فهرس الكتاب

فتح الباري لابن حجر - باب وجوب صلاة الجماعة

( قَولُهُ بَابُ وُجُوبِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ)
هَكَذَا بَتَّ الْحُكْمَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَكَأَنَّ ذَلِكَ لِقُوَّةِ دَلِيلِهَا عِنْدَهُ لَكِنْ أَطْلَقَ الْوُجُوبَ وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ وُجُوبُ عَيْنٍ أَوْ كِفَايَةٍ إِلَّا أَنَّ الْأَثَرَ الَّذِي ذَكَرَهُ عَنِ الْحَسَنِ يُشْعِرُ بِكَوْنِهِ يُرِيدُ أَنَّهُ وُجُوبُ عَيْنٍ لِمَا عُرِفَ مِنْ عَادِتِهِ أَنَّهُ يَسْتَعْمِلُ الْآثَارَ فِي التَّرَاجِمِ لِتَوْضِيحِهَا وَتَكْمِيلِهَا وَتَعْيِينِ أَحَدِ الِاحْتِمَالَاتِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ وَبِهَذَا يُجَابُ مَنِ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ قَوْلَ الْحَسَنِ يُسْتَدَلُّ لَهُ لَا بِهِ وَلَمْ يُنَبِّهْ أَحَدٌ مِنَ الشُّرَّاحِ عَلَى مَنْ وَصَلَ أَثَرَ الْحَسَنِ وَقَدْ وَجَدْتُهُ بِمَعْنَاهُ وَأَتَمَّ مِنْهُ وَأَصْرَحَ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ لِلْحُسَيْنِ بْنِ الْحَسَنِ الْمَرْوَزِيِّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي رَجُلٍ يَصُومُ يَعْنِي تَطَوُّعًا فَتَأْمُرُهُ أُمُّهُ أَنْ يُفْطِرَ قَالَ فَلْيُفْطِرْ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَلَهُ أَجْرُ الصَّوْمِ وَأَجْرُ الْبِرِّ قِيلَ فَتَنْهَاهُ أَنْ يُصَلِّيَ الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ قَالَ لَيْسَ ذَلِكَ لَهَا هَذِهِ فَرِيضَةٌ.
وَأَمَّا حَدِيثُ الْبَابِ فَظَاهِرٌ فِي كَوْنِهَا فَرْضَ عَيْنٍ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ سُنَّةً لَمْ يُهَدَّدْ تَارِكُهَا بِالتَّحْرِيقِ وَلَوْ كَانَتْ فَرْضَ كِفَايَةٍ لَكَانَتْ قَائِمَةً بِالرَّسُولِ وَمَنْ مَعَهُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ التَّهْدِيدُ بِالتَّحْرِيقِ الْمَذْكُورِ يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ فِي حَقِّ تَارِكِي فَرْضِ الْكِفَايَةِ كَمَشْرُوعِيَّةِ قِتَالِ تَارِكِي فَرْضِ الْكِفَايَةِ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ التَّحْرِيقَ الَّذِي قَدْ يُفْضِي إِلَى الْقَتْلِ أَخَصُّ مِنَ الْمُقَاتَلَةِ وَلِأَنَّ الْمُقَاتَلَةَ إِنَّمَا تُشْرَعُ فِيمَا إِذَا تَمَالَأَ الْجَمِيعُ عَلَى التَّرْكِ وَإِلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا فَرْضُ عَيْنٍ ذَهَبَ عَطَاءٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ وَجَمَاعَةٌ مِنْ مُحَدِّثِي الشَّافِعِيَّةِ كَأَبِي ثَوْر وبن خُزَيْمَة وبن الْمُنْذر وبن حِبَّانَ وَبَالَغَ دَاوُدُ وَمَنْ تَبِعَهُ فَجَعَلَهَا شَرْطًا فِي صِحَة الصَّلَاة وَأَشَارَ بن دَقِيقِ الْعِيدِ إِلَى أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ مَا وَجَبَ فِي الْعِبَادَةِ كَانَ شَرْطًا فِيهَا فَلَمَّا كَانَ الْهم الْمَذْكُورُ دَالًّا عَلَى لَازِمِهِ وَهُوَ الْحُضُورُ وَوُجُوبُ الْحُضُورِ دَلِيلًا عَلَى لَازِمِهِ وَهُوَ الِاشْتِرَاطُ ثَبَتَ الِاشْتِرَاطُ بِهَذِهِ الْوَسِيلَةِ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِتَسْلِيمِ أَنَّ مَا وَجَبَ فِي الْعِبَادَةِ كَانَ شَرْطًا فِيهَا وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ الْغَالِبُ وَلَمَّا كَانَ الْوُجُوبُ قَدْ يَنْفَكُّ عَنِ الشَّرْطِيَّةِ قَالَ أَحْمَدُ إِنَّهَا وَاجِبَةٌ غَيْرُ شَرْطٍ انْتَهَى وَظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ.

