فهرس الكتاب

فتح الباري لابن حجر - باب قول الله تبارك وتعالى: {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى} [الإسراء: 110]

( قَولُهُ بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قُلِ ادعوا الله أَو ادعوا الرَّحْمَن أَيَّامًا تدعوا فَلهُ الْأَسْمَاء الْحسنى)
ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ جَرِيرٍ لَا يَرْحَمُ اللَّهُ مَنْ لَا يَرْحَمُ النَّاسَ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْأَدَبِ وَحَدِيثَ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ فِي قِصَّةِ وَلَدِ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِيَ عَنْهَا وَفِيهِ فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ وَفِيهِ هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ قَالَ بن بَطَّالٍ غَرَضُهُ فِي هَذَا الْبَابِ إِثْبَاتُ الرَّحْمَةَ وَهِيَ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ فَالرَّحْمَنُ وَصْفٌ وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ نَفْسَهُ وَهُوَ مُتَضَمِّنٌ لِمَعْنَى الرَّحْمَةِ كَمَا تَضَمَّنَ وَصْفُهُ بِأَنَّهُ عَالِمُ مَعْنَى الْعِلْمِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ قَالَ وَالْمُرَادُ بِرَحْمَتِهِ إِرَادَتُهُ نَفْعَ مَنْ سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُ يَنْفَعُهُ قَالَ وَأَسْمَاؤُهُ كُلُّهَا تَرْجِعُ إِلَى ذَاتٍ وَاحِدَةٍ وَإِنْ دَلَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا عَلَى صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ يَخْتَصُّ الِاسْمُ بِالدَّلَالَةِ عَلَيْهَا.
وَأَمَّا الرَّحْمَةُ الَّتِي جَعَلَهَا فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ فَهِيَ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ وَصَفَهَا بِأَنَّهُ خَلَقَهَا فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ وَهِيَ رِقَّةٌ عَلَى الْمَرْحُومِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الْوَصْفِ بِذَلِكَ فتتأول بِمَا يَلِيق بِهِ.

     وَقَالَ  بن التِّينِ الرَّحْمَنُ وَالرَّحِيمُ مُشْتَقَّانِ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقِيلَ هُمَا اسْمَانِ مِنْ غَيْرِ اشْتِقَاقٍ وَقِيلَ يَرْجِعَانِ إِلَى مَعْنَى الْإِرَادَةِ فَرَحْمَتُهُ إِرَادَتُهُ تَنْعِيمَ مَنْ يَرْحَمُهُ وَقِيلَ رَاجِعَانِ إِلَى تَرْكِهِ عِقَابَ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ.

     وَقَالَ  الْحَلِيمِيُّ مَعْنَى الرَّحْمَنِ أَنَّهُ مُزِيحُ الْعِلَلِ لِأَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ بِعِبَادَتِهِ بَيَّنَ حُدُودَهَا وَشُرُوطَهَا فَبَشَّرَ وَأَنْذَرَ وَكَلَّفَ مَا تَحْمِلُهُ بِنْيَتُهُمْ فَصَارَتِ الْعِلَلُ عَنْهُمْ مُزَاحَةً وَالْحِجَجُ مِنْهُمْ مُنْقَطِعَةً قَالَ وَمَعْنَى الرَّحِيمِ أَنَّهُ الْمُثِيبُ عَلَى الْعَمَلِ فَلَا يُضَيِّعُ لِعَامِلٍ أَحْسَنَ عَمَلًا بَلْ يُثِيبُ الْعَامِلَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ أَضْعَافَ عَمَلِهِ.

     وَقَالَ  الْخَطَّابِيُّ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الرَّحْمَنَ مَأْخُوذٌ مِنَ الرَّحْمَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ وَمَعْنَاهُ ذُو الرَّحْمَةِ لَا نَظِيرَ لَهُ فِيهَا وَلِذَلِكَ لَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعُ وَاحْتَجَّ لَهُ الْبَيْهَقِيُّ بِحَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَفِيهِ خَلَقْتُ الرَّحِمَ وَشَقَقْتُ لَهَا اسْمًا مِنَ اسْمِي.

