فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب الصلاة في البيعة

باب
الصلاة في البيعة
وقال عمر: إنا لا ندخل كنائسكم من أجل التماثيل التي فيها الصور.

وكان ابن عباس يصلي في البيعة إلا بيعة فيها تماثيل.

روى حجاج بن منهال: ثنا ربيعة بن كلثوم، عن نافع، قال: قال عمر: إنا لا ينبغي لنا أن ندخل كنيسة فيها تصاوير.

وروى وكيع في ( ( كتابه) ) ، عن عبد الله بن نافع مولى ابن عمر، عن أبيه، عن أسلم مولى عمر، قال: قال عمر: إنا لا ندخل كنائسكم التي فيها تصاوير.

وعن سفيان، عن خصيف، عن مقسم، عن ابن عباس، أنه كره الصلاة في الكنيسة إذا كان فيها تماثيل.

وقال سفيان: لا بأس بالصلاة فيها إذا لم يكن فيها تمثال، وإن وجد غيرها فهو أحب إلي.

وكره مالك الصلاة في البيع والكنائس؛ لنجاستها من أقدامهم، ولما فيها من الصور، وقال: لا ينزل بها إلا من ضرورة -: ذكره صاحب ( ( التهذيب) ) .

ورخص أكثر أصحابنا في دخول ما ليس فيه صور منها، والصلاة فيها.
وكرهه بعضهم، منهم: ابن عقيل ومنهم من حكى في الكراهة عن أحمد روايتين، والمنصوص عن أحمد: كراهة دخولها في أعيادهم ومجامعهم فيها.

ويستدل للكراهة فيما فيه صور: بأن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة، وبأنه محل الشياطين، فتكره الصلاة فيه كالحمام والحش.

ويدل على كراهته - أيضا -: خروج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الوادي الذي ناموا فيه عن الصلاة، وقال: ( ( إن هذا الوادي حضرنا فيه شيطان) ) .

وكره أصحاب الشافعي الصلاة فيها، مع الصحة.

وحكى ابن المنذر وغيره: الرخصة فيها عن طائفة من العلماء، منهم: أبو موسى، والحسن، والشعبي، والنخعي، وعمر بن عبد العزيز، والأوزاعي، وسعيد بن عبد العزيز، واختاره ابن المنذر.

وأكثر المنقول عن السلف في ذلك قضايا أعيان لا عموم لها، فيمكن حملها على ما لم يكن فيه صور.

وصرح كثير من أصحابنا بتحريم الدخول إلى بيت فيه صور على جدرانه، وإن كان لا يقدر على إزالتها، وسواء كان حماما أو غيره، منهم: ابن بطة، والقاضي وأبو يعلى.

وذكر صاحب ( ( المغني) ) أن ظاهر كلام أحمد أنه مكروه غير محرم، وحكاه - أيضا - عن مالك، وعن أكثر أصحاب الشافعي أنه محرم، وذكر في أثناء كلامه: أن دخول البيع والكنائس جائز، ولو كان فيها صور، وجعله دليلا له، وهو يشعر بأنه محل إجماع.

ولعل الفرق: أن صور البيع والكنائس تقر ولا يلزم إزالتها، كما يقر أصل البيع والكنائس، وبخلاف الصور في بيوت المسلمين؛ فإنه يجب إزالتها ومحوها.

قال البخاري:
[ قــ :426 ... غــ :434 ]
- ثنا محمد: ثنا عبدة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، أن أم سلمة ذكرت لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كنيسة رأتها بأرض الحبشة، يقال لها: مارية، فذكرت له ما رأت فيها من الصور، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله) ) .

( ( محمد) ) : شيخ البخاري، شيخ البخاري، الظاهر أنه: ابن سلام البيكندي.
وشيخه، هُوَ: عبدة بْن سُلَيْمَان الكلابي.

وهذا الحَدِيْث: يدل على تحريم التصوير في المساجد المبنيه على القبور، والصور التي في البيع والكنائس في معناها؛ لأنها صور مصورة على صور أنبيائهم وصالحيهم للتبرك بها - في زعمهم -، وكنائسهم وبيعهم منها ما هو على القبور أكابرهم، ومنها ما هو على أسمائهم، فالكل ملتحق بما بنى على القبور في المعنى، فلهذا ذكر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذا الكلام عند ذكر الكنائس، وما فيها من الصور، وكفى بذلك ذما للكنائس المصور فيها، وأنها بيوت ينزل على أهلها الغضب والسخط، فلا ينبغي للمسلم أن يصلي فيها.

وخرج الإمام أحمد وأبو داود من رواية قابوس بن أبي ظبيان، عن أبيه، عن ابن عباس، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ( ( لا تجتمع قبلتان في ارض) ) .

وقال طاووس: لا ينبغي لبيت رحمة أن يكون عند بيت عذاب.
وفسره أبو عبيد وغيره: بأنه لا ينبغي الجمع بين المساجد والكنائس في ارض واحدة.

فالجمع بين فعل الصلاة التي وضعت لأجلها المساجد، بين الكفر المفعول في الكنائس في بقعة واحدة أولى بالنهي عنه، فكما أنهم لا يمكنون من فعل عباداتهم في المساجد، فكذا لا ينبغي للمسلمين أن يصلوا صلواتهم في معابد الكفار التي هي موضع كفرهم.
فإن قيل: فقد روي ما يدل على جواز إقرارهم على أن يصلوا صلواتهم في مساجد المسلمين، وإذا جاز الإقرار على ذلك جاز للمسلمين أن يصلوا في بيعهم وكنائسهم بطريق الأولى:
فروى ابن إسحاق، قال حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، قال: قدموا على
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة - يعني: وفد نجران -، فدخلوا عليه مسجده حين صلى العصر، عليهم ثياب الحبرات: جنب وأردية، قال: يقول بعض من رآهم من أصحاب
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ما رأينا بعدهم وفدا مثلهم، وقد حانت صلاتهم، فقاموا في مسجد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلون، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( دعوهم) ) ، فصلوا إلى المشرق.

