فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب التيمم للوجه والكفين

باب
التيمم للوجه والكفين
[ قــ :336 ... غــ :339 ]
- حدثنا حجاج: ثنا شعبة، عن الحكم، عن ذر، عن سعيد بن
عبد الرحمان بن أبزى، عن أبيه: قال عمار - بهذا.

وضرب شعبة بيديه الأرض، ثم أدناهما من فيه، ثم مسح بهما وجهه وكفيه.

قال النضر: أبنا شعبة، عن الحكم: سمعت ذرا، عن ابن عبد الرحمان بن أبزى - قال الحكم: وقد سمعته من ابن عبد الرحمان -، عن أبيه: قال عمار.



[ قــ :337 ... غــ :340 ]
- حدثنا سليمان بن حرب: ثنا شعبة، عن الحكم، عن ذر، عن ابن عبد الرحمان بن أبزى، عن أبيه، أنه شهد عمر، وقال له عمار: كنا في سرية فأجنبنا.
وقال: تفل فيهما.



[ قــ :338 ... غــ :341 ]
- حدثنا محمد بن كثير: ثنا شعبة، عن الحكم، عن ذر، عن ابن
عبد الرحمان بن أبزى، عن أبيه، قال: قال عمار لعمر: تمعكت فأتيت النبي، فقال: ( ( يكفيك الوجه والكفين) ) .



[ قــ :338 ... غــ :34 ]
- حدثنا مسلم: ثنا شعبة، عن الحكم، عن ذر، عن ابن عبد الرحمن بن أبزى، عن عبد الرحمان: شهدت عمر، فقال له عمار - وساق الحديث.



[ قــ :339 ... غــ :343 ]
- حدثنا محمد بن بشار: ثنا غندر: ثنا شعبة، عن الحكم، عن ذر، عن ابن عبد الرحمان بن أبزى، عن أبيه: قال عمار: فضرب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيده الأرض، فمسح وجهه وكفيه.

حديث عمار في التيمم، خرجه البخاري في ( ( كتابه) ) من طريقين:
أحدهما: من طريق أبي وائل، عن أبي موسى، عن عمار، وسيأتي.

والأخر: من رواية عبد الرحمان بن أبزى، عن عمار.

ولم يخرجه من هذا الطريق إلا من رواية شعبة، عن الحكم، عن ذر الهمداني، عن سعيد بن عبد الرحمان بن أبزى، عن أبيه، عن عمار.

وقد ساق لفظه بتمامه في الباب الماضي، وأحال في هذا الباب على ما قبله، بقوله: ( ( قال عمار بهذا) ) - يعني: بما سبق من سياق الحديث في الباب الماضي.

ووصف شعبة التيمم المذكور في الحديث بفعله.

وكرر البخاري في هذا الباب طرقه إلى شعبة، وبعضها تعليق؛ لما في ذلك من زيادة فائدة:
ففي رواية سليمان بن حرب ومسلم بن إبراهيم، عن شعبة: تصريح عبد الرحمان بن أبزى بسماع هذا الحديث من عمار، ومخاطبته لعمر، وهذه فائدة جليلة.
وفي رواية سليمان بن حرب، عن شعبة: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تفل في يديه لما ضرب بهما الأرض، والمراد بالتفل هنا: النفخ، كما في سائر الروايات.

وفي رواية النضر بن شميل: أن الحكم سمع الحديث من ذر، عن سعيد ابن عبد الرحمان بن أبزى، عن أبيه، وسمعه - أيضا - من ابن عبد الرحمان ابن أبزى، عن أبيه، كما سمعه من ذر، عنه.

وذكر البيهقي وغيره: أن ابن أبزى هو سعيد - أيضا.

وقد ذكر البخاري رواية النضير تعليقا، وأسندها مسلم عن إسحاق بن منصور، عنه.

واتفقت رواياتهم على أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسح وجهه وكفيه.
وفي رواية محمد بن كثير، عن شعبة أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعمار: ( ( يكفيك الوجه والكفين) ) .

وخرجه مسلم من طريق يحيى القطان، عن شعبة، ولفظه: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعمار: ( ( إنما كان يكفيك أن تضرب بيديك الأرض، ثم تنفخ، ثم تمسح بهما وجهك وكفيك) ) .

قال الحكم: وحدثنيه ابن عبد الرحمان بن أبزى، عن أبيه بمثل حديث ذر.
قال: وحدثني سلمة، عن ذر في هذا الإسناد الذي ذكر الحكم.
انتهى.

وقد كان عند شعبة لهذا الحديث إسناد آخر، رواه عن سلمه بن كهيل، عن
ذر.
كما خرجه مسلم من رواية القطان، عن شعبة، ولكن البخاري لم يخرجه عن شعبة من هذا الوجه لأمرين: أحدهما: أن سفيان الثوري والأعمش روياه عن سلمة بن كهيل؛ فخالفا شعبة في إسناده، على اختلاف عليهما فيه.

والثاني: أن سلمة شك: هل ذكر في الحديث مسح الكفين، أو الذراعين؟ وكان – أحيانا – يحدث سلمة به، ويقول: ( ( إلى المرفقين) ) ، فأنكر ذلك عليه منصور بن المعتمر، فقال سلمة: لا ادري، أذكر الذراعين، أم لا؟
خرج ذَلِكَ أبو داود والنسائي وغيرهما.

ولهذا المعنى أشار مسلم إلى اتحاد الإسناد من رواية الحكم وسلمة، وسكت عن اللفظ؛ فإنه مختلف.

وقد خرجه القاضي إسماعيل بن إسحاق المالكي في ( ( أحكام القرآن) ) له عن حفص بن عمر، عن شعبة، عن الحكم - بإسناد -، وقال فيه: ( ( إنما كان يكفيك هكذا) ) ، وضرب بيديه الأرض واحدة، فمسح بهما كفيه ووجهه.

وكذا خرجه أبو بكر الأثرم عن أبي الوليد الطيالسي، عن شعبة، بهذا الإسناد، وعنده: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضرب بكفيه الأرض ضربة واحدة، ثم نفخها، ومسح بهما وجهه وكفيه.

وقد خرجه النسائي من رواية خالد، عن شعبة، وعنده: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له:
( ( إنما كان يكفيك) ) ، وضرب شعبة بكفيه ضربة نفخ فيهما، ثم دلك أحداهما بالأخرى، ثم مسح بهما وجهه.
وفي هذه الرواية تأخير مسح الوجه، لكنه من تفسير شعبة، والظاهر أن شعبة كان أحيانا يحدث بالحديث بلفظه، وأحيانا يفسره بفعله.

وقد اجمع العلماء على أن مسح الوجه واليدين بالتراب في التيمم فرض لا بد منه في الجملة؛ فإن الله تعالى يقول: { فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة:6]
ولكن اختلفوا في قدر الفرض من ذلك:
فأما الوجه:
فمذهب مالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء: أنه يجب استيعاب بشرته بالمسح بالتراب، ومسح ظاهر الشعر الذي عليه، وسواء كان ذلك الشعر يجب إيصال الماء إلى ما تحته كالشعر الخفيف الذي يصف البشرة، أم لا، هذا هو الصحيح.

وفي مذهبنا ومذهب الشافعي وجه أخر: أنه يجب إيصال التراب إلى ما تحت الشعور التي يجب إيصال الماء إلى ما تحتها، ولا يجب عند أصحابنا إيصال الماء إلى باطن الفم والأنف، وان وجب عندهم المضمضة والاستنشاق في الوضوء.

وعن أبي حنيفة روايات، إحداها: كقول الشافعي وأحمد.
والثانية: أن ترك قدر درهم يجزئه، وان ترك دونه أجزأه.
والثالثة: أن ترك دون ربع الوجه أجزأه، وإلا فلا.
والرابعة: أن مسح أكثره وترك الأقل منه أو من الذراع أجزأه، وإلا فلا.
وحكاه الطحاوي عن أبي حنيفة وأبي يوسف وزفر.

وحكى ابن المنذر، عن سليمان بن داود الهاشمي: أن مسح التيمم حكمه حكم مسح الرأس في الوضوء يجزئ فيه البعض.

وكلام الإمام أحمد يدل على حكاية الإجماع على خلاف ذلك.

قال: الجوزجاني: ثنا إسماعيل بن سعيد الشالنجي، قال: سألت أحمد بن حنبل عمن ترك مسح بعض وجهه في التيمم؟ قال: يعيد الصلاة.
فقلت له: فما بال الرأس يجزئ في المسح ولم يجز أن يترك ذلك من الوجه في التيمم؟ فقال: لم يبلغنا أن أحدا ترك ذَلكَ من تيممه.

قَالَ الشالنجي: وقال أبو أيوب –يعني: سليمان بن داود الهاشمي -: يجزئه في التيمم أن لم يصب بعض وجهه أو بعض كفيه؛ لأنه بمنزلة المسح على الرأس؛ إذا ترك منه بعضا أجزأه.

قال الجوزجاني: فذكرت ذلك ليحيى بن يحيى ـ يعني: النيسابوري ـ، فقال: المسح في التيمم كما يمسح الرأس، لا يتعمد لترك شئ من ذلك، فإن بقي شئ منه لم يعد، وليس هو عندي بمنزلة الوضوء.

قال الجوزجاني: لم نسمع أحدا يتبع ذلك من رأسه في المسح ولا بين أصابعه في التيمم كما يتبع في الوضوء بالتخليل، فأحسن الأقاويل منها ما ذكره يحيى بن يحيى: أن لا يتعمد ترك شئ من ذلك، فإن بقي شئ لم يعد.
انتهى.

وظاهر هذا: يدل على أن مذهب سليمان بن داود ويحيى بن يحيى والجوزجاني: أنه إذا ترك شئ من وجهه ويديه في التيمم لم يعد الصلاة.
ونقل حرب، عن إسحاق، أنه قال تضرب بكفيك على الأرض ثم تمسح بهما وجهك، وتمر بيديك على جميع الوجه واللحية، أصاب ما أصاب وأخطأ ما أخطأ ثم تضرب مرة أخرى بكفيك.

ومراد إسحاق: أنه لا يشترط وصول التراب إلى جميع أجزاء الوجه، كما يقوله من يقوله من الشافعية وغيرهم، حتى نص الشافعي: أنه لو بقي من محل الفرض شئ لا يدركه الطرف لم يصح التيمم.

واستشكل أبو المعالي الجويني تحقق وصول التراب إلى اليدين إلى المرفقين بضربة واحدة، وقال: الذي يجب اعتقاده أن الواجب استيعاب المحل بالمسح باليد المغبرة من غير ربط الفكر بانبساط الغبار على جميع المحل.
قال: وهذا شئ اظهر به، ولم أرَ منه بدا.

وحكى ابن عطية في ( ( تفسيره) ) عن محمد بن مسلمة من المالكية: أنه لا يجب أن يتبع الوجه بالتراب كما يتبع بالماء وجعله كالخف ومابين الأصابع في اليدين ـ يعني: في التيمم.

وحكى في وجوب تخليل الأصابع وتحريك الخاتم قولين لأصحابهم: بالوجوب، والاستحباب.

وحكى ابن حزم في وجوب تخليل اللحية بالتراب اختلافا.

وأما اليدان:
فأكثر العلماء على وجوب مسح الكفين: ظاهرهما وباطنهما بالتراب إلى الكوعين، وقد ذكرنا أن بعض العلماء لم يوجب استيعاب ذلك بالمسح.

وحكى ابن عطية عن الشعبي: أنه يمسح الكفين فقط؛ لحديث عمار، وانه لم يوجب إيصال التراب إلى الكوعين، وهذا لا يصح.
والله أعلم.

وإنما المراد بحديث عمار، وبما قاله الشعبي وغيره من مسح الكفين:
مسحهما إلى الكوعين، وقد جاء ذلك مقيدا، رواه أبو داود الطيالسي، عن شعبة، عن الحكم: سمع ذر بن عبد الله، عن ابن عبد الرحمان بن أبزى، عن أبيه، عن عمار، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: ( ( إنما كان يجزئك) ) وضرب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيده الأرض إلى التراب، ثم قال: ( ( هكذا) ) ، فنفخ فيهما، ومسح وجهه ويديه إلى المفصل وليس فيه الذراعان.

وروى إبراهيم بن طهمان، عن حصين، عن أبي مالك، عن عمار بن ياسر، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: ( ( إنما كان يكفيك أن تضرب بكفيك في التراب، ثم تنفخ فيهما، ثم تمسح بهما وجهك وكفيك إلى الرصغين) ) .

خرجه الدارقطني، وقال: لم يروه عن حصين مرفوعا غير إبراهيم بن طهمان ووقفه شعبته وزائدة وغيرهما.

يعني أنهم رووه عن حصين عن أبي مالك، عن عمار موقوفا، والموقوف اصح ـ: قاله أبو حاتم الرازي.

وأبو مالك، قال الدارقطني: في سماعه من عمار نظر؛ فإن سلمة بن كهيل رواه عن أبي مالك، عن ابن أبزى، عن عمار.

وقال أبو حاتم: يحتمل أنه سمع منه.

وأبو مالك، هو: الغفاري، سأل أبو زرعة: ما أسمه؟ فقال: لا يسمى.

وقال البيهقي أسمه حبيب بن صهبان.

وفيما قاله نظر؛ فإن حبيب بن صهبان هو: أبو مالك الكاهلي الأسدي، وأم الغفاري فأسمه: غزوان -: قاله ابن معين.
وقد فرق بينهما ابن أبي حاتم، ووقع في بعض نسخ البخاري، غير أن البخاري متوقف غير جازم لان حبيب بن صهبان يكنى: أبا حاتم، ولا أن أبا مالك الغفاري اسمه: غزوان.

وروي حديث عمار على وجه أخر: فروى الأعمش، عن سلمة بن كهيل عن عبد الرحمان بن أبزى، عن عمار، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: ( ( أنما كان يكفيك هكذا) ) ، ثم ضرب بيديه الأرض، ثم ضرب أحداهما على الأخرى، ثم مسح وجهه والذراعين إلى نصف الساعدين ولم يبلغ المرفقين، ضربة واحدة.

خرجه أبو داود.

وخرجه - أيضا - من طريق سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل، عن أبي مالك، عن عبد الرحمان بن أبزى، قال: كنت عند عمر، فقال عمار: قال النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( إنما كان يكفيك أن تقول هكذا) ) ، وضرب بيديه إلى الأرض، ثم نفخهما، ثم مسح بهما وجهه ويديه إلى نصف الذراع.

وخرجه النسائي من طريق سفيان، عن سلمة، عن أبي مالك - وعن عبد الله بن عبد الرحمان بن أبزى ـ، عن عبد الرحمان بن أبزى، قال: كنا عند عمر ـ فذكر الحديث، وفيه: ثم مسح وجهه وبعض ذراعيه.

وقد رواه عن سلمة بن كهيل: شعبة، وسفيان، والأعمش، واختلف عنهم في إسناده.

وقد تقدم: أن في رواية شعبة أن سلمة شك: هل ذكر فيه الذراعين، أو الكفين خاصة، وهذا يدل على أن ذكر الذراعين أو بعضهما لم يحفظه سلمه، إنما شك فيه، لكنه حفظ الكفين وتيقنهما، كما حفظه غيره.

وعلى تقدير أن يكون ذكر بعض الذراعين محفوظا فقد يحمل على الاحتياط لدخول الكوعين، أو يكون من باب المبالغة وإطالة التحجيل، كما فعله أبو هريرة في الوضوء، وقد صرح الشافعية باستحبابه في التيمم - أيضا.

وقد روي عن قتادة، قال: حدثني محدث عن الشعبي، عن عبد الرحمان بن أبزى، عن عمار بن ياسر، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ( ( إلى المرفقين) ) .
خرجه أبو داود.

وهذا الإسناد مجهول لا يثبت.

والصحيح: عن قتادة، عن عزرة، عن سعيد بن عبد الرحمان، عن أبيه، عن عمار، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمره بالتيمم للوجه والكفين.

خرجه الترمذي وصححه.

وخرجه أبو داود، ولفظه أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمره بالتيمم: ضربة واحدة للوجه
والكفين.

وقد روي عن عمار، أنهم تيمموا مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى المناكب والآباط: من رواية الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس، عن ابن عمار، قال: نزلت رخصة التطهر بالصعيد الطيب، فقام المسلمون مع النبي، فضربوا بأيديهم الأرض، ثم رفعوا أيديهم ولم يقبضوا من التراب شيئا، فمسحوا بها وجوههم وأيديهم إلى المناكب، ومن بطون أيديهم إلى الآباط.

خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي.

وقد اختلف في إسناده على الزهري:
فقيل: عنه، كما ذكرنا.

وقيل: عنه، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن أبيه، عن عمار، كذا رواه عنه: مالك وابن عيينة، وصحح قولهما أبو زرعة وأبو حاتم الرازيان.

وقيل: عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن عمار ـ مرسلا.

وهذا حديث منكر جدا، لم يزل العلماء ينكرونه، وقد أنكره الزهري راويه، وقال: هو لا يعتبر به الناس ـ: ذكره الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما.

وروي عن الزهري، أنه امتنع أن يحدث به، وقال: لم اسمعه إلا من عبيد الله.
وروي عنه، أنه قال: لا ادري ماهو؟! .

وروي عن مكحول، أنه كان يغضب إذا حدث الزهري بهذا الحديث.
وعن ابن عيينة، أنه امتنع أن يحدث به، وقال: ليس العمل عليه.

وسأل الإمام أحمد عنه، فقال: ليس بشئ.
وقال ـ أيضا ـ: اختلفوا في إسناده، وكان الزهري يهابه.
وقال: ما أرى العمل عليه.

وعلى تقدير صحته، ففي الجواب عنه وجهان:
أحدهما: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يعلم أصحابه التيمم على هذه الصفة، وإنما فعلوه عند نزول الآية؛ لظنهم أن اليد المطلقة تشمل اليدين والذراعين والمنكبين والعضدين، ففعلوا ذلك احتياطا كما تمعك عمار بالأرض للجنابة، وضن أن تيمم الجنب يعم البدن كله كالغسل، ثم بين النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التيمم بفعله وقوله: ( ( التيمم للوجه والكفين) ) ، فرجع الصحابة كلهم إلى بيانه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومنهم عمار راوي الحديث؛ فإنه أفتى أن التيمم ضربة للوجه والكفين كما رواه حصين، عن أبي مالك، عنه، كما سبق.

وهذا الجواب ذكره إسحاق بن راهويه وغيره من الأئمة.
والثاني: ما قاله الشافعي، وانه أن كان ذلك بأمر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فهو منسوخ؛ لان عمارا اخبر أن هذا أول تيمم كان حين نزلت أية التيمم، فكل تيمم كان للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعده مخالف له، فهو له ناسخ.

وكذا ذكر أبو بكر الأثرم وغيره من العلماء.

وقد حكى غير واحد من العلماء عن الزهري، أنه كان يذهب إلى هذا الحديث الذي رواه.

وروي عن عبد الوهاب بن عطاء، عن سعيد، عن قتادة، أن الزهري قال: التيمم إلى الآباط.
قال سعيد: ولا يعجبنا هذا.

قلت: قد سبق عن الزهري أنه أنكر هذا القول، واخبر أن الناس لا يعتبرون به، فالظاهر أن رجع عنه لما علم إجماع العلماء على مخالفته.
والله أعلم.

وذهب كثير من العلماء إلى أنه ينتهي المسح لليدين بالتراب إلى المرفقين:
هذا مروي عن ابن عمر وجابر - رضي الله عنهم - وروي - أيضا - سالم بن عبد الله والشعبي، والحسن، والنخعي، وقتادة، وسفيان، وابن المبارك، والليث، ومالك، والشافعي، وأبي حنيفة وأصحابه.

واستدل بعضهم: بالأحاديث المرفوعة المروية في ذلك، ولا يثبت منها شيء، كما سبق الإشارة إلى ذلك.
واستدلوا - أيضا -: بان الله تعالى أمر بغسل اليدين في الوضوء إلى المرفقين، ثم ذكر في التيمم مسح الوجه واليدين، فينصرف إطلاقهما في التيمم إلى تقييدهما في
الوضوء، لا سيما وذلك في آية واحدة، فهو أولى من حمل المطلق على المقيد في آيتين.

وأجاب من خالفهم: بان المطلق إنما يحمل على المقيد في قضية واحدة، والوضوء والتيمم طهارتان مختلفتان، فلا يصح حمل مطلق أحدهما على مقيد الأخر.

ويدل على ذلك: أن أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند نزول أية التيمم لم يفهموا حمل المطلق على المقيد فيها، بل تيمموا إلى المناكب والآباط، وهم أعلم الناس بلغة العرب، ثم بين النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن التيمم للوجه والكفين، وهو - أيضا - ينافي حمل المطلق على المقيد فيها.

وذهب آخرون: إلى أن التيمم يمسح فيه الكفان خاصة.

والثاني: بن المنذر لأهل هذه المقالة قولين: أحدهما يمسح الكفين إلى الرسغين، وحكاه عن علي.
والثاني: يمسح الكفين مطلقا.
قال: هو قول عطاء، ومكحول، والشعبي، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق.

قال: وبهذا نقول للثابت عن نبي الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال ( ( التيمم ضربة للوجه
والكفين)
)
.

قلت: هذا يوهم أن من قال بسمح الوجه والكفين، أنه لا ينتهي مسحهما إلى الكوعين، وهذا كما حكاه ابن عطية عن الشعبي، كما سبق عنه، وليس هذا قول الأئمة المشهورين.
وقد روى داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، أنه سئل عن التيمم، فقال: أن الله قال في كتابه حين ذكر الوضوء: { فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة:6] ، وقال في التيمم: { فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة 6] ، وقال: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة 38] ، فكانت السنة في القطع الكفين، إنما هو، الوجه والكفين - يعني: التيمم.

خرجه الترمذي، وقال حسن صحيح غريب.

وروى الحكم بن أبان، عن عكرمة هذا المعنى - أيضاً.

وكذلك استدل بهذا الدليل مكحول وأحمد وغيرهما من الأئمة، وقالوا: أن القطع يكون من الرسغ، فكذلك التيمم.

والرسغ: هو مفصل الكف، وله طرفان، هما عظمان، فالذي يلي الإبهام
كوع، والذي يلي الخنصر كرسوع.

ومضمون هذا الاستدلال: أن اليد إذا أطلقت انصرفت إلى الرسغ، وان قيدت بموضع تقيدت به، فلما قيدت بالمرفقين في الوضوء وجب غسل الذراعين إلى المرفقين، ولما أطلقت في التيمم وجب إيصال التراب الرسغ، كما تقطع يد السارق ويد المحارب منه.

وكذلك قال الأوزاعي: التيمم ضربة للوجه والكفين إلى الكوعين.

وكذلك نص إسحاق على أن التيمم يبلغ إلى الرسغ، وخطأ من قال: لا يجزئ ذلك.
وقال الصحيح عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المعروف المشهور الذي يرويه الثقة عن الثقة بالأخبار الصحيحة: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علم عمار بن ياسر التيمم للوجه والكفين.
قال: وعلى ذلك كان علي بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس، والشعبي، معطاء، ومجاهد، ومكحول وغيرهم، فلا يجوز لأحد أن يدعي على هؤلاء أنهم لم يعرفوا التيمم.
قال: ولو قالوا الذراعين: أحب إلينا اختيارا لكان أشبه.

وروى حرب بإسناده، عن زائدة، عن حصين بن عبد الرحمان، عن أبي مالك، عن عمار، أنه غمس باطن كفيه بالتراب، ثم نفخ يده، ثم مسح وجهه ويديه إلى المفصل.

وبإسناده: عن عبد العزيز بن أبي رواد، عن نافع، عن ابن عمر، قال: التيمم ضربتين: ضربة للوجه، وضربة للكفين.

قَالَ: وثنا أحمد بن حنبل: ثنا سليمان بن حيان: أبنا حجاج، عن عطاء
والحكم، عن إبراهيم، قَالَ: التيمم ضربتان للكفين والوجه.

قال: وثنا محمود بن خالد: ثنا الوليد بن مسلم، عن حامد وسعيد بن
بشير، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، قال: التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين.

قال الوليد: وأبنا الأوزاعي، عن عطاء أنه كان يقول في التيمم: مسحة واحدة للوجه، ثم ضربة أخرى لكفيه.
وبه يأخذ الأوزاعي.

وروى حرب بإسناده عن إسماعيل بن أبي خالد، قال: سالت الشعبي عن
التيمم؟ فضرب بيديه الأرض، ثم قرن أحداهما بالأخرى، ثم مسح وجهه وكفيه.

قال حرب: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول: والتيمم ضربة واحدة للوجه والكفين، يبدأ بوجه ثم يمسح كفيه أحداهما بالأخرى.
قيل له: صح حديث عمار، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذلك؟ قال: نعم، قد صح.

والقول بان الواجب في التيمم مسح الكفين فقط: رواية عن مالك، وقول قديم للشافعي، قال في القديم - فيما حكاه البيهقي في ( ( كتاب المعرفة) ) -: قد روي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الوجه والكفين، ولو اعلمه ثابتاً لم أعده.
قَالَ: فإنه ثبت عن عمار، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الوجه والكفين، ولم يثبت إلى المرفقين، فما يثبت عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أولى، وبهذا الحديث كان يفتي سعد بن سالم.
انتهى.
ومن العلماء من قال: الواجب مسح اليدين إلى الكوعين، ويستحب مسحهما إلى المرفقين، ولعله مراد كثير من السلف - أيضا –؛ فإن منهم من روي عنه: إلى الكوعين.
وروي عنه: إلى المرفقين، كالشعبي وغيره، فدل على أن الكل عندهم
جائز.

وهو - أيضا - رواية عن مالك، وقول وكيع، وإسحاق، وطائفة من
أصحابنا، وحكوه رواية عن أحمد، المنصوص عنه يدل على أن ذلك جائز، لا أنه
أفضل.

وسيأتي ذكر الضربة الواحدة ووالضربتين فيما بعد - أن شاء الله تعالى -؛ فإن البخاري افرد لذلك باباً.