     وَقَالَ  بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْبَاقِينَ أَنَّهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ وَقَدْ أَجَابُوا عَنْ ظَاهِرِ حَدِيثِ الْبَابِ بِأَجْوِبَةٍ مِنْهَا مَا تَقَدَّمَ وَمِنْهَا وَهُوَ ثَانِيهَا وَنَقله إِمَام الْحَرَمَيْنِ عَن بن خُزَيْمَةَ وَالَّذِي نَقَلَهُ عَنْهُ النَّوَوِيُّ الْوُجُوبُ حَسْبَمَا قَالَ بن بَزِيزَةَ إِنَّ بَعْضَهُمُ اسْتَنْبَطَ مِنْ نَفْسِ الْحَدِيثِ عَدَمَ الْوُجُوبِ لِكَوْنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَمَّ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى الْمُتَخَلِّفِينَ فَلَوْ كَانَتِ الْجَمَاعَةُ فَرْضَ عَيْنٍ مَا هَمَّ بِتَرْكِهَا إِذَا تَوَجَّهَ وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْوَاجِبَ يَجُوزُ تَرْكُهُ لِمَا هُوَ أَوْجَبُ مِنْهُ.

قُلْتُ وَلَيْسَ فِيهِ أَيْضًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَتَدَارَكْهَا فِي جَمَاعَةٍ آخَرِينَ وَمِنْهَا وَهُوَ ثَالِثُهَا مَا قَالَ بن بطال وَغَيره لوكانت فَرْضًا لَقَالَ حِينَ تَوَعَّدَ بِالْإِحْرَاقِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنِ الْجَمَاعَةِ لَمْ تُجْزِئْهُ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ وَقْتُ الْبَيَان وَتعقبه بن دَقِيقِ الْعِيدِ بِأَنَّ الْبَيَانَ قَدْ يَكُونُ بِالتَّنْصِيصِ وَقَدْ يَكُونُ بِالدَّلَالَةِ فَلَّمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَدْ هَمَمْتُ إِلَخْ دَلَّ عَلَى وُجُوبِ الْحُضُورِ وَهُوَ كَافٍ فِي الْبَيَانِ وَمِنْهَا وَهُوَ رَابِعُهَا مَا قَالَ الْبَاجِيُّ وَغَيْرُهُ إِنَّ الْخَبَرَ وَرَدَ مَوَرِدَ الزَّجْرِ وَحَقِيقَتُهُ غَيْرُ مُرَادَةٍ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ الْمُبَالَغَةُ وَيُرْشِدُ إِلَى ذَلِكَ وَعِيدُهُمْ بِالْعُقُوبَةِ الَّتِي يُعَاقَبُ بِهَا الْكُفَّارُ وَقَدِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى مَنْعِ عُقُوبَةِ الْمُسْلِمِينَ بِذَلِكَ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمَنْعَ وَقَعَ بَعْدَ نَسْخِ التَّعْذِيبِ بِالنَّارِ وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ جَائِزًا بِدَلِيلِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْآتِي فِي الْجِهَادِ الدَّالِّ عَلَى جَوَازِ التَّحْرِيقِ بِالنَّارِ ثُمَّ عَلَى نَسْخِهِ فَحَمْلُ التَّهْدِيدِ عَلَى حَقِيقَتِهِ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ وَمِنْهَا وَهُوَ خَامِسُهَا كَوْنُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ تَحْرِيقَهُمْ بَعْدَ التَّهْدِيدِ فَلَوْ كَانَ وَاجِبًا مَا عَفَا عَنْهُمْ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَمَنْ تَبِعَهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ حُجَّةٌ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَمَّ وَلَمْ يَفْعَلْ زَادَ النَّوَوِيُّ وَلَوْ كَانَتْ فَرْضَ عين لما تَركهم وَتعقبه بن دَقِيقِ الْعِيدِ فَقَالَ هَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم لايهم إِلَّا بِمَا يَجُوزُ لَهُ فِعْلُهُ لَوْ فَعَلَهُ.
وَأَمَّا التَّرْكُ فَلَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونُوا انْزَجَرُوا بِذَلِكَ وَتَرَكُوا التَّخَلُّفَ الَّذِي ذَمَّهُمْ بِسَبَبِهِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ بَيَانُ سَبَبِ التَّرْكِ وَهُوَ فِيمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ لَوْلَا مَا فِي الْبُيُوتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ لَأَقَمْتُ صَلَاةَ الْعِشَاءِ وَأَمَرْتُ فِتْيَانِي يُحَرِّقُونَ الْحَدِيثَ وَمِنْهَا وَهُوَ سَادِسُهَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّهْدِيدِ قَوْمٌ تَرَكُوا الصَّلَاةَ رَأْسًا لَا مُجَرَّدَ الْجَمَاعَةِ وَهُوَ مُتَعَقَّبٌ بِأَنَّ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ أَيْ لَا يَحْضُرُونَ وَفِي رِوَايَةِ عَجْلَانَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ لَا يَشْهَدُونَ الْعِشَاءَ فِي الْجَمِيعِ أَيْ فِي الْجَمَاعَةِ وَفِي حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زيد عِنْد بن مَاجَهْ مَرْفُوعًا لَيَنْتَهِيَنَّ رِجَالٌ عَنْ تَرْكِهِمُ الْجَمَاعَاتِ أَوْ لَأُحَرِّقَنَّ بُيُوتَهُمْ وَمِنْهَا وَهُوَ سَابِعُهَا أَنَّ الْحَدِيثَ وَرَدَ فِي الْحَثِّ عَلَى مُخَالَفَةِ فِعْلِ أَهْلِ النِّفَاقِ وَالتَّحْذِيرِ مِنَ التَّشَبُّهِ بِهِمْ لَا لِخُصُوصِ تَرْكِ الْجَمَاعَةِ فَلَا يَتِمُّ الدَّلِيلُ أَشَارَ إِلَيْهِ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْوَجْهِ الرَّابِعِ وَمِنْهَا وَهُوَ ثَامِنُهَا أَنَّ الْحَدِيثَ وَرَدَ فِي حَقِّ الْمُنَافِقِينَ فَلَيْسَ التَّهْدِيدُ لِتَرْكِ الْجَمَاعَةِ بِخُصُوصِهِ فَلَا يَتِمُّ الدَّلِيلُ وَتُعُقِّبَ بِاسْتِبْعَادِ الِاعْتِنَاءِ بِتَأْدِيبِ الْمُنَافِقِينَ عَلَى تَرْكِهِمُ الْجَمَاعَةَ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَا صَلَاةَ لَهُمْ وَبِأَنَّهُ كَانَ مُعْرِضًا عَنْهُمْ وَعَنْ عُقُوبَتِهِمْ مَعَ عِلْمِهِ بِطَوِيَّتِهِمْ وَقَدْ قَالَ لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ وَتعقب بن دَقِيق الْعِيد هَذَا التعقب بِأَنَّهُ لَا يَتِمُّ إِلَّا إِذَا ادَّعَى أَنَّ تَرْكَ مُعَاقَبَةِ الْمُنَافِقِينَ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ وَلَا دَلِيلَ عَلَى ذَلِكَ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ مُخَيَّرًا فَلَيْسَ فِي إِعْرَاضِهِ عَنْهُمْ مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ تَرْكِ عُقُوبَتِهِمْ انْتَهَى وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ الْحَدِيثَ وَرَدَ فِي الْمُنَافِقِينَ لِقَوْلِهِ فِي صَدْرِ الْحَدِيثِ الْآتِي بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَبْوَابٍ لَيْسَ صَلَاةٌ أَثْقَلَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ مِنَ الْعِشَاءِ وَالْفَجْرِ الْحَدِيثَ وَلِقَوْلِهِ لَوْ يَعْلَمُ أَحَدُهُمْ إِلَخْ لِأَنَّ هَذَا الْوَصْفَ لَائِقٌ بِالْمُنَافِقِينَ لَا بِالْمُؤْمِنِ الْكَامِلِ لَكِنِ الْمُرَادُ بِهِ نِفَاقُ الْمَعْصِيَةِ لَا نِفَاقُ الْكُفْرِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ عَجْلَانَ لَا يَشْهَدُونَ الْعِشَاءَ فِي الْجَمِيعِ وَقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ أُسَامَةَ لَا يَشْهَدُونَ الْجَمَاعَةَ وَأَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ .

     قَوْلُهُ  فِي رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ ثُمَّ آتِي قَوْمًا يُصَلُّونَ فِي بُيُوتِهِمْ لَيْسَتْ بِهِمْ عِلَّةٌ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نِفَاقَهُمْ نِفَاقُ مَعْصِيَةٍ لَا كُفْرٍ لِأَنَّ الْكَافِرَ لَا يُصَلِّي فِي بَيْتِهِ إِنَّمَا يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ رِيَاءً وَسُمْعَةً فَإِذَا خَلَا فِي بَيْتِهِ كَانَ كَمَا وَصَفَهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالِاسْتِهْزَاءِ نَبَّهَ عَلَيْهِ الْقُرْطُبِيُّ وَأَيْضًا فَ.

     قَوْلُهُ  فِي رِوَايَةِ الْمَقْبُرِيِّ لَوْلَا مَا فِي الْبُيُوتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا كُفَّارًا لِأَنَّ تَحْرِيقَ بَيْتِ الْكَافِرِ إِذَا تَعَيَّنَ طَرِيقًا إِلَى الْغَلَبَةِ عَلَيْهِ لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ وُجُودُ النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ فِي بَيْتِهِ وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالنِّفَاقِ فِي الْحَدِيثِ نِفَاقَ الْكُفْرِ فَلَا يدل على عدم الْوُجُوب لِأَنَّهُ يتَضَمَّن أَن ترك الْجَمَاعَة من صِفَات الْمُنَافِقين وَقد نهينَا عَن التَّشَبُّه بهم وَسِيَاق الحَدِيث يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ مِنْ جِهَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي ذَمِّ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا قَالَ الطِّيبِيُّ خُرُوجُ الْمُؤْمِنِ مِنْ هَذَا الْوَعِيدِ لَيْسَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُمْ إِذَا سَمِعُوا النِّدَاءَ جَازَ لَهُمُ التَّخَلُّفُ عَنِ الْجَمَاعَةِ بَلْ مِنْ جِهَةِ أَنَّ التَّخَلُّفَ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِمْ بَلْ هُوَ مِنْ صِفَاتِ الْمُنَافِقين وَيدل عَلَيْهِ قَول بن مَسْعُودٍ لَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنِ الْجَمَاعَةِ إِلَّا مُنَافِقٌ رَوَاهُ مُسْلِمٌ انْتَهَى كَلَامُهُ وَرَوَى بن أَبِي شَيْبَةَ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي عُمَيْرِ بْنِ أَنَسٍ حَدَّثَنِي عُمُومَتِي مِنَ الْأَنْصَارِ قَالُوا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَشْهَدُهُمَا مُنَافِقٌ يَعْنِي الْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ وَلَا يُقَالُ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ صَاحِبُ هَذَا الْوَجْهِ لِانْتِفَاءِ أَنْ يَكُونَ الْمُؤْمِنُ قَدْ يَتَخَلَّفُ وَإِنَّمَا وَرَدَ الْوَعِيدُ فِي حَقِّ مَنْ تَخَلَّفَ لِأَنِّي أَقُولُ بَلْ هَذَا يُقَوِّي مَا ظَهَرَ لِي أَوَّلًا أَنَّ الْمُرَادَ بِالنِّفَاقِ نِفَاقُ الْمَعْصِيَةِ لَا نِفَاقَ الْكُفْرِ فَعَلَى هَذَا الَّذِي خَرَجَ هُوَ الْمُؤْمِنُ الْكَامِلُ لَا الْعَاصِي الَّذِي يَجُوزُ إِطْلَاقُ النِّفَاقِ عَلَيْهِ مَجَازًا لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ مَجْمُوعُ الْأَحَادِيثِ وَمِنْهَا وَهُوَ تَاسِعُهَا مَا ادَّعَاهُ بَعْضُهُمْ أَنَّ فَرْضِيَّةَ الْجَمَاعَةِ كَانَتْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ لِأَجْلِ سَدِّ بَابِ التَّخَلُّفِ عَنِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ ثُمَّ نُسِخَ حَكَاهُ عِيَاضٌ وَيُمْكِنُ أَنْ يَتَقَوَّى بِثُبُوتِ نَسْخِ الْوَعِيدِ الْمَذْكُورِ فِي حَقِّهمْ وَهُوَ التَّحْرِيقُ بِالنَّارِ كَمَا سَيَأْتِي وَاضِحًا فِي كِتَابِ الْجِهَادِ وَكَذَا ثُبُوتُ نَسْخِ مَا يَتَضَمَّنُهُ التَّحْرِيقُ مِنْ جَوَازِ الْعُقُوبَةِ بِالْمَالِ وَيَدُلُّ عَلَى النَّسْخِ الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي تَفْضِيلِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ عَلَى صَلَاةِ الْفَذِّ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَ هَذَا لِأَنَّ الْأَفْضَلِيَّةَ تَقْتَضِي الِاشْتِرَاكَ فِي أَصْلِ الْفَضْلِ وَمِنْ لَازِمِ ذَلِكَ الْجَوَازُ وَمِنْهَا وَهُوَ عَاشِرُهَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّلَاةِ الْجُمُعَةُ لَا بَاقِي الصَّلَوَاتِ وَنَصَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ وَتُعُقِّبَ بِالْأَحَادِيثِ الْمُصَرِّحَةِ بِالْعِشَاءِ وَفِيهِ بَحْثٌ لِأَنَّ الْأَحَادِيثَ اخْتَلَفَتْ فِي تَعْيِينِ الصَّلَاةِ الَّتِي وَقَعَ التَّهْدِيدُ بِسَبَبِهَا هَل هِيَ الْجُمُعَة أَوِ الْعِشَاءُ وَالْفَجْرُ مَعًا فَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَحَادِيثَ مُخْتَلِفَةً وَلَمْ يَكُنْ بَعْضُهَا أَرْجَحَ مِنْ بَعْضٍ وَإِلَّا وَقَفَ الِاسْتِدْلَالُ لِأَنَّهُ لَا يَتِمُّ إِلَّا إِنْ تَعَيَّنَ كَوْنُهَا غَيْرَ الْجُمُعَةِ أَشَارَ إِلَيْهِ بن دَقِيقِ الْعِيدِ ثُمَّ قَالَ فَلْيُتَأَمَّلِ الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي ذَلِكَ انْتَهَى وَقَدْ تَأَمَّلْتُهَا فَرَأَيْتُ التَّعْيِينَ ورد فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة وبن أم مَكْتُوم وبن مَسْعُودٍ أَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَحَدِيثُ الْبَابِ من رِوَايَة الْأَعْرَج عَنهُ يومى إِلَى أَنَّهَا الْعِشَاءُ لِقَوْلِهِ فِي آخِرِهِ لَشَهِدَ الْعِشَاءَ وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ يَعْنِي الْعِشَاءَ وَلَهُمَا مِنْ رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ عَنْهُ أَيْضًا الْإِيمَاءُ إِلَى أَنَّهَا الْعشَاء والفجروعينها السَّرَّاجُ فِي رِوَايَةٍ لَهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ الْعِشَاءَ حَيْثُ قَالَ فِي صَدْرِ الْحَدِيثِ أَخَّرَ الْعِشَاءَ لَيْلَةً فَخَرَجَ فَوَجَدَ النَّاسَ قَلِيلًا فَغَضِبَ فَذكر الحَدِيث وَفِي رِوَايَة بن حِبَّانَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَعْنِي الصَّلَاتَيْنِ الْعِشَاءَ وَالْغَدَاةَ وَفِي رِوَايَةِ عَجْلَانَ وَالْمَقْبُرِيِّ عِنْدَ أَحْمَدَ التَّصْرِيحُ بِتَعْيِينِ الْعِشَاءِ ثُمَّ سَائِرِ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى الْإِبْهَامِ وَقَدْ أَوْرَدَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ عَنْ جَعْفَرَ بْنِ بُرْقَانَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ عَنْهُ فَلَمْ يَسُقْ لَفْظَهُ وَسَاقَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بإبهام الصَّلَاة وَكَذَلِكَ رَوَاهُ السراج وَغَيره من طُرُقٍ عَنْ جَعْفَرٍ وَخَالَفَهُمْ مَعْمَرٌ عَنْ جَعْفَرٍ فَقَالَ الْجُمُعَةُ أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْهُ وَالْبَيْهَقِيُّ من طَرِيقُهُ وَأَشَارَ إِلَى ضَعْفِهَا لِشُذُوذِهَا وَيَدُلُّ عَلَى وَهْمِهِ فِيهَا رِوَايَةُ أَبِي دَاوُدَ وَالطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ يَزِيدِ بْنِ جَابِرٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ قَالَ يَزِيدُ.