قُلْتُ وَكَذَا حَدِيثُ الرَّحْمَةِ الَّذِي اشْتَهَرَ بِالْمُسَلْسَلِ بِالْأَوَّلِيَّةِ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ بِلَفْظِ الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ الْحَدِيثَ ثُمَّ قَالَ الْخَطَّابِيُّ فَالرَّحْمَنُ ذُو الرَّحْمَةِ الشَّامِلَةِ لِلْخَلْقِ وَالرَّحِيمُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٌ وَهُوَ خَاصٌّ بِالْمُؤْمِنِينَ قَالَ تَعَالَى وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رحِيما وَأورد عَن بن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ الرَّحْمَنُ وَالرَّحِيمُ اسْمَانِ رَقِيقَانِ أَحَدُهُمَا أَرَقُّ مِنَ الْآخَرِ وَعَنْ مُقَاتِلٍ أَنَّهُ نَقَلَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ مِثْلُهُ وَزَادَ فَالرَّحْمَنُ بِمَعْنَى الْمُتَرَحِّمِ وَالرَّحِيمُ بِمَعْنَى الْمُتَعَطِّفِ ثُمَّ قَالَ الْخَطَّابِيُّ لَا مَعْنَى لِدُخُولِ الرِّقَّةِ فِي شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا اللُّطْفُ وَمَعْنَاهُ الْغُمُوضُ لَا الصِّغَرُ الَّذِي هُوَ مِنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ قلت والْحَدِيث الْمَذْكُور عَن بن عَبَّاسٍ لَا يَثْبُتُ لِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ الْكَلْبِيِّ عَن أبي صَالِحٍ عَنْهُ وَالْكَلْبِيُّ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ وَكَذَلِكَ مُقَاتِلٌ وَنَقَلَ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْمُفَضَّلِ الْبَجَلِيِّ انه نسب رَاوِي حَدِيث بن عَبَّاسٍ إِلَى التَّصْحِيفِ.

     وَقَالَ  إِنَّمَا هُوَ الرَّفِيقُ بِالْفَاءِ وَقَوَّاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِالْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْق وَيُعْطِي عَلَيْهِ مَالا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ وَأَوْرَدَ لَهُ شَاهِدًا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ وَمِنْ طَرِيقِ عبد الرَّحْمَن بن يحيى ثمَّ قَالَ والرحمن خَاصٌّ فِي التَّسْمِيَةِ عَامٌّ فِي الْفِعْلِ وَالرَّحِيمُ عَامٌّ فِي التَّسْمِيَةِ خَاصٌّ فِي الْفِعْلِ وَاسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ مَنْ حَلَفَ بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى كَالرَّحْمَنِ وَالرَّحِيمِ انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي مَوْضِعِهِ وَعَلَى أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا أَقَرَّ بِالْوَحْدَانِيَّةِ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ وَقَدْ خَصَّ الْحَلِيمِيُّ مِنْ ذَلِكَ مَا يَقَعُ بِهِ الِاشْتِرَاكُ كَمَا لَوْ قَالَ الطَّبَائِعِيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا الْمُحْيِي الْمُمِيتُ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا حَتَّى يُصَرِّحَ بِاسْمٍ لَا تَأْوِيلَ فِيهِ وَلَوْ قَالَ مَنْ يُنْسَبُ إِلَى التَّجْسِيمِ مِنَ الْيَهُودِ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي فِي السَّمَاءِ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا كَذَلِكَ إِلَّا إِنْ كَانَ عَامِّيًّا لَا يَفْقَهُ مَعْنَى التَّجْسِيمِ فَيُكْتَفَى مِنْهُ بِذَلِكَ كَمَا فِي قِصَّةِ الْجَارِيَةِ الَّتِي سَأَلَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْتِ مُؤْمِنَةٌ قَالَتْ نَعَمْ قَالَ فَأَيْنَ اللَّهُ قَالَتْ فِي السَّمَاءِ فَقَالَ أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَإِنَّ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا الرَّحْمَنُ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ إِلَّا إِنْ عُرِفَ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ عِنَادًا وَسَمَّى غَيْرَ اللَّهِ رَحْمَانًا كَمَا وَقَعَ لِأَصْحَابِ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ قَالَ الْحَلِيمِيُّ وَلَوْ قَالَ الْيَهُودِيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ لَمْ يَكُنْ مُسْلِمًا حَتَّى يُقِرَّ بِأَنَّهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَلَوْ قَالَ الْوَثَنِيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهَ وَكَانَ يَزْعُمُ أَنَّ الصَّنَمَ يُقَرِّبُهُ إِلَى اللَّهِ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا حَتَّى يَتَبَرَّأَ مِنْ عِبَادَةِ الصَّنَمِ تَنْبِيهَانِ أَحَدُهُمَا الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ تَصَرُّفِ الْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ أَنَّهُ يَسُوقُ الْأَحَادِيثَ الَّتِي وَرَدَتْ فِي الصِّفَاتِ الْمُقَدَّسَةِ فَيُدْخِلُ كُلَّ حَدِيثٍ مِنْهَا فِي بَابٍ وَيُؤَيِّدُهُ بِآيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى خُرُوجِهَا عَنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ عَلَى طَرِيقِ التَّنَزُّلِ فِي تَرْكِ الِاحْتِجَاجِ بِهَا فِي الِاعْتِقَادِيَّاتِ وَأَنَّ مَنْ أَنْكَرَهَا خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ جَمِيعًا وَقد اخْرُج بن أَبِي حَاتِمٍ فِي كِتَابِ الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ سَلَّامِ بْنِ أَبِي مُطِيعٍ وَهُوَ شَيْخُ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ ذَكَرَ الْمُبْتَدِعَةَ فَقَالَ وَيْلَهُمْ مَاذَا يُنْكِرُونَ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهِ مَا فِي الْحَدِيثِ شَيْءٌ إِلَّا وَفِي الْقُرْآنِ مِثْلُهُ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خلقت بيَدي وكلم الله مُوسَى تكليما الرَّحْمَن على الْعَرْش اسْتَوَى وَنَحْوُ ذَلِكَ فَلَمْ يَزَلْ أَيْ سَلَّامُ بْنُ مُطِيعٍ يَذْكُرُ الْآيَاتِ مِنَ الْعَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ وَكَأَنَّهُ لَمَّحَ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ إِلَى مَا وَرَدَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ بن مرْدَوَيْه بِسَنَد ضَعِيف عَن بن عَبَّاسٍ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ سَمِعُوا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو يَا اللَّهُ يَا رَحْمَنُ فَقَالُوا كَانَ مُحَمَّدٌ يَأْمُرُنَا بِدُعَاءِ إِلَهٍ وَاحِدٍ وَهُوَ يَدْعُو إِلَهَيْنِ فَنَزَلَتْ وَأَخْرَجَ عَنْ عَائِشَةَ بِسَنَدٍ آخَرَ نَحْوَهُ الثَّانِي



[ قــ :6982 ... غــ :7376] .

     قَوْلُهُ  فِي السَّنَدِ الْأَوَّلِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ كَذَا لِلْأَكْثَرِ قَالَ الْكِرْمَانِيُّ تَبَعًا لِأَبِي عَلِيٍّ الْجَيَّانِيِّ هُوَ إِمَّا بن سَلام واما بن الْمثنى انْتهى وَقد وَقع التَّصْرِيح بِأَنَّهُ بن سَلَّامٍ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ عَنْ شُيُوخِهِ فَتَعَيَّنَ الْجَزْمُ بِهِ كَمَا صَنَعَ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ فَإِنَّهُ قَالَ ح عَنْ مُحَمَّدٍ وَهُوَ بن سَلَّامٍ.

قُلْتُ وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ عَبَّرَ بِقَوْلِهِ أَنْبَأَنَا أَبُو مُعَاوِيَة وَلَو كَانَ بن الْمُثَنَّى لَقَالَ حَدَّثَنَا لِمَا عُرِفَ مِنْ عَادَةِ كل مِنْهُمَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