فهرس الكتاب
فتح البارى لابن رجب - باب
[ قــ :455 ... غــ :465 ]
- حدثنا محمد بن المثنى: ثنا معاذ بن هشام: ثنا أبي، عن قتادة: ثنا أنس، أن رجلين من أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرجا من عند النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ليلة مظلمة، ومعهما مثل المصباحين يضيئان بين أيديهما، فلما افترقا صار مع كل واحد منهما واحد حتى أتى أهله.
وخرج في ( ( المناقب) ) من رواية همام: ثنا قتادة، عن أنس، أن رجلين خرجا من عند النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ليلة مظلمة، فإذا نور بين أيديهما، حتى تفرقا فتفرق النور معهما.
قال البخاري: وقال معمر، عن ثابت، عن أنس، أن أسيد بن حضير ورجلا من الأنصار.
وقال حماد: أبنا ثابت، عن أنس: كان أسيد بن حضير وعباد بن بشر عند النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وهاتان الروايتان المعلقتان ليستا على شرطه؛ لأن روايات معمر عن ثابت رديئة -: قاله ابن معين وابن المديني وغيرهما؛ فلذلك لا يخرج البخاري منها شيئا، وحماد بن سلمة لم يخرج له شيئا استقلالا.
وفي رواية حماد بن سلمة: أن هما كانا عند النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتحدثا عنده في ليلة ظلماء حندس، ثم خرجا من عنده.
فيحتمل أنهما كانا عنده في المسجد، وأنهما كانا عنده في بيته:
فإن كان اجتماعهما به في المسجد فإنه يستفاد من الحديث أن المشي إلى المساجد والرجوع منها في الليالي المظلمة ثوابه النور من الله عز وجل، وذلك يظهر في الآخرة عيانا، وأما في الدنيا فقد يستكن النور في القلوب، وقد يظهر أحيانا كرامة لمن أراد الله كرامته ولم يرد فتنته.
وإن اجتماعهما عند النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بيته، فإنه يستنبط منه فضيلة الذهاب إلى المساجد والرجوع منها في الظلم – أيضا -؛ فإنه أفضل ما مشى إليه المسلمون في الدنيا، فيلتحق بالمشي إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حياته ذهابا إليه ورجوعا من عنده.
وإنما اقتصر البخاري على هذا الحديث في هذا الباب؛ لأن الأحاديث الصريحة فِي تبشير المشائين إلى المساجد فِي الظلم بالنور التام يوم القيامة ليس شيء مِنْهَا عَلَى
شرطه، وإن كانت قد رويت من وجوه كثيرة.
ولكن يستدل - أيضا - لفضيلة المشي إلى المساجد في الظلم بما في ( ( الصحيحين) ) من رواية أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ( ( ليس صلاة أثقل على المنافقين من الفجر والعشاء، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا) ) .
ويستدل - أيضا - بحديث أنس الذي خرجه البخاري هاهنا على جواز الاستضاءة في الرجوع من المسجد في الليالي المظلمة.
وقد ورد حديث أصرح من هذا:
خرجه الإمام أحمد من رواية فليح بن سليمان، عن سعيد بن الحارث، عن أبي سلمة، سمع أبا سعيد الخدري، قال: هاجت السماء ليلة، فلما خرج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لصلاة العشاء الآخرة برقت برقة، فرأى قتادة بن النعمان، فقال: ( ( ما السرى يا قتادة؟) ) قال: علمت أن شاهد الصلاة قليل، فأحببت أن أشهدها.
قال: ( ( فإذا صليت فاثبت حتى أمر بك) ) ، فلما انصرف أعطاه عرجونا، وقال: ( ( خذ هذا يستضيء لك أمامك عشرا وخلفك عشرا) ) - وذكر حديثا فيه طول.
وهذا إسناد جيد.
وقد كان السلف يختارون المشي إلى صلاة العشاء والصبح في غير ضوء.
وروي عن سعيد بن المسيب، أنه قال لقوم معهم ضوء يمشون به إلى المساجد: ضوء الله خير من ضوئكم.
ولما ولى عمر بن عبد العزيز أبا بكر بن حزم إمرة المدينة مع قضائها أرسل إلى عمر يطلب منه شمعا كان للأمراء قبله يمشون به إلى المسجد في الليل، فأرسل إليه عمر - رحمه الله - يعاتبه على ذلك، ويأمره أن يفعل كما كان يفعل من قبل ولايته، ويمشي إلى المسجد في الظلمة، وإن ذلك خيرا له.
وقال النخعي: كانوا يرون أن المشي في الليلة الظلماء إلى الصلاة موجبة.
يعني: توجب المغفرة.
وروينا عن الحسن، قال: أهل التوحيد في النار لا يقيدون، فتقول الخزنة بعضهم لبعض: ما بال هؤلاء لا يقيدون وهؤلاء يقيدون؟ فيناديهم مناد: إن هؤلاء كانوا يمشون في ظلم الليل إلى المساجد.
وقد كان بعض المتقدمين يمشي بين يديه الشيطان في الليل إلى المسجد بضوء، فمنهم من يفطن لذلك فلم يغتر به، ومنهم من قل علمه فاغتر وافتتن بذلك؛ فإن جنس هذه الخوارق يخشى منها الفتنة، إلا لمن قوي إيمانه ورسخ في العلم قدمه، وميز بين حقها وباطلها.
والحق منها فتنة - أيضا -؛ فإنه شبيه بالقدرة والسلطان الذي يعجز عنه كثير من الناس، فالوقوف معه والعجب به مهلك، وقد اتفق على ذلك مشايخ العارفين الصادقين، كما ذكره عنهم أبو طالب المكي في كتابه ( ( قوت القلوب) ) ، وأنهم رأوا الزهد فيه كما آثروا الزهد في الملك والسلطان والرياسة والشهرة؛ فإن ذلك كله فتنة ووبال على صاحبه، إلا لمن شكر عليه وتواضع فيه وخشي من الافتتان به.
وقد اخبر الله تعالى عن سليمان - عليه السلام - أنه لما رأى عرش ملكة سبأ عنده قال:
{ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل: 40] .
وقد قيل: إن مراد البخاري بهذا الباب، وتخريج هذا الحديث فيه: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي في مسجده بالليل في الظلمة، من غير سراج ولا ضوء، ولهذا خرجا من عنده ومعهما مثل المصباحين، وهذا يدل على أن هذا الضوء صحبهما من قبل مفارقته من المسجد، فلو كان في المسجد مصباح لما احتاجا إلى الضوء إلا بعد خروجهما.
وهذا حق - أعني: صلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه في المسجد في غير مصباح -، وقد اخبر أنس أنه رأى بريق خاتم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذي في يده من فضة في الليل، وهذا إنما يكون في الظلمة.
وقيل: أن أول من أسرج مسجد المدينة تميم الداري في عهد عمر.
وكان تميما اخذ الإيقاد في المساجد مما عرفه بالشام من إيقاد المسجد الأقصى.
وقد روى عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه أمر بإرسال زيت إلى المسجد الأقصى يسرج في قناديله، وقال: أن ذلك يقوم مقام الصلاة فيه.
وقد أبو داود.
وفي إسناده نظر.
وفي ( ( سنن ابن ماجه) ) بإسناد ضعيف، عن أبي سعيد الخدري، قال: أول من أسرج المساجد تميم الداري.
والمراد به: المساجد في الإسلام.