فهرس الكتاب

فتح الباري لابن حجر - باب من سئل علما وهو مشتغل في حديثه، فأتم الحديث ثم أجاب السائل

( قَولُهُ بَابُ مَنْ سُئِلَ عِلْمًا وَهُوَ مُشْتَغِلٌ)
مُحَصَّلُهُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَدَبِ الْعَالِمِ وَالْمُتَعَلِّمِ أَمَّا الْعَالِمُ فَلِمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ تَرْكِ زَجْرِ السَّائِلِ بل أدبه بالاعراض عَنهُ أَو لَا حَتَّى اسْتَوْفَى مَا كَانَ فِيهِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى جَوَابِهِ فَرَفَقَ بِهِ لِأَنَّهُ مِنْ الْأَعْرَابِ وهم جُفَاة وَفِيه الْعِنَايَة بِجَوَاب سُؤَالِ السَّائِلِ وَلَوْ لَمْ يَكُنِ السُّؤَالُ مُتَعَيِّنًا وَلَا الْجَوَابُ.
وَأَمَّا الْمُتَعَلِّمُ فَلِمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ أَدَبِ السَّائِلِ أَنْ لَا يَسْأَلَ الْعَالِمَ وَهُوَ مُشْتَغِلٌ بِغَيْرِهِ لِأَنَّ حَقَّ الْأَوَّلِ مُقَدَّمٌ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَخْذُ الدُّرُوسِ عَلَى السَّبْقِ وَكَذَلِكَ الْفَتَاوَى وَالْحُكُومَاتِ وَنَحْوُهَا وَفِيهِ مُرَاجَعَةُ الْعَالِمِ إِذَا لَمْ يَفْهَمْ مَا يُجِيبُ بِهِ حَتَّى يَتَّضِحَ لِقَوْلِهِ كَيفَ اضاعتها وَبَوَّبَ عَلَيْهِ بن حِبَّانَ إِبَاحَةَ إِعْفَاءِ الْمَسْئُولِ عَنِ الْإِجَابَةِ عَلَى الْفَوْرِ وَلَكِنَّ سِيَاقَ الْقِصَّةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْعِلْمَ سُؤَالٌ وَجَوَابٌ وَمِنْ ثَمَّ قِيلَ حُسْنُ السُّؤَالِ نِصْفُ الْعِلْمِ وَقَدْ أَخَذَ بِظَاهِرِ هَذِهِ الْقِصَّةِ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمَا فِي الْخُطْبَةِ فَقَالُوا لَا نَقْطَعُ الْخُطْبَةَ لِسُؤَالِ سَائِلٍ بَلْ إِذَا فَرَغَ نُجِيُبُهُ وَفَصَلَ الْجُمْهُورُ بَيْنَ أَنْ يَقَعَ ذَلِكَ فِي أَثْنَاءِ وَاجِبَاتِهَا فَيُؤَخِّرُ الْجَوَابُ أَوْ فِي غَيْرِ الْوَاجِبَاتِ فَيُجِيبُ وَالْأَوْلَى حِينَئِذٍ التَّفْصِيلُ فَإِنْ كَانَ مِمَّا يُهْتَمُّ بِهِ فِي أَمْرِ الدِّينِ وَلَا سِيَّمَا إِنِ اخْتَصَّ بِالسَّائِلِ فَيُسْتَحَبُّ إِجَابَتُهُ ثُمَّ يُتِمُّ الْخُطْبَةَ وَكَذَا بَيْنَ الْخُطْبَةِ وَالصَّلَاةِ وَإِنْ كَانَ بِخِلَافِ ذَلِكَ فَيُؤَخَّرُ وَكَذَا قَدْ يَقَعُ فِي أَثْنَاءِ الْوَاجِبِ مَا يَقْتَضِي تَقْدِيمَ الْجَوَابِ لَكِنْ إِذَا أَجَابَ اسْتَأْنَفَ عَلَى الْأَصَحِّ وَيُؤْخَذُ ذَلِكَ كُلُّهُ مِنِ اخْتِلَافِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ السُّؤَالُ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَيْسَتْ مَعْرِفَتُهَا عَلَى الْفَوْرِ مُهِمَّةً فَيُؤَخَّرُ كَمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ تَرْكُ السُّؤَالِ عَنْ ذَلِكَ أَوْلَى وَقَدْ وَقَعَ نَظِيرُهُ فِي الَّذِي سَأَلَ عَنِ السَّاعَةِ وَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ قَالَ أَيْنَ السَّائِلُ فَأَجَابَهُ أَخْرَجَاهُ وَإِنْ كَانَ السَّائِلُ بِهِ ضَرُورَةٌ نَاجِزَةٌ فَتُقَدَّمَ إِجَابَتُهُ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي رِفَاعَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَخْطُبُ رَجُلٌ غَرِيبٌ لَا يَدْرِي دِينَهُ جَاءَ يَسْأَلُ عَنْ دِينِهِ فَتَرَكَ خُطْبَتَهُ وَأَتَى بِكُرْسِيٍّ فَقَعَدَ عَلَيْهِ فَجَعَلَ يُعَلِّمُهُ ثُمَّ أَتَى خُطْبَتَهُ فَأَتَمَّ آخِرَهَا وَكَمَا فِي حَدِيثِ سَمُرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الضَّبِّ وَكَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي قصَّة سَالم لَمَّا دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ فَقَالَ لَهُ أَصَلَّيْتَ رَكْعَتَيْنِ الْحَدِيثَ وَسَيَأْتِي فِي الْجُمُعَةِ وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ كَانَتِ الصَّلَاةُ تُقَامُ فَيَعْرِضُ الرَّجُلُ فَيُحَدِّثُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى رُبَّمَا نَعَسَ بَعْضُ الْقَوْمِ ثُمَّ يَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ وُقُوعُ ذَلِكَ بَيْنَ الْخُطْبَةِ وَالصَّلَاةِ



