حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ

وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِنَّمَا تَرَكَهَا مِنْ جَرَّايَ هُوَ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَبِالْمَدِّ وَالْقَصْرِ لُغَتَانِ مَعْنَاهُ مِنْ أَجْلِي

وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَحْسَنَ أَحَدُكُمْ إِسْلَامَهُ فَكُلُّ حَسَنَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا وَكُلُّ سَيِّئَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ بِمِثْلِهَا مَعْنَى أَحْسَنَ إِسْلَامَهُ أَسْلَمَ إِسْلَامًا حَقِيقِيًّا وَلَيْسَ كَإِسْلَامِ الْمُنَافِقِينَ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا




[ سـ :217 ... بـ :130]
وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَعَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرًا إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ وَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ

وفِيهِ أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ هُوَ سُلَيْمَانُ بْنُ حَيَّانَ بِالْمُثَنَّاةِ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ

وَفِيهِ شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَبِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَهُوَ غَيْرُ مَصْرُوفٍ لِكَوْنِهِ عَجَمِيًّا عَلَمًا وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ

وَفِيهِ أَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ اسْمُهُ عِمْرَانُ بْنُ تَيْمٍ وَقِيلَ ابْنُ حُرَيْثٍ وَقِيلَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَدْرَكَ زَمَنَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَرَهُ وَأَسْلَمَ عَامَ الْفَتْحِ وَعَاشَ مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً وَقِيلَ مِائَةً وَثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً وَقِيلَ مِائَةً وَثَلَاثِينَ سَنَةً

وَأَمَّا فِقْهُ أَحَادِيثِ الْبَابِ وَمَعَانِيهَا فَكَثِيرَةٌ وَأَنَا أَخْتَصِرُ مَقَاصِدَهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَقَوْلُهُ لَمَّا نَزَلَتْ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَقَالُوا لَا نُطِيقهَا قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَازِرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِشْفَاقُهُمْ وَقَوْلُهُمْ لَا نُطِيقُهَا لِكَوْنِهِمُ اعْتَقَدُوا أَنَّهُمْ يُؤَاخَذُونَ بِمَا لَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَى دَفْعِهِ مِنَ الْخَوَاطِرِ الَّتِي لَا تُكْتَسَبُ فَلِهَذَا رَأَوْهُ مِنْ قِبَلِ مَا لَا يُطَاقُ وَعِنْدَنَا أَنَّ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقَ جَائِزٌ عَقْلًا وَاخْتُلِفَ هَلْ وَقَعَ التَّعَبُّدُ بِهِ فِي الشَّرِيعَةِ أَمْ لَا ؟ وَاللَّهُ أَعْلَمُ

وَأَمَّا قَوْلُهُ فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ نَسَخَهَا اللَّهُ تَعَالَى فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا فَقَالَ الْمَازِرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي تَسْمِيَةِ هَذَا نَسْخًا نَظَرٌ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ نَسْخًا إِذَا تَعَذَّرَ الْبِنَاءُ وَلَمْ يُمْكِنْ رَدُّ إِحْدَى الْآيَتَيْنِ إِلَى الْأُخْرَى

وَقَوْلُهُ تَعَالَى وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ عُمُومٌ يَصِحُّ أَنْ يَشْتَمِلَ عَلَى مَا يُمْلَكُ مِنَ الْخَوَاطِرِ دُونَ مَا لَا يُمْلَكُ فَتَكُونُ الْآيَةُ الْأُخْرَى مُخَصِّصَةً إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ فَهِمَتِ الصَّحَابَةُ بِقَرِينَةِ الْحَالِ أَنَّهُ تَقَرَّرَ تَعَبُّدُهُمْ بِمَا لَا يُمْلَكُ مِنَ الْخَوَاطِرِ فَيَكُونُ حِينَئِذٍ نَسْخًا لِأَنَّهُ رَفْعُ ثَابِتٍ مُسْتَقِرٍّ هَذَا كَلَامُ الْمَازِرِيِّ

قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ لَا وَجْهَ لِإِبْعَادِ النَّسْخِ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ فَإِنَّ رَاوِيَهَا قَدْ رَوَى فِيهَا النَّسْخَ وَنَصَّ عَلَيْهِ لَفْظًا وَمَعْنًى بِأَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُمْ بِالْإِيمَانِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لَمَّا أَعْلَمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ مُؤَاخَذَتِهِ إِيَّاهُمْ فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ وَأَلْقَى اللَّهُ تَعَالَى الْإِيمَانَ فِي قُلُوبِهِمْ وَذَلَّتْ بِالِاسْتِسْلَامِ لِذَلِكَ أَلْسِنَتُهُمْ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ رَفَعَ الْحَرَجَ عَنْهُمْ وَنَسَخَ هَذَا التَّكْلِيفَ وَطَرِيقُ عِلْمِ النَّسْخِ إِنَّمَا هُوَ بِالْخَبَرِ عَنْهُ أَوْ بِالتَّارِيخِ وَهُمَا مُجْتَمِعَانِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ الْقَاضِي وَقَوْلُ الْمَازِرِيِّ إِنَّمَا يَكُونُ نَسْخًا إِذَا تَعَذَّرَ الْبِنَاءُ كَلَامٌ صَحِيحٌ فِيمَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ النَّصُّ بِالنَّسْخِ فَإِنْ وَرَدَ وَقَفْنَا عِنْدَهُ لَكِنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ الْأُصُولِ فِي قَوْلِ الصَّحَابِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نُسِخَ كَذَا بِكَذَا هَلْ يَكُونُ حُجَّةٌ يَثْبُتُ بِهَا النَّسْخُ أَمْ لَا يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ ؟ وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَالْمُحَقِّقِينَ مِنْهُمْ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ قَوْلُهُ هَذَا عَنِ اجْتِهَادِهِ وَتَأْوِيلِهِ فَلَا يَكُونُ نَسْخًا حَتَّى يُنْقَلَ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدِهِمْ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِيهَا مِنَ النَّسْخِ وَأَنْكَرَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ قَالَ لِأَنَّهُ خَبَرٌ وَلَا يَدْخُلُ النَّسْخُ الْأَخْبَارَ وَلَيْسَ كَمَا قَالَ هَذَا الْمُتَأَخِّرُ فَإِنَّهُ - وَإِنْ كَانَ خَبَرًا - فَهُوَ خَبَرٌ عَنْ تَكْلِيفٍ وَمُؤَاخَذَةٍ بِمَا تُكِنُّ النُّفُوسُ وَالتَّعَبُّدُ بِمَا أَمَرَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ بِذَلِكَ وَأَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَهَذِهِ أَقْوَالُ وَأَعْمَالُ اللِّسَانِ وَالْقَلْبِ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ عَنْهُمْ بِرَفْعِ الْحَرَجِ وَالْمُؤَاخَذَةِ وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ مَعْنَى النَّسْخِ هُنَا إِزَالَةُ مَا وَقَعَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الشِّدَّةِ وَالْفَرَقِ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ فَأُزِيلَ عَنْهُمْ بِالْآيَةِ الْأُخْرَى وَاطْمَأَنَّتْ نُفُوسُهُمْ وَهَذَا الْقَائِلُ يَرَى أَنَّهُمْ لَمْ يُلْزَمُوا مَا لَا يُطِيقُونَ لَكِنْ مَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ مِنَ التَّحَفُّظِ مِنْ خَوَاطِرِ النَّفْسِ وَإِخْلَاصِ الْبَاطِنِ فَأَشْفَقُوا أَنْ يُكَلَّفُوا مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يُطِيقُونَ فَأُزِيلَ عَنْهُمُ الْإِشْفَاقُ وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَمْ يُكَلَّفُوا إِلَّا وُسْعَهُمْ عَلَى هَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ لِجَوَازِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ إِذْ لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ عَلَى تَكْلِيفِهِ وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِاسْتِعَاذَتِهِمْ مِنْهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَلَا يَسْتَعِيذُونَ إِلَّا مِمَّا يَجُوزُ التَّكْلِيفُ بِهِ وَأَجَابَ عَنْ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ مَا لَا نُطِيقُهُ إِلَّا بِمَشَقَّةٍ وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْآيَةَ مُحْكَمَةٌ فِي إِخْفَاءِ الْيَقِينِ وَالشَّكِّ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ فَيَغْفِرُ لِلْمُؤْمِنَيْنِ وَيُعَذِّبُ الْكَافِرِينَ هَذَا آخِرُ كَلَامِ الْقَاضِي عِيَاضٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -

وَذَكَرَ الْإِمَامُ الْوَاحِدِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الِاخْتِلَافَ فِي نَسْخِ الْآيَةِ ثُمَّ قَالَ وَالْمُحَقِّقُونَ يَخْتَارُونَ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ مُحْكَمَةً غَيْرَ مَنْسُوخَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ

وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ يَتَكَلَّمُوا أَوْ يَعْمَلُوا بِهِ وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ إِذَا هَمَّ عَبْدِي بِسَيِّئَةٍ فَلَا تَكْتُبُوا عَلَيْهِ فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا سَيِّئَةً وَإِذَا هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا فَاكْتُبُوهَا حَسَنَةً فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا عَشْرًا وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ فِي الْحَسَنَةِ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ وَفِي الْآخَرِ فِي السَّيِّئَةِ إِنَّمَا تَرَكَهَا مِنْ جَرَّايَ فَقَالَ الْإِمَامُ الْمَازِرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَذْهَبُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الطَّيِّبِ أَنَّ مَنْ عَزَمَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ بِقَلْبِهِ وَوَطَّنَ نَفْسَهُ عَلَيْهَا أَثِمَ فِي اعْتِقَادِهِ وَعَزْمِهِ وَيُحْمَلُ مَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَأَمْثَالِهَا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ فِيمَنْ لَمْ يُوَطِّنْ نَفْسَهُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَإِنَّمَا مَرَّ ذَلِكَ بِفِكْرِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِقْرَارٍ وَيُسَمَّى هَذَا هَمًّا وَيُفَرَّقُ بَيْنَ الْهَمِّ وَالْعَزْمِ

هَذَا مَذْهَبُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَخَالَفَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ وَأَخَذُوا بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ - - رَحِمَهُ اللَّهُ - - عَامَّةُ السَّلَفِ وَأَهْلُ الْعِلْمِ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ لِلْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمُؤَاخَذَةِ بِأَعْمَالِ الْقُلُوبِ لَكِنَّهُمْ قَالُوا إِنَّ هَذَا الْعَزْمَ يُكْتَبُ سَيِّئَةً وَلَيْسَتِ السَّيِّئَةُ الَّتِي هَمَّ بِهَا لِكَوْنِهِ لَمْ يَعْمَلْهَا وَقَطَعَهُ عَنْهَا قَاطِعٌ غَيْرُ خَوْفِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْإِنَابَةِ لَكِنْ نَفْسُ الْإِصْرَارِ وَالْعَزْمِ مَعْصِيَةٌ فَتُكْتَبُ مَعْصِيَةً فَإِذَا عَمِلَهَا كُتِبَتْ مَعْصِيَةً ثَانِيَةً فَإِنْ تَرَكَهَا خَشْيَةً لِلَّهِ تَعَالَى كُتِبَتْ حَسَنَةً كَمَا فِي الْحَدِيثِ " إِنَّمَا تَرَكَهَا مِنْ جَرَّايَ " فَصَارَ تَرْكُهُ لَهَا لِخَوْفِ اللَّهِ تَعَالَى وَمُجَاهَدَتِهِ نَفْسَهُ الْأَمَّارَةَ بِالسُّوءِ فِي ذَلِكَ وَعِصْيَانِهِ هَوَاهُ حَسَنَةً فَأَمَّا الْهَمُّ الَّذِي لَا يُكْتَبُ فَهِيَ الْخَوَاطِرُ الَّتِي لَا تُوَطَّنُ النَّفْسُ عَلَيْهَا وَلَا يَصْحَبُهَا عَقْدٌ وَلَا نِيَّةٌ وَعَزْمٌ

وَذَكَرَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ خِلَافًا فِيمَا إِذَا تَرَكَهَا لِغَيْرِ خَوْفِ اللَّهِ تَعَالَى بَلْ لِخَوْفِ النَّاسِ هَلْ تُكْتَبُ حَسَنَةً ؟ قَالَ لَا لِأَنَّهُ إِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى تَرْكِهَا الْحَيَاءُ وَهَذَا ضَعِيفٌ لَا وَجْهَ لَهُ هَذَا آخِرُ كَلَامِ الْقَاضِي وَهُوَ ظَاهِرٌ حَسَنٌ لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ وَقَدْ تَظَاهَرَتْ نُصُوصُ الشَّرْعِ بِالْمُؤَاخَذَةِ بِعَزْمِ الْقَلْبِ الْمُسْتَقِرِّ وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ الْآيَةَ وَقَوْلُهُ تَعَالَى اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَالْآيَاتُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ وَقَدْ تَظَاهَرَتْ نُصُوصُ الشَّرْعِ وَإِجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ عَلَى تَحْرِيمِ الْحَسَدِ وَاحْتِقَارِ الْمُسْلِمِينَ وَإِرَادَةِ الْمَكْرُوهِ بِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ وَعَزْمِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ

وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَنْ يَهْلِكَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا هَالِكٌ فَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَعْنَاهُ مَنْ حُتِمَ هَلَاكُهُ وَسُدَّتْ عَلَيْهِ أَبْوَابُ الْهُدَى مَعَ سَعَةِ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَرَمِهِ وَجَعْلِهِ السَّيِّئَةَ حَسَنَةً إِذَا لَمْ يَعْمَلْهَا وَإِذَا عَمِلَهَا وَاحِدَةً وَالْحَسَنَةَ إِذَا لَمْ يَعْمَلْهَا وَاحِدَةً وَإِذَا عَمِلَهَا عَشْرًا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ فَمَنْ حُرِمَ هَذِهِ السَّعَةُ وَفَاتَهُ هَذَا الْفَضْلُ وَكَثُرَتْ سَيِّئَاتُهُ حَتَّى غَلَبَتْ مَعَ أَنَّهَا أَفْرَادُ حَسَنَاتِهِ مَعَ أَنَّهَا مُتَضَاعِفَةٌ فَهُوَ الْهَالِكُ الْمَحْرُومُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ

قَالَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَفَظَةَ يَكْتُبُونَ أَعْمَالَ الْقُلُوبِ وَعَقْدَهَا خِلَافًا لِمَنْ قَالَ إِنَّهَا لَا تَكْتُبُ إِلَّا الْأَعْمَالَ الظَّاهِرَةَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ

وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ فَفِيهِ تَصْرِيحٌ بِالْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ الْمُخْتَارِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ التَّضْعِيفَ لَا يَقِفُ عَلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ وَحَكَى أَبُو الْحَسَنِ أَقْضَى الْقُضَاةِ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ التَّضْعِيفَ لَا يَتَجَاوَزُ سَبْعَمِائَةِ ضِعْفٍ وَهُوَ غَلَطٌ لِهَذَا الْحَدِيثِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ

وَفِي أَحَادِيثِ الْبَابِ بَيَانُ مَا أَكْرَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ هَذِهِ الْأُمَّةَ زَادَهَا اللَّهُ شَرَفًا وَخَفَّفَهُ عَنْهُمْ مِمَّا كَانَ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الْإِصْرِ وَهُوَ الثِّقْلُ وَالْمَشَاقُّ وَبَيَانُ مَا كَانَتِ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَيْهِ مِنَ الْمُسَارَعَةِ إِلَى الِانْقِيَادِ لِأَحْكَامِ الشَّرْعِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ هَذَا الدُّعَاءُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا إِلَى آخِرِ السُّورَةِ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُؤْمِنِينَ وَجَعَلَهُ فِي كِتَابِهِ لِيَكُونَ دُعَاءُ مَنْ يَأْتِي بَعْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَهُوَ مِنَ الدُّعَاءِ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُحْفَظَ وَيُدْعَى بِهِ كَثِيرًا قَالَ الزَّجَّاجُ وَقَوْلُهُ تَعَالَى فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ أَيْ أَظْهِرْنَا عَلَيْهِمْ فِي الْحُجَّةِ وَالْحَرْبِ وَإِظْهَارِ الدِّينِ . وَسَيَأْتِي فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : مَنْ قَرَأَ الْآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ قِيلَ : كَفَتَاهُ مِنْ قِيَامِ تِلْكَ اللَّيْلَةِ . وَقِيلَ : كَفَتَاهُ الْمَكْرُوهَ فِيهَا . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .