فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب ما يحقن بالأذان من الدماء

باب
ما يحقن بالأذان من الدماء
[ قــ :594 ... غــ :610 ]
- حدثني قتيبة: ثنا إسماعيل بن جعفر، عن حميد، عن أنس، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه كان إذا غزا بنا قوماً لم يغز بنا حتى يصبح وينظر، فإن سمع أذانا كف عنهم، وإن لم يسمع أذانا أغار عليهم.
قال: فخرجنا إلى خيبر، فانتهينا إليهم ليلاً، فلما أصبح ولم يسمع أذانا ركب، وركبت خلف أبي طلحة، وإن قدمي لتمس قدم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قال: فخرجوا إلينا بمكاتلهم ومساحيهم، فلما رأوا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالوا: محمد والله، محمد والخميس.
قال: فلما رآهم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " الله أكبر، الله أكبر.
خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين".

في هذا الحديث فوائد كثيرة:
منها: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان لا يغير على العدو.

والإغارة: تبيت العدو ليلاً.

وقد جاءت نصوص أخر بإباحة الإغارة، وموضع ذكر ذلك " كتاب الجهاد" - إن شاء الله.

ومنها: التفاؤل؛ فإن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما رآهم خرجوا بالمكاتل - وهي: الزبيل والقفاف -، والمساحي - وهي: المجرفة -، وهذه آلات الحراث، ووقع الأمر كذلك.

ومنها: التكبير على العدو عند مشاهدته.

ويحتمل أن يكون سر ذلك أن التكبير طارد لشيطان الجن تقارنهم، فإذا انهزمت شياطينهم المقترنة بهم انهزموا، كما جرى للمشركين يوم بدر، فإن إبليس كان معهم يعدهم ويمنيهم، فلما انهزم انهزموا.

وقولهم: " محمد والخميس"، فيه روايتان: الخميس، والجيش، وهما بمعنى واحد.

وسمي الجيش خميساً؛ لأنه ينقسم خمس أجزاء: مقدمة، وساقة، وميمنة، وميسرة، وقلب.

ومنها - وهو المقصود بهذا الباب -: أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يجعل [الأذان] فرق ما بين دار الكفر ودار الإسلام، فإن سمع مؤذناً [للدار] كحكم ديار الإسلام، فيكف عن دمائهم وأموالهم، وإن لم يسمع أذاناً أغار عليهم بعد ما يصبح.

وفي هذا: دليل على أن إقامة الصلاة توجب الحكم بالإسلام؛ فإن الأذان إنما هو دعاء إلى الصلاة، فإذا كان موجباً للحكم بالإسلام، فالصلاة التي هو المقصود الأعظم أولى.

ولا يقال: إنما حكم بإسلامهم بالأذان لما فيه من ذكر الشهادتين؛ لأن الصلاة تتضمن ذلك - أيضا -، فإذا رأينا من ظاهره يصلي - ولا سيما في دار الحرب أو دار لم يعلم أنها دار إسلام - حكمنا بإسلامه لذلك.
وهو قول كثير من العلماء، وهو ظاهر مذهب أحمد.

وقد روي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه كان يأمر بالكف عن دار يسمع فيها الأذان، أو يرى فيها مسجد، من رواية ابن عصام المزني، عن أبيه - وكانت له صحبة -، قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا بعث جيشاً أو سرية يقول لهم: " إذا رأيتم مسجداً، أو سمعتم مؤذناً فلا تقتلوا [أحداً] ".

خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي.

وقال: حسن غريب.

وقال ابن المديني: إسناد مجهول، وابن عصام لا يعرف، ولا ينسب أبوه.
وروى الهرماس بن حبيب العنبري، عن أبيه، عن جده، قال: بعث رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عيينة بن حصن حين أسلم الناس ودجا الإسلام على الناس، فهجم على بني عدي بن جندب فوق النباح بذات الشقوق، فلم يسمعوا أذانا عند الصبح، فأغاروا عليهم، فأخذوا أموالهم حتى أحضروها المدينة عند النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالت وفود بني العنبر: أخذنا يا رسول الله مسلمين غير مشركين.
فرد عليهم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذراريهم وعقار بيوتهم، وعمل الجيش أنصاف الأموال.

خرجه إبراهيم الحربي في " كتاب غريب الحديث" وأبو القاسم البغوي في " معجم الصحابة".
وقال الحربي: إنما رد عليهم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذراريهم؛ لأنه لم ير أن يسبيهم إلا على أمر صحيح لا شك فيه، وهؤلاء مقرون بالإسلام، وليس حجة من سباهم، إلا أنهم قالوا: لم نسمع أذاناً.
وكذلك فعل في عقار بيوتهم - يريد: أرضهم -، وعمل الجيش جعالة عمالة لهم أنصاف الأموال؛ وذلك لأن أصحاب الجيش ادعوا أن ذلك فيئاً لهم؛ لأنهم لم يسمعوا أذاناً، والمأخوذ منهم ادعوا أنه لهم؛ أسلموا عليه.

ثم روى الحربي من طريق إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، قال: بعث رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى أناس من خثعم، فاستعصموا بالسجود، فقتل منهم رجل، فأعطاهم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نصف الدية.

قال الحربي: لا، لم يقروا بالإسلام، وإنما سجدوا، وقد يسجد ولم يسلم، فلذلك أعطاهم نصف الدية.

قلت: هذا حديث مرسل.

والذين يقولون: إن الكافر يصير مسلماً بالصلاة، فصلاته عندهم كإقراره بالإسلام.

وذكر - أيضا - حديث الزبيب العنبري، وقد خرجه أبو داود في " سننه"، وفيه: أنهم سبوا، ثم شهد لهم شاهد بالإسلام، وحلف الزبيب، فأعطاهم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذراري ونصف الأموال.

قال الحربي: لأنه لم تكمل البينة.

قلت: في سياق حديث أبي داود: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لهم: " لولا أن الله لا يحب ضلالة العمل ما رزيناكم عقالاً".
وهذا تعليل بغير ما ذكره الحربي.

وحاصل الأمر: أن الدار إن سمع فيها أذان لم يجز الإقدام على قتلهم ابتداءً، بل يصيرون في عصمة دمائهم وأموالهم كالمسلمين؛ فإن الأذان وإن كان لم يسمع من بعضهم، إلا أن ظهوره في دار قوم دليل على إقرارهم بذلك ورضاهم.
فأماالمؤذن نفسه فإنه يصير مسلماً بذلك، ولا سيما إذا كان في دار كفر وموضع لا يخاف فيه من المسلمين ولا يتقيهم.

وعند أصحابنا: أنه يصير الكافر بالأذان مسلماً.

وبه قال الليث بن سعد، وسعيد بن عبد العزيز.
وقالا: لو ادعى أنه فعله تقية وخيفة على نفسه أنه لا يقبل منه، ويصير مرتداً.

وحكى الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي ومالك، أنه يقبل منه ذلك ولا يقتل.

ذكره محمد بن نصر المروزي في " كتاب الصلاة".

وينبغي أن يقبل هذا بموضع يحتمل فيه ذلك كدار الإسلام، أو دار يخشى أن يغار عليها المسلمون؛ فإن الكافر إذا أتى بالشهادتين على وجه الإسلام كالذي يجيء ليسلم، فتعرض عليه الشهادتان فيقولهما، فإنه يصير مسلماً بغير خلاف.

وإن قالهما على غير هذا الوجه، ثم ادعى أنه لم يرد بهما الإسلام، فالمشهور عن أحمد، أنه لا يقبل منه ويصير مرتداً.

وعنه رواية، أنه يقبل منه ولا يقتل.
وهو قول إسحاق.

وضعف هذه الرواية أبو بكر الخلال.
وعن أحمد، أنه يجبر على الإسلام، ولا يقتل إن أباه.

وللشافعية - أيضا - وجهان فيما [إذا] أتى بالشهادتين على غير وجه الاستدعاء ولا الحكاية: هل يصير مسلماً، أم لا؟ وأصحهما: أنه يصير مسلماً -: حكاهما صاحب " شرح المهذب".

وإن لم يسمع في الدار أذان:
فإن كانت معروفة قبل ذلك بأنها دار حرب جاز ابتداؤهم بالقتل والسبي والنهب، هذا هو الذي دل عليه حديث أنس المخرج في هذا الباب.

وإن كانت معروفة بأنها دار إسلام، ولم يسمع فيها أذان، فهذا مسألة قتال أهل البلدة المسلمين إذا اتفقوا على ترك الأذان.

وهي مبنية على أن الأذان على أهل الأمصار والقرى: هل هو فرض كفاية، أو سنة مؤكدة؟
وفيه قولان:
أحدهما: أنه فرض كفاية، وهو ظاهر مذهب الإمام أحمد، وقول داود، ووافقهم جماعات من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي.

وكذا قال عطاء ومجاهد وابن أبي ليلى والأوزاعي وأهل الظاهر: إن الأذان فرض.

وحكي عن هؤلاء كلهم أن الإقامة شرط لصحة الصلاة، فمن ترك الإقامة وصلى أعاد الصلاة.

وعن الأوزاعي: أنه يعيد في الوقت.

وقال عثمان بن كنانة من المالكية: يعيد إذا تركها عمداً.

وذهب الجمهور إلى أنه لا إعادة على من صلى بغير أذان ولا إقامة.

واستدلوا لوجوب الأذان بقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم".

وقد خرجه البخاري من حديث مالك بن الحويرث وعمرو بن سلمة الجرمي، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

وروى ابن جرير الطبري، عن يونس بن عبد الأعلى، عن أشهب، عن مالك، قال: إذا ترك الأذان مسافر عمداً أعاد الصلاة.

وهذا غريب جداً.

وحكى ابن عبد البر نحوه عن داود.

ونقل ابن منصور، عن إسحاق، قال: إذا نسي الأذان والإقامة وصلى أجزأه، وإن كان في السفر فلا بد له من الإقامة.

والقول الثاني: أن الأذان سنة مؤكدة، وهو ظاهر مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي، ورواية عن أحمد.

فمن قال: الأذان فرض كفاية، قال: إذا اجتمع أهل بلد على تركه قوتلوا عليه حتى يفعلوه.

ومن قال: هو سنة، اختلفوا على قولين:
أحدهما: أنهم يقاتلون عليه - أيضا -، لأنه من أعلام الدين وشرائعه الظاهرة، وهو قول محمد بن الحسن وطائفة من الشافعية.
لا يقاتلون عليه كسائر النوافل، وهو قول أبي حنيفة وطائفة من الشافعية.

وقال أبو يوسف: آمرهم وأضربهم، ولا أقاتلهم؛ لأنه دون الفرائض وفوق النوافل.

واستدل بعض من قال: يقاتلون على تركه بحديث أنس هذا؛ فإن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل الأذان مانعاً من القتال، وتركه مبيحاً له، فدل على استباحة القتال بمجرد تركه، وإن جاز ان يكونوا قد أسلموا.