قُلْتُ لِيَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ يَا أَبَا عَوْفٍ الْجُمُعَةُ عَنَى أَوْ غَيْرَهَا قَالَ صُمَّتْ أُذُنَايَ إِنْ لَمْ أَكُنْ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَأْثِرُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا ذَكَرَ جُمُعَةً وَلَا غَيْرَهَا فَظَهَرَ أَنَّ الرَّاجِحَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهَا لَا تخْتَص بالجمعه وَأما حَدِيث بن أُمِّ مَكْتُومٍ فَسَأَذْكُرُهُ قَرِيبًا وَأَنَّهُ مُوَافِقٌ لِأَبِي هُرَيْرَة وَأما حَدِيث بن مَسْعُودٍ فَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَفِيهِ الْجَزْمُ بِالْجُمُعَةِ وَهُوَ حَدِيثٌ مُسْتَقِلٌّ لِأَنَّ مَخْرَجَهُ مُغَايِرٌ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَا يَقْدَحُ أَحَدُهُمَا فِي الْآخَرِ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُمَا وَاقِعَتَانِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ النَّوَوِيُّ والمحب الطَّبَرِيّ وَقد وَافق بن أُمِّ مَكْتُومٍ أَبَا هُرَيْرَةَ عَلَى ذِكْرِ الْعِشَاءِ وَذَلِكَ فِيمَا أخرجه بن خُزَيْمَةَ وَأَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ عَن بن أُمِّ مَكْتُومٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَقْبَلَ النَّاسَ فِي صَلَاةِ الْعِشَاءِ فَقَالَ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنِّي آتِي هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَتَخَلَّفُونَ عَنِ الصَّلَاةِ فَأُحَرِّقُ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ فَقَامَ بن أُمِّ مَكْتُومٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ عَلِمْتَ مَا بِي وَلَيْسَ لِي قَائِدٌ زَادَ أَحْمَدُ وَأَنَّ بَيْنِي وَبَيْنَ الْمَسْجِدِ شَجَرًا وَنَخْلًا وَلَا أَقْدِرُ عَلَى قَائِدٍ كُلَّ سَاعَةٍ قَالَ أَتَسْمَعُ الْإِقَامَةَ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَاحْضُرْهَا وَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُ وَلِابْنِ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ أَتَسْمَعُ الْأَذَانَ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَأْتِهَا وَلَوْ حَبْوًا وَقَدْ حَمَلَهُ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ لَا يَشُقُّ عَلَيْهِ التَّصَرُّفُ بِالْمَشْيِ وَحْدَهُ ككثير من العميان وَاعْتمد بن خُزَيْمَة وَغَيره حَدِيث بن أُمِّ مَكْتُومٍ هَذَا عَلَى فَرْضِيَّةِ الْجَمَاعَةِ فِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا وَرَجَّحُوهُ بِحَدِيثِ الْبَابِ وَبِالْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى الرُّخْصَةِ فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْجَمَاعَةِ قَالُوا لِأَنَّ الرُّخْصَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا عَنْ وَاجِبٍ وَفِيهِ نَظَرٌ وَوَرَاءَ ذَلِكَ أَمْرٌ آخَرُ أَلْزَمَ بِهِ بن دَقِيقِ الْعِيدِ مَنْ يَتَمَسَّكُ بِالظَّاهِرِ وَلَا يَتَقَيَّدُ بِالْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّ الْحَدِيثَ وَرَدَ فِي صَلَاةٍ مُعَيَّنَةٍ فَيَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْجَمَاعَةِ فِيهَا دُونَ غَيْرِهَا وَأَشَارَ لِلِانْفِصَالِ عَنْهُ بِالتَّمَسُّكِ بِدَلَالَةِ الْعُمُومِ لَكِنْ نُوزِعَ فِي كَوْنِ الْقَوْلِ بِمَا ذُكِرَ أَولا ظاهرية مَحْضَة صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِنَّ قَاعِدَةَ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ تَقْتَضِيهِ وَلَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ تَرْكَ اتِّبَاعِ الْمَعْنَى لِأَنَّ غَيْرَ الْعِشَاءِ وَالْفَجْرِ مَظِنَّةُ الشُّغْلِ بِالتَّكَسُّبِ وَغَيْرِهِ أَمَّا الْعَصْرَانِ فَظَاهِرٌ.
وَأَمَّا الْمَغْرِبُ فَلِأَنَّهَا فِي الْغَالِبِ وَقْتَ الرُّجُوعِ إِلَى الْبَيْتِ وَالْأَكْلِ وَلَا سِيمَا للصَّائِم مَعَ ضيق وَقْتِهَا بِخِلَافِ الْعِشَاءِ وَالْفَجْرِ فَلَيْسَ لِلْمُتَخَلِّفِ عَنْهُمَا عُذْرٌ غَيْرُ الْكَسَلِ الْمَذْمُومِ وَفِي الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِمَا فِي الْجَمَاعَةِ أَيْضًا انْتِظَامُ الْأُلْفَةِ بَيْنَ الْمُتَجَاوِرِينَ فِي طَرَفَيِ النَّهَارِ وَلِيَخْتِمُوا النَّهَارَ بِالِاجْتِمَاعِ عَلَى الطَّاعَةِ وَيَفْتَتِحُوهُ كَذَلِكَ وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَجْلَانَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ تَخْصِيصُ التَّهْدِيدِ بِمَنْ حَوْلَ الْمَسْجِدِ وَسَيَأْتِي تَوْجِيهُ كَوْنِ الْعِشَاءِ وَالْفَجْرِ أَثْقَلُ عَلَى الْمُنَافِقِينَ مِنْ غَيْرِهِمَا وَقَدْ أَطَلْتُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِارْتِبَاطِ بَعْضِ الْكَلَامِ بِبَعْضٍ وَاجْتَمَعَ مِنَ الْأَجْوِبَةِ لِمَنْ لَمْ يَقُلْ بِالْوُجُوبِ عَشَرَةُ أَجْوِبَةٍ لَا تُوجَدُ مَجْمُوعَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الشَّرْحِ



[ قــ :626 ... غــ :644] .

     قَوْلُهُ  عَنِ الْأَعْرَجِ فِي رِوَايَةِ السَّرَّاجِ مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ سَمِعَ الْأَعْرَجَ .

     قَوْلُهُ  وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ هُوَ قَسَمٌ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرًا مَا يُقْسِمُ بِهِ وَالْمَعْنَى أَنَّ أَمْرَ نُفُوسِ الْعِبَادِ بِيَدِ اللَّهِ أَيْ بتقديره وتدبيره فَإِنَّ قَاعِدَةَ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ تَقْتَضِيهِ وَفِيهِ جَوَازُ الْقَسَمِ عَلَى الْأَمْرِ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ تَنْبِيهًا عَلَى عِظَمِ شَأْنِهِ وَفِيهِ الرَّدُّ عَلَى مَنْ كَرِهَ أَنْ يَحْلِفَ بِاللَّهِ مُطْلَقًا .

     قَوْلُهُ  لَقَدْ هَمَمْتُ اللَّامُ جَوَابُ الْقَسَمِ وَالْهَمُّ الْعَزْمُ وَقِيلَ دُونَهُ وَزَادَ مُسْلِمٌ فِي أَوَّلِهِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدَ نَاسًا فِي بَعْضِ الصَّلَوَاتِ فَقَالَ لَقَدْ هَمَمْتُ فَأَفَادَ ذِكْرَ سَبَبِ الْحَدِيثِ .

     قَوْلُهُ  بِحَطَبٍ لِيُحْطَبَ كَذَا لِلْحَمَوِيِّ وَالْمُسْتَمْلِي بِلَامِ التَّعْلِيلِ وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ وَالْبَاقِينَ فَيُحْطَبَ بِالْفَاءِ وَكَذَا هُوَ فِي الْمُوَطَّأِ وَمَعْنَى يُحْطَبُ يُكْسَرُ لِيَسْهُلَ اشْتِعَالُ النَّارِ بِهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أُطْلِقَ عَلَيْهِ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَتَّصِف بِهِ تجوزا بِمَعْنى أَنه سيتصف بِهِ .

     قَوْلُهُ  ثُمَّ أُخَالِفُ إِلَى رِجَالٍ أَيْ آتِيهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ.

     وَقَالَ  الْجَوْهَرِيُّ خَالَفَ إِلَى فُلَانٍ أَيْ أَتَاهُ إِذَا غَابَ عَنْهُ أَوِ الْمَعْنَى أُخَالِفُ الْفِعْلَ الَّذِي أَظْهَرْتُ مِنْ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَأَتْرُكُهُ وَأَسِيرُ إِلَيْهِمْ أَوْ أُخَالِفُ ظَنَّهُمْ فِي أَنِّي مَشْغُولٌ بِالصَّلَاةِ عَنْ قَصْدِي إِلَيْهِمْ أَوْ مَعْنَى أُخَالِفُ أَتَخَلَّفُ أَيْ عَنِ الصَّلَاةِ إِلَى قَصْدِي الْمَذْكُورِينَ وَالتَّقْيِيدُ بِالرِّجَالِ يُخْرِجُ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ .

     قَوْلُهُ  فَأُحَرِّقُ بِالتَّشْدِيدِ وَالْمُرَادُ بِهِ التَّكْثِيرُ يُقَالُ حَرَّقَهُ إِذَا بَالَغَ فِي تَحْرِيقِهِ .

     قَوْلُهُ  عَلَيْهِمْ يُشْعِرُ بِأَنَّ الْعُقُوبَةَ لَيْسَتْ قَاصِرَةً عَلَى الْمَالِ بَلِ الْمُرَادُ تَحْرِيقُ الْمَقْصُودِينَ وَالْبُيُوتُ تَبَعًا لِلْقَاطِنِينَ بِهَا وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي صَالِحٍ فَأُحَرِّقَ بُيُوتًا عَلَى مَنْ فِيهَا .

     قَوْلُهُ  وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ فِيهِ إِعَادَةُ الْيَمِينِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّأْكِيدِ .

     قَوْلُهُ  عَرْقًا بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا قَافٌ قَالَ الْخَلِيلُ الْعُرَاقُ الْعَظْمُ بِلَا لَحْمٍ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ لحم فَهُوَ عرق وَفِي الْمُحكم عَنِ الْأَصْمَعِيِّ الْعَرْقُ بِسُكُونِ الرَّاءِ قِطْعَةُ لَحْمٍ.

     وَقَالَ  الْأَزْهَرِيُّ الْعَرْقُ وَاحِدُ الْعِرَاقِ وَهِيَ الْعِظَامُ الَّتِي يُؤْخَذُ مِنْهَا هُبَرُ اللَّحْمِ وَيَبْقَى عَلَيْهَا لَحْمٌ رَقِيقٌ فَيُكْسَرُ وَيُطْبَخُ وَيُؤْكَلُ مَا عَلَى الْعِظَامِ مِنْ لَحْمٍ دَقِيقٍ وَيَتَشَمَّسُ الْعِظَامَ يُقَالُ عَرِقْتُ اللَّحْمَ وَاعْتَرَقْتُهُ وَتَعَرَّقْتُهُ إِذَا أَخَذْتُ اللَّحْمَ مِنْهُ نَهْشًا وَفِي الْمُحْكَمِ جَمْعُ الْعَرْقِ عَلَى عُرَاقٍ بِالضَّمِّ عَزِيزٌ وَقَوْلُ الْأَصْمَعِيِّ هُوَ اللَّائِقُ هُنَا .

     قَوْلُهُ  أَوْ مِرْمَاتَيْنِ تَثْنِيَةُ مِرْمَاةٍ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَحُكِيَ الْفَتْحُ قَالَ الْخَلِيلُ هِيَ مَا بَيْنَ ظِلْفَيِ الشَّاةِ وَحَكَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ.

     وَقَالَ  لَا أَدْرِي مَا وَجْهُهُ وَنَقَلَهُ الْمُسْتَمْلِي فِي رِوَايَتِهِ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ عَنِ الْفَرَبْرِيِّ قَالَ قَالَ يُونُسُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنِ الْبُخَارِيِّ الْمِرْمَاةُ بِكَسْرِ الْمِيمِ مِثْلُ مِسْنَاةٍ وَمِيضَاةٍ مَا بَيْنَ ظِلْفَيِ الشَّاةِ مِنَ اللَّحْمِ قَالَ عِيَاضٌ فَالْمِيمُ عَلَى هَذَا أَصْلِيَّةٌ.

     وَقَالَ  الْأَخْفَشُ الْمِرْمَاةُ لُعْبَةٌ كَانُوا يَلْعَبُونَهَا بِنِصَالٍ مَحْدُودَةٍ يَرْمُونَهَا فِي كَوْمٍ مِنْ تُرَابٍ فَأَيُّهُمْ أَثْبَتَهَا فِي الْكَوْمِ غَلَبَ وَهِيَ الْمِرْمَاةُ وَالْمِدْحَاةُ.

قُلْتُ وَيَبْعُدُ أَن تَكُونَ هَذِهِ مُرَادُ الْحَدِيثِ لِأَجْلِ التَّثْنِيَةِ وَحَكَى الْحَرْبِيُّ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ أَنَّ الْمِرْمَاةَ سَهْمُ الْهَدَفِ قَالَ وَيُؤَيِّدُهُ مَا حَدَّثَنِي ثُمَّ سَاقَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوَ الْحَدِيثِ بِلَفْظِ لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ إِذَا شَهِدَ الصَّلَاةَ مَعِي كَانَ لَهُ عَظْمٌ مِنْ شَاةٍ سَمِينَةٍ أَوْ سَهْمَانِ لَفَعَلَ وَقِيلَ الْمِرْمَاةُ سَهْمٌ يُتَعَلَّمُ عَلَيْهِ الرَّمْيُ وَهُوَ سَهْمٌ دَقِيقٌ مُسْتَوٍ غَيْرُ مُحَدَّدٍ قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ التَّثْنِيَةُ فَإِنَّهَا مُشْعِرَةٌ بِتَكْرَارِ الرَّمْيِ بِخِلَافِ السِّهَامِ الْمُحَدَّدَةِ الْحَرْبِيَّةِ فَإِنَّهَا لَا يَتَكَرَّرُ رَمْيُهَا.

     وَقَالَ  الزَّمَخْشَرِيُّ تَفْسِيرُ الْمِرْمَاةِ بِالسَّهْمِ لَيْسَ بوجيه ويدفعه ذكر الْعرق مَعَه وَوَجهه بن الْأَثِيرِ بِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْعَظْمَ السَّمِينَ وَكَانَ مِمَّا يُؤْكَلُ أَتْبَعَهُ بِالسَّهْمَيْنِ لِأَنَّهُمَا مِمَّا يُلْهَى بِهِ انْتَهَى وَإِنَّمَا وَصَفَ الْعَرْقَ بِالسِّمَنِ وَالْمِرْمَاةَ بِالْحُسْنِ لِيَكُونَ ثَمَّ بَاعِثٌ نَفْسَانِيٌّ عَلَى تَحْصِيلِهِمَا وَفِيهِ الْإِشَارَةُ إِلَى ذَمِّ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنِ الصَّلَاةِ بِوَصْفِهِمْ بِالْحِرْصِ عَلَى الشَّيْءِ الْحَقِيرِ مِنْ مَطْعُومٍ أَوْ مَلْعُوبٍ بِهِ مَعَ التَّفْرِيطِ فِيمَا يُحَصِّلُ رَفِيعَ الدَّرَجَاتِ وَمَنَازِلَ الْكَرَامَةِ وَفِي الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ أَيْضًا تَقْدِيمُ الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ عَلَى الْعُقُوبَةِ وَسِرُّهُ أَنَّ الْمَفْسَدَةَ إِذَا ارْتَفَعَتْ بِالْأَهْوَنِ مِنَ الزَّجْرِ اكْتُفِيَ بِهِ عَنِ الْأَعْلَى مِنَ الْعُقُوبَةِ نبه عَلَيْهِ بن دَقِيقِ الْعِيدِ وَفِيهِ جَوَازُ الْعُقُوبَةِ بِالْمَالِ كَذَا اسْتَدَلَّ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْقَائِلِينَ بِذَلِكَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ وَفِيهِ نَظَرٌ لِمَا أَسْلَفْنَاهُ وَلِاحْتِمَالِ أَنَّ التَّحْرِيقَ مِنْ بَابِ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ إِذِ الظَّاهِرُ أَنَّ الْبَاعِثَ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَخْتَفُونَ فِي بُيُوتِهِمْ فَلَا يُتَوَصَّلُ إِلَى عُقُوبَتِهِمْ إِلَّا بِتَحْرِيقِهَا عَلَيْهِمْ وَفِيهِ جَوَازُ أَخْذِ أَهْلِ الْجَرَائِمِ عَلَى غِرَّةٍ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَمَّ بِذَلِكَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي عُهِدَ مِنْهُ فِيهِ الِاشْتِغَالُ بِالصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ فَأَرَادَ أَنْ يَبْغَتَهُمْ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَتَحَقَّقُونَ أَنَّهُ لَا يَطْرُقُهُمْ فِيهِ أَحَدٌ وَفِي السِّيَاقِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ تَقَدَّمَ مِنْهُ زَجْرُهُمْ عَنِ التَّخَلُّفِ بِالْقَوْلِ حَتَّى اسْتَحَقُّوا التَّهْدِيدَ بِالْفِعْلِ وَتَرْجَمَ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الْأَشْخَاصِ وَفِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ بَابُ إِخْرَاجِ أَهْلِ الْمَعَاصِي وَالرِّيَبِ مِنَ الْبُيُوتِ بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ يُرِيدُ أَنَّ مَنْ طُلِبَ مِنْهُمْ بِحَقٍّ فَاخْتَفَى أَوِ امْتَنَعَ فِي بَيْتِهِ لَدَدًا وَمَطْلًا أُخْرِجَ مِنْهُ بِكُلِّ طَرِيقٍ يُتَوَصَّلُ إِلَيْهِ بِهَا كَمَا أَرَادَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِخْرَاجَ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنِ الصَّلَاةِ بِإِلْقَاءِ النَّار عَلَيْهِم فِي بُيُوتهم وَاسْتدلَّ بِهِ بن الْعَرَبِيِّ وَغَيْرُهُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ قَتْلِ تَارِكِ الصَّلَاةِ مُتَهَاوِنًا بِهَا وَنُوزِعَ فِي ذَلِكَ وَرِوَايَةُ أَبِي دَاوُدَ الَّتِي فِيهَا أَنَّهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَ فِي بُيُوتِهِمْ كَمَا قَدَّمْنَاهُ تُعَكِّرُ عَلَيْهِ نَعَمْ يُمْكِنُ الِاسْتِدْلَالُ مِنْهُ بِوَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّهُمْ إِذَا اسْتَحَقُّوا التَّحْرِيقَ بِتَرْكِ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الصَّلَاةِ خَارِجَةٍ عَنْهَا سَوَاءٌ قُلْنَا وَاجِبَةٌ أَوْ مَنْدُوبَةٌ كَانَ مَنْ تَرَكَهَا أَصْلًا رَأْسًا أَحَقُّ بِذَلِكَ لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنَ التَّهْدِيدِ بِالتَّحْرِيقِ حُصُولُ الْقَتْلِ لَا دَائِمًا وَلَا غَالِبًا لِأَنَّهُ يُمْكِنُ الْفِرَارُ مِنْهُ أَوِ الْإِخْمَادُ لَهُ بَعْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ مِنَ الزَّجْرِ وَالْإِرْهَابِ وَفِي قَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ لَيْسَتْ بِهِمْ عِلَّةٌ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْأَعْذَارَ تُبِيحُ التَّخَلُّفَ عَنِ الْجَمَاعَةِ وَلَوْ قُلْنَا إِنَّهَا فَرْضٌ وَكَذَا الْجُمُعَةُ وَفِيهِ الرُّخْصَةُ لِلْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ فِي تَرْكِ الْجَمَاعَةِ لِأَجْلِ إِخْرَاجِ مَنْ يَسْتَخْفِي فِي بَيْتِهِ وَيَتْرُكُهَا وَلَا بُعْدَ فِي أَنْ تَلْحَقَ بِذَلِكَ الْجُمُعَةُ فَقَدْ ذَكَرُوا مِنَ الْأَعْذَارِ فِي التَّخَلُّفِ عَنْهَا خَوْفَ فَوَاتِ الْغَرِيمِ وَأَصْحَابِ الْجَرَائِمِ فِي حَقِّ الْإِمَامِ كَالْغُرَمَاءِ وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ إِمَامَةِ الْمَفْضُولِ مَعَ وُجُودِ الْفَاضِلِ إِذَا كَانَ فِي ذَلِك مصلحَة قَالَ بن بَزِيزَةَ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْفَاضِلَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ يَكُونُ غَائِبًا وَهَذَا لَا يُخْتَلَفُ فِي جَوَازه وَاسْتدلَّ بِهِ بن الْعَرَبِيِّ عَلَى جَوَازِ إِعْدَامِ مَحَلِّ الْمَعْصِيَةِ كَمَا هُوَ مَذْهَب مَالك وَتعقب بِأَنَّهُ مَنْسُوخ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا قِيلَ فِي الْعُقُوبَةِ بِالْمَالِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