فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب التوجه نحو القبلة حيث كان

باب
التوجه نحو القبلة حيث كان
وقال أبو هريرة: قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( استقبل القبلة وكبر) ) .

مراده بهذا الباب: أن القبلة يجب التوجه إلى نحوها حيث كان المصلي من أقطار الأرض في حضر أو سفر، كما دل عليه قوله تعالى: { وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة:150] .

وحديث أبي هريرة الذي أشار إليه، هو قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمسيء في صلاته لما علمه الصلاة: ( ( إذا قمت إلى صلاتك فاستقبل القبلة وكبر) ) .

وقد خرجه مسلم بهذا اللفظ.

وخرج البخاري في هذا الباب ثلاثة أحاديث:
الحديث الأول:
[ قــ :393 ... غــ :399 ]
- حدثنا عبد الله بن رجاء: ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء، قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي نحو بيت المقدس ستة عشر - أو سبعة عشر - شهرا، وكان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحب أن يتوجه إلى الكعبة، فأنزل الله - عز وجل -: { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة:144] ، فتوجه نحو الكعبة، وقال السفهاء من الناس - وهم اليهود -: { مَا وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة:142] ، فصلى مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجل، ثم خرج بعدما صلى، فمر على قوم من الأنصار في صلاة العصر يصلون نحو بيت المقدس، فقال: هو يشهد أنه صلى مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأنه توجه نحو الكعبة، فتحرف القوم حتى توجهوا نحو الكعبة.

قد تقدم هذا الحديث في ( ( كتاب: الإيمان) ) ، فإن البخاري خرجه في ( ( باب: الصلاة من الإيمان) ) عن عمرو بن خالد، عن زهير، عن أبي إسحاق، بأتم من هذا السياق، واستوفينا الكلام على فوائده هنالك بما فيه كفاية.



[ قــ :394 ... غــ :400 ]
- حدثنا مسلم بن إبراهيم: ثنا هشام: ثنا يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن
عبد الرحمان، عن جابر، قال: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي على راحلته حيث توجهت به، فإذا أراد الفريضة نزل فاستقبل القبلة.

محمد بن عبد الرحمان، هو: ابن ثوبان.

والمراد من هذا الحديث هاهنا: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن يصلي المكتوبة إلا على الأرض مستقبل القبلة، فأما صلاة الفريضة على الأرض فواجب لا يسقط إلا في صلاة شدة الخوف، كما قال تعالى: { فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} [البقرة:39] .

وهل يسقط في الطين أو في المرض؟ فيه قولان مشهوران للعلماء هما روايتان عن أحمد.

وفي ذلك أحاديث وآثار يطول ذكرها ربما تذكر في موضع آخر - أن شاء الله تعالى.

ولو صلى قائما في محمل على ظهر دابة، فهل تصح صلاته؟ حكى أصحابنا في ذَلكَ روايتين عن أحمد، وللشافعية وجهان، ومنهم من فرق بين أن تكون الدابة واقفة فتصح، وسائرة فلا تصح.

وحكى بعض أصحابنا الخلاف - أيضا - في الصلاة في السفينة لمن قدر على الخروج منها إلى الأرض، ولم يشق على أصحابه.

ولأصحابنا وجهان في صحة الصلاة على العجلة - أيضا.

ومن الشافعية من حكى الإجماع على صحة الصلاة في السفينة قائما، ولكن حكى في الصلاة في الزورق الجاري وجهين، ففرق بين السفينة والزورق، وهو الصغير من السفن.

ولا فرق في الصلاة بين النساء والرجال.

وخرج أبو داود من رواية النعمان بن المنذر، عن عطاء بن أبي رباح، قال: سألت عائشة: هل رخص للنساء أن يصلين على الدواب؟ قالت: لم يرخص لهن في شدة ولا رخاء.

وأما ما خرجه بقي بن مخلد في ( ( مسنده) ) : ثنا أبو كريب: ثنا يونس: ثنا عنبسة بن الأزهر، عن أبي خراش، عن عائشة، قالت: كنا إذا سافرنا مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نؤمر إذا جاء وقت الصلاة أن نصلي على رواحلنا.

فهو حديث لا يثبت، وعنبسة بن الأزهر: قال أبو حاتم الرازي: يكتب حديثه ولا يحتج به.
وأبو خراش: لا يعرف.
ويونس، هو: ابن بكير، مختلف في أمره.

وأما استقبال القبلة في صلاة الفريضة، ففرض مع القدرة لا يسقط إلا في حال شدة الخوف - أيضا -، ويأتي في موضعه - أن شاء الله تعالى.

وكذلك يسقط في حق من كان مربوطا إلى غير القبلة، أو مريضا ليس عنده من يديره إلى القبلة فيصلي بحسب حاله.

وفي إعادته خلاف.
والصحيح عند أصحاب الشافعي: أن عليهم الإعادة، والصحيح عند أصحابنا: أنه لا إعادة عليهم، وعند المالكية: يعيد في الوقت إذا قدر، ولا يعيد بعده.

وأما حكم الصلاة النافلة على الراحلة، فيأتي في موضعه - أن شاء الله تعالى.




[ قــ :395 ... غــ :401 ]
- حدثنا عثمان: ثنا جرير: عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، قال: قال عبد الله: صلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال إبراهيم: لا أدري زاد أو نقص -، فلما سلم، قيل: يا رسول الله، أحدث في الصلاة شيء؟ قال: ( ( وما ذاك؟) ) قالوا: صليت كذا وكذا، فثنى رجله، واستقبل القبلة، وسجد سجدتين، ثم سلم، فلما أقبل علينا بوجهه قال: ( ( أنه لو حدث في الصلاة شيء لنبأتكم به، ولكن إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني، وإذا شك أحدكم فليتحر الصواب فليتم عليه، ثم يسلم، ثم يسجد سجدتين) ) .

المقصود من هذا الحديث هاهنا: أن من سها في صلاته وسلم وهو ناس، ثم ذكر بعد سلامه، فإنه يسجد للسهو ويستقبل القبلة، فإن سجود السهو من تمام الصلاة، ولو كان بعد السلام فهو جزء من الصلاة، فيشترط له استقبال القبلة كالصلاة.

ويؤخذ من ذلك: أنه لا يسجد للتلاوة ولا للشكر إلا إلى القبلة، وهذا على قول من اعتبر الطهارة لذلك - وهم جمهور المسلمين - ظاهر، وأما من لم يعتبر الطهارة له - كما سيأتي في موضعه -، فإنه لا يوجب استقبال القبلة له - أيضا - وكذلك صلاة الجنازة.

وقد حكي أن بعض المتقدمين كان يرى أنها دعاء، فلا يشترط لها الوضوء، فقيل له: فتفعل إلى غير القبلة؟ فرجع عن قوله.