فهرس الكتاب
فتح البارى لابن رجب - باب تخفيف الإمام في القيام، وإتمام الركوع والسجود
بَاب
تَخْفيفِ الإمامِ فِي القيَامِ وإتْمامِ الرُّكُوعََ والسُّجُوِد
[ قــ :681 ... غــ :702 ]
- حَدَّثَنَا أحمد بن يونس: ثنا زهير: ثنا إِسْمَاعِيل: سَمِعْت قيساً قَالَ: أخبرني أبو مَسْعُود، أن رجلاً قَالَ: والله يَا رَسُول الله، إني لأتأخر عَن صلاة الغداة من أجل فلان مِمَّا يطيل بنا.
فما رأيت رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي موعظة أشد غضباً مِنْهُ يومئذ، ثُمَّ قَالَ: ((إن منكم منفرين، فأيكم مَا صلى بالناس فليتجوز؛ فإن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة)) .
فِي هَذَا الحَدِيْث: أن الإمام مأمور بالتخفيف خشية الإطالة عَلَى من خلفه؛ فإنه لا يخلو بعضهم من عذر كالضعيف والكبير وذي الحاجة.
وهذا يدل عَلَى أن الأمر بالتخفيف إنما يتوجه إلى إمام يصلي فِي مسجد يغشاه النَّاس.
قَالَ حَنْبل بن إِسْحَاق: قالو أبو عَبْد الله – يعني: أحمد -: إذا كَانَ المسجد عَلَى قارعة الطريق أو طريق يسلك فالتخفيف أعجب إلي، فإن كَانَ مسجداً يعتزل أهله ويرضون بذلك فلابأس، وأرجو – إن شاء الله.
وقالت طائفة: عَلَى الإمام أن يخفف بكل حال.
ورجحه ابن عَبْد البر، قَالَ: لأنه وإن علم قوة من خلفه، فإنه لا يدري مَا يحدث بهم من آفات بني آدم.
وذكر أن تطويل الإمام غير جائز، وأنه يلزمه النخفيف.
وَقَالَ عَبْد الله بن أحمد: سألت أَبِي عَن الحَدِيْث الَّذِي جَاءَ عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صلاته، قَالَ: ((وكان قيامه وركوعه وسجوده وقعوده بَيْن السجدتين قريباً من السواء)) : مَا تفسير ذَلِكَ؟ فَقَالَ: أحب إلي أن يخفف، ولا يشق عَلَى من خلفه، وقد روي عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي التخفيف أحاديث.
قَالَ أبو بَكْر عَبْد العزيز بن جَعْفَر من أصحابنا: قَدْ يجوز أن يكون رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استعمل ذَلِكَ فِي نفسه إذا كَانَ مصلياً، وقد أمر أئمته بالتخفيف، فيتوجه الحديثان عَلَى معنيين.
كذا قَالَ: وفيه نظر؛ فإن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يخفف ويوجز ويتم الصلاة، فَلَمْ يكن يفعل خلاف مَا أمر بِهِ الأئمة.
وليس فِي حَدِيْث أَبِي مَسْعُود الَّذِي خرجه هاهنا مَا يدل عَلَى مَا بوب عَلِيهِ من تخفيف القيام وإتمام الركوع والسجود، وقد خرج فيما بعد حَدِيْث أَنَس، أن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يوجز ويتم.
وقد رويت أحاديث فِي التخفيف مَعَ إتمام الركوع والسجود، وهي مطابقة لترجمة هَذَا الباب، لكن ليست عَلَى شرط هَذَا ((الكتاب)) .
فخرج الإمام أحمد من حَدِيْث مَالِك بن عَبْد الله الخثعمي، قَالَ: غزوت مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَلَمْ أصل خلف إمام كَانَ أوجز مِنْهُ صلاة فِي تمام الركوع والسجود.
ومن حَدِيْث عدي بن حاتم، قَالَ: من أمنا فليتم الركوع والسجود؛ فإن
فينا الضعيف والكبير والمريض والعابر السبيل وذا الحاجة، هكذا كنا نصلي مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وخرجه الطبراني، ولفظه: أن عدي بن حاتم خرج إلى مجلسهم، فأقيمت الصلاة فتقدم إمامهم، فأطال الصلاة والجلوس , فلما انصرف قَالَ: من أَمنا منكم فليتم الركوع والسجود؛ فإن خلفه الصغير والكبير والمريض وابن السبيل وذا الحاجة , فلما حضرت الصلاة تقدم عدي فأتم الركوع والسجود، وتجوز فِي الصلاة، فلما انصرف قَالَ: هكذا كنا نصلي خلف النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وخرج الطبراني وغيره من حَدِيْث نَافِع بن خَالِد الخزاعي: حَدَّثَنِي أَبِي – وكان من أصْحَاب الشجرة – أن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذا صلى والناس ينظرون صلى صلاة خفيفة تامة الركوع والسجود.
فَقَدْ ثبت أن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذا صلى بالناس فإنه يخفف عنهم، وإذا صلى لنفسه يطول.
وفي ((مسند الإمام أحمد)) عَن أَبِي واقد الليثي، قَالَ: كَانَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخف النَّاس صلاة بالناس، وأطول النَّاس صلاة لنفسه.
فالصلاة الَّتِيْ كَانَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصليها بالناس هِيَ النخفيف الَّذِي أمر بِهِ غيره، وإنما أنكر عَلَى من طول تطويلاً زائداً عَلَى ذَلِكَ، فإن معاذ بن جبل كَانَ يصلي مَعَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمدينة صلاة العشاء، وكان النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يؤخرها كثيراً، كما سبق ذكره فِي (المواقيت)) ، ثُمَّ ينطلق إلى قومه فِي بني سَلَمَة فيصلي بهم، وقد استفتح حينئذ بسورة البقرة، فهذا هُوَ الَّذِي أنكره عَلَى معاذ.
ويشهد لهذا: حَدِيْث ابن عُمَر، قَالَ: كَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليأمرنا بالتخفيف، وإن كَانَ ليؤمنا بالصافات.
خرجه الإمام أحمد والنسائي وابن خزيمة فِي ((صحيحه)) .
والمراد: أن التخفيف المأمور بِهِ هُوَ مَا كَانَ يفعله، ومن كَانَ يفهم أَنَّهُ كَانَ يفعل خلاف مَا أمر بِهِ – كما أشعر بِهِ تبويب النسائي – فَقَدْ وهم.
وفي ((صحيح مُسْلِم)) عَن سماك، قَالَ: سألت جابر بن سمرة عَن صلاة النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: كَانَ يخفف الصلاة ولا يصلي صلاة هؤلاء.
قَالَ: وأنبأني أن رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يقرأ فِي الفجر بـ ((قاف والقرآن المجيد)) ، ونحوها من السور.
وخرجه الحَاكِم، ولفظه: كَانَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي نحواً من صلاتكم، ولكنه يخفف الصلاة، كَانَ يقرأ فِي الفجر بالواقعة ونحوها من السور.
فصرح بأن تخفيفه هُوَ قرءاته بهذه السورة.
وروى عَبْد الجبار بن العباس، عَن عمار الدهني، عَن الأعمش، عَن إبراهيم التيمي، قَالَ: كَانَ أَبِي ترك الصلاة مَعَنَا، قَالَ: إنكم تخففون.
قُلتُ: فأين قَوْلِ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إن فيكم الكبير والضعيف وذا الحاجة؟)) فَقَالَ: قَدْ سَمِعْت عَبْد الله بن مَسْعُود يَقُول ذَلِكَ، ثُمَّ صلى ثَلاَثَة اضعاف مَا تصلون.
خرجه ابن خزيمة فِي ((صحيحه)) والطبراني.
وروى مَالِك بن مغول، عَن الحكم، عَن إِبْرَاهِيْم التيمي، عَن أَبِيه، أَنَّهُ كَانَ يتخلف عَن الصلاة، فَقِيلَ لَهُ.
فَقَالَ: إنكم تخففون.
فَقِيلَ: أليس قَدْ كَانَ يؤمر بذلك؟ قَالَ: إن الَّذِي كَانَ عليهم خفيفاً عليكم ثقيل.
واعلم؛ أن التخفيف أمر نسبي، فَقَدْ تكون الصلاة خفيفة بالنسبة إلى مَا هُوَ أخف مِنْهَا، فالتخفيف المأمور بِهِ الأئمة هُوَ الَّذِي كَانَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعله إذا أم، فالنقص مِنْهُ ليس بتخفيف مشروع، والزيادة عَلِيهِ إن كَانَ مِمَّا فعله الخُلَفَاء الراشدون كتطويل القرءة فِي صلاة الصبح، عَلَى مَا كَانَ يفعله – أحيانا – أبو بَكْر وعمر فليس بمكروه، نَصَّ عَلِيهِ الإمام أحمد غيره.
وسيأتي ذَلِكَ فِي موضعه – إن شاء الله تعالى.
وَقَالَ الشَّافِعِيّ فِي ((الأم)) : أحب أن يبدأ الراكع فيقول: سبحان ربي العظيم – ثلاثاً -، ويقول كل مَا حكيت عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يقوله – يعني: حَدِيْث عَلِيّ – قَالَ: وكل مَا قَالَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ركوع أو سجود أحببت أن لا يقصر عَنْهُ، إماماً كَانَ أو منفرداً، وَهُوَ تخفيف لا تثقيل.
انتهى كلامه.
فَقَدْ كَانَ حدث بعد النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من تخفيف الصلاة من الأئمة تخفيفاً، وقد حكي ذَلِكَ عَن أهل الكوفة، وحدث من يطيل الصلاة عَلَى صلاة النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إطالة زائدة، وكان ذَلِكَ فِي أهل الشام وأهل المدينة – أَيْضاً -، وكان السلف ينكرون عَلَى الطائفتين، وقد ذكرنا إنكار يزيد التيمي – وكان من أعيان التابعين – عَلَى من خفف الصلاة من أئمة الكوفة، وكان ابن عُمَر وغيره ينكرون عَلَى من أطال الصلاة إطالة زائدةً عَلَى صلاة النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ففي ((مسنده الإمام أحمد)) عَن عطية، عَن ابن عُمَر، قَالَ: سجدة من سجود هؤلاء مثل ثلاث سجدات من سجود النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وعن حيان البارقي، قَالَ: قيل لابن عُمَر: إن إماما يطيل الصلاة.
فَقَالَ: ركعتين من صلاة رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخف – أو مثل ركعة – من صلاة هَذَا.
وروى ابن أَبِي عاصم فِي ((كِتَاب السنة)) من رِوَايَة سَالِم بن حذلم؛ قَالَ: رآني ابن عمر أصلي، فلما انصرفت قَالَ لِي: ممن أنت؟ قُلتُ: من أهل الشام.
قَالَ: إنكم أهل الشام تصلون الصلاة وتكثرون من الدعاء، وإني لَمْ أصل خلف أحد أخف صلاة فِي تمام من رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وفي ((المسند)) عَن إِسْمَاعِيل بن أَبِي خَالِد، عَن أَبِيه، قَالَ: رأيت أَبَا هُرَيْرَةَ صلى صلاة تجوز فيها، فَقُلْت لَهُ: هكذا كَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي؟ قَالَ: نَعَمْ، وأوجز.
وفي رِوَايَة: ((أو أوجز)) .
وفي رِوَايَة – أَيْضاً -: قَالَ: وكان قيامه قدر مَا ينزل المؤذن من المنارة ويصل إلى الصف.
وفي بعض الروايات لهذا الحَدِيْث: أن أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يؤم النَّاس بالمدينة فيخفف.
وفي ((المسند)) – أَيْضاً -: عَن أَنَس بن مَالِك، قَالَ: لَقَدْ كنا نصلي مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة، لَوْ صلاها أحدكم اليوم لعبتموها عَلِيهِ.
فَقَالَ لَهُ رَجُل: ألا تذكر ذَلِكَ لأميرنا – والأمير عُمَر بن عَبْد العزيز –؟ فَقَالَ: قَدْ فعلت.
وفي رِوَايَة فِي غير ((المسند)) بعد قوله: ((لعبتموها عَلِيهِ)) : ((يعني: فِي التخفيف)) .
وروي عَن عُمَر بن الخَطَّاب، قَالَ: أيها النَّاس، لا تبغضوا الله إلى عباده.
فَقَالَ قائل منهم: وكيف ذَلِكَ؟ قَالَ: يكون الرَّجُلُ إماماً للناس، يصلي بهم، فلا يزال يطول عليهم حَتَّى يبغض إليهم مَا هم فِيهِ.
خرجه ابن عَبْد البر.
تَخْفيفِ الإمامِ فِي القيَامِ وإتْمامِ الرُّكُوعََ والسُّجُوِد
[ قــ :681 ... غــ :702 ]
- حَدَّثَنَا أحمد بن يونس: ثنا زهير: ثنا إِسْمَاعِيل: سَمِعْت قيساً قَالَ: أخبرني أبو مَسْعُود، أن رجلاً قَالَ: والله يَا رَسُول الله، إني لأتأخر عَن صلاة الغداة من أجل فلان مِمَّا يطيل بنا.
فما رأيت رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي موعظة أشد غضباً مِنْهُ يومئذ، ثُمَّ قَالَ: ((إن منكم منفرين، فأيكم مَا صلى بالناس فليتجوز؛ فإن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة)) .
فِي هَذَا الحَدِيْث: أن الإمام مأمور بالتخفيف خشية الإطالة عَلَى من خلفه؛ فإنه لا يخلو بعضهم من عذر كالضعيف والكبير وذي الحاجة.
وهذا يدل عَلَى أن الأمر بالتخفيف إنما يتوجه إلى إمام يصلي فِي مسجد يغشاه النَّاس.
قَالَ حَنْبل بن إِسْحَاق: قالو أبو عَبْد الله – يعني: أحمد -: إذا كَانَ المسجد عَلَى قارعة الطريق أو طريق يسلك فالتخفيف أعجب إلي، فإن كَانَ مسجداً يعتزل أهله ويرضون بذلك فلابأس، وأرجو – إن شاء الله.
وقالت طائفة: عَلَى الإمام أن يخفف بكل حال.
ورجحه ابن عَبْد البر، قَالَ: لأنه وإن علم قوة من خلفه، فإنه لا يدري مَا يحدث بهم من آفات بني آدم.
وذكر أن تطويل الإمام غير جائز، وأنه يلزمه النخفيف.
وَقَالَ عَبْد الله بن أحمد: سألت أَبِي عَن الحَدِيْث الَّذِي جَاءَ عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صلاته، قَالَ: ((وكان قيامه وركوعه وسجوده وقعوده بَيْن السجدتين قريباً من السواء)) : مَا تفسير ذَلِكَ؟ فَقَالَ: أحب إلي أن يخفف، ولا يشق عَلَى من خلفه، وقد روي عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي التخفيف أحاديث.
قَالَ أبو بَكْر عَبْد العزيز بن جَعْفَر من أصحابنا: قَدْ يجوز أن يكون رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استعمل ذَلِكَ فِي نفسه إذا كَانَ مصلياً، وقد أمر أئمته بالتخفيف، فيتوجه الحديثان عَلَى معنيين.
كذا قَالَ: وفيه نظر؛ فإن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يخفف ويوجز ويتم الصلاة، فَلَمْ يكن يفعل خلاف مَا أمر بِهِ الأئمة.
وليس فِي حَدِيْث أَبِي مَسْعُود الَّذِي خرجه هاهنا مَا يدل عَلَى مَا بوب عَلِيهِ من تخفيف القيام وإتمام الركوع والسجود، وقد خرج فيما بعد حَدِيْث أَنَس، أن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يوجز ويتم.
وقد رويت أحاديث فِي التخفيف مَعَ إتمام الركوع والسجود، وهي مطابقة لترجمة هَذَا الباب، لكن ليست عَلَى شرط هَذَا ((الكتاب)) .
فخرج الإمام أحمد من حَدِيْث مَالِك بن عَبْد الله الخثعمي، قَالَ: غزوت مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَلَمْ أصل خلف إمام كَانَ أوجز مِنْهُ صلاة فِي تمام الركوع والسجود.
ومن حَدِيْث عدي بن حاتم، قَالَ: من أمنا فليتم الركوع والسجود؛ فإن
فينا الضعيف والكبير والمريض والعابر السبيل وذا الحاجة، هكذا كنا نصلي مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وخرجه الطبراني، ولفظه: أن عدي بن حاتم خرج إلى مجلسهم، فأقيمت الصلاة فتقدم إمامهم، فأطال الصلاة والجلوس , فلما انصرف قَالَ: من أَمنا منكم فليتم الركوع والسجود؛ فإن خلفه الصغير والكبير والمريض وابن السبيل وذا الحاجة , فلما حضرت الصلاة تقدم عدي فأتم الركوع والسجود، وتجوز فِي الصلاة، فلما انصرف قَالَ: هكذا كنا نصلي خلف النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وخرج الطبراني وغيره من حَدِيْث نَافِع بن خَالِد الخزاعي: حَدَّثَنِي أَبِي – وكان من أصْحَاب الشجرة – أن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذا صلى والناس ينظرون صلى صلاة خفيفة تامة الركوع والسجود.
فَقَدْ ثبت أن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذا صلى بالناس فإنه يخفف عنهم، وإذا صلى لنفسه يطول.
وفي ((مسند الإمام أحمد)) عَن أَبِي واقد الليثي، قَالَ: كَانَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخف النَّاس صلاة بالناس، وأطول النَّاس صلاة لنفسه.
فالصلاة الَّتِيْ كَانَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصليها بالناس هِيَ النخفيف الَّذِي أمر بِهِ غيره، وإنما أنكر عَلَى من طول تطويلاً زائداً عَلَى ذَلِكَ، فإن معاذ بن جبل كَانَ يصلي مَعَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمدينة صلاة العشاء، وكان النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يؤخرها كثيراً، كما سبق ذكره فِي (المواقيت)) ، ثُمَّ ينطلق إلى قومه فِي بني سَلَمَة فيصلي بهم، وقد استفتح حينئذ بسورة البقرة، فهذا هُوَ الَّذِي أنكره عَلَى معاذ.
ويشهد لهذا: حَدِيْث ابن عُمَر، قَالَ: كَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليأمرنا بالتخفيف، وإن كَانَ ليؤمنا بالصافات.
خرجه الإمام أحمد والنسائي وابن خزيمة فِي ((صحيحه)) .
والمراد: أن التخفيف المأمور بِهِ هُوَ مَا كَانَ يفعله، ومن كَانَ يفهم أَنَّهُ كَانَ يفعل خلاف مَا أمر بِهِ – كما أشعر بِهِ تبويب النسائي – فَقَدْ وهم.
وفي ((صحيح مُسْلِم)) عَن سماك، قَالَ: سألت جابر بن سمرة عَن صلاة النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: كَانَ يخفف الصلاة ولا يصلي صلاة هؤلاء.
قَالَ: وأنبأني أن رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يقرأ فِي الفجر بـ ((قاف والقرآن المجيد)) ، ونحوها من السور.
وخرجه الحَاكِم، ولفظه: كَانَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي نحواً من صلاتكم، ولكنه يخفف الصلاة، كَانَ يقرأ فِي الفجر بالواقعة ونحوها من السور.
فصرح بأن تخفيفه هُوَ قرءاته بهذه السورة.
وروى عَبْد الجبار بن العباس، عَن عمار الدهني، عَن الأعمش، عَن إبراهيم التيمي، قَالَ: كَانَ أَبِي ترك الصلاة مَعَنَا، قَالَ: إنكم تخففون.
قُلتُ: فأين قَوْلِ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إن فيكم الكبير والضعيف وذا الحاجة؟)) فَقَالَ: قَدْ سَمِعْت عَبْد الله بن مَسْعُود يَقُول ذَلِكَ، ثُمَّ صلى ثَلاَثَة اضعاف مَا تصلون.
خرجه ابن خزيمة فِي ((صحيحه)) والطبراني.
وروى مَالِك بن مغول، عَن الحكم، عَن إِبْرَاهِيْم التيمي، عَن أَبِيه، أَنَّهُ كَانَ يتخلف عَن الصلاة، فَقِيلَ لَهُ.
فَقَالَ: إنكم تخففون.
فَقِيلَ: أليس قَدْ كَانَ يؤمر بذلك؟ قَالَ: إن الَّذِي كَانَ عليهم خفيفاً عليكم ثقيل.
واعلم؛ أن التخفيف أمر نسبي، فَقَدْ تكون الصلاة خفيفة بالنسبة إلى مَا هُوَ أخف مِنْهَا، فالتخفيف المأمور بِهِ الأئمة هُوَ الَّذِي كَانَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعله إذا أم، فالنقص مِنْهُ ليس بتخفيف مشروع، والزيادة عَلِيهِ إن كَانَ مِمَّا فعله الخُلَفَاء الراشدون كتطويل القرءة فِي صلاة الصبح، عَلَى مَا كَانَ يفعله – أحيانا – أبو بَكْر وعمر فليس بمكروه، نَصَّ عَلِيهِ الإمام أحمد غيره.
وسيأتي ذَلِكَ فِي موضعه – إن شاء الله تعالى.
وَقَالَ الشَّافِعِيّ فِي ((الأم)) : أحب أن يبدأ الراكع فيقول: سبحان ربي العظيم – ثلاثاً -، ويقول كل مَا حكيت عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يقوله – يعني: حَدِيْث عَلِيّ – قَالَ: وكل مَا قَالَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ركوع أو سجود أحببت أن لا يقصر عَنْهُ، إماماً كَانَ أو منفرداً، وَهُوَ تخفيف لا تثقيل.
انتهى كلامه.
فَقَدْ كَانَ حدث بعد النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من تخفيف الصلاة من الأئمة تخفيفاً، وقد حكي ذَلِكَ عَن أهل الكوفة، وحدث من يطيل الصلاة عَلَى صلاة النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إطالة زائدة، وكان ذَلِكَ فِي أهل الشام وأهل المدينة – أَيْضاً -، وكان السلف ينكرون عَلَى الطائفتين، وقد ذكرنا إنكار يزيد التيمي – وكان من أعيان التابعين – عَلَى من خفف الصلاة من أئمة الكوفة، وكان ابن عُمَر وغيره ينكرون عَلَى من أطال الصلاة إطالة زائدةً عَلَى صلاة النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ففي ((مسنده الإمام أحمد)) عَن عطية، عَن ابن عُمَر، قَالَ: سجدة من سجود هؤلاء مثل ثلاث سجدات من سجود النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وعن حيان البارقي، قَالَ: قيل لابن عُمَر: إن إماما يطيل الصلاة.
فَقَالَ: ركعتين من صلاة رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخف – أو مثل ركعة – من صلاة هَذَا.
وروى ابن أَبِي عاصم فِي ((كِتَاب السنة)) من رِوَايَة سَالِم بن حذلم؛ قَالَ: رآني ابن عمر أصلي، فلما انصرفت قَالَ لِي: ممن أنت؟ قُلتُ: من أهل الشام.
قَالَ: إنكم أهل الشام تصلون الصلاة وتكثرون من الدعاء، وإني لَمْ أصل خلف أحد أخف صلاة فِي تمام من رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وفي ((المسند)) عَن إِسْمَاعِيل بن أَبِي خَالِد، عَن أَبِيه، قَالَ: رأيت أَبَا هُرَيْرَةَ صلى صلاة تجوز فيها، فَقُلْت لَهُ: هكذا كَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي؟ قَالَ: نَعَمْ، وأوجز.
وفي رِوَايَة: ((أو أوجز)) .
وفي رِوَايَة – أَيْضاً -: قَالَ: وكان قيامه قدر مَا ينزل المؤذن من المنارة ويصل إلى الصف.
وفي بعض الروايات لهذا الحَدِيْث: أن أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يؤم النَّاس بالمدينة فيخفف.
وفي ((المسند)) – أَيْضاً -: عَن أَنَس بن مَالِك، قَالَ: لَقَدْ كنا نصلي مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة، لَوْ صلاها أحدكم اليوم لعبتموها عَلِيهِ.
فَقَالَ لَهُ رَجُل: ألا تذكر ذَلِكَ لأميرنا – والأمير عُمَر بن عَبْد العزيز –؟ فَقَالَ: قَدْ فعلت.
وفي رِوَايَة فِي غير ((المسند)) بعد قوله: ((لعبتموها عَلِيهِ)) : ((يعني: فِي التخفيف)) .
وروي عَن عُمَر بن الخَطَّاب، قَالَ: أيها النَّاس، لا تبغضوا الله إلى عباده.
فَقَالَ قائل منهم: وكيف ذَلِكَ؟ قَالَ: يكون الرَّجُلُ إماماً للناس، يصلي بهم، فلا يزال يطول عليهم حَتَّى يبغض إليهم مَا هم فِيهِ.
خرجه ابن عَبْد البر.