[ قــ :59 ... غــ :59] .

     قَوْلُهُ  فليح بِصِيغَة التصغير هُوَ بن سُلَيْمَانَ أَبُو يَحْيَى الْمَدَنِيُّ مِنْ طَبَقَةِ مَالِكٍ وَهُوَ صَدُوقٌ تَكَلَّمَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ فِي حِفْظِهِ وَلَمْ يُخَرِّجِ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِهِ فِي الْأَحْكَامِ إِلَّا مَا تُوبِعَ عَلَيْهِ وَأَخْرَجَ لَهُ فِي الْمَوَاعِظِ وَالْآدَابِ وَمَا شَاكَلَهَا طَائِفَةٌ مِنْ أَفْرَادِهِ وَهَذَا مِنْهَا وَإِنَّمَا أَوْرَدَهُ عَالِيًا عَنْ فُلَيْحٍ بِوَاسِطَةِ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ فَقَطْ ثُمَّ أَوْرَدَهُ نَازِلًا بِوَاسِطَةِ مُحَمَّدِ بْنِ فُلَيْحٍ وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُنْذِرِ عَنْ مُحَمَّدٍ لِأَنَّهُ أَوْرَدَهُ فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ فَقَطْ فَأَرَادَ أَنْ يُعِيدَ هُنَا طَرِيقًا أُخْرَى وَلِأَجْلِ نُزُولِهَا قَرَنَهَا بِالرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَهِلَالُ بْنُ عَلِيٍّ يُقَالُ لَهُ هِلَالُ بْنُ أَبِي مَيْمُونَةَ وَهِلَالُ بْنُ أَبِي هِلَالٍ فَقَدْ يُظَنُّ ثَلَاثَةً وَهُوَ وَاحِدٌ وَهُوَ مِنْ صِغَارِ التَّابِعِينَ وَشَيْخُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ أَوْسَاطِهِمْ .

     قَوْلُهُ  يُحَدِّثُ هُوَ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ وَحُذِفَ مَفْعُولُهُ الثَّانِي لِدَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَيْهِ وَالْقَوْمُ الرِّجَالُ وَقَدْ يَدْخُلُ فِيهِ النِّسَاءُ تَبَعًا .

     قَوْلُهُ  جَاءَ أَعْرَابِيٌّ لَمْ أَقِفْ عَلَى تَسْمِيَتِهِ .

     قَوْلُهُ  فَمَضَى أَيِ اسْتَمَرَّ يُحَدِّثُهُ كَذَا فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي وَالْحَمَوِيِّ بِزِيَادَةِ هَاءٍ وَلَيْسَتْ فِي رِوَايَةِ الْبَاقِينَ وَإِنْ ثَبَتَتْ فَالْمَعْنَى يُحَدِّثُ الْقَوْمَ الْحَدِيثَ الَّذِي كَانَ فِيهِ وَلَيْسَ الضَّمِيرُ عَائِدًا عَلَى الْأَعْرَابِيِّ .

     قَوْلُهُ  فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ سَمِعَ مَا قَالَ إِنَّمَا حَصَلَ لَهُمُ التَّرَدُّدُ فِي ذَلِكَ لِمَا ظَهَرَ مِنْ عَدَمِ الْتِفَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى سُؤَالِهِ وَإِصْغَائِهِ نَحْوَهُ وَلِكَوْنِهِ كَانَ يَكْرَهُ السُّؤَالَ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِخُصُوصِهَا وَقَدْ تَبَيَّنَ عَدَمُ انْحِصَارِ تَرْكِ الْجَوَابِ فِي الْأَمْرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ بَلِ احْتَمَلَ كَمَا تَقَدَّمَ أَنْ يَكُونَ أَخَّرَهُ لِيُكْمِلَ الْحَدِيثَ الَّذِي هُوَ فِيهِ أَوْ أَخَّرَ جَوَابَهُ لِيُوحِيَ إِلَيْهِ بِهِ .

     قَوْلُهُ  قَالَ أَيْنَ أُرَاهُ السَّائِلُ بِالرَّفْعِ عَلَى الْحِكَايَةِ وَأُرَاهُ بِالضَّمِّ أَيْ أَظُنُّهُ وَالشَّكُّ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ فُلَيْحٍ وَرَوَاهُ الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ وَغَيْرُهُ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ فُلَيْحٍ وَلَفْظُهُ أَيْنَ السَّائِلُ وَلَمْ يَشُكَّ .

     قَوْلُهُ  إِذَا وُسِّدَ أَيْ أُسْنِدَ وَأَصْلُهُ مِنَ الْوِسَادَةِ وَكَانَ مِنْ شَأْنِ الْأَمِيرِ عِنْدَهُمْ إِذَا جَلَسَ أَنْ تُثْنَى تَحْتَهُ وِسَادَةٌ فَ.

     قَوْلُهُ  وُسِّدَ أَيْ جُعِلَ لَهُ غَيْرُ أَهْلِهِ وِسَادًا فَتَكُونُ إِلَى بِمَعْنَى اللَّامِ وَأَتَى بِهَا لِيَدُلَّ عَلَى تَضْمِينِ مَعْنَى أُسْنِدَ وَلَفْظُ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ فِي الرِّقَاقِ إِذَا أُسْنِدَ وَكَذَا رَوَاهُ يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَغَيْرُهُ عَنْ فُلَيْحٍ وَمُنَاسَبَةُ هَذَا الْمَتْنِ لِكِتَابِ الْعِلْمِ أَنَّ إِسْنَادَ الْأَمْرِ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ غَلَبَةِ الْجَهْلِ وَرَفْعِ الْعِلْمِ وَذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَشْرَاطِ وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ الْعِلْمَ مَا دَامَ قَائِمًا فَفِي الْأَمْرِ فُسْحَةٌ وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ أَشَارَ إِلَى أَنَّ الْعِلْمَ إِنَّمَا يُؤْخَذُ عَنِ الْأَكَابِرِ تَلْمِيحًا لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي أُمَيَّةَ الْجُمَحِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُلْتَمَسَ الْعِلْمُ عِنْدَ الْأَصَاغِرِ وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي الرِّقَاقِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى