فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب فضل صلاة العصر

باب
فضل صلاة العصر
فيه حديثان:
أحدهما:
قال:
[ قــ :539 ... غــ :554 ]
- حدثنا الحميدي: ثنا مروان بن معاوية: ثنا إسماعيل، عن قيس، عن جرير بن عبد الله، قال: كنا عند النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فنظر إلى القمر ليلة البدر، فقال: " إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس، وقبل غروبها فافعلوا".
ثم قرأ { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق: 39] .

قال إسماعيل: افعلوا لا تفوتنكم.

هذا الحديث نص في ثبوت رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة، كما دل على ذلك قوله تعالى: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ*إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23] ، ومفهوم قوله في حق الكفار: { كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] .

قال الشافعي وغيره: لما حجب أعداءه في السخظ دل على أن أولياءه يرونه في الرضا.
والأحاديث في ذلك كثيرة جداً، وقد ذكر البخاري بعضها في أواخر " الصحيح" في ... " كتاب التوحيد"، وقد أجمع على ذلك السلف الصالح من الصحابة والتابعين لهم بإحسان من الإئمة وأتباعهم.

وإنما خالف فيه طوائف أهل البدع من الجهمية والمعتزلة ونحوهم ممن يرد النصوص الصحيحة لخيالات فاسدة وشبهات باطلة، يخيلها لهم الشيطان، فيسرعون إلى قبولها منه، ويوهمهم أن هذه النصوص الصحيحة تستلزم باطلاً، ويسميه تشبيها أو تجسيما، فينفرون منه، كما خيل إلى المشركين قبلهم أن عبادة الأوثان ونحوها تعظيم لجناب الرب، وأنه لا يتوصل إليه من غير وسائط تعبد فتقرب إليه زلفا، وأن ذلك أبلغ في التعظيم والاحترام، وقاسه لهم على ملوك بني آدم، فاستجابوا لذلك، وقبلوه منه.

وإنما بعث الله الرسل وانزل الكتب لإبطال ذلك كله، فمن اتبع ما جاءوا به فقد اهتدى، ومن أعرض عنه أو عن شيءٍ منه واعترض فقد ضل.

وقوله: " كما ترون هذا القمر" شبه الرؤية بالرؤية، لا المرئي بالمرئي سبحانه وتعالى.

وإنما شبه الرؤية برؤية البدر؛ لمعنيين:
أحدهما: أن رؤية القمر ليلة البدر لا يشك فيه ولا يمترى.

والثاني: يستوي فيه جميع الناس من غير مشقة.

وقد ظن المريسي ونحوه ممن ضل وافترى على الله، أن هذا الحديث يرد؛ لما يتضمن من التشبيه، فضل وأضل.
واتفق السلف الصالح على تلقي هذا الحديث بالقبول والتصديق.

قال يزيد بن هارون: من كذب بهذا الحديث فهو بريء من الله ورسوله.

وقال وكيع: من رد هذا الحديث فاحسبوه من الجهمية.

وكان حسين الجعفي إذا حدث بهذا الحديث قال: زعم المريسي.

وقوله: " لا تضامون في رؤيته".

قال الخطأبي: " لا تضامون"، روي على وجهين:
مفتوحة التاء، مشددة الميم.
وأصله تتضامون، أي: لا يضام بعضكم بعضاً، أي: لا يزاحم، من الضم، كما يفعل الناس في طلب الشيء الخفي، يريد أنكم ترون ربكم وكل واحد منكم وادع في مكانه، لا ينازعه فيه احد.

والآخر: مخفف: تضامون - بضم التاء - من الضيم، أي: لا يضيم بعضكم بعضا فيه.
انتهى.

وذكر ابن السمعاني فيه رواية ثالثة: " تضامون" - بضم التاء، وتشديد الميم -، قال: ومعناها: لا تزاحمون، قال: ورواية فتح التاء مع تشديد الميم معناها: لا تزاحمون.

وقوله: " كما ترون القمر ليلة البدر" يقوي المعنى الأول.

وجاء التصريح به في رواية أبي رزين العقيلي، أنه قال: يارسول الله، أكلنا يرى ربه يوم القيامة؟ وما آيةُ ذلك في خلقه؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أليس كلكم ينظر إلى القمر مخلياً به؟ " قال: بلى، قال: " فالله أعظم".

خرجه الإمام أحمد.

وخرجه ابنه عبد الله في " المسند" بسياق مطول جداً، وفيه ذكر البعث والنشور، وفيه: " فتخرجون من الأصواء - أو من مصارعكم -، فتنظرون إليه وينظر إليكم".
قال: قلت: يا رسول الله، وكيف ونحن ملء الأرض وهو شخص واحد، ينظر إلينا وننظر إليه؟ قال: " أنبئك بمثل ذلك، الشمس والقمر، آية منه صغيرة، ترونهما ويريانكم ساعة واحدة، لا تضارون في رؤيتهما، ولعمر إلهك لهو أقدر على أن يراكم وترونه من أن ترونهما ويريانكم، لا تضارون في رؤيتهما" - وذكر بقية الحديث.

وخرجه الحاكم وقال: صحيح الإسناد.

وقد ذكر أبو عبد الله بن منده إجماع أهل العلم على قبول هذا الحديث ونقل عباس الدوري، عن ابن معين أنه استحسنه.

وقوله: " فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا".
أمر بالمحافظة على هاتين الصلاتين، وهما صلاة الفجر وصلاة العصر، وفيه إشارة إلى عظم قدر هاتين الصلاتين، وأنهما أشرف الصوات الخمس، ولهذا قيل في كل منهما: إنها الصلاة الوسطى، والقول بأن الوسطى غيرهما لا تعويل عليه.

وقد قيل في مناسبة الأمر بالمحافظة على هاتين الصلاتين عقيب ذكر الرؤية: أن أعلى ما في الجنة رؤية الله عز وجل، وأشرف ما في الدنيا من الأعمال هاتان الصلاتان، فالمحافظة عليهما يرجى بها دخول الجنة ورؤية الله عز وجل فيها.

كما في الحديث الآخر: " من صلى البردين دخل الجنة"، وسيأتي – إن شاء الله – في موضعه.

وقيل: هو إشارة إلى أن دخول الجنة إنما يحصل بالصلاة مع الإيمان، فمن لا يصلي فليس بمسلم، ولا يدخل الجنة بل هو من أهل النار، ولهذا قال أهل النار لما قيل لهم: { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ* قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر: 42، 43] .

ويظهر وجه آخر في ذلك، وهو: أن أعلى أهل الجنة منزلة من ينظر في وجه الله عز وجل مرتين بكرة وعشياً، وعموم أهل الجنة يرونه في كل جمعة في يوم المزيد، والمحافظة على هاتين الصلاتين على ميقاتهما ووضوئهما وخشوعهما وآدابهما يرجى به أن يوجب النظر إلى الله عز وجل في الجنة في هذين الوقتين.

ويدل على هذا ما روى ثوير بن أبي فاختة، قال: سمعت ابن عمر يقول: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه وأزواجه ونعيمة وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة، وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوةً وعشياً"، ثم قرأ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ* إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ*} [القيامة: 22، 23] .

خرجه الإمام أحمد والترمذي، وهذا لفظه.
وخرجه - أيضا - موقوفاً على ابن عمر.
وثوير فيه ضعف.

وقد روي هذا المعنى من حديث أبي برزة الأسلمي مرفوعاً - أيضا -، وفي إسناده ضعف.

وقاله غير واحد من السلف، منهم: عبد الله بن بريدة وغيره.

فالمحافظة على هاتين الصلاتين تكون سبباً لرؤية الله في الجنة في مثل هذين الوقتين، كما أن المحافظة على الجمعة سبب لرؤية الله في يوم المزيد في الجنة، كما قال ابن مسعود: سارعوا إلى الجمعات؛ فإن الله يبرز لأهل الجنة في كل جمعة على كثيب من كافور أبيض، فيكونون منه في الدنو على قدر تبكيرهم إلى الجمعات.

وروي عنه مرفوعاً.

خرجه ابن ماجة.
وروي عن ابن عباس، قال: من دخل الجنة من أهل القرى لم ينظر إلى وجه الله؛ لأنهم لا يشهدون الجمعة.

خرجه أبو بكر عبد العزيز بن جعفر في " كتاب الشافي" بإسناد ضعيف.

وقد روي من حديث أنس - مرفوعاً -: " إن النساء يرين ربهن في الجنة في يومي العيدين".

والمعنى في ذلك: أنهن كن يشاركن الرجال في شهود العيدين دون الجمع.

وقوله: ثم قرأ: { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق: 39] الظاهر أن القارئ لذلك هو النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

وقد روي من رواية زيد بن أبي أنيسة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن جرير البجلي في هذا الحديث: ثم قرأ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} - الآية.

خرجه أبو إسماعيل الأنصاري في " كتاب الفاروق".

وقد قيل: إن هذه الكلمة مدرجة، وإنما القارئ هو جرير بن عبد الله البجلي.

وقد خرجه مسلم في " صحيحه" عن أبي خيثمة، عن مروان بن معاوية - فذكر الحديث، وقال في آخره: ثم قرأ جرير: { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق: 39] .

وكذا رواه عمرو بن زرارة وغيره، عن مروان بن معاوية، وأدرجه عنه آخرون.




[ قــ :540 ... غــ :555 ]
- حدثنا عبد الله بن يوسف: أبنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي ? - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: " يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين كانوا فيكم، فيسألهم – وهو أعلم بهم -: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون".

قوله: " يتعاقبون فيكم ملائكة" جمع فيه الفعل مع إسناده إلى ظاهر، وهو مخرج على اللغة المعروفة بلغة " أكلوني البراغيث"، وقد عرفها بعض متأخري النحاة بهذا الحديث، فقال: " هي لغة يتعاقبون فيكم ملائكة".

والتعاقب: التناوب والتداول، والمعنى: أن كل ملائكة تأتي تعقب الأخرى.

وقد دل الحديث على أن ملائكة الليل غير ملائكة النهار.

وقد خرجا في "الصحيحين" من حديث الزهري، عن سعيد وأبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: " تجتمع ملائكة الليل، وملائكة النهار في صلاة الفجر".
ثم يقول أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم: { إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78] .

ففي هذه الرواية: ذكر اجتماعهم في صلاة الفجر، واستشهد أبو هريرة بقول الله عز وجل: { إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78] .

وقد روي في حديث من رواية أبي الدرداء - مرفوعاً -، انه يشهده الله وملائكته.

وفي رواية: " ملائكة الليل وملائكة النهار".

خرجه الطبراني وابن منده وغيرهما.

فقد يكون تخصيص صلاة الفجر لهذا، وصلاة العصر يجتمع –أيضا - فيها ملائكة الليل والنهار، كما دل عليه حديث الأعرج، عن أبي هريرة.

وقد روي نحوه من حديث حميد الطويل، عن بكر المزني، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرسلاً.

وهؤلاء الملائكة، يحتمل أنهم المعقبات، وهم الحفظة، ويحتمل أنهم كتبة الأعمال.

وروى أبو عبيدة، عن أبيه عبد الله بن مسعود، في قوله: { إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} ، قال: يعني صلاة الصبح، يتدارك فيه الحرسان ملائكة الليل وملائكة النهار.
وقال إبراهيم، عن الأسود بن يزيد: يلتقي الحارسان من ملائكة الليل وملائكة النهار عند صلاة الصبح، فيسلم بعضهم على بعض، ويحيى بعضهم بعضاً، فتصعد ملائكة الليل وتبسط ملائكة النهار.

قال ابن المبارك: وكل بابن آدم خمسة أملاك: ملكا الليل، وملكا النهار، يجيئان ويذهبان، والخامس لا يفارقه ليلاً ولا نهاراً.

وممن قال: إن ملائكة الليل وملائكة النهار تجتمع في صلاة الفجر، وفسر بذلك قول الله عز وجل: { وَقُرْآنَ الْفَجْرِ [إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ] كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78] : مجاهدٌ ومسروقٌ وغيرهما.

قال ابن عبد البر: والأظهر أن ذلك في الجماعات.
قال: وقد يحتمل الجماعات وغيرها.

قلت: يشهد للأول قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إذا أمن الإمام فأمنوا، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه".

ونهى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أكل الثوم أن يشهد المسجد، وتعليله: أن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم.

وقد بوب البخاري على اختصاصه بالجماعات في " أبواب صلاة الجماعة"، كما سيأتي في موضعه - إن شاء الله تعالى.

ويشهد الثاني: أن المصلي ينهى عن أن يبصق في صلاته عن يمينه؛ لأن عن يمينه ملكاً، ولا يفرق في هذا بين مصلي جماعة وفرادي.