قيل: هذا منقطع ضعيف، لا يحتاج بمثله، ولو صح فإنه يحمل على أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تألفهم بذلك في ذلك الوقت استجلابا لقلوبهم، وخشية لنفورهم عن الإسلام، ولما زالت الحاجة إلى مثل ذلك لم يجز الإقرار على مثله.

ولهذا شرط عليهم عمر - رضي الله عنه - عند عقد الذمة إخفاء دينهم، ومن جملة إلا يرفعوا أصواتهم في الصلاة، ولا القراءة في صلاتهم فيما يحضره المسلمون.



[ قــ :47 ... غــ :435 ]
حدثنا أبو اليمان: أبنا شعيب، عن الزهري: أخبرني عبيد الله بن عبد الله، أن عائشة، وعبد الله بن عباس قالا: لما نزل برسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بِهَا كشفها عن وجهه، فقال - وهو كذلك -: ( ( لعنة الله على اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) ) - يحذر ما صنعوا.



[ قــ :48 ... غــ :437 ]
- حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ( ( قاتل الله اليهود؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) ) .

وقد خرج البخاري في موضع آخر من ( ( كتابه) ) من حديث عروة، عن عائشة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في مرضه الذي لم يقم منه: ( ( لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) ) .
قالت: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكنه خشي - أو خشي - أن يتخذ مسجدا.

وخرج الإمام أحمد من حديث سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ( ( اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، لعن الله قوما اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) ) .
وروى مالك في ( ( الموطإ) ) عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ( ( اللهم، لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) ) .

ورواه محمد بن سليمان بن أبي داود الحراني: حدثنا عمر بن محمد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

خرجه من طريقه البزار.

وعمر هذا، هو: ابن صهبان، جاء منسوبا في بعض نسخ ( ( مسند البزار) ) ، وظن ابن عبد البر أنه: عمر بن محمد العمري، والظاهر أنه وهم.

وقد روي نحوه من حديث أبي سلمة، عن أبي هريرة، بإسناد فيه نظر.

قال ابن عَبْد البر: الوثن الصنم.
يقول: لا تجعل قبري صنما يصلى إليه، ويسجد نحوه، ويعبد، فقد اشتد غضب الله على من فعل ذلك، وكان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحذر أصحابه وسائر أمته من سوء صنيع الأمم قبلهم الذين صلوا في قبور أنبيائهم، واتخذوها قبلة ومسجدا، كما صنعت الوثنية بالأوثان التي كانوا يسجدون إليها ويعظمونها، وذلك الشرك الأكبر، وكان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخبرهم بما في ذلك من سخط الله وغضبه، وانه مما لا يرضاه؛ خشية عليهم من امتثال طرقهم، وكان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحب مخالفة أهل الكتاب وسائر الكفار، وكان يخاف على أمته اتباعهم، ألا ترى إلى قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على جهة التعيير والتوبيخ: ( ( لتتبعن سنن الذين كانوا قبلكم حذو النعل بالنعل، حتى إن أحدهم لو دخل حجر ضب لدخلتموه) ) .
انتهى.

ويؤيد ما ذكره: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يحذر من ذلك في مرض موته، كما في حديث عائشة وابن عباس، وسبق حديث جندب أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ذلك قبل موته بخمس.

وفي ( ( مسند الإمام أحمد) ) من حديث أبي عبيده بن الجراح، قال: آخر ما تكلم به رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( أخرجوا يهود أهل الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب، واعلموا أن شرار الناس الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) ) .

وقد روي هذا المعنى عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وانه قال ذلك في مرض موته من حديث علي، وأسامة بن زيد، وكعب بن مالك وغيرهم.

وخرج الإمام أحمد حديث أسامة بن زيد، ولفظه: قال: قال لي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( أدخل علي أصحابي) ) .
فدخلوا عليه، فكشف القناع، ثم قال: ( ( لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) ) .

وخرج حديث عائشة من رواية ابن إسحاق، عن صالح بن كيسان، عن الزهري، وقال في آخر حديثه: ( ( يحرم ذلك على أمته) ) .

وقد اتفق أئمة الإسلام على هذا المعنى:
قال الشافعي - رحمه الله -: وأكره أن يعظم مخلوق حتى يتخذ قبره مسجدا، خشية الفتنة عليه وعلى من بعده.

وقال صاحب ( ( التنبيه) ) من أصحابه: أما الصلاة عند رأس قبر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - متوجها إليه فحرام.

قال القرطبي: بالغ المسلمون في سد الذريعة في قبر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأعلوا حيطان تربته، وسدوا الداخل إليها، وجعلوها محدقة بقبره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم خافوا أن يتخذ موضع قبره قبلة إذ كان مستقبل المصلين فتتصور إليه الصلاة بصورة العبادة، فبنوا جدارين من ركني القبر الشماليين، وحرفوهما حتى التقيا على زاوية مثلث من ناحية الشمال، حتى لا يتمكن أحد من استقبال قبره.
ولهذا المعنى قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره.