فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب المشي إلى الجمعة

باب
المشي إلى الجمعة
وقول الله عز وجل: { فَاسعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] ومن قال: السعي العمل والذهاب، لقوله { وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا?} [الإسراء:19] .

وقال ابن عباسٍ: يحرم البيع حينئذ.

وقال عطاءٌ: تحرم الصناعات كلها.

وقال إبراهيم بن سعدٍ، عن الزهري: إذا اذن المؤذن يوم الجمعة وهو مسافر، فعليه أن يشهد.

اشتمل كلامه –هاهنا - على مسائل:
إحداها:
المشي إلى الجمعة، وله فضل.

وفي حديث أوس بن أوس، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( من بكر وابتكر، وغسل واغتسل، ومشى ولم يركب) ) .
وقد سبق.

وفي حديث اختصام الملأ الأعلى، ( ( إنهم يختصمون في الكفارات والدرجات، والكفارات إسباغ الوضوء في الكريهات، والمشي على الأقدام إلى الجمعات) ) .

وقد خرّجه الإمام أحمد والترمذي من حديث معاذٍ.

وله طرق كثيرة، ذكرتها مستوفاة في ( ( شرح الترمذي) ) .

وروى ابن أبي شيبة بإسنادٍ فيه انقطاعٌ، أن عبد الله بن رواحة كان يأتي الجمعة ماشياً، فإذا رجع كيف شاء ماشياً، وإن شاء راكباً.

وفي رواية: وكان بين منزلة وبين الجمعة ميلان.

وعن أبي هريرة، أنَّهُ كان يأتي الجمعة من ذي الحليفة ماشياً.

وذكر ابن سعدٍ في ( ( طبقاته) ) بإسناده، عن عمر بن عبد العزيز، أنه كتب ينهى أن يركب أحد إلى الجمعة والعيدين.

وقال النخعي: لا يركب إلى الجمعة.

المسألة الثانية:
أنه يستحب المشي بالسكينة مع مقاربة الخطا، كما في سائر الصلوات، على ماسبق ذكره في موضعه.

فأما قول الله عز وجل: { إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسعَوْا إِلَى ذِكْرِ
اللَّهِ}
[الجمعة:9] ، فقد حمله قوم من المتقدمين علىظاهره، وأنكر ذلك عليهم
الصحابة.

فروى البيهقي من حديث عبد الله بن الصامت، قال: خرجت إلى المسجد يوم الجمعة، فلقيت أبا ذر، فبينا أنا امشي اذ سمعت النداء، فرفعت في المشي؛ لقول الله عز وجل: { إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} ، فجذبني جذبة
كدت أن ألاقيه، ثم قال: أو لسنا في سعي؟ .

فقد أنكر أبو ذر على من فسر السعي بشدة الجري والعدو، وبين أن المشي إليها سعي؛ لأنه عمل، والعمل يسمى سعياً، كم قال تعالى: { إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل:4] ، وقال: { ?وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} [الإسراء:19] ومثل هذا كثير في القرآن.

وبهذا فسر السعي في هذه الآية التابعون فمن بعدهم، ومنهم: عطاءٍ، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة، ومحمد بن كعب، وزيد بن أسلم، ومالك، والثوري، والشافعي وغيرهم.

وروي عن ابن عباسٍ –أيضاً - من وجه منقطع.

ومنهم من فسر السعي بالجري والمسابقة، لكنه حمله على سعي القلوب والمقاصد والنيات دون الأقدام، هذا قول الحسن.

وجمع قتادة بين القولين –في روايةٍ -، فقال: السعي بالقلب والعمل.
وكان عثمان وابن مسعودٍ وجماعة من الصحابة يقرءونها: ( ( فامضوا إلى ذكر
الله)
)
.

وقال النخعي: لو قرأتها ( ( فسعوا) ) لسعيت حتى يسقط ردائي.

وروي هذا الكلام عن ابن مسعودٍ من وجهٍ منقطعٍ.

المسألة الثالثة:
في تحريم البيع وغيره مما يشغل به عن السعي بعد النداء.

وقد حكى عن ابن عباسٍ تحريم البيع وغيره.

وروى القاضي إسماعيل في كتابه ( ( أحكام القرآن) ) من روايةٍ سليمان بن معاذ، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباسٍ، قال: لا يصلح البيع يوم الجمعة حين ينادى بالصلاة، فاذا قضيت الصلاة فاشتر وبع.

وبإسناده: عن ميمون بن مهران، قال: كان بالمدينة إذا نودي بالصلاة من يوم الجمعة نادوا: حرم البيع، حرم البيع.

وعن أيوب، قال: لأهل المدينة ساعة، وذلك عند خروج الإمام، يقولون: حرم البيع، حرم البيع.

وعن عمر بن عبد العزيز، أنه كان يمنع الناس من البيع يوم الجمعة إذا نودي بالصلاة.

وعن الحسن وعطاء والضحاك: تحريم البيع إذا زالت الشمس من يوم الجمعة.

وعن الشعبي، أنه محرمٌ.

وكذا قال مكحولٌ.

وحكى إسحاق بن راهويه الإجماع على تحريم البيع بعد النداء.

وحكى القاضي إسماعيل، عمن لم يسمه، أن البيع مكروه، وانه استدل بقوله { ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ} [الجمعة:9] .

ورد عليه: بأن من فعل ما وجب عليه وترك ما نهي عنه فهو خيرٌ له، كما قال تعالى: { وَلاَ تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النساء:171] .

وحكي القول بأن البيع مردود عن القاسم بن محمد وربيعة ومالكٍ.

ورواه ابن عيينة، عن عبد الكريم، عن مجاهد أو غيره.

وهو مذهب الليث والثوري وإسحاق وأحمد وغيرهم من فقهاء أهل الحديث.

وخالف فيه أبو حنيفة والشافعي واصحابهما وعبيد الله العنبري، وقالوا: البيع غير مردودٍ؛ لأن النهي عن البيع هنا ليس نهياً عنه لذاته بل لوقته.

والأولون يقولون: النهي يقتضي فساد المنهي عنه، سواء كان لذات المنهي عنه أو لوقته، كالصوم يوم العيد، والصلاة وقت النهي، فكذلك العقود.
وقال الثوري –فيما إذا تصارفا ذهباً بفضة وقبضا البعض، ثم دخل وقت النداء يوم الجمعة -: فإنهما يترادان البيع.

وهذا يدل على أن القبض عند شرط لانعقاد الصرف، فلا يتم العقد الا به، وهو الصحيح عند المحققين من أصحابنا –أيضاً.

وأما ما ذكره عن عطاءٍ، أنه تحرم الصناعات حينئذ، فإنه يرجع إلى أنه إنما حرم البيع؛ لأنه شاغلٌ عن السعي إلى ذكر الله والصلاة، فكل ما قطع عن ذلك فهو محرم من صناعة أو غيرها، حتى الاكل والشرب والنوم والتحدث وغير ذلك، وهذا قول الشافعية وغيرهم –أيضاً.

لكن لأصحابنا في بطلان غير البيع من العقود وجهان، فإن وقوعها بعد النداء نادر، بخلاف البيع، فإنه غالب، فلو لم يبطل لادى إلى الاشتغال عن الجمعة به، فتفوت الجمعة غالباً.

وأكثر أصحابنا حكوا الخلاف في جواز ذلك، وفيه نظرٌ؛ فإنه إذا وجب السعي إلى الجمعة حرم كل ما قطع عنه.

وقد روي عن زيد بن أسلم، قال: لم يأمرهم الله أن يذروا شيئاً غيره، حرم البيع، ثم أذن لهم فيه إذا فرغوا.

وهذا ضعيف جدا؛ فإن البيع إنما خص بالذكر لأنه أكثر ما يقع حينئذ مما يلهي عن السعي، فيشاركه في المعنى كل شاغل.

وأستدل بعض أصحابنا على جواز غير البيع من العقود بالصدقة، وقال: قد أمر به النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يخطب.
وهذا لا يصح؛ فإن الصدقة قربة وطاعة، وإذا وقعت في المسجد حيث لا يكره السؤال فيه فلا وجه لمنعها.

فإن الحق بذلك عقد النكاح في المسجد قبل خروج الإمام كان متوجهاً، مع أن بعض أصحابنا قد خص الخلاف بالنكاح، وهو ابن عقيل.

وعن أحمد روايةٍ: إنه يحرم البيع بدخول وقت الوجوب، وهو زوال الشمس.

وقد سبق مثله عن الحسن، وعطاء، والضحاك، وهو - أيضاً - قول مسروق، ومسلم بن يسارٍ، والثوري، وإسحاق.

وقياس قولهم: إنه يجب السعي بالزوال، ويحرم حينئذ كل شاغلٍ يشغل عنه.

والجمهور: على أنه لا يحرم بدون النداء.

ثم الأكثرون منهم على أنه النداء الثاني الذي بين يدي الإمام؛ لأنه النداء الذي كان في عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلا ينصرف النداء عند إطلاقه إلا إليه.

وفي ( ( صحيح الإسماعيلي) ) من حديث الزهري، عن السائب بن يزيد، قال: كان النداء الذي ذكر الله في القرآن يوم الجمعة إذا خَّرج الإمام، وإذا قامت الصلاة في زمن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وعمر.

وعن أحمد روايةٌ: أنه حرم البيع ويجب السعي بالنداء الأول.

وهو قول مقاتل بن حيان، قال: وقد كان النداء الأول قبل زوال الشمس.

ونقله ابن منصورٍ، عن إسحاق بن راهويه –صريحاً.

وعن أحمد، أنه قال: أخاف أن يحرم البيع، وإن أذن قبل الوقت.

ومجرد الشروع في الأذان يحرم به البيع عند أصحابنا والشافعية؛ لأنه صار نداءً مشروعاً مسنوناً سنة الخلفاء الراشدين.

قال أصحابنا: ولو اقتصر عليه اجزأ، وسقط فرض الأذان.

وعند أصحاب الشافعي: يحرم البيع بمجرد الشروع في النداء الثاني بين يدي
الإمام، إذا كان قاطعاً عن السعي، فأما إن فعله وهو ماش في الطريق ولم يقف، أو هو قاعد في المسجد كره ولم يحرم.

وهذا بعيد، والتبايع في المسجد بعد الأذان يجتمع فيه نهيان؛ لزمانه ومكانه، فهو أولى بالتحريم.

المسألة الرابعة:
حكى عن الزهري: أن المسافر إذا سمع النداء للجمعة، فعليه أن يشهدها، وقد سبق ذكر ذلك عنه، وعن النخعي والأوزاعي وعن عطاءٍ: أن عليه شهودها، سمع الأذان أو لم يسمعه، وأن الجمهور على خلاف ذلك.

وهل للمسافر أن يبيع ويشتري بعد سماع النداء؟ فيهِ اختلاف بين أصحابنا، يرجع إلى أن من سقطت عنه الجمعة لعذر، كالمريض: هل لهُ أن يبيع بعد النداء، أم
لا؟ فيه روايتان عن أحمد.

وأما من ليس من أهل الجمعة بالكلية، كالمرأة، فلها البيع والشراء بغير خلاف، وكذا العبد، إذا قلنا: لا يجب عليه الجمعة.

خَّرج البخاري في هذا الباب ثلاثة أحاديث: الأول:

[ قــ :880 ... غــ :907 ]
- ثنا علي بن عبد الله: ثنا الوليد بن مسلمٍ: ثنا يزيد بن أبي مريم: ثنا عباية بن رفاعة، قال: أدركني أبو عبسٍ وأنا اذهب إلى الجمعة، فقال: سمعت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ( ( من أغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار) ) .

( ( يزيد بن أبي مريم) ) ، هو: الأنصاري الشامي، وهو بالياء المثناة من تحت، وبالزاي.

وأما: بريد بن أبي مريم –بالباء الموحدة، والراء المهملة -، فبصري، لم يخرج له البخاري في ( ( صحيحه) ) شيئاً.

وخرّج الإسماعيلي في ( ( صحيحه) ) هذا الحديث بسياق تام، ولفظه: عن يزيد بن أبي مريم: بينما أنا رائحٌ إلى الجمعة إذ لحقني عباية بن رفاعة بن رافع بن خديج
الأنصاري، وهو راكب وأنا ماشٍ، فقال: احتسب خطاك هذه في سبيل الله، فاني سمعت أبا عبس بن جبر الأنصاري يقول: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمهما الله على النار) ) .

وخرّجه الترمذي والنسائي –بمعناه.

ففي هذه الرواية أن هذه القصة جرت ليزيد مع عباية، وفي روايةٍ البخاري أنها جرت لعباية مع أبي عبس، وقد يكون كلاهما محفوظاً.
والله أعلم.
وليس عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذا الحديث ذكر المشي إلى الجمعة، إنما فيه فضل المشي في سبيل الله، فأدخل الرواي المشي إلى الجمعة في عموم السبيل، وجعله شاملاً له
وللجهاد.

والأظهر في اطلاق سبيل الله: الجهاد، وقد يؤخذ بعموم اللفظ، كما أذن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمن جعل بعيره في سبيل الله أن يحج عليه، وقال: ( ( الحج من سبيل الله) ) ، وقد ذكرناه في موضع آخر.

وقد كان كثير من السلف يختارون المشي إلى الجمعة، كما سبق من غير واحدٍ من الصحابة.

وقد روي عن عبد الله بن رواحة –رضي الله عنه -، أنه كان يبكر إلى الجمعة، ويخلع نعليه، ويمشي حافياً، ويقصر في مشيه.

خرّجه الأثرم بإسناد منقطع.





[ قــ :881 ... غــ :908 ]
- حديث: أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون، وأتوها تمشون، وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فاتموا) ) .
وقد تقدم في ( ( كتاب: الصلاة) ) باختلاف أسانيده وألفاظه.





[ قــ :88 ... غــ :909 ]
- حديث: يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة –قال أبو عبد الله: ولا أعلمه إلاّ عن أبيه -، عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالَ: ( ( لا تقوموا حتَّى تروني، وعليكم السكينة) ) .

وقد تقدم –أيضاً - باختلاف ألفاظه.

وليس في هذا – والذي قبله – ذكر الجمعة، إنما فيهِ ذكر الصَّلاة، وهي تعم الجمعة وغيرها.

وحديث أبي هريرة إنما يدل على النهي عن السعي عندَ سماع الإقامة، وحديث أبي قتادة إنما فيهِ الأمر بالسكينة في القيام إلى الصَّلاة، لا في المشي إليها.

* * *